الجمعة، 29 نوفمبر 2024

ليلة دخلة محمود العراقي

كان لمحمود العراقي ضحكة ثابتة مميزة، تفصل معظم الوقت بين العبارات التي ينطق بها، كما تُنهي حواراته ـ التي عادة ما تكون مقتضبة ـ مع أي شخص، خاصة من سكان العمارة الشاهقة داخل الحي المتصف منذ ماض بعيد بـ “الرُقي”، والتي يعمل حارسًا لها رفقة أبويه .. ضحكة خافتة، قصيرة، تتدفق بعفوية من ابتسامة منفرجة الشفتين كجسر صوتي صغير بين جملة وأخرى أو كنقطة ختام خجولة لكل حديث .. من سمع ضحكة محمود العراقي أدرك على الفور ودون أدنى صعوبة أنها “استرضائية”، أي تنتمي إلى ذلك النوع من الضحكات الذي يتجاوز إبداء الود والمجاملة إلى تمرير الرغبة في الحصول على استحسان الآخر .. لكن ليس كل من بلغت أذنيه هذه الضحكة أو تعوّد عليها رآها كذلك في حقيقتها .. هناك مِن سكان العمارة من اعتبر “الاسترضاء” مجرد قشرة، قناع مخادع يكمن وراءه شعور عميق بالحقد والسخرية، ولم يكن دليلهم لإثبات هذا الحُكم سوى نظرة عينيه التي تقترن دائمًا بضحكته المألوفة .. نظرة محدقة، جامدة، باردة بالأحرى، فارغة كليًا من الانطباعات .. لهذا، كانت ضحكة حارس العقار الشاب بالنسبة لهؤلاء بمثابة تجرّؤ خفي، لا يمكن لحماقاتهم البرجوازية منعها أو ترويضها .. أيضًا هناك من كانوا يرونها دليل بلاهة متأصلة لا أكثر، ولم تكن حجتهم في ذلك سوى النظرة ذاتها .. لكن ضحكة “محمود العراقي” في الواقع كانت استرضائية حقًا بكيفية خالصة، لا تُضمر كراهية أو تهكمًا، كما لا تبتغي بالفعل أكثر من أن يضمن إشباع حاجة الآخرين إليه، فضلًا عن أنه كان نقيًا من “البلاهة” .. أما نظرة عينيه التي كان يُشار إليها أحيانًا كقرينة للإدانة بشكل أو بآخر فلم تكن سوى حريته التي لا يمكنه تقييدها .. كانت أشبه بشرود مستقل، تلقائي، متأرجح، لا يخدش موضوع ضحكته أو معناه، ولكنه يُبقي شيئًا من روحه خارج اللحظة .. بعيدًا عن العمارة .. بين الأطياف المراوغة للمدينة وللعالم نفسه .. كأن هذا الشرود هو الذي أنتج ملامح محمود العراقي ورسم مسارات تشكّلها .. كانت هذه النظرة نوعًا من العماء.

* * *

ظل محمود العراقي يؤجّل زواجه بقدر ما استطاع، رغم إلحاح أبويه وترشيحاتهما المستمرة لفتيات كثيرات من قريتهم إليه .. كان يؤمن بأن أبويه وشقيقه الأصغر الذي لم ينته من دراسته بعد هم الأجدر بالحصول على كامل رعايته وعائد عمله .. كان يضع الاهتمام بحياته الشخصية في مرتبة متأخرة، أما الأولوية فكانت لأبويه وشقيقه ولسكان العمارة وللناس عمومًا .. لم يكن عاملًا متفانيًا ومخلصًا في مهنته فحسب، وإنما كان جسده النحيل أشبه بيدٍ نشطة، ممدودة طوال الوقت لتخفيف العبء عن الجميع .. كان يكتفي باستراق النظر إلى أجساد ووجوه البنات والنساء، وتخيّل لحظات استمتاعه المحموم بالتنويعات العصية لجمالهن، والتي دائمًا ما تنتهي بصورة انعزالية في جوف المرحاض .. كان يطيب له أحيانًا أن يمنح امرأة تخيلاته أحد المناصب الرفيعة التي تتداول بوفرة أمامه في التليفزيون والإذاعة والإنترنت مثل “رئيسة المركز القومي للمرأة”، “الأمينة العامة لمجلس الطفولة والأمومة”، “مديرة وحدة المرأة وقضايا المجتمع بمركز الوحدة للدراسات الاستراتيجية” .. هكذا كانت لذته تتضاعف حينما يتحوّل الاستمناء إلى نوع من التكريم السياسي لعضوه.

* * *

حصل محمود العراقي على شهادة دبلوم صنايع، قسم “زخرفة”، وبعد الانتهاء من فترة تجنيده؛ تفرغ تمامًا للعمل مع أبويه في العمارة التي يسكنها بشر يمتلكون من الرفاهية ما يجعلهم أقرب إلى “كائنات تليفزيونية”، أي يليق بهم الظهور على الشاشة أمام المتفرجين مثلما اعتاد محمود العراقي أن يفكر فيهم، بإعجاب وتقدير، لا بحسد واستهزاء .. كان مؤمنًا بالطبع، ولا تفوته ركعة، وبالتالي عاش ممتثلًا برضى وتآلف مع الحكمة المحسومة في الكلمات القرآنية:

“نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ”.   

