الاثنين، 2 سبتمبر 2024

الاعتراف الأول / فرانك أوكونور ـ ترجمة: ممدوح رزق

بدأت المشاكل كلها عندما توفي جدي وجاءت جدتي – أم والدي – لتعيش معنا. في أفضل الأوقات تكون العلاقات بالمنزل متوترة، ولكن ما زاد الأمور سوءًا أن جدتي كانت عجوزًا ريفية بحق وغير مناسبة تمامًا للحياة في المدينة. كان وجهها سمينًا، متجعدًا، وما أثار السخط الشديد لأمي أنها كانت تتجول في المنزل حافية القدمين؛ إذ يصيبها الحذاء بالشلل، على حد قولها. في العشاء، تتناول إبريقًا من البيرة ووعاءًا من البطاطس مع قليل من السمك المملح أحيانًا، تسكب البطاطس على الطاولة ثم تأكلها ببطء، وبلذة كبيرة، مستخدمة أصابعها بدلًا من الشوكة.

من المفترض أن تكون الفتيات شديدات الحساسية، لكنني كنت أكثر من عانى مِن وجود جدتي. أختي نورا تملقت فورًا السيدة العجوز مقابل الفلس الذي تحصل عليه كل يوم جمعة من معاش الشيخوخة، وهو أمر لم أستطع فعله. كنت صادقًا جدًا، وتلك كانت مشكلتي. وعندما كنت ألعب مع بيل كونيل، ابن الرقيب، ورأيت جدتي تسير في الردهة وإبريق البيرة يبرز من تحت شالها؛ شعرت بالخوف. اختلقت أعذارًا لعدم السماح له بالولوج إلى المنزل؛ لم أكن متأكدًا أبدًا مما ستفعله عندما ندخل.

كانت أمي في العمل وأعدت جدتي العشاء، لكنني لم ألمسه. حاولت نورا إجباري على الأكل، لكنني اختبأت منها تحت الطاولة وأخذت سكين الخبز معي لحمايتي. أظهرت نورا غضبًا شديدًا (لم تكن تشعر به طبعًا، لكنها كانت تعلم أن ذلك ما ستكون عليه أمي في هذه اللحظة، لذا وقفت إلى جانب جدتها) ثم بدأت في مطاردتي. ناوشتها بسكين الخبز، وبعد ذلك تركتني وشأني. بقيت تحت الطاولة حتى عادت أمي من العمل وأعدت لي العشاء، لكن عندما دخل أبي لاحقًا، قالت نورا بصوت مصدوم: “أوه يا أبي، هل تعرف ماذا فعل جاكي في وقت العشاء؟” ثم أفشت كل شيء بالطبع. صفعني أبي فتدخلت أمي بيننا، وبعد ذلك لأيام عدة لم يتحدث معي، وبالكاد تحدثت أمي مع نورا.

حدث كل هذا بسبب تلك المرأة العجوز! ويعلم الله أن قلبي قد احترق. ثم، لتتويج مصائبي، كان عليّ أن أقدم اعترافي الأول. امرأة عجوز تدعى ريان هي التي أعدتنا لهذه الأمور. كانت في نفس عمر جدتي تقريبًا، ميسورة الحال، تعيش بمنزل كبير في مونتينوت، وترتدي عباءة وقلنسوة سوداوين، تأتي كل يوم إلى المدرسة في الساعة الثالثة، عندما يُفترض أن نعود إلى بيوتنا، لكي تتحدث إلينا عن الجحيم. ربما تذكر المكان الآخر أيضًا، لكن ذلك لا يكون إلا عن طريق الصدفة. كان الجحيم هو المكان الأول في قلبها.

ذات يوم أشعلت شمعة ثم أخرجت نصف تاج جديد، وقدمته إلى الصبي الأول الذي سيضع إصبعًا واحدًا ـ إصبعًا واحدًا فقط! ـ في اللهب لمدة خمس دقائق بحسب ساعة المدرسة. ولأني دائمًا طموح جدًا؛ كنت أميل إلى التطوّع، لكنني اعتقدت أن الأمر قد يبدو جشعًا هذه المرة. ثم سألتنا العجوز هل نخشى من وضع إصبع واحد – إصبع واحد فقط! – في لهب شمعة صغير لمدة خمس دقائق ولا نخاف من الاحتراق بالكامل في أفران التحميص الساخنة إلى الأبد. “الأبدية كلها! فقط فكر في ذلك! العمر كله يمر دون أن يمثل شيئَا، ولا حتى قطرة، في محيط معاناتك”. كانت المرأة مثيرة للاهتمام حقًا فيما يتعلق بالجحيم، لكن انتباهي كان منصبًا على نصف التاج. في نهاية الدرس أعادته إلى حقيبتها. خيبة أملي كانت كبيرة؛ امرأة متدينة كهذه، لم أعتقد أنها ستهتم بشيء مثل نصف تاج إلى هذا الحد.

في يوم آخر، قالت إنها تعرف كاهنًا استيقظ ذات ليلة ليجد زميلًا لم يتعرّف عليه متكئًا على حافة سريره. كان القس خائفًا بعض الشيء، بطبيعة الحال، لكنه سأل الرجل عما يريده، فقال الرجل بصوت عميق أجش إنه يريد الاعتراف. قال الكاهن إن الوقت قد لا يكون مناسبًا، ويمكن تأجيله إلى الصباح. لكن الرجل قال إنه في المرة الأخيرة التي ذهب فيها للاعتراف، كانت هناك خطيئة واحدة احتفظ بها لنفسه، لأنه خجل من ذكرها، ولا يستطيع التخلص من التفكير في ذلك. عندئذ عرف الكاهن أن الأمر سيء، وأن الرجل كان قد ارتكب خطيئة مميتة. نهض الكاهن ليرتدي ملابسه، وفي نفس اللحظة سمع صياح الديك في الفناء بالخارج، لكنه حين نظر حوله لم يكن هناك أي أثر للرفيق، فقط كانت هناك رائحة خشب محترق. وعندما تطلع الكاهن إلى سريره؛ وجد أثر اليدين المحترقتين على حافته. تركت هذه القصة انطباعًا صادمًا في نفسي.

لكن الأسوأ من ذلك كله كان عندما علمتنا العجوز ريان كيف نفحص ضمائرنا. هل أخذنا اسم الرب إلهنا باطلا؟ هل أكرمنا آباءنا وأمهاتنا؟ (سألتها هل هذا يشمل الجدات فقالت إنه كذلك)، هل نحب جيراننا مثل أنفسنا؟ هل اشتهينا ما عند جارنا؟ (فكرت في شعوري تجاه الفلس الذي تحصل عليه نورا كل يوم جمعة). قررت أنني لا بد قد خرقت الوصايا العشر بأكملها. كل ذلك بسبب تلك العجوز، وأدركت بأنها طالما بقيت في المنزل، فإنه لا أمل لي في أن أكون شخصًا آخر.

كنت خائفًا حتى الموت من الاعتراف. وفي اليوم الذي ذهب فيه الفصل بأكمله من أجل ذلك؛ ادعيت بأنني أشعر بألم في أسناني، على أمل ألا تلاحظ العجوز غيابي، ولكن في الساعة الثالثة، تمامًا وفي اللحظة التي كنت أشعر فيها بالأمان؛ جاء شاب يحمل رسالة من السيدة ريان  تشدد فيها على ضرورة أن أذهب للكنيسة يوم السبت من أجل الاعتراف بنفسي. وما زاد من تفاقم الأمر أن أمي لم تستطع الحضور معي وأرسلت نورا بدلاً منها.

تمتلك هذه الفتاة طرقًا لتعذيبي لا تعرفها أمي. أمسكت بيدي بينما كنا ننزل التل، وابتسمت بحزن وقالت إنها آسفة للغاية من أجلي، كما لو أنها ستأخذني إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية.

“يا إلهي، ساعدنا!”. ظلت تردد متشفية. “أليس من المؤسف أنك لم تكن ولدًا صالحًا؟ أوه جاكي، قلبي ينزف عليك! كيف ستتذكر كل ذنوبك؟ لا تنس أن تخبر الكاهن بالمرة التي ركلت فيها الجدة في ساقها”.

“دعيني أذهب! ” قلت محاولًا تحرير نفسي منها. “لا أريد أن أذهب إلى الاعتراف مطلقًا”.

“ولكن بالتأكيد عليك أن تذهب إلى الاعتراف، جاكي!” أجابت بنفس لهجة الأسف المصطنعة. “إذا لم تفعل ذلك، فسوف يأتي كاهن الرعية حتمًا إلى المنزل للبحث عنك. يعلم الله أنني لست حزينة من أجلك. هل تتذكر الوقت الذي حاولت فيه قتلي بسكين الخبز من تحت الطاولة؟ هل تتذكر اللغة التي خاطبتني بها؟ لا أعرف ما الذي سيفعله بك الكاهن جراء كل هذا، ربما يتعين عليه أن يرسلك إلى الأسقف”.

