الثلاثاء، 23 يوليو 2024
رسائل مع دفا “2”
دفا…
لا أدري بالفعل: هل احتوتك هذه اللحظة من قبل أم لا؛ أن تجلسي وحيدة في المنزل، وحيدة تمامًا، حيث كل شيء صامت كميت غادره منذ قليل قاتل سري.. تتطلعين إلى ما حولك ثم تهزين رأسك مبتسمة وعيناك لأسفل.. حقيقة أنت لا تنظرين لشيء محدد.. فقط.. تشعرين بأن الأمر لا يناسبه سوى أن تفعلي ذلك.. هذا ما يناسب أنك بالفعل لا تعرفين.. أنك غير مصدقة.. تبتسمين أو تضحكين في أعماقك لمجرد أن البكاء في تلك اللحظة يتوقف عن أن يكون ذا جدوى.. نعم.. كيف يمكن أن تسير الأمور هكذا؟!.. تهزين رأسك وتبتسمين.. ما هذا الذي يحدث بالضبط؟!.. تهزين رأسك وتبتسمين.. كيف؟ّ!!.. لماذا؟!.. وهكذا.. كأنك تتفحصين أشلاء حميمة جدًا تعجزين عن تسميتها.. ثم.. تنهضين في ترنح مذهول لا يريد شيئًا.. أي شيء سوى فقط أن يعرف الفرق المؤكد بين الحياة والموت.. ولأنه لن يعرف؛ ستتوقفين فجأة عن الابتسام وعن هز رأسك مقررة أن الأمر أصبح سخيفًا بدرجة لا تحتمل.. لأن العالم ببساطة لم ينته بعد.. وأنك ستستمرين في التنفس وفي تحاشي الموت كما يريد ذلك القاتل السري الذي لم يغادر منذ قليل.. فقط.. كان مختبئًا كجبان ليراقب نتائج مزحته المتكررة ويضحك.
دفا…
هل يمكن لما سأكتبه الآن لكِ أية جدوى؟.. حقيقة لا أعرف.. لكن فقط أشعر بضرورة أن أكتب لكِ.. حتى ولو كان بلا جدوى.. من يمكنه أن يتحدث أصلا عن جدوى الأشياء!…
كنتِ ومازلتِ بالنسبة لي مجموعة احتمالات مختلفة ومتعددة (عادة ما يكون الآخر هكذا في نطاق عدم الاحتكاك المباشر ولو أن العكس صحيح أيضًا).. منذ البداية اخترت أن تكوني الاحتمال الذي أريده.. أن تكوني ذلك الطائر الذي يشاركني السقوط بنفس الطلقة الواحدة.. هذا ما كنت أريده بالفعل.. وهذا ما أردت أن تكونيه معي.. لا أستطيع أن أقول أنني قررت ذلك بمنطق خاص من جانبي.. لا.. معطيات كثيرة جدًا منك أثبتت أنكِ بالفعل كذلك.. كل ما يشكّل تكوينك كحالة غير عادية ومختلفة في العالم.. كل تفاصيل ألمك وأرقك وأفكارك وحزنك وضحكاتك وحيرتك ودهشتك و أفراحك العابرة وتساؤلك المتكرر للأشياء.. كل هذا كان مبررًا كافيًا لأن تضمني لي صلاحية تحقق ذلك الاحتمال الذي طالما بالفعل تمنيته وحينما كتبت عنه كنت مؤمنًا به ويائسا منه.
ما الذي حدث؟!
هكذا تساءلنا كثيرًا ولم تكن الإجابة صعبة كما تعرفين.. أن الأمر لم يعد مرة واحدة.. ماذا تعني أصلًا المرة الواحدة ؟.. لا شيء.. أنا هكذا.. وأنتِ هكذا.. (ذاكرتان مختلفتان تتصافحان بحزن).. لا أريد منكِ شيئًا.. لا تريدين مني شيئًا.. لأننا فقط (لا نعرف سببًا للذي حدث.. ويحدث.. وسيحدث).. لا أكثر.. نمر كوهج قصير من الصرخات المكتومة.. لا يمكن لأحد أن يشعر به أو يحتويه.. لأنه عجوز جدًا.. ومتعب جدًا.. وضئيل جدًا.. ولم يعد يفترض الخلاص.. فقط.. يشير بسلام شاحب وواهن للأشياء وللكائنات التي عرفها والتي لم يعرفها.. كأنما يقسم بعدم فهمه أنه لا يصدق.. نعم.. تحية محتضِر يبتسم ابتسامته الأخيرة للشر (صباح الخير أيها الخوف).. لأنه ببساطة سينتهي دون أن يعرف.
كان من المفترض أن يكون الأمر بيننا مجرد توحد خاص جدًا.. وعابر جدًا.. لسبب بسيط.. حيث يتوقف الأمر في هذه اللحظة عن أن يكون رجلًا وامرأة.. لا.. رجل وامرأة في حالة استثنائية غير معهودة.. تخيلي.. رجل وامرأة اتفقا على ألا يريدان شيئًا من بعضهما بل يريدان أن يصنعا معًا حكاية مختلفة عن الموت.. لن تُقرأ أو تُسمع.. حكاية ليست لها غاية سوى أن تحدث فقط.. (لأن الذي حدث سيظل كما هو، والذي يحدث سيظل كما هو، والذي سيحدث سيظل كما هو).
تصوري معي: هل كان من الممكن أن نتكلم معًا للمرة الأولى لنتعاطى سويًا في تلك المرة كل شيء.. الهزائم.. الهواجس.. الأفكار.. الخوف.. الألم.. الضحك.. الحزن.. الصمت.. التساؤل.. الابتسام.. الذكريات.. الموت.. كل شيء.. كل شيء.. ثم في النهاية نتبادل تحية الوداع وينتهي الأمر دون أي تواصل من أي نوع بعد تلك المرة ؟!.. هل كان من الممكن أن يحدث ذلك؟!
صدقيني لا أعرف.. بالفعل لا أعرف.. أنا مؤمن جدًا بجمال تلك التجربة بما يطابق إيماني بأن الحزن كائن جميل.. لكن كيف يمكن أن تتحقق.. العادي والمنطقي ألا تتحقق.. وهذا ما حدث (سبق وسألتك من قبل هل العالم بالفعل أقوى من المرة الواحدة؟) يبدو أن الأمر فعلًا كذلك.. لكن يكفي أن يظل هناك دائمًا ذلك الشعور الثمل الرائع باحتمالية تحقق الأمر (الاحتمال يجعل الأشياء تحدث حتى ولو لم تحدث).