* * *

في حجرة محمود العراقي بالشقة الصغيرة في الدور الأرضي التي يسكنها مع أبويه وشقيقه داخل العمارة الشاهقة في الحي الراقي كانت توجد دواوين لـ فؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي وبيرم التونسي وغيرهم .. “أولياء الحياة الصالحين” كما كان يُطلِق عليهم دائمًا، والذين تمنّى لو أنه عمل حارسًا للعمارة التي سكنها كل “ولي” منهم .. كان يقرأ شعر العامية ويكتبه منذ المرحلة الإعدادية، كما تعوّد بعدما أصبح حارس عقار أن يُلقي قصائده التي يكتبها بالقلم الرصاص في الكراسات والكشاكيل المدرسية على جيرانه من البوابين والعاملين في محلات المنطقة، والباعة الجائلين من حولها، بالإضافة إلى أصدقائه في المقهى، وكذلك ينشرها على صفحة فيسبوك الخاصة به ولا تحصد سوى إعجابات وتعليقات نادرة .. كانت قصائد محمود العراقي ذات طابع غنائي، وتتسم كشخصيته بالطيبة والشهامة .. موضوعاتها تتحدث دائمًا عن سحر الطبيعة والإخوة بين البشر والأمل في غدٍ أفضل، كما كان يخاطب في شعره أحيانًا حبيبة متخيلة، يتغزل في حُسنها ورقتها، ويدعوها لمشاركته أحلامه الفردوسية، ويعدها بالبقاء معًا حتى النهاية .. كان أصدقاؤه يستمعون لقصائده ويتغامزون بسخرية، وحينما ينتهي يصفقون له ويغمرونه بالمديح بينما يكتمون ضحكاتهم.

* * *

اعتاد محمود العراقي بنفسٍ صافية على التغاضي عن ما لا يفهمه أو يستسيغه من أحوال سكان العمارة الذين يقضي طلباتهم، وينظّف عتباتهم وممراتهم، ويعتني بشققهم وسياراتهم وأبنائهم .. في المقابل لم يكن بوسعه التغاضي عن شعور وطيد لديه بأنه ليس مثاليًا بما فيه الكفاية .. كان بالرغم من كل ما يُقال عن “أدبه” و”جدعنته” يفكر في أن صورته لدى الآخرين الذين يعيش بينهم تعوزها المعالجة .. تحتاج لمزيد من الجهد لكي تُلبي على نحو تام، ودون أدنى نقص، ما يتمنى الجميع أن تكون عليه .. كان في جوع دائم لعطاء غامض، غير محدود، لا يترك أثرًا لألم ولو بدا هزيلًا .. قصائده كانت توثيقًا مستترًا لهذا الجوع .. تأصل في ذاته مبكرًا ذلك المزيج المهادن من الطيبة والمراعاة؛ فكان  يفضّل في صغره وبلا توجيه من أحد أن يبقى بعيدًا عن أطفال العمارة ودون عداء لوجوههم المشرقة بالثراء، وملابسهم فائقة الأناقة، وألعابهم التي تخلب العقول، وفي الوقت نفسه تعوّد غريزيًا أن يبقى منتبهًا لكل من يصعد السلالم وينزلها استعدادًا لتنفيذ أمر محتمل أو تقديم مساعدة فورية لن يطلبها منه أحد بحكم سنه .. حتى في صباه ومراهقته وبينما كان فتيان القرية يغازلون بناتها ويلتقون بهن في الخفاء ويختلسون معهن القبلات واللمسات والمداعبات؛ كان يعجز هو عن تبادل حديث مع إحداهن دون أن يتورد خداه ويتلجلج لسانه فينهيه سريعًا كمن يهرب من ذنب بعدما يتأكد بأن من تقف أمامه ليست في حاجة إليه في أمر آخر من أمور الدنيا ..  لذا؛ مهما فعل، لم يكن يفارقه الشعور بالتقصير في خدمة من حوله، وبدرجة أكبر أولئك الذين تعتلي شرفاتهم مقعده المستقر بجوار البوابة.

* * *

“فعلت كل ما بوسعي من أجل البقاء، ولكني لم أستطع .. عليّ الآن أن أقول الوداع”.

بعينين ذاهلتين وفم مطبق وغصة ثقيلة في الحلق؛ ظل محمود العراقي يحدّق إلى دموع ليونيل ميسي في تليفزيون المقهى وهو يعلن عدم تجديد عقده مع برشلونة .. كانت لحظات كابوسية لا تُصدَق بالنسبة لحارس العقار الشاب .. خلال المسافة التي قطعها وحده بملامح واجمة عائدًا إلى العمارة كان يتمنى لو أنه القدر .. القوة الغيبية التي تعالج المشاكل المالية لبرشلونة، وتمنح ميسي عقدًا جديدًا، وتبقيه في النادي حتى اعتزاله ..  تمنى لو أن ذلك يمكنه أن يحدث لو كتب قصيدة عن دموع ميسي ..  لو على الأقل ظل يتطلع طويلًا إلى صورة ميسي الملتصقة بحائط غرفته أسفل العمارة .. لكنه كان يعرف أن ذلك لن يحدث، وهو ما حفر في أعماقه شعورًا غائرًا بالعجز .. كعاشق لبرشلونة ومتيّم بميسي؛ كان يخاتله إحساس بأن ثمة مسؤولية شخصية تتعلق به ـ بطريقة ما ـ في هذه الكارثة.