أتذكر أنني فكرت بمرارة في أن نورا لم تكن تعلم سوى نصف ما يجب عليّ الاعتراف به، إذا تمكنت أصلًا من الكلام. كنت أعرف أنني لا أستطيع ذلك، وفهمت تمامًا الدافع وراء رغبة الرجل في قصة السيدة ريان أن يحتفظ بالخطيئة المخجلة لنفسه. قد يخبئ المرء اعترافًا سيئًا، لكن العار الكبير ألا يتوقف الناس عن الانتقاد. أتذكر ذلك التل المنحدر حتى الكنيسة، وسفوح التلال المضاءة بنور الشمس وراء مجرى النهر، والتي رأيتها عبر الفجوات بين المنازل وكأنها آخر ما لمحه آدم من الجنة.

قادتني نورا إلى ساحة الكنيسة، وبعد أن دفعتني عبر الدرج الطويل؛ تغيّرت نبرتها فجأة، تحوّلت إلى الشيطان الخبيث المتوحش الذي هي عليه حقًا:

ـ ها أنت هنا! …

قالتها كصيحة انتصار، ملقية بي عبر باب الكنيسة…

ـ وآمل أن يعطيك مزامير التوبة، أيها المتعجرف الصغير القذر.

عرفت حينها أنني ضعت. أن مصيري قد أصبح في يد العدالة الأبدية.

أغلقت الباب المكوّن من ألواح زجاجية ملوّنة ورائي. انطفأ ضوء الشمس ليسود ظلام عميق وصوت الرياح يعصف خارجًا بحيث بدا الصمت في داخلي وكأنه يتشقق مثل جليد تحت قدميّ. جلست نورا أمامي بجوار صندوق الاعتراف. كانت هناك امرأتان عجوزان قبالتها، ثم جاء شيطان مسكين بمظهر بائس ليحشرني في الجانب الآخر حتى أعجز عن الهرب لو كانت لدي شجاعة لذلك. رفع يديه معًا، مدحرجًا نظرته نحو السقف وهو يلهج متألمًا بالرجاء. تساءلت في نفسي: “هل لديه جدة أيضًا؟”. لا يمكن أن تكون الجدة هي التفسير الوحيد لسلوك رجل محطم كهذا، ولكنه كان أفضل حظًا مني؛ فهو على الأقل يستطيع الذهاب والاعتراف بخطاياه، بينما سأدلي أنا باعتراف سيء ومن ثمّ أموت في الليل لأعود باستمرار كي أحرق أثاث الناس.

جاء دور نورا، وسمعت صوت شيء يدوي بقوة، ثم سمعت صوتها تتحدث ببرود معهود، كما لو أن الزبدة لا تذوب في فمها، ثم صوت دوي آخر قبل أن تخرج. يا إلهي، نفاق النساء! كانت عيناها منخفضتين، ورأسها محنيًا، ويداها ملتصقتين عند مستوى بطنها. سارت في الممر نحو المذبح الجانبي كقديسة. لم أر مثل هذا العرض من التقوى، وتذكرت الحقد الشيطاني الذي عذبتني به طوال الطريق من باب بيتنا حتى جاءت بي إلى هنا. تساءلت: هل جميع المتدينين مثل نورا حقُا؟

حان دوري الآن. دخلت باللعنة التي تثقل روحي وأُغلق باب الاعتراف خلفي تلقائيًا. كان الظلام دامسًا، ولم أستطع رؤية الكاهن أو أي شيء آخر. ثم بدأت أشعر فعليًا بالخوف. في الظلام؛ كان الأمر بيني وبين الله فحسب، ولديه كل الفرص لمعاقبتي. كان يعرف نواياي من قبل حتى أن أبدأ، ولم تكن لدي أية فرصة للنجاة. اختلطت كل المعلومات التي تلقيتها عن الاعتراف في ذهني. ركعت إلى أحد الجدران وقلت: “باركني يا أبي، لأنني أخطأت؛ هذا هو اعترافي الأول”. انتظرت لبضع دقائق، لكن لم يحدث شيء، لذا جربت نفس الكلمات باتجاه الجدار الآخر. لم يحدث شيء أيضًا. فقط كنت مرصودًا تمامًا.

لابد أنني حينئذ قد لاحظت الرف المرتفع بما يقارب رأسي. كان مخصصًا لكي يريح الكبار أذرعهم فوقه، لكن في حالتي المشتتة، اعتقدت أنه المكان الذي يٌفترض أن أركع عليه. كان الرف عاليًا بالطبع، وغير مجوّف بصورة كبيرة، لكنني كنت أجيد التسلق وتمكنت من الوصول إليه. الحفاظ على توازني كان صعبًا؛ إذ لم تكن هناك مساحة إلا لركبتيّ، ولا يوجد ما يمكنني التمسّك به سوى نوع من الزخارف الخشبية التي تعلو الرف قليلًا. تشبثت بها وكررت كلماتي بصوت أعلى، وهذه المرة حدث شيء بالفعل. فُتح باب كوة صغيرة للخلف، ودخل قليل من الضوء إلى الصندوق. قال صوت رجل: من هنا؟

“هذا أنا يا أبي”. قلت خوفُا من أنه قد لا يراني ويذهب مرة أخرى. لم أستطع رؤيته على الإطلاق. كان الصوت يأتي من تحت الزخارف التي أتمسّك بها، عند مستوى ركبتيّ تقريبًا، لذا تشبثت بالزخارف بقوة وانحنيت فرأيت وجه الكاهن الشاب وهو ينظر لي بذهول. كان عليه أن يضع رأسه على جانب واحد كي يراني عبر الكوة، وكان علي أن أفعل المثل كي أراه. هكذا كنا نتحدث ونحن مقلوبين بشكل ما. بدا لي أنها طريقة غريبة للاستماع إلى الاعترافات، لكنني كنت أشعر بأن شخصًا مثلي لا يمكنه الانتقاد.

“بارك لي يا أبي، لقد أخطأت؛ هذا هو اعترافي الأول” قلتها مرة واحدة، وبمزيد من الانحناء حتى أجعله يسمع كلماتي بطريقة أسهل. “ما الذي تفعله هناك؟” صاح غاضبًا، وكان الضغط يزداد على يدي المتمسكتين بالزخارف. صٌدمت من مخاطبته لي بهذه النبرة غير المهذبة، وكان ذلك فوق احتمالي. فقدت قبضتيّ القدرة على التشبث فسقطت متعثرًا وضربت الباب بقوة قبل أن أجد نفسي مستلقيًا على ظهري في منتصف الممر. نهض المنتظرون في الخارج فاغرين أفواههم، وفتح الكاهن باب الصندوق الأوسط وخرج مزيحًا قلنسوته إلى الوراء؛ بدا مرعبًا بعض الشيء. جاءت نورا تهرول ناحيتي “يالك من حقير صغير” قالت. “كنت أعرف أنك ستفعلها. كنت أعرف أنك ستخجلني. لا أستطيع أن أتركك بعيدًا عن نظري لدقيقة واحدة”.

قبل أن أتمكن من الوقوف للدفاع عن نفسي؛ انحنت وصفعتني على أذني. أتذكر ذهولي جيدًا، لدرجة أنني نسيت البكاء، حتى ظن الناس أنني لم أتعرّض لأي مكروه بينما في الواقع كنت أعتقد بأنني قد أصبت بعاهة مستديمة، لكن صرخة انفلتت من داخلي.

“ما هذا كله؟” همس الكاهن غاضبًا أكثر من أي وقت مضى ودفع نورا بعيدًا عني. “كيف تجرؤين على ضرب الطفل بهذه الطريقة، أيتها الثعلبة الصغيرة؟”. “لكنني لا أستطيع التكفير عن ذنوبه يا أبي” صاحت نورا وهي ترمقه بنظرة غاضبة. “حسنًا اذهبي وافعلي ذلك أو سأعطيك المزيد لتقومي به” قال الكاهن وهو يمد يده لمساعدتي على الوقوف.

“أتيت للاعتراف توًا يا رجلي المسكين؟” سألني.

قلت بصوت مكتوم: “نعم”.

“رجل ضخم مثلك يجب أن تكون لديه خطايا رهيبة، هل هذه هي الأولى لك؟” سألني الكاهن باحترام.

رددت بالإيجاب.

“هذا أكثر سوءًا” قال بكآبة “الآثام تستمر على مدار العمر، لا أعرف إذا ما كنت سأفرغ منك اليوم أم لا، من الأفضل أن تنتظر الآن حتى أنتهي من هؤلاء المذنبين القدامى .. يمكنك أن ترى من مظهرهم أنه ليس لديهم الكثير ليخبروك به”…

“سأفعل يا أبي” قلت بشيء يشبه الفرح …

كان ارتياحي هائلًا. لوحت نورا بلسانها لي من وراء ظهره، لكنني لم أكن مهتمًا بالرد. عرفت من اللحظة الأولى التي فتح فيها هذا الرجل فمه أنه ذكي فوق العادة. عندما كان لدي وقت للتفكير؛ رأيت مدى صوابي. كان من المنطقي أن يكون لدى شخص يعترف بعد سبع سنوات ما يقوله أكثر من الناس الذين يأتون إلى هنا كل أسبوع. آثام على مدار العمر. تمامًا كما أخبرني. هذا ما كان يتوقعه، والباقي لا يعدو سوى ثرثرة الفتيات والنساء والعجائز عن الجحيم والأسقف ومزامير التوبة. ذلك كل ما كانوا يعرفونه. بدأت في إجراء فحص لضميري، وباستثناء العمل السيء الوحيد المتعلق بجدتي، لم يبد الأمر بشعًا جدًا.