بالطبع.. هناك استيعاب تام لديك بأن الأمر بيننا بتجاوزه للمرة الواحدة صار في نطاق ما يحدث دائمًا، حيث أصبحت المسألة ببساطة عبارة عن محاولات مستمرة ومتكررة وسخيفة لإثبات الذات من خلال الآخر.. أنا أريد منك.. أنتِ تريدين مني.. أنتِ لست كما أريد.. أنا لست كما تريدين.. هكذا.. قلت لكِ كثيرًا أحبك.. مثلما قلتيها لي.. ومثلما قالها ويقولها وسيقولها ربما كل من في هذا العالم.. هل تفهمينني؟…
دفا…
أنا لا أريد أن ينقطع تواصلنا.. لكنني فقط أريد أن تحاولي معي تجنب المزيد من الخسائر الحتمية الناجمة عن فساد الأمر.. ولأنك ـ كما سبق وذكرت لكِ ـ مجموعة احتمالات مختلفة بالنسبة لي، أتفحصها بين راحتي يدي وأنتقي منها ما أريد؛ فاسمحي لي أن أجعلكِ احتمالًا مغايرًا لما سبق واعتبرتك مناسبة له.. هذا الاحتمال كان واردًا بالطبع منذ البداية، ولكنني كما أخبرتك اخترت الاحتمال الذي أريده، والآن أنا أريدك كصديقة رائعة (الأصدقاء يكذبون ويخونون دون اعتبارات حمقاء وساذجة).. ما رأيك؟.. أصدقاء.. مسموح لنا بكل شيء تسمح به الصداقة: نصدق ونكذب بلا مسئولية تجاه الآخر.. ربما ينتج عن هذه الحالة ما يضاف لرصيدنا من التجارب، ولأنه بيننا ـ ولا تنسي ذلك ـ لحظات جميلة سابقة.
ممدوح
السبت 4 سبتمبر 2004
“ما تسمح به يد الموت”
ممدوح
لا أعرف مثلك ما الذي يعنيه أي شيء؟ ولأجل أي شيء كان أي شيء؟…
المرة الواحدة تعني أن تسأل دون تفكير بأني أسمعك: لماذا لم يكن الأمر رائعًا كما ينبغي؟.. ربما المرة القادمة!.
هذا ما يحدث دائمًا، ويحدث الآن…
لم يكن رائعًا كما ينبغي عندما كانا الحالة الاستثنائية؟
لم يكن رائعًا كما ينبغي عندما تبادلنا كلام الحب؟
لم يكن رائعًا كما ينبغي عندما………….و عندما……….و عندما…..إلخ
لم أعد أتساءل مثلك عن وجود تلك المرة الواحدة التي هي أقوى من الحياة، لأنه أصبح يشغلني شيء واحد فقط: لماذا لن يكون الأمر رائعًا كما ينبغي؟.. هل تفهمني؟
أنا أيضًا أريد التحدث معك مجددًا، ليس كصديقين، وليس كحبيبين، وليس كحالة استثنائية تحدثنا عنها طويلًا.. أريد أن أتحدث معك بلا هدف، مثلما تحصل كل الأشياء بلا هدف.. دون أن أعيق يد الموت أن تمتد كما تشاء لما تريد أن تاخذه منا.. فقط أريد أن أتحدث معك لأني فقط أريد ذلك، و يسمح لي الموت بذلك حاليًا.
ارسل لي رسالة اليوم من فضلك يا ممدوح
دفا
الأحد 5 سبتمبر 2004
موقع "الكتابة" الثقافي
11 يوليو 2024
ABBA
"على مدار السنوات الطويلة الماضية جمعت صورًا كثيرة جدًا لفريق آبا، لكنني لم أعثر على تلك الصورة الكبيرة التي كانت أشبه بنافذة في حائط غرفتك مشرعة على مسرح ثابت لا يتوقف بيني أندرسون وبيورن ألفيس وأجنيتا فالتسكوغ وآني فريد لينغستاد عن الغناء فوقه .. أعتقد أن السبب الرئيسي لذلك يرجع إلى فقدان ذاكرتي للتفاصيل المحددة لتلك الصورة التي كنت تفتح عينيك وتغلقهما عليها في الثمانينيات، في مقابل امتلاك هذه الذاكرة تأكدًا عامًا عن المشهد الذي تجسده الصورة .. لهذا أعتقد أيضًا أنها واحدة بالفعل من ضمن مجموعة الصور التي بحوذتي ولكنني فقط أعجز عن الإشارة إليها بيقين .. لم تكن أغنيات آبا في حجرتك تعني بالنسبة لي كطفل أن ثمة حياة ساحرة خارج البيت، وأنك تحوم رفقة أصدقائك حول هذه الحياة وعبر مسافات متباينة كلما تجاوزت باب الشقة كل مساء وحسب .. كانت تعني أيضًا أن ثمة زمنًا قادمًا يُحتمل بقوة أن يكون هذا البيت خلاله جزءًا من هذه الحياة .. الأسرة كلها وجميع حكاياتنا، وأشياؤنا كافة ستعيش ذات يوم في أغنيات الآبا .. الأغنيات التي تمتد من الكلمات والنغمات والإيقاعات إلى عالم الفريق نفسه .. العالم الذي سيبقى في الثمانينيات .. الذي سيسترد الأزل ويمتلك الأبد بواسطة الثمانينيات .. كان بيني أندرسون وبيورن ألفيس وأجنيتا فالتسكوغ وآني فريد لينغستاد أصدقائي الذين لم أكن أعرف أسماءهم بعد، خصوصًا بيني أندرسون بتصفيفة شعره ولحيته وملابسه، أي بعلامات الحميمية الثمانينية الجامحة التي يتسم بها .. يكفيني أنني أعرف وجوههم وأستمع إلى the winner takes it all وmamma mia وhoney, honey لكي أؤمن بهم كملائكة "حقيقيين" لا يثبتون الثمانينيات كوقت عابر وإنما كجسر استثنائي نحو نعيم خالد .. ملائكة تعتني بنا ـ رغم كل شيء ـ دون تكليف من أبوة سماوية .. بإغواء من لا سماويتنا المشتركة".
جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.
الجمعة، 21 يونيو 2024
أنا لا أتهكم!
أعرف أنه ربما توجد أرضية هائلة مشتركة بين البشر تتجاوز حدود المكان والزمان واللغة والثقافة تتسق فيها أفكارهم عن الدعابة، ولكنني لست متأكدًا من أنه من الصحيح التورط في الإيمان بأن التهكم الحق ينبغي أن يحقق انتماءه لهذا المنجز. بالعكس، قد تؤدي المبالغة في اليقين به إلى تفريغه من عناصر الدهشة والتوتر بل والحساسية المتوهجة للصدم المربك والممتع، وعلى هذا لا أجد مانعًا من القول بأن الهاجس المتجدد والمتواصل لتفادي الانحياز لتجارب التهكم الإنسانية السابقة هو الأساس البديهي الذي يضمن للسخرية أن تواصل تشييد وجودها كمطلق أزلي لا يواجه مشكلة ما تتعلق بخلوده.
التهكم لا وجود له كالجدية تمامًا، وهذا ليس لشيء أكثر من أنني وأنا مغمض العينين لا أستطيع فرض قناعاتي على الكون باعتبارها قانونًا. هذه القناعة هي محض أنا، وهي بالتالي تستحق عدم احتياجها لمبرر، لكن في نفس الوقت هذا ما ينطبق على الآخر الذي من الوارد طبعًا ألا أعترف بتهكمه أو بجديته مثلما يستطيع أن يمارس هو نفس الأمر بدقة. هل ما أكتبه الآن يعد رغبة في تخطي التعريف؟ بالفعل، ولكن لأؤكد على أنني أفعل فقط ما أرى أنه من اللائق فعله، كما كتبت في الجملة الأولى، وبصرف النظر عن الخانة التي على هذا التصرف أن يوضع فيها.