* * *

بناءً على اقتراح “هازئ بشكل خفي” من أحد أصدقائه؛ توجّه محمود العراقي ذات ظهيرة إلى مقر مجلة ثقافية تصدر منذ عقود طويلة عن حزب وطني تقدمي وحدوي وهو يحمل نسخًا من بعض قصائده العامية أملًا في نشرها .. راقبت خطواته أثناء صعودها سلالم المبنى القديم لافتات معلقة على الجدران بخطوط باهتة ومهترئة، لم يفهم معنى كلماتها: اليسار .. الاشتراكية .. الإمبريالية .. وحين وصل إلى نهاية السلالم تعثر في الدرجة الأخيرة فاختل توازنه قليلًا أمام عيني العجوز الجالس وراء المكتب المجاور لباب المجلة المفتوح .. عجوز بدين أصلع بلحية بيضاء قصيرة، يقضم من أحد ساندويتشات الفول والطعمية التي أمامه على المكتب .. فكّر محمود بأن هذا العجوز يشبه الممثل الذي لا يتذكر اسمه وأدى دور العفريت أمام اسماعيل ياسين في فيلم “الفانوس السحري” .. قال العجوز لمحمود بابتسامة ساخرة وهو يمضغ ببطء: “حوش إللي وقع منك” .. ابتسم محمود وتقدم إلى الداخل ملقيًا تحية الإسلام ثم جلس على المقعد أمام المكتب وهو يتلفّت حوله بعدما أشار إليه العجوز بعلامة الترحيب.

وجد محمود نفسه في صالة متوسطة الاتساع ذات سقف عالٍ وأرضية خشبية، تُفضي إلى حجرات عدة، أبوابها مواربة، بينما مجموعة من مكاتب صغيرة متراصة على الجانبين يجلس ورائها بعض الشباب من المحررين والمحررات، منهم من يكتب في أوراق، ومنهم من يكتب على اللابتوب، محرر يتصفح كتابًا، ومحررة تتحدث في الموبايل .. أحيانًا تتحرك الأقدام بين المكاتب والحجرات والشرفة الكبيرة المفتوحة، مثلما تتحرك أحيانًا أيضًا الكلمات والابتسامات والضحكات بين الجالسين .. انتبه محمود إلى أن حوائط الصالة تحتاج إلى ترميم، وأن الستارة الرمادية الخفيفة التي لابد أنها تغطي ممرًا إلى المطبخ والحمام تحتاج إلى تنظيف، وأن الشابة السمراء النحيفة التي تمسك بالموبايل تحتاج إلى أن تمسح مخاط أنفها وهي تتحدث لصديق لها عن الصحفي الفرنسي الذي أجرى حوارًا معها عن الكتابة الجديدة في مصر.

أخرج محمود بتردد أوراق قصائده المطوية من جيبه ليمد يده المرتعشة بها إلى العجوز قائلًا:

ـ باشا، دي حاجات بسيطة كتبتها كده …

ثم ضحك ضحكته الخافتة القصيرة المميزة، المقترنة بنظرته المحدّقة  …

وضع العجوز الساندويتش، وبزيت الفول والطعمية في يديه تناول الأوراق من محمود وفتحها ثم تطلع إليها بشكل خاطف قبل أن يطويها سريعًا ويتركها على المكتب ليمسك بالساندويتش ثانية .. ابتسم متهكمًا وهو يتناول قضمة جديدة ويسأل محمود:

ـ عايز تنشرها؟

أسرع محمود بالرد مرتبكًا:

ـ لو ما يضايقش سعادتك …

ثم أطلق ضحكة استرضائية جديدة …

قال العجوز والابتسامة الهازئة تتسع في وجهه مع مواصلة المضغ:

ـ طيب سيبهم هنا وهنشوفهم .. ما تتفضل معانا؟

نهض محمود رافعًا يده بتحية تكاد أن تكون عسكرية قائلًا في خجل:

ـ تسلم يا باشا .. ألف هَنَا …

قال العجوز وقد امتزج بابتسامته شيء من الحدة:

ـ النشر ممكن ياخد وقت .. مش عايزك تكون لحوح وغبي …

اشتعل وجه محمود بالاحمرار وتلاحقت دقات قلبه وثقلت أنفاسه متسائلًا في داخله: هل يسبه العجوز حقًا أم يمازحه؟ .. فجأة وجد العجوز يضحك بقوة وبقايا الطعام تتناثر داخل فمه المفتوح وهو يقول: أنا بهزر معاك .. انت زي ابني.

ضحك محمود كالمعتاد قائلًا:

ـ طبعًا يا باشا .. تؤمرني بأي حاجة؟

لم يكن العجوز البدين يتصوّر أن محمود يقصد سؤاله حرفيًا وليس مجرد استئذان روتيني مهذب بالانصراف .. كان يستفسر منه إذا كان يحتاج بالفعل أن يقضي له ـ أو لأي أحد من الجالسين ـ طلبًا أو مشوارًا؛ كأن يعد شاي مثلًا أو يذهب لشراء سجائر.

هز العجوز رأسه بإشارة وداعية مبعدًا نظرته إلى ما تبقى من الساندويتشات أمامه على المكتب.

خرج محمود من الباب وعيناه تودعان الجالسين وراء المكاتب وكذلك صور الأبيض والأسود الموزعة على الحوائط لوجوه تبدو وقورة ولا يعرف أيًا من أصحابها، لكنه كان يستطيع تمييز الصور الأخرى بأنها لمواجهات قديمة بين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين.

بعد ذلك اليوم ظل محمود العراقي في الليلة التي تسبق موعد صدور كل عدد جديد من المجلة يحلم بوجود قصيدته ضمن صفحاتها، ويتخيل سعادته الغامرة حين يرى اسمه للمرة الأولى مطبوعًا تحت عنوان القصيدة، وكيف ستكون فرحة والديه وشقيقه وجيرانه وأصدقائه في المقهى بهذا الحدث .. ظل محمود يشتري عدد المجلة في أول كل شهر حتى مرت سنة كاملة دون أن يجد قصيدته؛ فتملكه اليأس وقرر الاكتفاء بما اعتاد عليه: قراءة أشعاره لمن يحيطون به ونشرها على فيسبوك وحسب.         

