الأحد، 21 يناير 2024

ماريونت معطوبة

أعجز حتى هذه اللحظة عن تصديق كيف كنت تخرج إلى الشارع وأنت في هذه الحالة؟ .. لم تكن تعرج كما يفعل المرضى التقليديون، غير القادرين على المشي بطريقة سليمة والذين يمكن مصادفة أي منهم في كل مكان وفي أي وقت .. كنت تسير كـ “ماريونت” معطوبة .. تزحف بقدمين مرتعشتين في خطوات غير متزنة وبتحكم عسير في حركة ذراعيك .. كنت تجرجر ساقيك في الشارع وسط الناس، تحت عيونهم وبين أرجلهم التي تتحرك بشكل طبيعي .. ثمة أمر غريب .. أي كائن يبقى ظلًا حتى يجبره المرض على المشي هكذا، وحينئذ يتحوّل من ظل إلى جسد حقيقي .. العاهة تجسّم الكائن بعد أن كان مجرد صورة معتمة، مطموسة بلا أصل .. لكن الظل لن يصبح جسدًا فقط نتيجة المرض، وإنما سيكون الجسد الذي يدهس ظلال الكائنات التي لم تتحوّل إلى أجسام بعد .. كانت قدماك بطريقة السير تلك تدهسان ظلال الجميع، ليس من تجهلهم فحسب، وإنما أنا أيضًا وعائلتك وجيرانك وأصدقائك الغائبين عن ذلك المشهد المتكرر .. كنت تدهس ظلك القديم الذي كان يتحرك مثلنا.

عرفت بعد موتك بسنوات طويلة أنك كنت تجلس في الصباح الباكر بجوار شباك الصالون مرتديًا ملابس الخروج، وتنظر عبر الفراغ الصغير بين الضلفتين المواربتين إلى الفرن المواجه لبيتنا، انتظارًا لظهور عم سيد الفرّان الذي تعوّد بعد اتفاقك معه أن يعبر المسافة القصيرة الفاصلة بين الفرن وبوابة البيت بمجرد أن يراك واقفًا عند عتبتها بعد اجتيازك وحدك ست عشرة درجة، بالإضافة إلى الردهة الممتدة بين باب الشقة وحافة السلم .. النزول الذي لا يستهلك زمنًا وجهدًا أضعاف ما يستهلكه شخص آخر بقدمين سليمتين فحسب، وإنما يُضيّع عمرًا كاملًا لم تشعر أبدًا بامتلاكه في مجرد الانتقال من أعلى لأسفل .. يحتضن ذارع عم سيد الفران كل صباح ذراعك الخامل المنفلت من سيطرتك .. ذراع عم سيد الذي ينتهي باليد التي رأيتها ذات يوم تداعب عضوه من فوق الجلباب حتى انتصب، وحينئذ وضع الكراسة التي يدوّن فيها حسابات الفرن على ذلك القضيب البارز من تحت ملابسه متباهيًا كرجل ستيني بقوة انتصابه التي تجعله يحمل كراسة على عضوه دون أن تقع .. فعل ذلك أمام صاحب الفرن وعماله وأمام الناس في الشارع وتحت بصر الواقفين في الشبابيك والبلكونات .. تمشي متعكزًا على عم سيد ببطء التبدلات الثقيلة لساقيك المتيبستين نحو الأمام، وبالتأرجحات الاهتزازية لجسدك النحيل المائل كهيكل عظمي مرتجف على وشك الانكفاء على وجهه حتى يصل بك إلى محطة الميكروباص ثم يساعدك وربما بمعاونة ركاب آخرين على الصعود إلى عربة الأجرة التي ستنقلك إلى مقر عملك الحكومي قبل أن يعود ثانية إلى الفرن.

وماذا بعد؟ .. كيف كنت تغادر الميكروباص؟ .. كيف كنت تقطع الطريق بين المحطة ومكتبك داخل هيئة “حي غرب المنصورة”؟ .. كيف كنت تقضي الوقت هناك منذ وصولك وحتى موعد الانصراف؟ .. كيف كنت تجتاز تلك المسافة مجددًا من مكتبك وحتى محطة الميكروباص؟ .. كيف كنت تعاود استقلاله؟ .. كيف كنت تنزل منه؟ .. كم مرة وقعت؟ .. كم مرة ساعدك الغرباء؟ .. كم مرة طلبت تلك المساعدة؟ .. كم مرة أردتها ولكن لم تطلبها؟ .. كم مرة تبرّم أو سخر أو تجاهلك أحد؟ .. كم مرة بكيت كاتمًا دموعك؟ .. كم مرة لم تنجح في احتجازها؟

كان يتصادف أحيانًا أن أكون واقفًا في البلكونة ثم أراك فجأة قادمًا من ميت حدر أو خارجًا من شارع سينما أوبرا حيث المسارين المختصرين بين المحطة والبيت .. كنت أترك البلكونة على الفور هاربًا من النظرات المحتملة لأهل المنطقة التي ستتوزع بين مشيَك المعتل وبيني .. كنت أفكر في أن كل ما في حياتي يبرر التهكم للآخرين؛ فما بالك بأخ يسير بتلك الطريقة في شارع موصوم بسوء السمعة .. كأن مرضك إهانة لي .. ذنب إضافي ارتكبته في حقي .. كأنك حينما أصبحت مشلولًا توّجت بشكل منطقي ذلك العار المتجذر الذي يمثله وجودك في حياتنا.

كنت تخرج لأن المرض لم يكن قد أجبرك على الرقاد بعد .. لأنك كنت تستطيع الوقوف والخطو مهما كان النجاح في تحقيقهما يتطلب حشدًا متنوعًا من العذابات .. كانت عيناك أثناء ذلك السير بالغ المشقة تجسدان تلك العقيدة .. كنت تحدق بنظرة متحجرة بالتحدي نحو الأمام .. عينان منطفئتان، مفتوحتان عن آخرهما، لا تنظران لأحد، لكنهما تواجهان ما لا يُرى .. كأنك كنت بتلك النظرة لا تجابه مرضًا أو بشرًا أو العالم نفسه، وإنما تؤكد بكامل الوهن الذي يحتل جسدك بأنك لن تغمض عينيك قبل أن ترى نهاية قاتلك المتواري في مخبأ ما.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.