أتحدث عن المنطق الشخصي الذي لا يمكن إخضاع قراراته لشروط مسبقة، والذي يعبر في كل حالة من حالاته المختلفة عن حقائق محتملة ومعقدة للذات وعلاقتها بالعالم ويمثل أفكارها ومشاعرها المتغيرة والملتبسة طوال مسيرة وعيها بالحياة والموت. على هذا، فحينما يخاطب (ريتسوس) أبانا الذي في السماء كي يقل لابنة عمه أن تأتي لنزهة قصيرة في الغابة، ويشعر (كيركيجور) كأن تاجر رقيق أتى به إلى الدنيا، ويتساءل (بودلير) عن الشيء الذي يبحث عنه العميان في السماء، وحينما يخبرنا (باسكال) برعبه من الصمت الأبدي للآماد اللانهائية، ويقرر (شوبنهاور) أن يتأمل للحياة لأنها محزنة جدًا، ويتحدث (فوكو) عن الحافة التي يصل إليها الإنسان والتي لا يجول فيها إلا الموت، وحينما يؤكد (كافكا) أن بداخل كل إنسان غرفة يستطيع سماع مرآتها غير المثبتة جيدًا حين ينصت السمع، ويبلغك (رامبو) أنه دائمًا يوجد أحد يطردك حين يكون بك جوع وعطش، ويخبرنا (ميللر) بأننا نتوسل بالكتابة لنحصل على عذاب جديد، وحينما يعرفنا (كامو) بأن العقل السخيف هو ما يجعله متضادًا مع كل الموجودات، ويحدثك (نيتشه) عن اليد التي تقتل برفق، ويخبرك (بيسوا) بإخوة الوداع التي تجمعه بالأشياء، لماذا لا أعتبر كل هذا تنويعات على التهكم وبنفس الفهم الذي يجعلني أعتبره تنويعات على الجدية، مما يقودني بالضرورة لتجاوز علاقتي وبل وعلاقات الآخرين بهما لصالح الرهان الجمالي نفسه الذي سينجح هنا ويخفق هناك دون أن يكون لأحد ذنب في شيء.
أنا لا أتهكم. أنا فقط يمكنني التفكير والإحساس بطرق مضادة وبدافع من هذا أواجه ما قد أعتبره جرائم محمية بمبرراتها السادية ومتخمة بالمهازل السافلة لليقين العادي، ليس تحت وطأة الشبق للجرأة وحاجتي لرفاهية النقد ـ رغم أن الأمر لا يخلو طبعًا ـ وإنما لأنني أريد أن أفعل الصحيح بالتلقائية التي يتطلبها، وهو ما يعني أن سخريتي هي محاولة للاختباء أو لإنقاذ نفسي من سخرية أكبر وأكثر عنفًا وقسوة. محاولة للنجاة من اللامعرفة التي يمتد جرحها العميق منذ بداية وجودي في الدنيا وحتى اللحظة التي أزيد فيها بتهكمي ـ أو هكذا يبدو لي ـ هذا الجرح عمقًا إضافيًا. السخرية ـ كالجدية تمامًا ـ اعتراف ضمني بأنك مقهور لأنك أثبت حالًا وجود سؤال لم يُعثر له على إجابة مقنعة، بل وأضأت زاوية جديدة من زواياه الحادة، وبالتالي فأنت تؤكد قدرك الذي وفر لك القدرة على التخلي عن الحكمة بكل زيفها كي يبقى عجزك عن النجاة أشد عريًا ووضوحًا أمام عينيك.
لا تروقني كثيرًا اللافتات الشعاراتية التي تلصق المتهكم برفض الإذعان والاستلاب والاضطهاد بالضبط مثلما اعتبرت مقولة (كونديرا) في خيانة الوصايا (الدعابة: الومضة الإلهية التي تكشف العالم في وضعه الأخلاقي المبهم وعجز الإنسان الكامل عن محاكمة الآخرين؛ الدعابة: هذه النسبية الثملة للأشياء الإنسانية: المتعة الغريبة المتأنية من غياب أي يقين قطعي) اعتبرتها بيانًا متخمًا بالمبالغات الانفعالية الزاعقة وغارقًا حتى أذنيه في رومانتيكية فجة تريد إرغامك بشكل هزلي على الاعتقاد بأن الدعابة هي الومضة الإلهية الوحيدة التي تكشف العالم في ... إلخ وأنها وحدها هي النسبية الثملة ... إلخ وأنها وحدها المتعة الغريبة ... إلخ.
هذه اللافتات تأخذ الكاتب من هامش التأمل واللعب الجمالي إلى متن نضالي كاريكاتيري ومغلف بوجاهة ثورية أرى أنها معنية بالأساس بالتعتيم على ما وراء الهراء الدعائي الذي يفرض هذا الالتصاق بين التهكم ورفض القيود الأخلاقية والتحرر من سلطة المحظور، وأيضًا على اللاقصدية في عمل الكاتب باعتباره يستجيب لإلحاح أقوى من تعمد الدعابة؛ كذلك التعتيم على النسبية التي تحكم ما هو ساخر وما هو جاد والتي تجعل الفروق بينهما لا يمكن أن تكون وصفة جاهزة يمكن الرجوع إليها، لذا فهي بالضرورة لا تترك لنا من تعريف التهكم ومن تعريف الجدية إلا أفكارنا عنها فحسب كما سبق وذكرت.
ليس هذا فقط ما كرست وساهمت في تحقيقه لافتات الدعابة، وعلى رأسها لافتة (كونديرا). كانت أيضًا تعبيرًا صادقًا عن أنه كان ينبغي ـ غريزيًا ربما ـ على أي نقاش عن التهكم أن يخلو من طرح الأسئلة الضرورية التي يجب أن يسألها كل كاتب في تصوره لنفسه والمتعلقة بحساباته الخاصة التي على أساسها يمكنه أن يعطي إلهامًا ما عن ما تعنيه السخرية والدعابة بالنسبة له وعن الفروق بينهما التي تقنعه شخصيًا وكيف يضمن ـ وهذا سؤال مهم للغاية ـ عدم وقوع التهكم والدعابة في شرك الاستظراف والمزاح البارد.
ليس من أجل الحصول على اعتراف الآخرين المرصع بالتقدير بأنني متهكم عظيم عليّ تصديق الموضة التي تنسيني أن مكاني هو الهامش. البصيرة الجانبية المنزوية بما يجعلها تتمكن بحساسيتها الاستثنائية النقر على زجاج المتن المضاد للرصاص بكل خراءه المقدس. تصديقي للموضة لن يجعلني متنا في كافة الأحوال بل سيجعلني بطلًا أسطوريًا لفيلم يبدو أحيانًا قصة وأحيانًا يبدو مناظر.