* * *

لم يمر وقت طويل على تخرّج آية السيد من معهد التمريض حتى نجح أبوها في إيجاد وظيفة لها بعيادة أحد الأطباء بمركز القرية .. كانت شابة جميلة، لا أحد يختلف على حسن أخلاقها ونقاء روحها، واكتناز جسمها، وعندما شاهدها محمود العراقي في زيارة اعتيادية لقريته؛ قرر أن يطلب من أبويه خطبتها .. كان محمود يعرف آية وعائلتها بالطبع ولكنه في تلك الزيارة شعر للمرة الأولى حين رآها تعبر أمامه وهو جالس مع بعض أقرانه من شباب القرية عند عتبة بيت أسرته بأنه كان ينتظر هذه البنت تحديدًا أن تُنهي دراستها حتى يتقدّم لطلب يدها .. أنها كانت حبيبته وبرنسيسة قصائده دون أن يدري، وأنه كان ينتظر فقط اللحظة المناسبة لكي يسألها أن تكون شريكة حياته .. أدرك محمود أن آية كانت قدره دونما ينتبه لذلك .. على جانب آخر كان دافعًا جوهريًا لطلبه يد هذه البنت هو تحقيق أمنية غالية لوالديه برؤيته عريسًا، وأن يفرحا بخلَفِه قبل موتهما.

لم يصمد تردد والد آية مدرس اللغة العربية في قبول تزويج ابنته من “حارس عقار” أمام موافقة آية نفسها على الارتباط بمحمود الذي تعرف عن طيبته ورجولته ما يكفي .. كان قلبها مهيّأ ومتحفزًا لاعتبار محمود فارس أحلامها بمجرد أن عرفت برغبته في الزواج منها.

قام محمود العراقي بتأجير شقة صغيرة في منزل قديم لا يبعد عن العقار كثيرًا كما نجح بمعاونة خطيبته في تجهيزها خلال مدة قصيرة بقدر ما سمحت إمكانياتهما مضافًا إليها مساعدات الأقارب وقروض الأحبة .. كانا متلهفين على الزواج في أقرب وقت ممكن، وفي سبيل ذلك تكاتفا بعزيمة وإصرار على تذليل الصعوبات التي تواجههما مثل السعي لإيجاد عمل إضافي لمحمود، وكذلك وظيفة جديدة لآية في إحدى عيادات أو مستشفيات المدينة، وتدبير ما يلزم حفل زفاف أرادا أن يبقى خالدًا في ذاكرة الجميع.

حصل محمود العراقي على وظيفة “ساعي” في الفترة المسائية بشركة لإلحاق العمالة بالخارج تقع في الطابق الثاني لبناية قريبة من العمارة الشاهقة التي يعمل حارسًا لها .. كان صاحب هذه الشركة رجلًا ستينيًا من سكان العمارة، عاش أغلب عمره في السعودية ثم عاد إلى مصر ليؤسس مع مستثمرين خليجيين مجموعة من شركات السياحة والتوظيف في مدن عدة، كانت هذه الشركة واحدة منها .. أمام بوابة العمارة وبينما كان محمود يمسح بهمّة وإتقان الزجاج الأمامي لسيارة صاحب شركة العمالة أبلغه بأنه سوف يستلم عمله الجديد عقب إتمام زواجه “وتبقى دي هدية جوازك يا حودة” .. رد محمود فورًا بضحكته الخجولة: “منتحرمش من سعادتك يا باشا” .. ثم ظل رافعًا يده بالتحية والرجل الستيني يبتعد بالسيارة حتى اختفت من عينيه الجامدتين.  

* * *

كان محمود يتولى المهام الأكبر والأكثر مشقة بالطبع كحارس عقار تاركًا الضروريات الأسهل لأبويه .. لكن حتى هذا الشكل البديهي من توزيع العمل كان يكدّر صفوه دائمًا .. كان يريد أن يتحمّل وحده المهام كلها، الكبيرة والصغيرة، وأن يُعفَى أبواه تمامًا من أي جهد .. لكن ذلك كان مستحيلًا؛ فوالد محمود وأمه ما كانا بمقدورهما التقاعد من المهنة التي لم يعطلهما شيء طوال حياتهما عن القيام بها، كما لم يكن من الوارد أن يسمحا لابنهما الشاب بأن يتكفل وحده بأعباء عمارة كهذه، فضلًا بالتأكيد عن أن ما يحصل عليه ثلاثتهم لن يساويه ما سيتقاضاه محمود لو عمل بمفرده، وهم بلا شك في أمسّ الحاجة لكل قرش خاصة مع وجود ابن آخر مازال في مرحلة التعليم.

الآن تضاعف همّ محمود؛ فعمله في شركة إلحاق العمالة بالخارج سوف يحتل مساء أيامه المقبلة وهو ما سيفرض جهدًا أكبر على والديه في العمارة خصوصًا مع الموافقة المستاءة لسكانها على عدم تخفيض راتبه الشهري حين عرفوا أن ثمة عملًا آخر سيقتطع خمس ساعات من وقته يوميًا بعد الزواج .. كان حتميًا بالنسبة لمحمود أن يكون لأبويه حصة من المقابل الذي سيجنيه من عمله في الشركة، وكان قبول بل وترحيب خطيبته ـ “بنت الأصول” كما تُعرّف دائمًا ـ بذلك أمرًا مفروغًا منه .. كان محمود يخشى على صحة والديه وعلى مستوى شقيقه الدراسي وعلى أحوال سكان العمارة وعلى السلام النفسي لخطيبته وعلى النجاح المستقبلي لشركة العمالة وعلى برشلونة بعد رحيل ميسي وعلى ميسي بعد رحيله عن برشلونة وعلى عائلته لو قرر سكان العمارة ذات يوم الاستغناء عنه أو عنهم واستبدالهم بأسرة حارس عقار آخر.