بعد قليل قادني الكاهن بنفسه إلى صندوق الاعتراف، وترك الشباك مفتوحًا بحيث يمكنني رؤيته وهو يدخل ويجلس في الجانب الآخر من الشبكة بعيدًا عني …

ـ حسنًا .. ماذا يسمّونك؟

ـ جاكي يا أبي …

ـ وما هي المشكلة التي تواجهك؟

قلت وأنا أشعر بأنه من الأفضل إنهاء الأمر بينما يحتفظ الكاهن بمزاج جيد:

ـ كان لدي ترتيب كامل لقتل جدتي …

بدا مذهولًا قليلًا لأنه لم يقل شيئًا لفترة طويلة …

ـ يا إلهي (قال أخيرًا) .. هذا سيكون أمرًا صادمًا .. ما الذي دفعك للتفكير في ذلك؟

قلت: أبي .. أشعر بالأسف الشديد من نفسي .. إنها امرأة فظيعة …

ـ هل هي كذلك؟ .. ما سبب فظاعتها؟

ـ تشرب البيرة يا أبي، وأنا أعلم جيدًا من حديث أمي عن ذلك أنها خطيئة مميتة، وآمل أن يتطلع الكاهن بنظرة أكثر إحسانًا إلى قضيتي …

ـ يا لها من مشكلة .. يبدو أنها أثرت عليك بقوة …

ـ وتتعاطى التنباك يا أبي …

ـ إنها حالة سيئة بالتأكيد، جاكي …

ثم أكملت بسرعة: وهي تتجول بقدميها العاريتين يا أبي، وتعلم أنني لا أحبها، وتعطي نورا قروشًا ولا تعطيني شيئًا، وينحاز والدي لها ويعاقبني، وفي ليلة ما كنت محطم القلب قررت أنه يجب قتلها …

سألني بشغف: وماذا ستفعل بالجثة؟

قلت: كنت أفكر في تقطيعها، وأن أحملها بعيدًا في عربتي ..

ـ والله يا جاكي .. هل تعلم أنك طفل فظيع؟

ـ أعلم ذلك يا أبي، لأنني كنت أفكر في نفس الشيء تجاه نورا .. حاولت قتلها بسكين الخبز من تحت الطاولة، لكنني فشلت …

ـ هل هي الفتاة الصغيرة التي كانت تضربك للتو؟

ـ نعم يا أبي …

ـ شخص ما سيذهب إليها ذات يوم بسكين الخبز ولن يخطئها “قال بشكل غامض” .. يجب أن يكون لديك شجاعة كبيرة .. كثير من الناس بيننا أود أن أفعل معهم نفس الشيء، ولكنني لن أمتلك الجرأة أبدًا .. المشنقة موت مرعب …

ـ هل هي كذلك يا أبي؟ (سألت بأقصى درجات التركيز؛ إذ كنت دائمًا مهتمًا للغاية بالشنق) .. هل رأيت يومًا ما شخصًا مشنوقًا؟

ـ رأيت العشرات منهم (قال بجدية) .. وماتوا جميعًا وهم يصرخون …

ـ يا إلهي …

ـ أوه .. موت مرعب (قال بارتياح كبير) .. كثير من الرجال الذين رأيتهم قتلوا جداتهم أيضًا، لكنهم جميعًا قالوا إن الأمر لا يستحق مطلقًا …

أبقاني هناك لعشر دقائق كاملة ونحن نتحدث، ثم خرج معي إلى ساحة الكنيسة .. كنت آسفًا حقًا لفراقه، لأنه كان الشخصية المواسية، الأكثر إثارة للإعجاب التي قابلتها في الحياة الدينية. في الخارج، وبعد الخروج من ظلال الكنيسة؛ كانت أشعة الشمس تشبه زئير الأمواج على الشاطئ. أدهشتني كأنما أراها لأول مرة. وعندما ذاب الصمت المتجمد وسمعت صرير الترامات في الطريق؛ حلّق قلبي. عرفت الآن أنني لن أموت في الليل وأعود مخلفًا أثرًا على أثاث أمي. ذلك كان سيسبب لها قلقًا كبيرًا، والمسكينة لديها ما يكفي …

كانت نورا تجلس على الدرابزين في انتظاري. رسمت تعبيرًا غاضبًا على وجهها عندما رأت الكاهن برفقتي. كانت تشعر بالغيرة لأنه لم يسبق أن خرج كاهن معها أبدًا من الكنيسة …

ـ حسنًا .. ماذا أعطاك؟ (سألت ببرود بعدما تركني الكاهن) …

ـ “الثلاث مرات السلام عليك يا مريم” …

ـ “الثلاث مرات السلام عليك يا مريم” (كررتها في شك) .. يبدو أنك لم تخبره بشيء …

ـ أخبرته بكل شيء (قلت بثقة) …

ـ عن الجدة وكل الأمور الأخرى؟

ـ عن الجدة وكل شيء آخر …

كانت كل ما تريده هو العودة إلى المنزل لتقول إنني أفسدت اعترافي …

ـ هل أخبرته أنك هاجمتني بسكين الخبر؟ (سألت بحدة) …

ـ فعلت ذلك بالتأكيد …

ـ وأعطاك فقط “الثلاث مرات السلام عليك يا مريم”؟

ـ هذا كل شيء …

نزلت ببطء من الدرابزين والحيرة واضحة على وجهها. كان هذا أمرًا خارجًا عن إدراكها. وبينما كنا نصعد الدرجات مرة أخرى نحو الطريق الرئيسي نظرت إليّ بريبة وسألتني:

ـ ما الذي تمصه؟

ـ قطعة حلوى …

ـ هل الكاهن منحها لك؟

ـ نعم …

ـ يا إلهي (صرخت باكية بمرارة). بعض الناس لديهم كل الحظ!. ليست هناك ميزة في محاولة المرء أن يكون صالحًا. ربما يمكنني بالأحرى أن أكون مذنبة مثلك.

موقع "الكتابة"

28 أغسطس 2024

الأربعاء، 28 أغسطس 2024

سماء بضفيرتين: الأنسنة الأنثوية للغيب

بدءًا من عنوان مجموعته الشعرية "سماء بضفيرتين" يخبرنا الشاعر المغربي عبد الجواد العوفير بأن قصائد هذه المجموعة الصادرة عن دار راية لا تعتمد "أنسنة الأشياء" بالتعبير الدارج فحسب، وإنما "أنسنة الغيبي" تحديدًا، بل و"الأنسنة الأنثوية" بتحديد أدق. الأنسنة التي لا تتماهى مع الغيبي، وإنما التي تعيّن نفسها بديلًا "صادقًا" له، الأنسنة التي تجرّد الغيبي من صورته المترفعة، ومن ثمّ تزيحه عن الحياة والموت.

"ألف الرفاق

في لفافة واحدة

وأدخنهم ببطء".

ثمة حس "ثأري" يبدو دافعًا أساسيًا في قصائد هذه المجموعة وبالأخص في قصيدة مثل "وهمي عال". حس يتناغم مع "الأنسنة الأنثوية" حيث "الموسيقى" هي الجسر الأكثر ملاءمة لإنزال الغيب من عليائه. هنا تبرز الغاية من استبدال الغيبي بالأنثوي. يتحوّل الغيب إلى هدف شبقي للشاعر. هدف يكمن وراء "تخيلاته الثأرية" ويقودها. يتحوّل "الوهم" إلى "ممارسة" مشحونة بالعنف اللائق.

"الموسيقى تهبط الأدراج

مثل امرأة غنوج

لكن بيتي سفلي

فكيف تخيلتُ أن الموسيقى

تهبط الأدراج الداخلية".

لكن هذا العنف لا يكشف عن احتدامه بصورة مباشرة، وإنما يتقمص سكون الغيب وغموضه، يكثّف العنف لغته إلى أقصى حد، بما يعادل الصمت الخبيث لذلك الغيب، يرد "الرعب" بالحدة الخفية نفسها. حتى أننا قد نشعر بـ "العتمة" المنزلية التي تواري هذا العنف، بعد أن حلت موضع العتمة السماوية بكل ما تضمره لانهائيتها. هذا ما يجعل "الثأر" تهكميًا بشكل جوهري.

"أنا وكافكا وحيدين في غابة

ندفع باب بيت قديم

نجد امرأة مخنوقة بالبكاء

نضاجعها الليل كله".

لنفكر في "المرأة" من خلال قصيدة "وحيدان في غابة" باعتبارها الحياة ذاتها، لا كما عاشتها "الأنا" في وحدتها المشتركة مع "كافكا"، وإنما كما قُدّر لها أن تكون رغمًا عنها. كما أُجبرت أن تكون إشارة للسر "الكوني" الذي لا يمكن تفسير "كابوسيته". الحياة هنا لا تقدم نفسها كشيء منطقي، وإنما ككيان موصوم بهوية قهرية، تطبق على أنفاسه، ومن ثمّ يكافح للتبروء من ثقلها. كقناع يقاوم الوجه المستتر للمطلق. يقاوم أن يكون ملامح ناجمة عن هذا الوجه. وكأن مضاجعة القناع هي مضاجعة الوجه المستتر. كأنها طمس متعمّد للوجه المستتر. وحيدان يخوضان متاهة الألم، نحو "فكرة" الحياة العالقة في الأزل، يخلقان من تعاستها أبديتهما الهازئة كما في قصيدة "نرفع أنخابنا لذكريات عالية":

"نخبئ ذكرياتنا في الجيوب

كمحاربين قدامى

ونقدمها للعاهرات كأجر

من يريد سماواتنا الصغيرة

من يريد هذه الأبدية

التي تنمو في قلوبنا كشجيرات عليق".