انزياحات
العدد الثاني
11 يونيو 2024
ممدوح رزق: الجوائز لا تعد مرجعا تاريخيا للكتابة
جريدة "الدستور"
17 يونيو 2024
مظلة حديدية
مرت الأيام التالية هادئة، نقية من الصوت المزعج، لكنني وبينما رحت أحاول استطعام تلك السكينة الجديدة شعرت بغرابتها .. كان الهدوء الذي أعقب تخلصي من ضوضاء الصاج غير صاف .. ينطوي على شيء غامض من عدم الارتياح .. وجدتني أحاول تدريجيًا تخيّل الصوت المزعج الذي اختفى .. أستعيد نبرات تطوّح قطعة الصاج الملفوفة في مكانها فوق سطح جاري .. وجدتني أيضًا أقف واء شباك حجرتي؛ أتأمل المساحة الخالية التي خلفتها قطعة الصاج التي أُبعدت عني .. ثم تحوّل الشعور بالغرابة إلى افتقاد .. انتابتني رغبة مبهمة ومتزايدة في عودة قطعة الصاج إلى السطح المجاور لي .. أن أسترد الصوت الذي طالما انتزعني من النوم وأطلق أكثر الشتائم بذاءة من فمي .. تساءلت في نفسي: لو لم تكن قطعة الصاج تلك متبقية من مظلة، ولو لم تكن تلك المظلة تعلو مقاعد قديمة مهملة؛ هل كان سيتملكني هذا الشعور؟
كنت مترددًا، ومع ذلك بلا إحساس بالدهشة من نفسي اتصلت بجاري كي أطلب منه أن يعيد قطعة الصاج إلى السطح .. لم يكن عجيبًا أيضًا أن أسمع ضحكة جاري الشاحبة وهو يخبرني بأنه كان في انتظار هذه المكالمة.
الثلاثاء، 11 يونيو 2024
فهرس الملوك: «الملك» بين المفهوم والانزياح اللغوي
ربما لن يكون التفكير فى تعريف «الملك» عند قراءة المجموعة القصصية «فهرس الملوك» (دار مرايا) للكاتبة ليلى عبد الله ملتزمًا أو مرتبطًا بالصفات والسمات المتعددة لـ«الملوك» المتعاقبين عبر قصص المجموعة فحسب، وإنما قد يكون تأملًا أيضًا فى «مفهوم» الملك، والذى قد يفضى بدوره إلى تفكيك التعريف التقليدي، المتجذر تاريخيًا.
«صار مع مرور الأيام يطلب منى أن ألتهم نصف الولائم، بل زاد تشككه الصارم إلى الحد الذى جعله يستغنى عن تناول الأطباق، ويكتفى بتناول القليل من الفواكه فتضاعف حجمي، وصار جسمى مترهلًا من الشحوم، وبدا الملك كخيط رفيع كاد أن ينقطع فى أية لحظة من شدة نحوله. وبعد ثلاث سنين قضيتها فى القصر، قضى الملك نحبه بسبب سوء التغذية، وظلت المؤامرات تعيش بعده، وقد عدت إلى أسرتى التى تحسّنت أحوالها بفضل ما أرسله لها من بريق الذهب، إلا أننى عدت مريضًا بالنقرس».
يمكننا مقاربة «الملك» فى هذه القصة بعنوان «ذوّاق الملك» باعتباره اليقين الذى يخشى على استبداديته من الخدش، فيحشد دفاعًا عن نفسه من الأفكار والممارسات ما يعتقد أنها قادرة على حمايته؛ ومن ثمّ تتحوّل هذه الأفكار والممارسات عبر مسارات تداولية متشعبة ومراوغة إلى أدوات وعناصر تكوينية ليقين آخر، تحكمه «معرفة» مغايرة، وبالضرورة يمتلك استبداده الخاص، المجابه لذلك اليقين الذى نتج سابقًا عن حضوره.
يقين مختلف، يعيّن مبادئه عفويًا كبديل أكثر جدارة من ذلك الذى أراد التحصّن به، ولهذا فهو لا يمثل خلخلة لليقين «الأصلي» بقدر ما يتوحدان ويتضافران فى ضديتهما وصراعهما على توطيد وتحفيز موضوع «التسلط» ذاته، كمطلق قهري، دون سياج مُدرك، أى بما يتجاوز التواطؤ بين اليقينيات المتناقضة. على هذا النحو يمكن أن يكون «الملك» فى هذه القصة عقيدة، مذهبًا، أيديولوجيا، عُرفًا أو تقليدًا متوارثًا.
بوسعه أن يكون «حكمة» متعالية، كلما «صاغت» مبررًا لشموليتها، يصد عن رونقها «الشك»؛ صار المبرر نفسه «حكمة» أخرى يُمكن مع كل مغامرات التأويل المحتملة أن تُستعمل فى هدمها.
«فى أحد الأيام وصلت إلى القرية فرقة من المسلحين، يحمل أعضاؤها لوحات مرسومة لوجه شاب، وقد اجتمعوا بكبار أهل القرية، وأقنعوهم بتعليق اللوحات فى بيوتهم، كما أقنعوهم بأمور أخرى، وقبل أن يغادروا حطموا تمثال الملك بمساعدة شباب القرية، بينما كان أهل القرية فى ذهول يتساءلون: ما معنى طاغية؟!».
يجدر بقارئ قصة «تمثال الملك» أن يحدّق إلى هذا التمثال كتجسيد أو رمز لتلك الإرادة التعسفية المستترة، التى تتقنع بما يُسمى «الحقيقة المطلقة»، وتتناسل عبر مشيئتها الاستحواذية أوجه الإخضاع كافة، بحيث يتحوّل «التمثال» إلى خالق لغوي، مسيطر، لا يتوقف عن إنتاج بصماته المتغيرة عبر الزمن. البصمات التى لا تكتفى أى منها بأن تكون «أثرًا» للسلطة، وإنما تتحوّل هى نفسها إلى سلطة يحاول خطابها «احتكار المعنى»، بينما يستمر فى تأكيد انفصاله عن «إطار مرجعى حاسم» يقع خارج بنيته اللغوية. يمثل «وهم» التمثال قناع «الطاغية» ليس كفرد، وإنما كـ «استيلاء أزلى على الوجود» بملامح غائبة، تتعدى / تحطم «نماذجها»، لتُبقى «الوجه الاستعبادي» مؤجلًا فى «أبديته».
«هدأت سورة الملك، متأملًا ذوبان الثآليل فى سواد الفحم، واقتنع بتفسير الرسام، واعتقد أنه سيخلّد فى لوحة بهذه الطريقة. يبدو أن حكمة الرسام الصعلوك بلغت أقاصى البلاد وما جاورها، حتى صار الناس وملوك البلدان الأخرى يستخدمون هذا الفن، وعرفوه بالمدرسة الفحمية، ولم يرسم المحتال بعد تلك اللوحة غيرها، وعاش متنعّما بمكافأة الملك، وقبل وفاة الملك شاع أنه أكثر ملوك التاريخ وسامة فوق سطح الأرض. أما المدرسة الفحمية فى الفن فقد توقفت بعد أن عُرضت بعض لوحاتها فى ساحة عامة، وتساقط مطر أثناء العرض، فأزال سواد الفحم».
كأن قصة «لوحة الملك الفحمية» تقدم مجازات تفكيك السلطة التى تسبق الحضور المباشر لـ «الملك»؛ فالفحم يليق به أن يكون اللغة التى يسعى من خلالها «اليقين» أن يمارس هيمنته الشاملة، أى أن يكتسب صورة زائفة لسرابه المشوّه عبر «المهارة الانتهازية» للرضوخ، وما المطر إلا «تقويض اللغة» الذى ينزع قناع «القيمة» عن «السلطة».
