السبت، 5 نوفمبر 2016

كتاب الماشاء‮: ‬خارج حبكة النار‮

لا يسعي سمير قسيمي في روايته "كتاب الماشاء"، الصادرة عن دار (المدي) مؤخراً، إلي توظيف المكائد البنائية للعثور علي غنيمة من المعرفة تصلح كخلاص ما.. ربما الفكرة المناقضة لهذا التصور هي التي تستحق فعلا الانشغال بأسرارها بينما نخطو داخل اتجاهات عديدة ومتباينة للسرد.. الفكرة التي تفترض أن غياب المعرفة هو الذي يُشكّل مكائد البنية.. أن الخلاص ـ لو جاز لنا أن نسميه كذلك ـ يكمن تحديدًا في هذا الخلق الجمالي للغموض.. يُشيّد (سمير قسيمي) روايته وفقًا لهاجس غير قابل للتبدد، ويمكن اختزاله ـ مؤقتًا ـ في هذا الاستفهام: (كيف تكتشف أنك لن تعثر علي شيء؟).. الاستفهام الذي يختلف جذريًا عن التساؤل الآخر (لماذا يمكن لمقاومة الحيرة أن تنتهي بنفس الحيرة؟) لأنه استفهام خاص بالموضوع أو بالإدراك في حين يرتبط تساؤل الكيفية بالتقنية أو بالأسلوب.. لهذا يمكن القول أن آليات اللعبة البوليسية هي الرهان الأساسي لهذه الكتابة أكثر من تفاصيلها، ولكن هذا لا يعني بالتأكيد أننا إزاء خضوع متعسّف للسلطة الشكلية للسرد، وإنما هو نوع من الضرورة الذي يتعيّن معه أن نراقب هذه الحيّل بوصفها تورطا في مواجهة مع صراعات أدائية.. أن نتأمل كيف يمكن لهذه الصراعات أن تكون مكلّفَة بتحويل الرواية إلي عالم مُهيّأ للتداول.. إلي طبيعة لديها القدرة علي تجاوز ذاتها بحيث تتحوّل الكتابة إلي شأن يخصنا حقًا.
(لا أدري بدقة. أفكر في العودة إلي الجامعة وربما بعدها سأطلع علي أرشيف البحرية الفرنسية، فما لدي الآن يؤكد الوجود الحقيقي لسيباستيان دي لاكروا، وهو كما يبدو مترجم حربي أبحر مع الأسطول الفرنسي في حملة الجزائر عام 1830. كل الأمور تؤكد أن مقال لوبلو مبرر ولابد أن أجد طريقة للوصول إليه).
يدفعنا السرد إذن للتمعن فيما يمكن أن نطلق عليه (احتمالات الدهاء) التي تقف وراء السياقات المتشابكة،والتي تبادلت خلالها الشخصيات والأماكن والأزمنة فرضياتها الحتمية بحيث أصبح الفرد مكانًا، والمكان زمنًا، والزمن فردًا.. لكن هذا لم يتم كإجراء صارم أوبتحديد قاطع للهويات؛ بل جعل (سمير قسيمي) العلاقات بين الشخصيات والأماكن والأزمنة كأنها شكل من الجدل الغائم بين الأشباح.. نوع من النزاع بين هذه الأشباح وما يُسمي بـ (المشيئة).. يشبه الأمر تفكيكًا متواصلاً للظلام، ولكن أي ظلام؟ ليس تاريخ الجزائر والاحتلال الفرنسي، وليس الهامش كبطولة مضادة ـ وهو ما أصبحت الإشارة المتكررة إليه بمثابة كليشيه نقدي، كأن تحوّل الهامش إلي متن أدبي أو فني يُصنّف كمعجزة أو ابتكار فضلا عن التعتيم المرتبط بما ترمز إليه الكلمة نفسها، ولكن مع أهمية الانتباه إلي أن هذا الكليشيه يختلف بصورة تكاد تكون عدائية عن تصدّع المتن بقوة الهامش في الممارسة التفكيكية ـ كما أنه ليس التاريخ كنسيان يجب إضاءته، وإنما وسائل بلوغ الحكمة التي تدعي الحسم.. هناك شكل من الرسوخ الروائي الذي يقودنا للتفكير في أن الرغبة لا تستهدف إذابة الواقعي بالتخييلي، أو بتعبير آخر (إزالة الحاجز بين الحقيقة والوهم)، وإنما منح (الحياة) الناجمة عن هذه الإذابة سمة الإثبات.. ليس المقصود بالإثبات هنا الأحداث التاريخية داخل الرواية بل الحقيقة الروائية نفسها ككل والتي تتعدي الأطر أو (المعلومات) التاريخية داخل صفحاتها.. أن تصبح الكتابة عالمًا فعليًا، ليس هناك أدني شك في حدوثه، أي أنه في نفس الوقت متعاليًا عن الصدق والزيف، وهو ما يجعل الوجود ـ كما كتبت في مقالات سابقة ـ نصًا هائلاً.. لا يتوقف تفكيك الظلام المختلف عند هذا الحد، وإنما يتعداه نحو مراقبة الإخفاء المحرّض.. تنظيم المصادفات..اقتفاء الآثار.. توزيع الأدلة..زرع الإغراءات الملائمة..تنويع الأصوات.. تضمين الغوايات المتصلة بما وراء الظاهري..تنسيق الأواصر بين الفجوات..تمرير حساسية إيحائية لطقوس اللغة التي ترسم المشاهد.. إعطاء التناسب للإيقاعات المتغيرة لحركة السرد.. المكائد البنائية، أو أدوات هدم التدابير التي لا تسعي للعثور علي غنيمة معرفية من الخلاص.