هذا خطاب "إلهي"، ولكنه خطاب "مضاد"، أي أنه يدرك مناوئة "السماوات الصغيرة" لـ "السماء"، يُشكّل أبدية خاصة تناقض "الأبدية" الكونية. الذكريات إذن هي سيرة المجابهة بين البشري والغيبي. تاريخ امتلاك البشري لغيبية ذاتية، تستعمل الفناء لكي تكتسب خلودًا "ينمو كشجيرات عليق".

"السحب التي أحببناها كنساء بعيدات

نرفع أنخابنا نحوها

...

فلتأت أيها الموت بملاكك الصغير

وأقتل هاته الأبدية

التي تتجمل مثل امرأة خجول".

يُنظر للسحب أحيانًا خارج طبيعتها الأصلية، شعريًا بالأخص، أي ككائنات حية تنتمي للمطلق لا إلى العالم، واتساقًا مع "الأنسنة الأنثوية" للغيبي التي تعتمدها المجموعة، وتحويل تفاصيله إلى أهداف شبقية؛ تصبح السحب نساءً تستجيب للأنخاب المرفوعة، وبما أن "الموت"، كناتج عن الأنسنة السابقة للغيبي، قد صار خاضعًا لـ "المحارب القديم"؛ فإنه من الممكن توجيه هذا الموت إلى المسار العكسي، نحو الأبدية التي طالما ظلت محصنة من بداهته، لكنها الآن لم تعد كذلك؛ أصبحت "تتجمل مثل امرأة خجول". ذلك ما يوطد "الثأر" كدافع أساسي. يوسّع تعريف "الشبق" ليصبح أكثر شمولية في استهدافه للغيب.         

"امرأة بوشاح أخضر

تلقي ابتسامة

وجهانا كإلهين هاربين

من سماء ضيقة".

تتضح الأنسنة الأنثوية المعتادة بدرجة ناصعة في قصيدة "في صحة الغائب". اكتسبت الألوهة سمة امرأة، لا تتسع لها "سماء المطلق". تصبح ابتسامتها عناقًا مع "وجه" لإله يُدار المشهد بمشيئته. الغائب ـ الذي كانت تتسع له السماء من قبل ـ تحوّل لامرأة بوشاح أخضر "هدف شبقي" فصارت سماؤه ضيقة، لذا كان عليه الاستجابة لإرادة الإله الذي خلق هذا التحوّل ـ هروبًا من السماء نفسها ـ بواسطة الابتسامة التي تعلن حيازة سماء أكثر اتساعًا. سماء جديرة بالمطلق الذي جرى استبداله.

"معلّمة الانشاء كانت ترتجف بين يديها الشمس

تنورتها الصغيرة علمتنا اللغة

وأنا الآن أنظر للشمس

تغيب اللغة".

اللغة ليست "تفصيلة غيبية" وحسب، ولكنها في قصيدة "لغة" هي "جوهر الغيب". الجوهر الذي يتحوّل بفعل "الأنسنة الأنثوية" إلى "إزاحة للغة". يجعلها موضع غياب. معلمة الإنشاء هي الإله الذي أصبح ينتج اللغة بدلًا من مصدرها الغائم. تحوّل "الغيم" إلى "ضوء" مشبعًا بشهوانيته / شمس مرتجفة. ذلك ما يجعل الضوء مجردًا من لغة المطلق. يصير خارج اللغة التي يستقر الغيب في أغوارها.

"المرأة التي تجلس وحيدة في البار

وترتدي شالا أحمر

تشبه الله الذي تركناه في المنزل

ألم نغلق الباب جيدا؟!".

كأن عنوان هذه القصيدة "ربما تشابه" يمثل إمعانًا في السخرية التي تدعم الاستبدال المعهود للغيبي بالأنسنة الأنثوية. لا يبدو هذا تشابهًا وإنما وجودًا يأخذ محل وجود آخر. مكانُا بديلًا للامكان. زمنًا بديلًا للازمن. هنا إعادة تسمية "الوحدة". لم تعد وحدة "إلهية"، وإنما وحدة "امرأة ترتدي شالًا أحمر". وحدة تناسب تحويل الغيب إلى هدف شبقي. تناسب الثأر الذي يقوم عليه هذا التحوّل.

هذه الأنثى التي تعيّن نفسها بديلًا للغيبي يمكنها أن تحمل روح "فرجينيا وولف" أو "مدام بوفاري"، لذلك فاكتسابها سمة الألوهة لا يجعلها "مخلّصة" بالمعنى "الديني" وإنما على العكس تجعلها منتهكة للخلاص، تكمن "أبديتها" في تقويض "النجاة"، في الانفصال عن "الحكمة"، أي خلخلة اللغة التي كان الغيب يستعملها في ترسيخ إكراهاته. لذا نجد عبد الجواد العوفير يستخدم ما يُعرف بـ "قلب المنطق اللغوي" حين يتحدث عن تلك المرأة التي أصبحت بديلًا للغيب "حين أضاجعك / أصعد إلى أسفل"؛ فالألوهة هنا لم تعد "ترفعًا" وإنما انغماسًا في المسار العكسي، المفكك لذلك التعالي المجهول الذي يتسم به المطلق. وكأن أثر هذا الاستبدال يمتد بالضرورة إلى حركة الموجودات امتثالًا للتحوّل الشبقي، فنصبح إزاء "عالم بديل" يستند إلى هذا التخيّل الثأري الذي يستخدمه الشعر تجاه الغيب؛ فنجد مثلًا في قصيدة "في بيتي مدام بوفاري" هذا التلازم بين "الفعل الشهواني" تجاه مدام بوفاري وأداء كائن آخر:

"ها أنت تدخلين بيتي

الذي لم يدخله الأنبياء

منذ أن علقت وردة في روحك العالية،

إذا انحنيت لتقبيل يديك الصغيرتين

ينقر عصفور نافذتي".

نلاحظ هنا التناغم الذي يلخص الاستبدال: البيت الفارغ من "الخلاص" والمرأة التي أصبحت بديلًا لذلك الخلاص. مدام بوفاري التي أزاحت "الحكمة" والممارسة التي يخلق بها الشاعر أبديته المناقضة. تقبيل يدي مدام بوفاري ونقر العصفور للنافذة. هذا التناغم هو إعادة اختراع ضدية للعالم. إعادة تفسير لعلاقة فرجينيا وولف بالنهر كما في قصيدة "سماء بضفيرتين":

"أيكون لي شكل الله الآن؟

تقول المرأة وقد غادرها الجسد القديم.

النهر يحب فرجينيا وولف

وقد أحست بذلك

وهي تطوي أوراقها في مكتبها الوحيد".

كأن الشاعر يبعث فرجينيا وولف مجددًا إلى الحياة وفقًا للألوهة الكامنة في انتحارها. كأنه يسبق لحظة انتحارها بخطوة ليجعلها تكشف العلاقة الحميمية بينها والنهر، والذي حين انتزع منها "جسدها القديم" فإنه قد قام بتطهيرها من "سطوة المطلق". هذا ما يجعل انتحارها تدميرًا لما أرغمها الغيب أن تكونه، يجعله حصولًا على ولادة جديدة، إلهية، يقتنصها الشاعر؛ فيحوّل فرجينيا وولف إلى "أنسنة أنثوية للموت" تقوم على أشلاء الموت نفسه.

"المرأة التي تكلّم جدارها كل ليلة

هي ذاتها التي تعرف أسرار الغيمة وأحوال النجوم

لكن الجدار لا يعرف شيئًا عن الحنين

الحنين الذي ينبت كعشب سيء".         

هل تمثل هذه الأنسنة الأنثوية توطؤًا مراوغًا من الشاعر مع الجانب الأنثوي المضمر في ذاته؟ التواطؤ الذي يمارس من خلاله تلك الشبقية الانتقامية مع الغيب الذي يكوّن هذه الذات؟ الذكوري يستبدل المطلق بأنثويته المتوارية والتي تجسدها نساء القصائد، ليتمكن من قتله / امتلاكه خياليًا. ربما تلك الكيفية الوحيدة لإدراك "الروح"، لبلوغ التجانس العسير بين الجسد وفنائه.  

 موقع "الكتابة" الثقافي

21 أغسطس 2024

 

 

الأربعاء، 21 أغسطس 2024

تحميل المجموعة الشعرية "كل ما خفي عنك"


قدم وحيدة


 

أحمد عاكف كاتبًا لرواية «خان الخليلي»

اقترح الناقد الأمريكي واين بوث  (1921-2005) تمييزًا بين ما يسميه الكاتب الضمني implied auther والسارد، وكذلك بين الساردين المؤهلين للثقة reliable والذين ليسوا كذلك unreliable.