«وصلت أصوات الحشود المتنافرة إلى أذهان الوفود الحاضرين من ملوك البلدان الأخرى، واستنكروا سلوك ملك هذه البلاد قائلين: «الملك يلبس خردة شعبه، يا له من ملك! انظروا إلى شعبه، هؤلاء البسطاء، حتى خردتهم سلبت منهم! يا له من ملك جشع!». وأصوات البسطاء تهتف: «أعيدوا لنا خردتنا، أعيدوا لنا خردتنا!». تكثّفت الأصوات حتى صارت أجسادهم تتبعها إلى حيث الملك يقف مذعورا فى داخل كائن ينهار رويدًا ورويدًا، فقد كانت الأيدى الممتدة تنتشل ما كان ملكًا لها!».
فى هذه القصة التى تحمل عنوان «نفايات الشعب» يبدو «التسلط» قائمًا ومتدثرًا بما يمكن اعتباره «رماد الآخرين»؛ ذلك الشيء الذى كان يتسم بالحميمية، ويسكنه الرجاء، ويمثل إشارة أثيرة لعالم الفرد، وتحوّل إلى «نفاية» تشارك بتلقائية فى نسج رداء الاستبداد، بعدما كان وعدًا غامضًا بأن يكون له دور فى خلاص ما. الرماد ليس ناجمًا عن احتراق «الوعد»، وإنما عن الإيمان نفسه بأن ذلك الشيء الحميمى كان «وعدًا» لا «وعيدًا». هو احتراق الذات التى لم تمتلك فى أية لحظة ما تحوّل إلى «نفاية»، ولكنها جاهدت لاستعماله حتى كشف عن وظيفته الجوهرية فى سلوك القهر.
البسطاء حين يحاولون استعادة «الخردة» لا يستعيدون الرجاءات نفسها من جسد «اليقين»، ولكنهم يستعيدون يأسهم العالق فى هذه الرجاءات، يستعيدون فرصًا أخرى للتأمل فى الكيفية التى يمكن للعلامة الأثيرة أن تكون بواسطتها خائنة، فضلًا عن كونها «خادمًا تجميليًا» للتسلط، خاصة حين تتجرد هذه العلامة من حياتها القديمة، وبالأخص حين تعلن أن تلك الحياة القديمة لم تكن إلا تمهيدًا مخاتلًا لهذه الوظيفة. استعادة «النفايات» هى محاولة للقبض على السر الاستبدادى فى عالم الفرد، كأن تجريد «الملك» من «الخردة» بوسعه أن يجرد كل ما هو شخصى من «شموليته»، يجرد «اليقين» نفسه من لغته التى تعيش على الأحلام الخاسرة بالسيادة على المطلق.
«اقتيدت شهر زاد إلى منصة الموت، فى الوقت نفسه كان بين الحضور شخصيات غريبة، وكأنهم انبثقوا من زمان ما، فقد كان بعضهم يرتدى ثيابًا عفا عليها الزمن، وآخرون ظهروا بهيئات مختلفة.
يقال: إن هذه الحشود الغريبة تسربت من قصر الملك، وواصلت طريقها حتى الساحة العامة، كان مظهرهم مخيفًا، فبعث الهلع فى قلوب الحاضرين، حتى سيّاف الملك عجز عن الوقوف أمامهم وهم يحيطون بشهرزاد التى علت وجهها بشاشة ظاهرة، كانت تعرفهم فردًا فردًا، كان هناك على بابا وبرفقته أربعون حراميًا، السندباد، وبدر البدور، معروف الاسكافى وغيرهم، حملوا شهرزاد على أكتافهم إلى حيث الملك شهريار الذى بدا مبهوتًا من هذه الحشود الزاحفة نحوه، وقف عاجزًا أمامهم، يعلو الهلع وجهه، فمن أين جاء هؤلاء الثوار؟!».
تقدم قصة «ليلة سقوط شهريار» الخيال بوصفه أداة «التفكيك» الذى تمارسه الحكايات ضد السلطة، فشخصيات «ألف ليلة وليلة» أو «الثوار» حين تنقذ شهرزاد من شهريار أو «الطاغية» فإنها تشير إلى إمكانية تدخّل الذاكرة السردية فى مجابهة الموت حين يبدو أن الذات قد بلغت حد الخرس أمام الواقع الاستبدادي.. الخيال الذى بمقدوره استبدال «الملوك» بـ «الصعاليك» فى الحكايات الهزلية، أو اللهو بغفلتهم فى المتاهات، أو استدراجهم إلى بيوت المرايا، أو إعادة تركيب هيئاتهم فى مجسمات هازئة، أو قلب لعبة الخداع ضد عروشهم، أو تحويل بطولاتهم الوهمية إلى دعابات لاذعة، أو خلق أشباح متغيّرة لكوابيسهم، وذلك مثلما فعلت ليلى عبد الله فى «فهرس الملوك».
«أنزل الحشد شهرزاد التى وقفت فى حضرة الملك بشموخ وعلى وجهها نبرة انتصار، وهى تقول له: «بلغنى أيها الملك السعيد، ذو العرش المجيد، أن امرأة تدعى شهرزاد صارت ملكة على بلاد يحكمها ملك طاغية يدعى شهريار، وأن هذه المرأة عزمت أن تصون نفسها ونساء مملكتها من بطش هذا الملك الجبار، الذى أودى بحياة الكثير من الضحايا». ومن فورها أمرت السيّاف أن يضرب عنق شهريار، ليخلص البلاد والعباد من جبروته، وتبقى شخصياتها خالدة».
هل الحكايات نفسها أم القدرة على منعها من إعادة تدوير «الحقيقة المطلقة»؟.. ما الفرق؟.. فى كل حكاية يوجد التمثال والمعاول التى تهدمه، تكمن الإرادة التعسفية للاستحواذ مثلما تنطوى على الهواجس العصية على الإخضاع.. شهرزاد لا يفترض بها أن تكون «خالقًا لغويًا» بل مخرّبة لأقنعة اللغة.. ألا تكون «بصمة» للخطاب وإنما بصمة لمرحها الذاتى فى لعبة الغواية والانتهاك.. لا يفترض بشهرزاد أن «تحتكر المعنى» وإنما أن تروى سيرة انفلاته وعصيانه الدائم عبر الزمن.. إن «الإطار المرجعي» لن يتبدد كـ «تصوّر غريزي» مع رأس شهريار المقطوع، وإنما سيظل راسخًا، حتى فى «شخصيات شهرزاد الخالدة»، مثلما تناوئ استعبادها.. كيف نحكى ما سبق أن رواه الجميع بطريقة أخرى، أى أن نجعل الطاغية يسرد قصته فوق أنقاض «النموذج»؟ كيف نروى دون «استيلاء» على ما يُنظر إليه كـ «بنية ضامنة»؟ إنه رهان شخصي، لا يخضع للصواب والخطأ، ولكنه احتياج بديهى وحسب، استجابة ضرورية لأن تكون «حكايتى» طوال الوقت سخريةً من «مفهوم» الملك.
