الناقد “1”
كتبت قراءتي النقدية الأولى عام 1992 .. كانت عن المجموعة القصصية “صلوات خاصة” لعبد المنعم الباز، ونُشرت بمجلة “أدب ونقد” في العام نفسه .. كان عمري وقتئذ 15 سنة، وقبل ذلك بعامين فقط كنت قد بدأت في كتابة القصة القصيرة .. نُشرت قصتي الأولى بجريدة “المساء” عام 1993.
هذا التلازم المبكر بين “الكتابة” و”النقد” يكشف عن رغبة أصيلة في “تدوين الفكر” حول الكتابة، وليس الوقوف عند حد “التفكير” في معناها وكيفيتها ومقاصدها، بكل ما قد ينجم عن ذلك من نتائج وتأثيرات متعددة .. يكشف عن انشغال “غريزي” بتحويل القراءة إلى “نص نقدي” يتجاوز نفسه دائمًا.
أقتبس الآن بعض الفقرات من مقالي عن كتاب “العالم المكتوب” للكاتب الإنجليزي مارتن بوكنر، والمنشور بجريدة “أخبار الأدب”:
“بصرف النظر عن التحديدات التاريخية والاكتشافات الأثرية التي يعتمد عليها الكتاب؛ فإنني أفكر في أن “تدوين القصص” هو كفاح مرتبط بالوجود الإنساني، وما الكتابة إلا نتيجة هذه المجاهدة العفوية التي سبقت البداية المفترضة للتدوين، وتمثل العمر البشري نفسه على الأرض. بدأت الكتابة مع النظر والصمت والحركة والتفوّه ومخاطبة النفس والآخر والمجهول، أي مع اكتشاف الحاجة إلى تمرير التفاصيل المؤقتة التي تشكل حياة الإنسان إلى المطلق. إلى الإبقاء على “حكايته” خارج الزمن كمقاومة للفناء المحتوم وبمختلف السبل الممكنة للحواس. هذا السعي الأزلي، ولكونه قائمًا على إدراك الطبيعة البشرية الناقصة والزائلة فإنه محكوم بغريزة الرفض والعصيان والثأر، والتي تتجسد في مظاهر لا نهائية، تتنكر أحيانًا في عكس ما يكمن وراءها ويقودها، ودون وعي بتلك المواراة التي تفرضها كل آليات التسلط. “الكتابة” إذن تمثل خطوة منطقية في مسيرة التمرد الإنساني هذه، بجعل الخطاب الفردي “الانعزالي” الموجّه للمطلق، وعبر الآخر، يتحوّل إلى “رسالة” موثقة عابرة للزمن، أي أن تتمثل “القصة” في نطاق “مجسّم” يساعدها على مراوغة المحو والتبدد، بما يعني تزايد احتمالات الحصول على أثر غيبي ما”.
“لكنه ليس مجرد تدوين؛ فالكتابة ـ امتثالًا للفكر الذي نتجت عنه ـ هي مطاردة للإيهام المستقر في ما يُحكى استغلالًا للحضور الحسي “المتناسخ” للكلمات، أي عبر الوجود المتعيّن للقصة وليس عبر أصوات الحكائين المتراوحة بين الغياب والاستعادة. هذا الوجود المتعيّن أراد تحويل القصة من “صراخ شفاهي، سلبت فرديته ونذر للضياع والتبدل” إلى “سردية متجذرة” استنادًا إلى “الذاكرة” الناجمة عن التدوين؛ فالكتابة تتيح للحكاية أن تكشف وتوحي بماضيها الخفي، الأفكار والتغيرات والإزاحات التي تعاقبت على إنتاجها، وبالضرورة أيضًا تتيح لها حيازة الإمكانيات غير المحدودة لمراجعتها وإعادة خلقها خارج الطمس الماثل في صيرورة التداول بين الحفظة ووارثيهم. تجريد القصة من البُعد “الصوت” البشري المقيّد، من خضوعها للألسنة التي لا تحميها من النسيان، من الانتقاء والإهمال والاستبعاد. حوّلت الكتابة قصة الإنسان إلى سردية حينما أبقت على استقلاليتها خارج الولادة العابرة والحياة المؤقتة والموت الحتمي”.