“نلاحظ أن بوث بتمييزه الواضح بين الكاتب الضمني والسارد (المشخص أو غير المشخص، الكلي المعرفة أو الذي ليس كذلك، الأهل للثقة أو غير الأهل للثقة .. إلخ) وبابتكاره لمفهوم، أو بتعبير أدق لمصطلح الكاتب الضمني لكي يميزه عن الكاتب الحقيقي قد وضع حدًا للغموض الأبدي بين السارد المنتج للكتاب، المنظم للمحكي في كليته، والسارد الذي يبدو أنه يحكي (يدرك) الأحداث داخل الرواية”.”1″

كُتبت رواية “خان الخليلي” لنجيب محفوظ ـ ظاهريًا ـ بمشيئة من يُعرف بـ “الراوي العليم” .. سارد مهيمن، غير مشخص، أي ليس له حضور ضمن شخصيات الرواية، كلي المعرفة، يدعي بأنه يعلم عن كل شخصية ما لا تعرفه هي عن نفسها .. لكن بكل ما يتسم به هذا الراوي من استعلاء وانحياز وتسلّط؛ هل هو أهل للثقة؟

“حينما نتحدث عن وجهة النظر في التخييل، فإن أكثر المسافات تعرضًا للإهمال بشكل خطير هي تلك التي توجد بين السارد الذي يمكن أن يخطئ، أو غير الجدير بالثقة، والكاتب الضمني، حيث يجر هذا الأخير القارئ معه، وضد السارد بنفس الدرجة. إذا كان ما يدفعنا إلى مناقشة وجهة النظر هو معرفة كيفية اتصال هذه الأخيرة ببعض الآثار الأدبية، فإن الخصال الأخلاقية والثقافية للسارد تهمنا حينئذ أكثر مما تهمنا الإشارة إليه بضمير المتكلم أو الغائب، أو كوننا نمنح أو لا نمنح لرؤيته الامتياز. فإذا اكتشفنا أنه غير جدير بالثقة، فإن تأثير العمل الأدبي الذي يرويه يتغير”. “2”

ماذا لو أن ثمة “ساردًا ضمنيًا” قد تنكر في صورة ذلك “الراوي العليم” ـ المناوئ له ـ وتقمص دوره في رواية “خان الخليلي” لغرض خفي؟

“ولكن هذا الغموض يحدث بكثرة حينما لا يكون السارد مشخصًا ويبقى مع ذلك حاضرًا (هكذا الأمر في روايات فيلديغ، بلزاك، ستندال .. إلخ). ألا يتحدث الناس عن “تدخل الكاتب”؟ في حين ليس مؤكدًا حتى ما إذا كان السارد العالم بكل شيء في رواية بلزاك مثلًا مطابقًا للكاتب الضمني”. “3”

ماذا لو أن هذا السارد الضمني في رواية “خان الخليلي” هو “أحمد عاكف” بطل الرواية نفسه، وأن ذلك الغرض الخفي هو الانتقام؟

ماذا لو أن “خان الخليلي” تجسّد الأنظمة الفرويدية للشخصية: الأنا / الكاتب ـ الأنا الأعلى / الراوي العليم ـ الهو / السارد الضمني؟

“ولا شك أن الأرق الذي مرض به نصف عام من حياته كان من جملة الأسباب التي عقم به عقله، وقد أشفى به على الجنون والموت، وسهر الليالي ذاهلا أو هاذيا، ثم أدركته رحمة الله فتعافى بعد يأس. ويرجع السبب المباشر لمرضه إلى تجربة خطيرة خاض غمارها غير حافل بعواقبها، ذلك أنه كان يؤمن بالسحر ولا يشك فيما يلقى على سمعه من أساطير، وعثر يوما بموظف قديم راسخ الاعتقاد في السحر والشياطين فأقبل عليه بشغف واهتمام، وبعد أن توطدت الصداقة بين الاثنين أعاره الرجل بعض كتب قديمة عن السحر وتحضير الشياطين ككتاب خاتم سليمان، والقمقم، ويا أسيادي. وطار بها الشاب سرورا وعدَّها أجل ما بلغته يداه من زبد العلم والحقيقة، وعكف عليها بحماس ويقين يحل رموزها ويفقه أسرارها، ويتحرق شوقا إلى وقت يتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان!. أوشك أن يجن لهفة وأن يذوب هياما. متى يدين له عرش النفوذ اللانهائي فيأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، ويعبث بمن يشاء، فيرفع ويخفض ويغني ويفقر ويحيي ويميت؟ ولكن لم تحتمل أعصابه الجهاد طويلا ولا قدر على قضاء الليالي الطوال مختليا بأرواح الشياطين فاضطرب حبل أمنه وأرهقت أعصابه وصرعه الخوف والوهم فتلقفه المرض وأوشك أن يسلمه للجنون أو الموت!”.”4″

بقدر ما تثبت هذه الفقرة بالغة الأهمية وتوطد ما ذكرته من قبل عن أن أحمد عاكف ينشد اكتساب “القوة” التي تكمن وراء “كل الأفكار”، وأن الأفكار نفسها ليست مبتغاه، وإنما “السيادة الكونية”  التي يُحتمل أن تؤدي إليها، وأن لجوءه إلى “السحر” يؤكد أنه ليس مجرد شخص يسعى لأن يكون “مثقفا” مرموقًا، معتنيًا بالمعارف المختلفة أو مرددًا لها فحسب، وإنما شخص يطارد ألوهته المفقودة؛ بقدر ما تثبت هذه الفقرة ذلك، بقدر ما تثبت أيضًا دور النبرة الإيمانية الحكمية للراوي العليم في حديثه عن “مرض” أحمد عاكف، والتي تتيح له أن يكشف عن طبيعة السارد الضمني أو جوهره الخفي، محتميًا بالاستعلاء الشكلي المنتقد والساخر وربما “المشفق” تجاه معاناته و”ضلاله” .. لنقارن بين استعمال الراوي العليم لتعبير مثل “أدركته رحمة الله”، وبين وصفه لشعور أحمد عاكف حين كان “يتحرق شوقا إلى وقت يتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان” .. الراوي العليم “بلغة التقوى” يتحدث عن أحمد عاكف “الضال” الذي ـ بالرغم من ذلك ـ أدركته “رحمة الله” .. الراوي العليم يشير إلى أن “إيمانه” قادر على رصد “رحمة الله” حين تدرك “عبدًا ضالًا”، أراد أن يحصل على ما لا يملكه سوى “الله” .. أن يقبض على صفة “الإله” .. أراد أن يسلك مسار “الشياطين التي كان يختلي بأرواحها” .. هذه ليست عداوة منطقية بين الراوي العليم والسارد الضمني، وإنما تكاتفًا عفويًا على إبداء العداوة .. كأن الراوي العليم يقول: “سأحدثكم بمستويات إدانة وتهكم متباينة عن أحمد عاكف كي أسمح له بكتابة “خان الخليلي” سرًا، وسأمرر أثناء ذلك من العلامات والإشارات والقرائن ما يدل على هذا التواطؤ بيننا في تلك اللعبة السردية التي تستغل “التخاصم الشكلي” من أجل الإعلان الماكر عن نفسها”.

“وأوردته أفكاره المحمومة ـ في صمته ـ مناهل سامة استقى منها خياله المحزون، فاستسلم لأماني شيطانية مرعبة، تمنى في صمته غارة جنونية تقذف القاهرة بالحمم فتدك مبانيها وتهلك بنيها فلا يبقى منها إلا خرائب وآثار، وشخصان حيَّان لا غير، هو وهي!! هناك تصفو له بلا خوف ولا يأس ولا غيرة ولا جهد! .. وتمثلت لعينيه المظلمتين القاهرة المهدمة المحطمة، والشخصان الشريدان، يفزع أحدهما إلى الآخر لائذا بجناحه ساكنا إلى ذراعيه، والآخر سعيد ـ على ما يكتنفه من الخراب ـ بصاحبه متلذذا بانفراده به، انبعثت هذه الأمنية الغريبة من صدره وهو يفور بشعور طاغ بالاضطهاد والقهر والعذاب”. “5”

تبرز هذه الفقرة “أمنية الانتقام” عند أحمد عاكف .. “أمنية شيطانية” بتعبير الراوي العليم .. خيال الإله المناقض يواصل اكتشاف / كتابة سردية الشيطان ثأرًا من “الألوهة الكونية” .. كأنه يخلق لنفسه مع نوال أسطورة مضادة لـ “آدم وحواء” .. أسطورة تقوم على أنقاض العالم الذي فُرض عليهما الوجود في جحيمه .. كأنهما يستردان “جنة” بديلة تعيدهما “إلهين” هذه المرة، لا مخلوقين، انتقامًا من “الطرد” خارج “سمائهما” .. كأن أحمد عاكف يقيم قيامة للغيب .. نلاحظ أن أحمد عاكف لم يتخيل هروبه مع نوال إلى “عالم آخر”، ولم يتخيل اختفاء القاهرة بما يسمح للعاشقين أن يتحررا من الحواجز التي تفصل بينهما، ولم يتخيل أن يتحوّل “خان الخليلي” إلى مكان فردوسي مغلق على سعادتهما، وذلك كأمثلة رومانسية شائعة، وإنما كان عليه أن يتخيل “دمارًا شاملًا” يقوم عليه “عرشه” المفقود .. يتخلص من “لعنة” إنسانيته: “الخوف واليأس والغيرة والجهد” .. يستعيد لذته المحصنة كإله .. نلاحظ أيضًا هذه الكلمات: “فلا يبقى منها إلا خرائب وآثار، وشخصان حيَّان لا غير، هو وهي!!” .. أين الأب والأم في تخيّل أحمد عاكف؟ .. لماذا لم يضمهما إلى الناجين من ذلك الهلاك القاهري العام؟ .. لأن آدم وحواء بلا آباء .. لأن إعادة خلق العالم وفقًا لألوهتهما المستردة هي البداية التي لا يسبقها أحد أو شيء .. لذا فالدمار يجب أن يكون “كونيًا” انطلاقًا من الحدود المكانية والبشرية التي تُطبق على أحمد عاكف، وليس مجرد انفلات مشروط من الواقع.