كيف يخلق الخيال النقدي نصًا شبحيًا؟ (2 ـ 2)
صورة فوتوغرافية لكاتب مع نسخة من روايته “الفشل في النوم مع السيدة نون” .. كلمات أسفل الصورة عن أن حياة الشاعرة أو “البطلة المزعومة” للرواية لم تكن سوى يد سردية من الأكاذيب والمبالغات، خلقها الكاتب كي تعاون أيديه الأخرى في هرش خصيتيه مقاومة للضجر الذي يلازمه دائمًا .. ما هي الكلمات الأصلية المحتملة التي تبادلها الكاتب في الواقع على الماسنجر مع تلك الشاعرة قبل أن يحوّلها إلى “أكاذيب ومبالغات”؟ .. كاقتفاء خائن لأثر ذلك النص في كتاب “وهم الحضور”؛ هل كان يمكن أن تتحوّل هذه الكلمات إلى “كتابة أخرى” لا تشعر معها تلك الشاعرة بالتوتر ـ كما أخبرت الكاتب في رسالتها له عن الرواية ـ ومن ثمّ لا ترتكب نتيجة لذلك أية حماقات مضحكة؟
“بدأت الحوارات في التكوّن بيننا على الانترنت، كانت قليلة لأنها لم تكن تفتح الماسنجر كثيراً، وفي نفس الوقت كانت أحاديثنا غالباً قصيرة، وليست متعمقة بما فيه الكفاية .. كلام عام عن حياتها، وبيتها، والجامعة، وعن مصر، والشعر، وأصدقائها الذين أعرفهم، وذكرياتها معهم”.
بهذه الكيفية كانت الحياة “نصًا أدبيًا” عند نيتشه .. أثرًا غير مستقل لإنكار الحقيقة .. كانت اللغة اليومية فنًا، ممارسة فلسفية، أسلوبًا للمخاطرة .. “سأجعل من نفسي سيرة للاستكشاف” .. الغضب الغريزي .. إحراق السماء .. لهاث الكتابة .. رعشة المراوغة .. الاندفاعات المحمومة .. الانتقام من الطمأنينة .. غرابة النشوة .. الأورجازم اللغوي .. خرافة الإثم .. استرداد البكاء الطفولي .. السخرية من “الرهان” .. إهانة قاطع الطرق الأعظم.
أنت لم تبصر كل العفاريت التي خرجت منك وأنت عارٍ في ميدان مزدحم .. العفاريت لن تكون هي نفسها حين ترتد إلى داخلك ثانية بعد تعذيبها .. حسنًا .. لتواصل وطء تفاصيل ومشاهد وأسرار الازدحام كي تعثر على المزيد من كوابيسك .. لتمعن مخاتلة كل كابوس في قتلك.
كيف يمكنك اللعب استباقيًا ـ تفكيك النظام بتعبير دريدا ـ وعلى نحو متعمّد بإشارات التناقض في الموضوع الإيروسي؟ .. الفجوات والهوامش تكتب الرواية دون مواراة .. تحويل الانتهاك إلى بداهة .. تخريب ساطع للإزاحات .. استمتاع بالتهكم على الأوهام الأخلاقية التي تحاصر الكتابة .. استمتاع بالتهكم على استثمار الأوهام الأخلاقية الذي سيحتدم بعد قراءة الرواية .. ثمة صدى جدير بالاستعادة: يعتبر الناقد والأكاديمي العراقي د. نجم عبد الله كاظم “الفشل في النوم مع السيدة نون” من الروايات التي اخترقت المحظور الجنسي والمسكوت عنه بغرض التعبير عن الموقف وبنضج وتبرير موضوعي وفكري، حتى وهي لا تتوقف في تعاملها مع الجنس عند حدود، أو حتى لو كان الجنس هو بحد ذاته مادة الرواية وموضوعها، وذلك ضمن دراسته عن المتغيرات والتجديد في الرواية العربية المعاصرة .. “ربما يمكن للطفل في طفولته، وبواسطة مناظر، وأحداث كهذه أن يبني ما يمكن أن يُعد أصولاً، أو جذوراً للعب .. يمكنه أن يكتسب بصراً سرياً، يجعله يدرك أن الجنس هو أكثر المشاهد التي كلما أخذت راحتك في التبديل بين تفاصيلها كلما كان ذلك أكثر استجابة لإرادتها الجوهرية”.
قصيدة لشاعرة اسمها “قراءة الماضي” تكتب على الماسنجر لـ “الفشل في النوم مع السيدة نون”: “لا أعرف لماذا أكتب لك هذا .. ربما أردت أن ترى توتري فحسب” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يصمت .. كاتبة اسمها “أن تتناولك رواية أو هل تراني فعلًا بهذه الطريقة؟” ترسل عبر مدونة “قراءات” ردًا إلى “قراءة الماضي” .. الرد الذي يبدو ـ رغم سعادتها به ـ لم يعوضها عن الرد الذي لم تتلقاه من “الفشل في النوم مع السيدة نون” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يقابل “قراءات” صدفة على مائدة “الرواية والفانتازيا” .. “مصافحة سريعة وابتسامة خاطفة ثم اختفاء فوري” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يكتب “نصوص متحركة”.
تحلم الرواية بالشاعرة والروائي الشاب الميت، فقط .. “(الشخصيات) تتوقف عن أن تكون (حقيقية) في الكتابة مهما بلغ وضوح ملامحها الحقيقية” .. الحلم يجعل الشخصيات أكثر واقعية مما تبدو عليه .. الواقع الثأري لكاتب الرواية .. “قررت تحويل الكتابة إلى حياة انتقامية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى” .. ليس الثأر من “الشخصيات الحقيقية”، وإنما من “السياق” .. التاريخ كما يدعي الحدوث .. كما كان يُحتمل أن يحدث .. “لم تعد لدي حياة كي أعيشها” .. انتقام من كل تخيُّل، فقط.
مقاطع من “الفشل في النوم مع السيدة نون” بصوت الكاتبة الفلسطينية سحر أبو ليل في برنامجها الإذاعي على ساوند كلاود .. مقاطع ماجنة تُقرأ بصوت رقيق وأداء شاعري وعلى نغمات موسيقى ناعمة .. صوت لا يعرف كاتب الرواية .. صوت غير متأكد من أن “الفشل في النوم مع السيدة نون” تدعم صورة واقعية لكاتبها أم لا .. صوت نقيض “الصداقة” .. مضاد لليقين .. ما يحتاجه بشكل حاسم ودون إمكانية للتفاوض هؤلاء “الذين رأوه متعيّنًا في الحياة، وجلسوا وتحدثوا معه ذات يوم أو في كثير من الأيام .. الذين حينما ينتهون من قراءة رواية كهذه سوف يبتسمون بالثقة اللازمة لطمأنتهم على سلامة وعيهم بالموت، وهم يرددون في أذهانهم، وبين بعضهم البعض: ليس هناك شك في أنه هو، ويدرك نفسه جيدًا مثلما ندركه” .. تصل نسخة من “الفشل في النوم مع السيدة نون” إلى “صديق” فتكون تلك هي اللحظة الأخيرة في علاقته الشخصية بكاتبها .. كأن الرواية هي الفرصة الثمينة التي خلقها الكاتب عمدًا كي يتخلص من “أصدقائه” .. قطيعة مقصودة تستبق “الاستجابات القاصرة” التي لا يجب إهدار أي شيء في مواجهتها .. “لأننا رأيناك، وتحدثنا معك، وكنا “أصدقاءً”؛ فإن الاحتمالات تتضاءل للالتفات إلى غير ما نعتقد أننا نعرفه حقًا عنك .. لن نبصر في صفحات الرواية ما يتجاوز التأكيدات على حقيقتك المتداولة في الواقع، ربما بعكس لو لم نصادفك أبدًا من قبل .. لن نفكر في وجوهك الأخرى المغايرة أو المناقضة لذلك الوجه الذي اعتدناه، ولمسنا تطابقه مع ما رسمته أنت نفسك بالكتابة .. لن نتساءل عما وراء غياب الخجل والحذر والانضباط في “الفشل في النوم مع السيدة نون” مقابل حضور العدائية والطيش والمبالغة، كالتي تناولت بها شخصية تلك “الشاعرة” مثلًا” .. كأنها الفرصة الثمينة التي خلقها الكاتب عمدًا كي يهزأ من هؤلاء الذين لن ينتبهوا إلى ما يشبه plot twist في الرواية، أو جرس تنبيه للتمعّن في “الوجوه المتعددة”:
“لي صديق كاتب قصص قصيرة اسمه (ممدوح رزق)، حينما أخبرته بالأمر أعد لي هدية فرحت بها كثيراً يا دكتور .. كانت عبارة عن مزاوجة بين القصة الأولى في اليوم السابع من (الديكاميرون) لـ (جيوفاني بوكاشيو)، وقصة (المدرسة الداخلية) لـ (أناييس نن) من مجموعة (دلتا فينوس)”.