* * *

توقف محمود العراقي عن الاستمناء استعدادًا لليلة الدخلة بعد أيام قليلة .. كان يفكر ويتخيل قبل النوم ما سيفعله في تلك الليلة بترتيب دقيق، والأداءات اللازمة التي سيقوم بها من أجل إرضاء زوجته ولا ينبغي أن ينساها .. خلال فترة الخطوبة؛ لم تلمس يده سوى يدها، ولم يحتك أي جزء منه بجزء منها عدا اللقاءات العفوية الخاطفة لكوعه بثديها أثناء المشي ويدها في ذراعه .. كان يعتمد في تجهيز نفسه على أفلام السكس التي شاهدها سرًا على هاتفه المحمول مقررًا بالطبع ألا يحاول ممارسة بعض الأفعال الأخرى “بالغة الجرأة” التي تتضمنها هذه الأفلام، ويُحتمل إلى حد بعيد أن تثير غضب فتاة محترمة ومن أسرة متدينة كخطيبته.

عُقد القران بالمسجد الكبير بالقرية، وامتد حفل الزواج إلى ما بعد منتصف الليل؛ رقص خلاله محمود العراقي مع عروسه وأهله وأصدقائه كثيرًا، وحينما تحرّك موكب الزفاف نحو المدينة حيث شقة الزوجية ظل سكان القرية يتحدثون عن أنهم لم يحضروا حفلًا كهذا منذ زمن طويل.

اجتمع محمود العراقي وآية السيد وحدهما للمرة الأولى وراء باب مغلق .. أذابت الروح المرحة للممرضة الريفية خجل وارتباك حارس العقار الشاب الذي حينما أصبح مستلقيًا في سريره، ملتصقًا بالجسد العاري تمامًا لزوجته، وبعكس ما تملّكه في اللحظات الأولى بعد وصوله البيت؛ وجد نفسه آمنًا مطمئنًا، كأنه في حضن أمه، يرضع الحنان من ثدييها، ويستكين مجددًا داخل رحمها الدافئ .. أصبح الامتنان يغمره كأنما يعيش ولادة جديدة بعد مخاض عابر من القلق .. عندما نهضت آية من السرير وقبل أن تتوجه للاستحمام؛ فوجئ بها محمود تمسك بيده وتجذبه بابتسامة شهوانية ماكرة نحو مضاجعة جديدة تحت الماء .. أطلق محمود ضحكته الاسترضائية وهو يتبعها بسعادة لا تُصدّق .. شعر بأن عمرًا مغايرًا له قد بدأ الآن.

* * *

صدر العدد الجديد من المجلة الثقافية التي لم تعتبر إدارتها التحريرية قصائد محمود العراقي جديرة بالنشر في صباح اليوم التالي لحفل زفافه وقد تضمّن هذا العدد ترجمة مقال للأنثربولوجي والناشط الأناركي الأميركي ديفيد جريبر بعنوان “رعاية أكثر من اللازم: هذه لعنة الطبقات العاملة”.

في ظهيرة اليوم التالي لحفل زفاف محمود العراقي جلس العجوز البدين على مكتبه في المجلة يعيد قراءة المقال المترجم في صورته المطبوعة، متوقفًا بإعجاب عند العبارات التي تتحدث عن أن أبناء الطبقة العاملة غير مهووسين بأنفسهم لأنهم أكثر اهتمامًا بأصدقائهم وعائلاتهم ومجتمعاتهم، وأن أولئك الموجودين في أسفل أي ترتيب اجتماعي غير متكافئ يميلون إلى التفكير والاهتمام  بمن هم أعلى منهم، أكثر مما يفكر أو يهتم هؤلاء الذين في القمة بمن هم أدنى منهم.

في مساء اليوم التالي لحفل زفاف محمود العراقي تمدد العجوز البدين في سرير بيته بعد رجوعه من المجلة، وبينما كان يتصفح موقعًا صحفيًا؛ شاهد صورة محمود العراقي وعروسته آية السيد بملابس الفرح في “الكوشة” تتصدر خبرًا عنوانه “مصرع زوجين في ليلة الدخلة”.

لم يتذكر العجوز البدين وجه محمود العراقي .. لم يتذكر ضحكته التي تجمدّت في الصورة أو نظرته التي بقيت محدّقة للأبد .. ربما لأن ذاكرته ضعيفة .. ربما لأنه لم يتمعن في ملامح محمود كثيرًا .. لكنه ظل يتأمل وجه آية بقوة .. عينيها وشفتيها وصدرها البارز من تحت فستانها الأبيض .. استنادًا لتفاصيل الخبر؛ راح يتخيلها عارية كليًا تحت ماء الدُش .. يتخيل نفسه وهو يقبلها، يضع عضوه المنتصب في فمها، بين ثدييها، ثم يضاجعها بأوضاع وقوف مختلفة .. نهض العجوز البدين من سريره حاملًا هاتفه المحمول وتوجه إلى الحمام .. بعدما انتهى من إفراغ شهوته داخل الجسد المتخيّل لزوجة محمود العراقي نظر إلى سخان الغاز وتساءل في نفسه بنبرة شاحبة: كم عامل لمست يداه هذا السخان قبل أن يستقر في حمام بيته؟

وبعدما انتهى من الاستحمام ، وحينما وضع رأسه فوق الوسادة ثم أغمض عينيه لينام؛ قال العجوز البدين في داخله: لابد أن جميعها أيدٍ ماهرة وأمينة.   