“وعند عودته ظهرا وجد خطابا في انتظاره، عرف خط صاحبه من أول نظرة ألقاها على الظرف ـ وهو خط صغير جميل يشبه خطه من جميع الوجوه، فابتسمت أساريره، وفض الخطاب ثم قرأه حتى فرغ منه وقال:

ـ سيأتي رشدي أخي صباح نهار الوقفة”. “6”

“وأحبه لأنه صنعه بيديه. غذاه بروحه ورباه بماله فكان الشقيق الأكبر وكان الوالد الحنون”. “7”

“كان الشاب ذا شخصية خليقة بأن تحب، كان لطيفا خفيفا مرحا، ورث عن أمه تلك المقدرة التي تفتح له القلوب بغير جهد ولا تكلف، لما طبع عليه ـ كلاهما ـ من الجمال والصفاء والوفاء وحب العشرة والألفة. ولكن واأسفاه أخطأه الاعتدال والرزانة والحكمة، وجرت الحياة في أعصابه زاخرة جامحة، فاستأدته غرائزه الجهد الجهيد، ودفعته قفزا ووثبا بغير رادع، وقد كان منذ البدء جسورا مقتحما متمرسا بالحياة. ذلك أن الذي وكل برعايته، أخاه ـ ظل دائما مفصدا بأغلال التدلل والخوف، فمال إلى الاعتماد على الطفل الذي يربيه ـ فيمن يعتمد عليه ـ في قضاء حاجته، واتباع لوازمه واستعارة كتبه، فاكتسب الصبي خبرة بالدنيا واعتمادا على النفس وجسارة ورجولة، وصارت حاجة راعيه إليه لا تقل عن حاجته هو إلى راعيه. ولكنه عرف الدنيا وجال فيها بغير المبادئ الحقيقة بأن تعصمه من زلاتها، فمنذ أن أحيل عاكف أفندي على المعاش إنطوى على نفسه تاركا أمر أسرته لابنه وزوجه، ولم يجد رشدي في هذين العزيزين الحزم الذي يرشده ويعصمه، فضل السبيل وتخبط على غير هدى، ولولا دماثة خلقه، ورقة طبعه، لربما جاوز مفاسد الشهوات إلى مهالك الجرائم”. “8”

“ونفد صبر أحمد عاكف فأنذره بالكف عن الإنفاق عليه إذا لم يمسك عما هو آخذ فيه من المجون والاستهتار، وبلغ منه الغضب أحيانا أن شعر بأنه يمقته مقتا، بل حقد عليه أخذه بأسباب حياة يعجز هو عن الأخذ بأسبابها، ويتلهف حسرة على ألوان منها!”. “9”

“ثم انتهت تلك الحياة بمعجزة والبكالوريوس، مما دعا أحمد على أن يقول متهكما: “هكذا يحصل الطالب على الشهادة التي تفضل الحكومة حامليها على أمثالي؟!”. “10”

“بل رفعت الكلفة بينهما فربما قص الفتى على شقيقه المحبوب ما يلقى من تجارب الهوى والحب. وكانت له في الهوى أهواء، وفي العشق فنون فعرف الحب الآثم والحب الطاهر! وتقلب في مظان السوء كما جرى وراء الحسان في السبل والميدان”. “11”

“فلم تعرف حياته الهدوء ولا السكينة ولا الراحة، وباتت مرعى خصيبا للشهوات والملاذ، فنالت منه حتى أعيته ونهكته، فنحف وهزل وصار ـ على حد تعبير والدته ـ كالعود. وكان أحمد ـ الذي يحبه ويشفق عليه ـ يرمقه بعينين قلقتين ويقول له: “إرحم نفسك” فيجيبه بمرحه المألوف “يرحمنا وأياكم!”. “12”

ثمة معطيات أساسية تبرزها وتؤكدها الفقرات السابقة في الرواية:

ـ التماثل بين خطي أحمد عاكف وأخيه الأصغر رشدي يشير إلى دور أحمد عاكف الأبوي في “تكوين” رشدي، وهو ما يوطده تعبير الراوي العليم “صنعه بيديه”، أي كأنه يتحدث عن “خلق” أحمد عاكف لشخصية ناجمة عن ذاته “غذاه بروحه” اسمها رشدي عاكف .. كأنه يتحدث عن أن أحمد عاكف قد خلق رشدي عاكف على صورته.

ـ تحولت هذه الشخصية إلى صورة خائنة للذات التي خُلقت منها، أي مناقضة لشخصية أحمد عاكف؛ حيث أصبح رشدي عاكف جسورًا، مقتحمًا، متمرسًا بالحياة، في حين ظل أحمد عاكف “مفصدا بأغلال التدلل والخوف”، وهو ما جعله يشعر بـ “المقت” و”الحقد” تجاه أخيه كما ذكر الراوي العليم .. أصبح رشدي عاكف يمثل الصورة التي عجز أحمد عاكف أن يكونها.

ـ يثبّت الراوي العليم سمات طبيعته المألوفة على مدار الرواية: “الكتابة بنبرة إلهية (إسلامية) ـ المعرفة الكلية ـ الأحكام الأخلاقية المتعالية” .. كأن السارد الضمني قد عيّن راويًا عليمًا يحمل نفس صفاته “الإلهية”، يراقب ويهدد بالقصاص ولكن بشكل مخادع .. إله يخفي إلهًا آخر، متنكرًا في عداوة مترفعة، مختبئة في بلاغة الدين والأخلاق والتقاليد، وذلك لكي يستطيع الإله المتواري الانتقام من “الألوهة” نفسها.

ـ يحاول الراوي العليم أن يُحكم إخفاء نيّة أحمد عاكف في الانتقام من أخيه رشدي بواسطة جملة اعتراضية “فاضحة”، غير مبررة في ما تحاول تأكيده: “وكان أحمد ـ الذي يحبه ويشفق عليه ـ يرمقه بعينين قلقتين ويقول له: “إرحم نفسك” .. لو لم يذكر الراوي العليم أن أحمد عاكف “يحب ويشفق” على رشدي عاكف لما كان هناك أي تأثير، ذلك لأنه من الطبيعي ووفقًا لما تحدث به الراوي العليم نفسه من قبل عن علاقة أحمد عاكف بأخيه الأصغر أن يشعر تجاهه بالحب والإشفاق حتى مع تلك “المشاعر الأخرى”، ولهذا تبدو هذه الجملة لا أهمية لوجودها .. لكن هذه الجملة الاعتراضية مبررة للراوي العليم لأنها بمثابة تبرئة لأحمد عاكف مما سيحدث لرشدي عاكف لاحقًا .. لأن الراوي العليم حريص تمامًا على توطيد الادعاء بأنه هو من يكتب الراوية وليس أحمد عاكف .. لأن الراوي العليم / الأنا الأعلى حريص تمامًا على إخفاء وظيفته كمجرد “قناع” استعاره أحمد عاكف السارد الضمني / الهو “الذي نشأ عنه الأنا الأعلى بحسب فرويد” لكي يتمكن من تنفيذ انتقامه .. لكن ذلك ليس المبرر الوحيد .. لنتذكر أن الراوي العليم يحرص أيضًا على تمرير العلامات والإشارات والقرائن في بعض الأحيان التي تدل على هذا التواطؤ مع السارد الضمني؛ وهو ما يجعل لهذه الجملة غرض مناقض لظاهرها، أي أن يتكفل وجودها “الفاضح” الذي لا لزوم له، ولا يمثل إضافة، بإثارة الشك ـ على الأقل ـ في أن الأمر ليس كما يبدو عليه .. نحن نعلم أن أحمد عاكف يشعر بالحب والإشفاق تجاه رشدي عاكف، لماذا يعيد الراوي العليم التأكيد على ذلك فجأة؟، إلا إذا كان أحمد عاكف يدبر شيئًا ما غير معلن .. لن يثبت هذا الفعل المستتر أن أحمد عاكف مجرد من هذه المشاعر تجاه أخيه، وإنما سيكون هذا الفعل مناقضًا لما يشعر به أحمد عاكف تجاه أخيه.