الفصام الجامح في الرواية إعلان ملكية الكاتب لأشباحه، يماثل إعلان رولان بارت ملكيته لجسده حين قام الأطباء بإزالة قطعة من ضلعه ثم أعادوها له ملفوفة في شاش طبي صغير .. تكتب ماري جيل في “رولان بارت (بديل الحياة)”:
“هل نرى في هذا النص رمزًا للكتابة، من البعد السيري للكتابة شاملة؟
ما هي الكتابة إن لم تكن حفر المرء لجسده ونشره على شكل قطع وإعطائه للكلاب الرعوية. إن النشر هو تحويل اللحم إلى طعام إلى قطع، حيث يحصل القارئ على العظام لمضغها.
الكتابة لبارت تضع جسدك في المحور، تفهم حرفيًا حقيقة أنك تكتب بجسدك. هذا المقطع يفسر الكليشيهات البارتية: كتابة الجسم، القطعة نفسها هي استعارة كجزء من الكناية في العمل. نرى أن ما يكتبه بارت عن الجسد هو العظام. ما هي هذه العظام؟ هي قطعة من الذات منفصلة ومتلائمة ستسمح لبارت أن يصبح مالكًا لنفسه. إن نزع قطعة من الجسد، أو النزع التدريجي للجسد، في الدرج، هو استنساخ خيالي لعملية الانفصال في الكتابة، والموت من موت المؤلف من آثاره، وهناك ما يشير إلى ولادة”.
حفر الذات ونشر قطعها في “الفشل في النوم مع السيدة نون” هو مضغ لعظام الكلاب الرعوية التي تقف تحت نافذة الكاتب انتظارًا لما سينتزعه من جسده ويلقيه لهم .. كأن انفصاله عن جسده سيجعله مالكًا بالضرورة لأشباح قرائه .. لخيبات الغرباء التي يلهو بها “المريض والطبيب” عبر صفحات الرواية (في زمن ما بعد علم النفس) .. النزع التدريجي للجسد هو استنساخ خيالي للألوهة التي انتُزعت من الكاتب من قبل أن يمتلك عظامًا.
مجلة “الناقد”
العدد الثاني – أبريل 2024
أفق غائم
فروع متيبسة بلا أوراق
تترنح في أصيص متصدع
وراء باب خشبي متآكل ومغلق منذ زمن طويللم تتوقف مطلقًا عن طرق الباب بصمتها
نداء يتمادى في الوهن لحظة بعد أخرى
لكنه لم يخب منذ أن فقدت ورقتها الأخيرة.
الطين الجاف والمتحجر الذي يبقيها منتصبة
ما الذي يسقيه؟
لابد أنه شيء يغذي التيبس
الصمت
لابد أنه شيء يضمن لها أن تظل تنادي
رغم طول الوقت الذي قضاه الباب موصدًا
حسنًا
إنها الذكريات بالفعل
ليس الماضي تحديدًا
وإنما النبوءة الغامضة
التي كان يضمرها الماضي
وكان محتومًا أن تتحقق
ولكنها لم تعد سوى نفسها
مجرد أفق غائم
لا يدين لأحد بالوصول.
استشراف الديستوبيا المضمرة / مقارنة بين رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" لحسين عبد العليم، ورواية "دنيا زاد" لمي التلمساني
نافذة البيت .. نافذة القطار
وراء نافذة القطار يجلس بشعور جارف بالانسجام. ليس فقط لأنه يصادق المسافرين في الليالي الباردة، المنكمشين في نعاسهم المرتجف، ولا لأن الحكايات التي يتبادلونها همسًا يهدهدها الضباب الكثيف، الحقول المظلمة، الروائح الريفية، المصابيح الشاحبة، والبيوت الصغيرة المقفلة حول القضبان فحسب. يشعر بهذا الانسجام لأنه يدرك أيضًا عدم الوصول. لا يتنقل من مدينة إلى أخرى كسائر الركاب الذين يسخر من إجاباتهم عن الأماكن القادمين منها والذاهبين إليها. هو يعيش في القطارات، ولا تخطو قدماه خارج أي محطة يمر عليها. حياته سفر متواصل؛ حيث رجوعه إلى البيت في نهاية اليوم ليس استقرارًا في وِجهة معينة، وإنما مجرد غفوة مؤقتة لمسافر أزلي لا يغلق عينيه طوال الطريق.
وراء نافذة بيته يفكر في أنه منذ فترة راح ما يأكله أو يشربه ينتهي على الفور بمجرد البدء في تناوله؛ يفرغ كوب الماء في يده بمجرد أن يرتشف منه قدرًا ضئيلًا، يفرغ طبق الطعام بعد الملعقة الأولى، كل أكواب الشاي وفناجين القهوة، وكل أرغفة الخبز وثمرات الفاكهة تنتهي فجأة بلا كشف أو تفسير وهو لم يأخذ منها سوى رشفة أو قضمة واحدة. كأن كائنًا آخر خفيًا يلتهم طعامه وشرابه. لهذا لم يعد يشبع. أصبح جائعًا وعطشانًا بشكل متزايد طوال الوقت. كأن كائنًا آخر خفيًا يأكل ويشرب من جسده.
وراء نافذة القطار يشرد بصورة مباغتة وسط حكايات المسافرين متذكرًا أنه في طفولته كانت أمه تستخدم المصيدة لقتل الفئران. كانت تضعها فوق حافة شباك المطبخ مساءً، وبعد استيقاظه في الصباح وأثناء عبوره نحو الحمام المواجه للمطبخ؛ يشاهد الفأر مسجونًا ويرتعش بقوة بعد أن أكل السم الذي بداخلها حتى تخمد حركته تدريجيًا. لم يكن يعرف ما الذي يحدث له حين تُغلق عليه المصيدة. كان يعتقد أنها رعشة فقدانه للحرية وحسب، وأن الموت نهاية منطقية لهذا الفقدان. لم يكن كبيرًا حينئذ لكي يشعر بالألم من أجله. كان الفأر شيئًا يستحق الاحتجاز والموت بما أن أمه تفعل به ذلك. لكنه كان منتبهًا أيضًا ودون وضوح تام أو تعمّق في التفكير إلى أن العصافير التي اعتادت التحليق والوقوف وربما الإقامة في مَنوَر البيت قد شاهدت ما حدث للفأر. ما حدث لكل فأر اصطادته أمه.