موقع "الكتابة" الثقافي

27 نوفمبر 2024

…………..

اللوحة للفنان السوري لؤي كيالي

عن "أحلام اللعنة العائلية"

الدّيستوبيا شيء عليك أن تكتشفه بنفسك، وليس شيئًا يحدث لك. – ممدوح رزق

أحلام اللعنة العائلية هي ديستوبيا مكتشفة ما قبل العدم، وقوة الأحلام تكمن في اكتشاف ما لا يستطيع العقل اكتشافه. الأحلام هي المكان الذي لا يخضع لأي قانون فيزيائي؛ فقانون الأحلام هو ما يخافه عقلك أو يرغبه أو يمقته. خوارزميات الأحلام الغامضة تُنتج حلمًا محرّرًا من صنعنا الخاص، ومشفّرًا بشفراتنا الجينية.
في كل شذرة من شذرات المجموعة القصصية، كنت أشعر بأن رأسي يدور مع البطل؛ كنت جزءًا من أحلامه. دخلت معه وهو يدرس القصة القصيرة، ورافقته أيضًا على حافة النهر، حيث كان يترقب وينتظر من كان سبب وجوده من العدم.
أتحدى أي شخص أن يتمكن من إكمال القصة في جلستين فقط! من شدة التخيلات التي تتجاوز الخيال، ستشعر بالنعاس، وستحلم أحلامًا مزعجة أو غريبة.
مقطع من أحلام اللعنة العائلية:
"فليتخيل كل منكم أنه يحلم بنفسه أثناء عبور شارع واسع ومزدحم قليلًا في ظهيرة شتوية. قادمًا من خيبة أمل لا يتذكرها، وعائدًا إلى بيت لا يثق في وجوده، ومع ذلك يشعر ببهجة غامضة، ربما بسبب المطر والبرد وزرقة السماء الطفولية التي تحول المشهد إلى غيمة هائلة. تخيلوا أن هناك قصة عن شيء غير واضح ينبغي إنقاذه في هذه اللحظة، شيء يشمل عائلة مفقودة خارج ذاكرة على وشك الموت.
أعرف جيدًا لماذا تبتسمون الآن وتتبادلون النظر بأطراف العيون، ولكني سأتجاهل ذلك النوع من البكاء. هذا مشروع الكتابة الجديدة؛ فليكتب كل منكم هذه القصة حتى يقرأها لي في اللقاء القادم، وسأحاول، بإعادة كتابتها من أجله، أن أعثر على ذلك الشيء قبل انقضاء المهلة التي لا أعرف زمانها."
الصورة المختارة في كل القصص والغلاف تعبر عن حالة الشبحية؛ شبح الأحلام والذكريات لبطل يشعر بالذنب. فاختار أن يكتشف بنفسه ما حدث قبل وجوده، وواجه أخطار التلاشي من أجل ذكرى العائلة.
نفسي أجد أي نقطة سلبية عشان المقال يبقى نقدي وكده ولكنني لم أجد سوى أنني، أثناء القراءة، كنت أتعلم الصنعة من "ميسي القصة القصيرة" ممدوح رزق.
محمود عبد الغني

تحميل دراسة “كيف يخلق الخيال النقدي نصًا شبحيًا؟”


إشكالية الموت في المسرح التجريبي العربي: مسرحية “اللحاد” نموذجًا ـ ممدوح رزق / مجلة “الناقد”، العدد الرابع ـ أكتوبر 2024

تقتحم مسرحية “اللحاد” للكاتب السوري عبد الفتاح قلعه جي الموت من هاجس أصالته التي تسبق الحياة .. الحياة كوهم من الأطياف التعذيبية المخادعة لهذا الموت المتقدّم على ما يسمّى “الوجود” والمكوّن لسرابه .. الوهم الذي لا يتعطّل إلا بالتماهي مع الأطياف، التوحد بجوهرها، أي أن تصير موتًا فعليًا .. التماهي الذي يحرّض المتفرج على تفحص أشلائه التي أخفاها اليقين بكونه حيًا .. ذلك النوع من الإزعاج الذي تبناه بيجي غروتوفسكي:

(وكما يتهم بريخت بدفع المتفرج إلى التفكير؛ فإن غروتوفسكي يهتم بأن “يزعجه” على مستوى عميق جدًا، لكنه ليس أي متفرج، بل هو نوع خاص من الجمهور، ذلك النوع الذي يقوم بتحليل نفسه”. “1”

في مسرحية “اللحاد” التي أخرجها جاسم طلاق وعُرضت في مهرجان أوال 2010 يكافح كل ميت أن يرسم فناءه الاستباقي عبر جثة الآخر .. يلطخ بموته كفن الآخر .. يضاجع الآخر في لوحته كما لو أن الموت يعرّف “الحياة” بتضاجع الجثث التي تخاتل موتها البدائي. 