لدينا هنا امتزاج وتقاطع بين أساطير “تأسيسية” عدة: أسطورة الإله الذي يخلق إنسانًا على صورته .. أسطورة الشيطان الذي ينتقم من الألوهة ـ بما أنه إله مضاد ـ من خلال الكائن المخلوق .. أسطورة قابيل الذي يقتل شقيقه هابيل والتي يتم التمهيد لحدوثها عبر الصفحات اللاحقة من الرواية .. لدينا هنا إعادة التكوين البدائي للعالم ولكن بطريقة “عقابية” لما أقرته تلك الأساطير .. أحمد عاكف هو الخالق، الإله المضاد الذي لم يتمكن من استرداد ألوهته الغيبية، وفشل في الحصول حتى على “المباهج الأرضية” التي يستمتع بها الكائن الذي خلقه “رشدي عاكف”، وبالتالي كان عليه أن يكتب سرديته كـ “شيطان” انتقامًا من الألوهة في شخص أخيه الأصغر .. سيجعل أحمد عاكف “السارد الضمني وفي حماية الراوي العليم” أخاه يدفع تدريجيًا من صحته الجسدية ثمن ما لم يقدر هو على امتلاكه.

لماذا وجدت في هذه الدنيا؟ .. أما من نهاية لهذا الألم الممض وذاك الملل المسقم؟ .. ثم ماذا أجدى عليك هذا العقل؟ .. وماذا أفدت من المعرفة؟ .. حلّفتك بهذه الآلام جميعا إلا ما أغلقت الكتاب إلى الأبد وحرقت هذه المكتبة العاتية، ولخير لك أن تدمن على مخدر يذهل العقل عن الوجود حتى يتداركك الذهول الأكبر. الحياة مأساة والدنيا مسرح ممل، وما من عجب أن الرواية مفجعة ولكن الممثلين مهرجون، ومن عجب أن المغزى محزن ـ لا لأنه محزن في ذاته، ولكن لأنه أريد به الجد فأحدث الهزل، ولما كنا لا نستطيع في الغالب أن نضحك من إخفاق آمالنا فإننا نبكي عليها فتخدعنا الدموع عن الحقيقة، ونتوهم أن الرواية مأساة والحقيقة أنها مهزلة كبرى!”. وصمت قليلا متفكرا، متجهم الوجه، منقبض الصدر، ثم نهض قائما في وثبة عنيفة وقال بشيء من الحدة: “إلى الكهف المظلم، كهف الوحدة والوحشة، إلى القبر البارد، قبر اليأس والقنوط، لقد ركلتني الدنيا وهي الدنيّة ولأركلنها وأنا المتعالي”. “13”

كأن الراوي العليم لا يعرف أن طغيان “الحزن واليأس” على “الغضب والسخط والعجرفة” هو إشارة بتحويل هذه المشاعر إلى “كتابة” .. أن “الغضب والسخط والعجرفة” قد أنشأوا فضاء حريتهم المخبوء، مملكتهم الانتقامية السرية في “الكهف المظلم”، “كهف الوحدة والوحشة”، “القبر البارد” حيث تُخط “خان الخليلي” .. أن الحزن واليأس هما قمة “جبل الجليد” الصلبة، لا يلخصان ما لاقاه “أحمد عاكف” في حياته وحسب، وإنما ينبئان بما يواريه وما يقوم به خفية أيضًا .. يلخصان التوحد بين الإنسان الذي “خُلق في كبد”، و”الشيطان” المنبوذ من الملكوت الغيبي، الذي ينتقم سرًا .. يلخصان الإنسان الذي ينسب جحيمه ـ كالعادة ـ إلى قوة “شيطانية” مجهولة لكي يتمكن من الاستجابة سرًا إلى طبيعته كـ “شيطان” يأبى الاستسلام إلى قدره .. أحمد عاكف لا يعتبر نفسه أكثر البشر ابتلاءً بسوء الحظ، مقارنة بكل “السعداء” من حوله نتيجة “البلاء” نفسه، وإنما نتيجة وعيه بالبلاء .. نتيجة إدراكه بمدى فداحة أن تكون “إلهًا” معطلًا، ولا تخضع لك حتى المقاصد الدنيوية البسيطة .. نتيجة إدراكه أنه يجسد “الإنسانية” ذاتها كألوهة معطوبة قهرًا، حتى لو بدا الإنسان قانعًا في الظاهر بسعادته المحدودة بما يعيشه على الأرض .. يتحدث أحمد عاكف إلى نفسه، وكأن الراوي العليم قد انسحب كليًا مؤقتًا ولم يعد له أثر في كتابة هذا المونولوج الداخلي .. كأن السارد الضمني هو الذي يكتب هذا المونولج بالفعل دون قناع .. يكتب عصيانه على الوجود في الدنيا .. تمرده على قبول الألم والملل .. الصوت الواحد للإنسان والشيطان .. الصوت الذي يحاكم الغيب .. يحاكم المطلق الذي أراد للحياة أن تكون مأساة والدنيا مسرح ممل .. الذي أراد أن تكون الرواية مفجعة .. ما المغزى “غير المحزن في ذاته”؟ .. المغزى أن تعيش .. لكن ذلك لا يمكن أن يكون بالأمر الجاد طالما أنك ستعيش حياة مناقضة للألوهة .. لا يمكن أن يكون بالأمر الجاد طالما أنك ستكون “أحمد عاكف”، وهذا ما يجعل سؤاله “لماذا وجدت في هذه الدنيا؟ أكثر منطقية من وجود الكون نفسه .. هذا ما يجعل المأساة “مهزلة” .. لأنه لا يوجد منطق .. لأن الآمال الدنيوية لا ينبغي أن تكون غاياتنا أصلًا سواء نجحت أو أخفقت لأنها في كل الأحوال تفتقر إلى الحصانة من الألم والملل التي يتمتع بها الغيب .. لأن فكرة الألوهة المحمية في احتجابها وتفرض “الحياة والموت” قسرًا على “المخلوقات” هي الهزل في ذاته .. لذا توجب على الإله المناقض / أحمد عاكف / السارد الضمني أن يقابل هذه الألوهة بالتعالي المضاد .. أن يكتب روايته المناوئة في “احتجابه” الخاص.

“ولكن كيف يغفل عما يثور بنفسه أحيانا من الغضب والثورة؟ .. وكيف ينسى أنه تمنى لحظة لو تخلو الدنيا من الناس والشاب فيها طبعا؟! .. فهذه الخواطر وغيرها كانت ترهقه بالحزن وترديه في الوساوس. وفي آخر ليلة من ليالي اشتداد الحمى على الشاب، حلم أحمد حلما غريبا. وكان نام بعد جهد ناصب من عذاب الفكر، فرأى فيما يرى النائم أنه جالس على فراشه مرسلا الطرف إلى شرفة نوال في إشفاق ورجاء، فما يدري إلا ورشدي يقعد على كرسي بينه وبين النافذة مبتسما ابتسامته اللطيفة، فشعر باستحياء وحوّل ناظريه عن الشرفة إلى وجه أخيه، وأراد رشدي أن يسرِّي عنه بتظاهره بأنه لم يفطن لشيء فلم يفلح، ثم رآه ينتفخ رويدا رويدا حتى صار ككرة ضخمة فأنسته الدهشة ما كان فيه من استحياء، ثم أخذ منه العجب كل مأخذ حتى لم يتمالك نفسه من الصراخ إذ رأى شقيقه ـ وهو كالكرة الضخمة ـ يرتفع ببطء طائرا كأنما يتلمس سبيلا إلى الفضاء خلال النافذة، ولكن النافذة ضاقت عنه فانحشر بين جانبيها وحجب عن عينيه النور، وزايلته الدهشة وحل محلها الرعب، ولكن الفتى، جعل يضحك منه كالساخر بصوت مزعج أثار أعصابه فتولاه الغضب، وظن الشاب يسخر منه بخدعة فنهره ولكنه لم يعبأ به واستمر في ضحكه الساخر، ففزع أحمد إلى مكتبه وأتى بريشته وغرسها في بطنه فانقصفت فيها، واندفع من البطن بخار ملأ الحجرة بالغبار فأخذ جسم الفتى يتقلص بسرعة حتى عاد إلى حجمه الطبيعي ثم سقط عند قدميه، وجعل يتلوى كالسليم، ويعض من الألم قوائم الكرسي ويصرخ صراخا موجعا ويسعل حتى تجحظ عيناه ويسيل من محجريهما الدم، وهلع فؤاد أحمد وأطبق عليه رعب يضني ويميت، ثم .. ثم استيقظ عند ذاك، وأدرك أنه كان يحلم، رباه، تبا للأحلام، وما كاد يفيق من هول الرؤيا حتى بلغ مسمعيه صوت كالأنين يأتيه من عقب بابه المغلق، فأرهف السمع فتبين له أنه صوت أخيه وأنه حقا يتأوّه ويتوجع”. “14”