“كان الاعتماد على أصوات اللغة المنطوقة بالتحديد كاشفًا لدور الكتابة في مواجهة الصمت الغيبي، وهو ما سيصبح أكثر وضوحًا مع الطباعة والتداول، حيث يتجلى ذلك الاحتياج لأن يكون المكتوب أكثر من نفسه، أن يتعدد دون حد، يتجاوز المعنى المباشر، والدلالة المستقرة، وكأن كل نسخة هي احتمال جديد لهذا التخطي لما يمكن أن يُعد أصلًا للحكاية، وذلك ما تحقق بالفعل مع الولادات المستمرة لنسخ مختلفة من القصص. هذا ما يذكر بأهمية “التدوين” وضرورته؛ كيف كان يمكن أن يتحقق هذا التجاوز والتعدد لو لم يكن هناك نص مستقل، لا يرضخ لأهواء الكلام، وغير مرهون بوعي الذين يتبادلونه أو بالأحوال القدرية التي تحكم ذلك التبادل في فضاء مُهدِر”.
إذا كنت قد بدأت كتابة القصة القصيرة ـ كما أشير إلى ذلك دائمًا ـ من قبل أن أخط الكلمات على الورق؛ فإن كتابتي النقدية قد بدأت بشكل ضمني وأساسي من قبل ذلك أيضًا، أي حتى فيما يسبق كتابة ملخصات القصص المدرسية والإجابة على الاسئلة الانطباعية والتفسيرية المتعلقة بموضوعاتها في الطفولة .. بدأت الكتابة النقدية مع محاولاتي العفوية منذ اللحظة الأولى لإنقاذ حياتي خياليًا .. منذ وجود “حكاية” خفية لذاتي يكافح جسدي طوال الوقت لتهريبها خارج الواقع، ومن ثمّ أصبح لهذه الحكاية “موضوعًا كونيًا” يجدر تأمّله .. يجدر التمعّن في صوره المختلفة التي تتخطى الذات .. ذلك ما سيتحوّل بالضرورة إلى “وثيقة تمرد”، تخاتل الطمس والضياع، ولا تتوقف مطلقًا عن خلق استفهاماتها.
إذا كانت القصة قد تحوّلت إلى “سردية” بواسطة التدوين؛ فإن “القص” نفسه باعتباره “موضوعًا كونيًا” كان عليه أن يحصل على سرديته الخاصة عبر “الحضور الحسي المتناسخ للكلمات” .. أن يتجاوز “صمت التلقي” بآثاره الواضحة أو بصماته المتوارية .. كان على “الكتابة عن الكتابة” بالنسبة لي أن تمتلك ذاكرتها “المتعيّنة”، أي التي تحرّضها على اكتشاف نفسها بشكل متواصل، وبالضرورة تمتلك وجودًا متغيّرًا، صيرورة لا تخضع للفناء.
هذا التلازم المبكر بين “الكتابة” و”النقد” لم يكشف عن الطريقة التي أكتب بها القصة القصيرة أو الطريقة التي أريد أن تُقرأ من خلالها قصصي القصيرة فحسب؛ ولكنه يكشف أيضًا عن الطريقة التي يتحوّل بها تاريخ الكتابة نفسه إلى نسخ لانهائية في سعيه المستمر للانفلات من الموت اللغوي.
الهوامش:
ـ “الصلوات الخاصة في أدب عبد المنعم الباز” / ممدوح رزق ـ مجلة “أدب ونقد”، العدد 86 “أكتوبر 1992”.
ـ صلوات خاصة / عبد المنعم الباز ـ سلسلة أصوات أدبية “الهيئة العامة لقصور الثقافة” 1991.
ـ العالم المكتوب: تاريخ التمرد / ممدوح رزق ـ جريدة “أخبار الأدب”، 4 نوفمبر 2023.
تحميل العدد الأول