من هنا تبدو العتمة الجارفة في العرض “إنتاج مسرح الريف بالبحرين” كأنها تجتاح الفضاء المسرحي من داخل الموتى، ومن ثمّ الصمت أيضًا .. العتمة والصمت يتجاوزان تمظهرات الموت التقليدية التي يتناولها العرض إلى حيث تمحو “الحياة” نفسها .. تغيب “الحياة” كفكرة مؤجلة، لم تتشكّل من الأساس، لتحل مكانها أسئلة الفناء وفي مقدمتها استفهام القتل: من يقتِل ومن يُقتَل؟ .. الاستفهام الذي يقاوم “الكلمات” بالدوامات المحتدمة للجسد، المنتهكة بصمتها لإحالات اللغة وتلك صفة دامغة للتجريب المسرحي كما يشير حسن يوسفي:

(إن المسرح التجريبي مسرح مخرجين، وسينوغرافيين أكثر من كونه مسرح كتّاب، فكونه يقوّض سلطة الكلمة والنص ليفتح الباب لسلطة جديدة هي سلطة الجسد، تجعله يرسّخ فهمًا جديدًا للمسرح يتجاوز النظرة الجوهراتية  essentialisteالتي تؤمن بمفهوم الخصوصية وصفاء النوع الدرامي). “2”

أصالة الموت في المسرحية ترادف أصالة القهر في تخطيه لأشكاله أو نماذجه “الحياتية” .. الإضاءة الحمراء الخافتة التي تكشف العدم ساطعًا بوصفه البداهة “الكونية” للقهر، أي ما جعل العالم مقبرة هائلة من قبل الميلاد الأول.

يتناثر الخوف وراء اللوحة .. كل لوحة لميت يريد أن يعدّل بها موت الآخر بما يلائم موته .. يصبح التأمل التباسًا مكرّسًا للعزلة .. للوحشة التي يستوطنها الدود .. لكن الموت يتحوّل إلى لعبة بواسطة الاختباء من سراب الحياة داخل أغواره المهجورة .. يتحوّل الموت إلى “فن”، أو يكتشف بالأحرى “فنيته” .. لا اغتراب هنا بل لهوًا بالاغتراب .. كل ما هو حسي ينسجم مع تبدده لصالح المكيدة التي يشيّدها الفنان للحقيقة .. ما يُطلق عليه الواقع يصبح مجرد حيلة لاصطياد الجوع، الوفرة، الأرق، الطغيان، الذاكرة، التنكيل، الإيمان .. لتفكيك الرموز والمشاعر والأفكار، أو كل ما تستعمله البلاغة لتوطيد الموت .. التفكيك الذي يتجسد عمل المخرج انطلاقًا من معناه كما تشير آمنة الربيع:

(وانطلاقا من معنى التفكيك، يبدو مشروع التجريب قادرا على التجسّد في عمل المخرج، فكأن المخرج الذي قرأ نص المؤلف فأخرجه إنما يقوم بوظيفة في ظاهرها تفكيكي للنص، فإذا سألنا أنفسنا عن سرّ ظاهرة تكرر العروض الإخراجية لنص مسرحي واحد، ما سببها؟ ما هي معطياتها؟ وظروفها؟ إنّ الإجابة موجودة في تجلي توفر القراءات المتعددة للنص الواحد عبر القرون أو العصور المختلفة، وبالتالي، فعقل المخرج المجرّب هو عقل أقرب إلى اشتغال التفكيكي غير (المُطَلسم)، وليس شرطا عليه شرح نصّ المؤلف أو فك رموزه أو تشريحه بلغة النقد، إنما جعل الإنسان في أعماقه، أن يرى ذاته في العرض، وكأمثلة يُمكن الاستشهاد بالعديد من الأساليب الإخراجية المعاصرة لمسرحيات كتبها شكسبير، أو تشيخوف، أو هنريك أبسن، أو جان جينيه دون التضحية بالمسرح الإغريقي. لقد تعددت اللغات الإخراجية للمخرجين المعاصرين لأعمال شكسبير منطلقة من جاذبية النصوص نفسها في الدرجة الأولى، وتبلور فكرة «اللاتعيين» أو «اللاثبات» لمعنى واحد داخل النص، وعليه أخذت لغات العروض تتكرر بصيغ مختلفة. فالمخرج معنيٌّ هنا بَعد قراءته للنص، وتحضيره للإخراج، التفكير في الكيفية التي سيقول بها عرضه المسرحي، وكيف يَظهر بنيانه، والتفكير في كيفية القول مؤشر دال على أن الاشتغال الجمالي لعرض ما تظل مرهونة باللانهائية، وأن الرِّهان على الشرط الجمالي، يبرز من خلال تفكير عقل المجرّب في انتشار علامات النصّ/العرض، ومنح تجربة فعل التجريب لأكثر من نسخة؛ لكي يتيح ذلك قدرًا من تحقيق النص / العرض معنى يتماس مع المتلقي، وليس بالضرورة أن يكون المعنى نهائي). “3”

من هو اللحاد إذن؟ .. أين يوجد؟ .. كيف يحفر قبوره؟ .. في كل حركة على المسرح يكمن خيال الإجابات وليس الإجابات نفسها، ذلك لأن اللحاد مشيئة، إرادة غيبية وليس كيانًا متعيّنًا أو مفهومًا .. يوجد باعتباره سر كل جثة أو ما توصف بـ “الذات” .. الجثة المناقضة لطبيعة اللحاد المجهولة، او ما جعل الذات قبورًا متوارية داخل قبر يتسم بهوية بشرية .. اللحاد هو الحلم التأسيسي للقتل .. الشراهة الأزلية لقبر مفتوح ولم يُغلق أبدًا.

الهوامش

1ـ المسرح التجريبي من ستانسلافسكي إلى اليوم / جيمس روز إيفانز ـ ترجمة: فاروق عبد القادر، عرض: أسامة أبو طالب ـ مجلة فصول (العدد 3 ـ 1 يونيو 1982).  