(وأرجو أن يكون الحق ألجم باطلي فلم يمتد إلي هذا السفر الذي أخذ عمر شقيقي السايح وقد سبل حياته لجمع معظم ما فيه وترجمة بعض نصوصه من الثمودية إلي ما نعرفه من عربية، وفي ذلك أبرئ ذمتي من أي خطأ في الترجمة أودي بالحق، ولئلا يضيع الأصل نشرت صورا للوثائق الأصلية وأعدت نقلها وتبييضها علي مثل ما هو محفوظ في ألواح خلقون وبعض اللفائف التي وجدها المترجم الفرنسي سيباستيان دي لاكروا والتي رجّح أن تكون قد كتبت في القرن السابع الميلادي).
أعتقد أن كتّابًا آخرين من الذين يمتلكون شغفًا عميقًا بتلك الذخيرة السحرية المتمثلة في مخطوطات البحر الميت وكذلك مخطوطات نجع حمادي مثلاً من الوارد أن يسيطر علي أرقهم إلحاح منطقي لإنتاج أساطيرهم الخاصة المستمدة من تلك الذخيرة.. يمكن لهذه الأساطير التي سيتدفق في دمائها المرح الغنوصي وخيالات النصوص المقدسة أن تلهو بالتاريخ، وبالشخصيات الحقيقية، وبأماكن الواقع، كما يمكن لها أن تخترع بدايات جديدة للكون، وأن تؤلف قصصًا وتفسيرات متباينة لنشأة الخلق، وأن تربط هذه الأصول المختلقة بالأقدار والمصائر البشرية، وبالحكايات المخبوءة للقهر..يمكن لكاتب من هؤلاء أن يحرص تمامًا علي أن تكون هذه الحصيلة العجائبية زمنًا شخصيًا قادرًا علي التجسّد خارج ذاته.. لكن كيف سيفعل ذلك؟.. سمير قسيمي يعطي واحدة من الإجابات الممكنة لهذا التساؤل، وهي إجابة تبدو محكمة وملهمة بفضل الصلابة الجمالية لحيّل المغامرة في "كتاب الماشاء"، والتي كانت أقرب إلي الرحلات المتداخلة، المكوّنة لما يشبه المرايا..مرايا ليست بشرية فحسب، وإنما يقبض علي اندماجها وانشطارها نوع من (المشيئة) التي تحوّلها إلي وجوه ارتجالية لوثائق الزمان والمكان، وللوقائع التي تعيش كمخطوطات قديمة، وقبل ذلك ـ وكما تبتغي المقامرة الروائية ـ تتحوّل هذه المرايا إلي وجوه للفراغات، وهذا التقمص تحديدًا هو أكثر ما يضمن التوتر اللازم للصراع الأدائي في السرد.
(شعر جيل بقشعريرة تسري في كامل جسده وهو يقرأ الجملة كاملة: "كتاب الماشاء". ثم وللحظة وقف مذعورا ويداه علي رأسه بعينين جاحظتين إلي السماء. "هل يعقل أن يكون هو الكتاب؟". كانت عبقرية سيباستيان دي لاكروا تكمن في أنه حافظ علي الكتاب الأصلي داخل كتاب مزيف، من غير أن يغير أي حرف).
إذا كانت المتعة الناتجة عن تفحص وتأويل المسارات الحكائية مرتبطة بأن أكون جزءًا من الشفرات التي اعتمدت الرواية علي أحلامها كمنطق للكتابة، أو متعلقة بما أشرت إليه سابقًا كمكائد للبنية؛ فإن التوحّد بتلك الشفرات لا يتحقق باعتبارها مجرد رموز للتفاهم التدريجي بقدر ما هي ترتيب للحياة والموت بشروط مغايرة ولكنها تنتمي إلي نفس الألم.. ألغاز شهوانية لا تخص مؤرخًا يستكشف مخطوطات صديقته الميتة، أو حياة وأبحاث مستشرق ومترجم فرنسي وعلاقته بالسلطة الكولونياليةوبالمتصوفة، واختزانه لسيّرهم، أو (هلابيل) ابن آدم وحواء المنبوذ، والنصوص الدينية والأسفار المقدسة والألواح والطوائف والرُسل، والنار كمصير للذين يحملون السر، وإنما يخص استكشافي لمخطوطاتي التي لم تُكتب.. التنقيب في يومياتي واعترافاتي ورسائلي المجهولة عن العتمة الشخصية التي لا تنتمي إلي ما يُسمّي بالهامش، وبالتالي ليس لها سلالة تُلصق بجوهرها تلك الصفة السهلة.. لحياتي التي تدور في الكون بين أوهام الحضور والغياب، واختزان جسدي لسيّر الآخرين.. لوجودي الذي قذفته كوميديا الآثام والخطايا لأسفل.. (كيف تكتشف أنك لن تعثر علي شيء؟).. المتعة ناتجة إذن عن هذا الشبق.. الحيّل التي ستكوّن بواسطتها مغامرتك الخاصة، أو الدعابة الذاتية التي ستستعمل كل أسرارك في اللعب مع الغيب.. استفهاماتك عن (المشيئة) وعلاقاتها المبهمة بالخرافات أو الذنوب التي ارتُكبت في الجنة أو في الأرض.. أن تتمم الأمور التي لا تستطيع أن تبدأها.. كأنك تسخر من التطهر، أو ترد القهر (النار) لأصل.
أخبار الأدب
05/11/2016