وراء نافذة بيته، وكانت خمسة شهور تفصله عن عامه السادس والأربعين؛ اقتحم ذهنه خاطر مفاجئ بأن سر شقاء الماضي لا يكمن في ما تحدث به مع الآخرين، وإنما في ما لم يتكلم معهم عنه. ظلت هذه الفكرة تناوشه في الأيام اللاحقة كلما جلس وراء النافذة حتى شعر بغصّة البكاء تتمطى في حلقه. حاول أن يكتم دموعه لكنه لم يستطع. اجتاحته نوبة بكاء ثقيلة بعد أن تحولت الفكرة في أعماقه إلى يقين. كان بكاؤه مزيجًا من الابتهاج والحسرة. لقد عرف الحقيقة، ولكنه أدركها متأخرًا جدًا بشكل فادح. ما الذي يمكن أن يفعله الآن؟ فكر في أنه لو حاول تذكر حياته من بدايتها بدقة متناهية لتمكن من التوصل إلى الموضوعات الصحيحة التي كان يجب أن يتبادلها مع من حوله. ربما استطاع خياله – على الأقل – إزاحة تلك الأحاديث التي تمت في الواقع لبعض الوقت. لكنه حينما بدأ في ذلك؛ وجد نفسه أمام اكتشاف جديد. تبين له أنه قد حاول بالفعل أن يتكلم وهو طفل في الأشياء الصائبة. كان صوابها بديهيًا بالنسبة له. ماذا حدث إذن؟ رفض الجميع كلماته، وأجبروه على استبدالها بكلمات أخرى. بمرور الزمن تعوّد على استخدام الموضوعات التي يستعملها الآخرون. أصبحت هي أو الصمت. لم يتوقف اكتشافه عند هذا الحد. انتبه إلى أن ما كان يريد أن يتحدث به قد راح يتلاشى تدريجيًا من داخله. احتلت الحوارات التي يتبادلها مع من حوله موضع تلك الكلمات. حتى أنه لم يعد يتذكرها. لم يعد قادرًا على استعادتها من جديد ولو كأطياف عقلية خالصة. تأكد في النهاية أن سر شقاء الماضي يكمن في أن ما كان يجب أن يتحدث به لم يتوقف غيابه عن الانتقام.
وراء نافذة القطار أراد بشدة أن يخبر المسافرين بالأشياء الجميلة التي يفعلها مُكرهًا: الكتابة .. استعادة الذكريات .. سماع الموسيقى .. قراءة القصص .. مراقبة المطر .. لكنه بالطبع لم يحقق هذه الرغبة؛ إذ لم يكن بوسعه أبدًا أن يجيبهم على السؤال المتوقع: لماذا تشعر بالإكراه وأنت تفعل ذلك؟ لم يكن بوسعه مواجهة ما سيترتب على امتناعه عن الإجابة.
وراء نافذة بيته يشعر أن جسده في غفلة خبيثة قد تحوّل بمرور السنوات إلى تابوت. حتى أن كل ما قاله أو خطر في ذهنه طوال تلك المدة من الفقدان والحسرة لم يكن تنبؤًا على الإطلاق، أو تمهيدًا لذلك من المقاومات العبثية. الاستيقاظ على التابوت مفاجأة غير متوقعة في جميع الأحوال. وحينما أدرك هذه الحقيقة؛ كان كل شيء قد اكتمل: الثقل الهامد .. البطء المترنّح .. التحجّر المسنون .. النار تعتصره من الداخل في جمود تام .. هو التابوت، وأيضًا هو الطفل غير المرئي الذي يحمل التابوت. لو أن الطفل الذي كانه هو من في الداخل لأصبح في ذلك نوع من الابتذال. لا، التابوت مغلق على ظلال خفية لهذا الطفل، تشابكت وتيبّست إلى أن أدركها العفن. أرواح متوارية تتقلّص وينتفض صدؤها، كأنها خيالات الماضي وقد باتت أشلاءً أو عصارة الميت.
وراء نافذة القطار يعتبر نفسه جالسًا بين منتحرين وقتلة. لن يفكر أي منهم في الانتحار أو القتل قبل الإقدام على ذلك ولو بلحظة واحدة. سيجد كل منهم نفسه يفعلها فجأة وحسب. كأن حياته كلها لم تكن سوى تجهيزًا خفيًا للانتحار أو القتل، أو كأن الإنهاء المتعمّد لحياة ما له موعد محدد، لا يدرك أحد شرطه. كأن الوجود نفسه هو ذلك الشرط، حيث ما يُسمى “موت طبيعي” هو انتحار وقتل معًا في صيغة متنكرة.
وراء نافذة بيته يقول لنفسه هازئًا: “حينما تصبح كبيرًا بما يكفي لأن تصل إلى تلك اللحظة؛ سوف تشعر بيقين أن جسدك كان يغافلك طوال هذه السنوات، وأنه كان يذهب وحده إلى أماكن لا تعرف عنها شيئًا. في الوقت نفسه، وكلما تذكرت حدثًا في الماضي البعيد، أو حكيته لأحد، أو تطلعت لصورة توثقه؛ فإن مسحة من الشك ـ على الأقل ـ ستساورك في أنك كنت موجودًا هناك. شيء من عدم تصديق حضورك في تلك اللحظات القديمة، حتى وأنت تنظر لنفسك داخلها. ربما ستردد: كيف كنت هناك؟ هل هذا أنا حقًا؟ هل ذلك ما حدث بالفعل؟ .. ليس من قبيل الاستنكار، وإنما من باب الرفض الحقيقي، عدم القبول الفعلي، الشعور بأن ثمة ما يريد إجبارك على الاعتراف والإقرار بما لا تعتقد جديًا أنك قد مررت به، مهما كانت الدلائل والإثباتات. الأغرب في الأمر، وربما يكون هو الشيء الأكثر منطقية، أن عمرك قد ينتهي قبل أن تكتشف الصلة بين الشعورين”.
أيهما نافذة بيته وأيهما نافذة القطار؟
النافذتان متماثلتان، حاضرتان ككيان واحد، ثابت، ومستقر. أما هو فعدمٍ تتقاذفه البلادة. مكوّن من (لا شيء) يحاول معالجة ما أهدره، والذي ما كان سيستمتع به لو تمكن من القبض عليه. (لا شيء) يحاول معالجة ما اختبره فعلًا، كأنه يريد البرهنة على أنه لم يستمتع به. ثمة مرايا طائشة، مفتتة أمام نافذة البيت ونافذة القطار؛ ينظر من خلالها إلى وجهه فلا يشعر أنه يمتلك هذا العمر. ما كافح للقيام به هو ما كان يجب أداؤه كطقوس محتومة فحسب. (لا جدوى) ترتدي ملابس الانزواء في البيت، أو ملابس الانزواء في عربة القطار. شذرات مبعثرة من الأوهام. أقصى ما يستطيع أن يصف به الذكريات أنها مجرد مَشاهد، ربما اختلقها شيطان مختبئ، وكان عليه أن يسردها على ذلك الذي يدعي الجلوس وراء كل نافذة. يسردها بشكل متعجل ولا يمكن استيعابه.
موقع "الكتابة"
14 مايو 2024