لعلها أكثر الصفحات أهمية  في إثبات قتل أحمد عاكف لأخيه الأصغر انتقامًا من الألوهة الغيبية التي يمثلها رشدي عاكف .. كأنها ذروة التصاعد التدريجي للاعتراف بأن السارد الضمني يكتب سرديته كشيطان يثأر من تجسيدات الألوهة المستعصية في صورة “متع ومكاسب دنيوية” يمتلكها هذا الأخ الأصغر .. كأنها فضح فعلي لما فعله أحمد عاكف برشدي عاكف في صورة “حلم” .. لماذا الآن؟ .. لأنها اللحظات التمهيدية لمرض رشدي عاكف .. لأن أحمد عاكف أراد أن يخبرنا لماذا سينتهي مرض رشدي عاكف بموته .. رسم السارد الضمني في هذا الحلم وبواسطة الراوي العليم ما يشبه لوحة تلخيصية لـ “خان الخليلي”: رشدي عاكف يجلس على “عرشه” بسمات الخالق الكوني حائلًا بين أحمد عاكف وشرفة نوال .. بين “المخلوق” الفاني، وبهجته الأرضية البديلة لألوهته المفقودة .. يجلس رشدي عاكف على العرش كـ “نموذج” للإله الغيبي، متسمًا بصفاته “الدينية” الشائعة: العلم بالأسرار، العطف، المكر، التكبر، السمو “ككرة ضخمة تلتمس سبيلًا إلى الفضاء” .. نلاحظ هنا الدلالة الأنثوية / الأمومية للشكل الكروي وارتباطها بالثأر من الأب كما من المهم للغاية أيضًا أن نتذكر الآن الصفات المشتركة بين رشدي عاكف وأمه كما وصفها “الراوي العليم” .. الكرة التي “يخترقها” سن الريشة / القضيب الكتابي .. وكأن الثأر ينطوي أيضًا على رغبة مثلية تمتهن الهدف الجنسي “رشدي عاكف” وبما يحمله من خواص الألوهة الكونية عقابًا له على علاقته بنوال التي تتحوّل في تلك اللحظات إلى أمٍ غائبة ..  يكتسب رشدي عاكف في هذه اللحظة أبوة مضاعفة .. “أبوة رمزية” تتضمن بالضرورة “الأب الواقعي” لأحمد عاكف والذي كان عاملًا أساسيًا في إفساد حياته وقتل آماله ..  كأن الحلم يصوّر استمناءً خجولًا لأحمد عاكف أمام أبيه الذي يُغيّب نوال، يمنعها من الحضور في الحلم، يمتلكها مهددًا ابنه بالخصاء، لكن ذلك الخصاء / انقصاف الريشة يصبح ثمنًا للذة، لترويض الألم، لقتل الأب الذي يتم التماهي معه بواسطة “الهلع والرعب” .. يتخذ الأب هنا ذلك الشكل الأمومي من أجل انتهاكه بينما “يحلق عاليًا”.. صورة الخالق ترتفع نحو غيبيتها .. نحو “عرش الخالق الأصلي المحتجب” لكي ينكشف ذلك التوحد الذي يتأسس عليه غضب أحمد عاكف .. التوحد بين النموذج العسير وخالقه .. النموذج الذي بالرغم من كونه عالقًا في إنسانيته؛ إلا أنه ـ كصورة للألوهة الكونية ـ يمنع الأمل عن السارد الضمني في “ملامسة” ألوهته على الأقل “حجب عن عينيه النور” .. التحوّل من الاستحياء إلى الدهشة إلى الرعب هنا هو التحوّل من الترفع إلى عدم الفهم إلى التيقن بالمصير .. من إدراك أحمد عاكف بأن رغباته أقل مما يليق به إلى عدم تصديقه لبشريته المهزومة إلى التأكد من أن الألوهة التي يمثل رشدي عاكف صورتها قد أقرت فنائه بخلودها .. الصورة التي تسخر من فنائه .. نلاحظ أمرًا هامًا في وصف الراوي العليم لحلم أحمد عاكف .. “جعل يضحك منه كالساخر بصوت مزعج”، “وظن الشاب يسخر منه بخدعة فنهره”، “لكنه لم يعبأ به واستمر في ضحكه الساخر” .. نلاحظ التغيّر في طبيعة “السخرية” من “كالساخر” إلى “ظنه يسخر” إلى “ضحكه الساخر” .. هذا التحوّل من الإنكار إلى الشك إلى التأكيد ليس فقط تعبيرًا فقط عن التحوّل من “الترفع إلى عدم الفهم إلى التيقن بالمصير”، ولكنها أيضًا المسافة المصطنعة بين الراوي العليم والسارد الضمني التي يتم تقليصها بالتدريج للكشف غير المباشر عن التطابق بينهما .. ينتقم أحمد عاكف من النموذج الإلهي لأخيه بغرس “ريشة” في جسده .. يعلن السارد الضمني أنه ينتقم بالكتابة .. أن “خان الخليلي” هي روايته، وأنه هو من جعل رشدي عاكف يموت .. أنه بهذا الانتقام يحاول تحرير رشدي عاكف من عدائيته “كنموذج للألوهة الغيبية” بإعادته كإنسان / أخ أصغر، لكنه أخ مريض، محتضر (يحجب عنه الضوء ـ يثبّت ظلامه) .. ريشة الكتابة التي انقصفت، لأنها بالرغم من كونها قد أثبتت إنسانية هذه الصورة الإلهية بأن جعلتها تتألم وتحتضر وتموت، إلا أنها لم تضع حدًا لخلود “الألوهة” الغيبية نفسها .. أثبتت أن الثأر من “نماذج” الألوهة يؤكد خلودها بقدر ما يوطد العصيان على قدرها والسخرية من اختبائها .. يعيد أحمد عاكف أخاه إلى بشريته “الناقصة”، مجردًا من ألوهته الكونية .. يعيده إلى حقيقته: ضئيلًا، مصنوعًا من “الغبار” و”الدم”، ويصرخ ألمًا كإنسان عادي، كإله معطل، كشيطان منبوذ من الملكوت الغيبي .. كأحمد عاكف .. أحمد عاكف الذي أصابه الهلع وأضناه الرعب المميت لأنه اضطر لفعل ذلك في أخيه الذي “يحبه ويشفق عليه” .. لأن ما فعله في رشدي عاكف لن يعيد إليه ألوهته المفقودة .. لأن “المقتول” ليس صورة “القاتل” البشرية فحسب، ولكنه يمثل الأبوة الكونية أيضًا .. لأن القاتل “أحمد عاكف” عليه أن يحافظ على طيف هذه الأبوة الكونية ـ مع بداهة الانتقام ـ لأنها مازالت تشمل احتمالًا ـ ولو ميئوسًا من تحققه ـ لبلوغه أبوته المفقودة المستقرة في غموضها (استرداد قاتل الأب لألوهته الغيبية) وهو ما ينجم عنه الشعور بالذنب والرغبة في تلقي الجزاء: “الهلع والرعب” كما سبق وأشرت .. ينطوي الأب الكوني على تلك الألوهة الفردية المفقودة أي الأصل الإلهي الغيبي المقموع والمؤجل للإنسان، المتنكر قسرًا في المهادنة البشرية المتربصة والراجية لاسترداد ألوهتها، لكي يواري عصيانه وانتقامه كشيطان .. لننتبه إلى استخدام الراوي العليم فعل “غرس” بدلًا من “غرز” في وصف اختراق ريشة أحمد عاكف لأخيه رشدي .. نحن إزاء “توطيد” وليس مجرد “إثقاب” .. الغرس ليس ترسيخًا للانتقام فحسب، ولكنه ترسيخًا للألوهة المعطلة التي يفتقدها أحمد عاكف في قلب الألوهة الكونية .. ترسيخًا للشيطان في عمق ما نُبذ منه، أي مما ينتمي إليه ويكوّنه .. الندم ليس فضيلة في حد ذاته إذن، ولكنه اتساق وإيمان وتسامح مع الفكرة الألوهية المجهولة الكامنة في إنسانية المريض، والقتل هنا يُعد تسوية (أحمي وجود ألوهتي الغائبة وفي الوقت نفسه أنتقم من عدم تحققها) .. كأن أحمد عاكف يقتل / يثأر بالكتابة من ذلك الذي يُسبب له الشعور بالذنب، أي ما يتجاوز مصدر الشعور بالذنب ويشمله في نفس الوقت “الألوهة الكونية” .. أحمد عاكف الذي كان استيقاظه من الحلم على تأوهات أخيه الأصغر، كأنه استمرار للحلم .. كأنه هكذا يستبعد الفاصل بين الحلم والواقع .. كانت تأوهات رشدي عاكف في الواقع مواصلة لتأوهاته الناجمة عن ما فعله به أحمد عاكف في الحلم.

*مقاطع من كتاب “حيلة السارد الضمني” / يصدر قريبًا.

الهوامش:

1ـ نظرية السرد، من وجهة النظر إلى التبئير / جيرار جينيت ـ واين بوث ـ بوريس أوسبنسكي ـ فرانسواز ف ـ روسوم غيون ـ كريستيان أنجلي ـ جان إيرمان / ترجمة: ناجي مصطفى / منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، الطبعة الأولى 1989 ص16.

2ـ السابق ص49.

3ـ السابق ص17.

4 ـ خان الخليلي / نجيب محفوظ ـ دار الشروق، الطبعة السادسة 2014 ص20،21

5ـ السابق ص98

6ـ السابق ص106

7ـ السابق ص107

8ـ السابق ص108

9ـ السابق ص108،109

10ـ السابق ص109

11ـ السابق ص109

12ـ السابق ص109، 110

13ـ السابق ص148

14ـ السابق ص174، 175

مجلة “الناقد” ـ العدد الثالث / يوليو 2024

تحميل العدد

الناقد 3.pdf - Google Drive