2 ـ الصورة والتجريب المسرحي / حسن يوسفي ـ مجلة علامات، مكناس المغرب، ع 35 سنة 2011.

3 ـ التجريب المسرحي .. إقامة دائمة في السؤال «1» / آمنة الربيع ـ جريدة “عُمان” ـ 10 يناير 2023.

تحميل العدد

https://www.academia.edu/125131774/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9_%D9%85%D9%86_%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%AF?fbclid=IwY2xjawGhe_xleHRuA2FlbQIxMAABHSBJVCDPfnE1Jxgg9ig1QrhXsmhIUVRl9Z2xJXmmYtj7aq38EzUuEaK_iA_aem_PVdnZCV1SB1QyyHKl4XR7g

الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

افتتاحية العدد الرابع من مجلة "الناقد"

أثناء تلك القراءات المبكرة في النقد الأدبي كانت صفة "الناقد" ترتبط كليًا بالأدب والفن، وبصورة أقل مكانة من ألقاب أخرى مثل "المفكر" أو "الفيلسوف" وبالطبع من "الأديب"، ولاشك أن المهابة السائدة لهذه الصفات في بداياتي القرائية أبقت بالتجاوب العفوي مع النمط العام المتسلط لقب الناقد في المنزلة الأدنى بالنسبة لي .. لكن مع المزيد من القراءات، وموصلة الجدل مع أطروحات "المفكرين والفلاسفة"، والذي أدى بدوره إلى مساءلة ذلك التفاوت الطبقي بين التصنيفات المعرفية أدركت أن النقد في طبيعته التي انسجمت معها ككاتب هو الشبح المتربص بتلك الخرافة الأمومية الغائمة التي تسمى "الثقافة" .. اللغم الخيالي الذي يحرم دعائم الفكر من الثبات .. ولهذا ـ بالضرورة وضمن ذلك الإدراك ـ فإن "النقد" هو مقاومة ذاتية في المقام الأول للشروط النسقية الملحّة التي تحاول إخضاعه للبنوة .. التي تريده أن يكون حاشية "للثقافة"، أي مجرد إجراء وظيفي لإقرار "المفهوم".
كان ذلك التكريس المتواصل لما يعنيه "النقد" بالنسبة لي يبعده تمامًا عن ذلك التعريف الساذج بكونه انطباعًا في جميع أحواله ومظاهره سواء كان مجرد "رأي" أو "تحليل" أو "تقويم"؛ فالنقد ـ كبصيرة شخصية ـ تجاوز بديهي لما يمكن أن يُعد أصداءً مباشرة أو منتظرة لعمل ما .. هو كشف مراوغ لما يقوّض هذه الأصداء، وتحويلها إلى أدوات للعب، دون الاستسلام للفخاخ "التاريخية" المبتذلة مثل حكم الجودة، والقياس التصنيفي، وطبعًا الضبط الأيديولوجي.
هذه الملامح هي ما كوّنت لدي الطبيعة النصية للنقد، والتي تناولتها في المقال الأول، التي تتخطى المعايير التقليدية أو المفترضة للمصطلح .. ذلك لأن النقد هكذا يعمل بصورة جوهرية على خلخلة الأسس والسياقات التي يقوم عليها عمل المفكر أو الفيلسوف، بالطريقة ذاتها التي يمنح بها النصوص الأدبية حيوات مغايرة وغير متوقعة "انتهاك الدلالة" .. بذلك فقط يمكن لنقاش ما عن "الأدب الحديث" أو "السرد المعاصر" أن يكون في نفس الوقت مقاربة للتأملات النقدية التي يتم الاعتماد عليها في استيعاب ما يبدو تعقيدًا أدبيًا أو ما يُسمى بالمتغيرات السردية، وهو الدور الأعمق من كونه مجرد وظيفة كما يستسهل العالقون في الفهم السطحي للممارسة النقدية إزاء "التحولات الثقافية" .. أتحدث عن التأويل الذي يستعمل الفكر من أجل تفكيك إطاره المرجعي أو تحطيم يقينه؛ فلكل طرح أدبي أو فلسفي ثمة معول نقدي، يرادف نصيّة النقد أو "إبداعيته" بالتعبير الشائع، ينبثق من داخل الطرح نفسه ليهدم إحالاته اللغوية، ومن ثمّ يجرّد الخطاب من قدرته على التظاهر بإقرار المعنى أو الحقيقة.
ما سبق يختلف أو يتضاد مع "استخدام النقد كأداة للفكر"؛ لأن النقد ـ على هذا النحو ـ يتقدم على الفكر في كونه مخرّبًا استباقيًا لذلك الاستقرار الذي تعد به ما يطلق عليه مثلًا "إعادة صياغة الأفكار" .. في خفاء كل تأويل جديد ثمة نزعة مترصدة لـ "خيانة الأثر" الذي يبدو أن هذا التأويل يستند إليه، وذلك تحديدًا ما يجعل التأويل مناوئًا للسياقات الفلسفية والوجودية .. إن الفكر هو أداة للخيال النقدي وليس العكس، لأن هذا الخيال يستخدم الفكر في نزع الغائية عن ما يتعدّى حدود وأبعاد ذلك الفكر، وهو ما يلخصه جاك دريدا في هذه الكلمات: (لا! ليست للرسالة وجهة معينة أو محطة أخيرة، وما ذلك بالعامل السلبي. إنه الشرط التراجيدي الأكيد ولكنه الوحيد لكي يحدث ويُجدّ جديد).
إن هذا يفسر بلا شك لماذا يتنافر النقد في أشكاله الحديثة مع "المنهجية" أو "المنظور" ليصبح لهوًا بالسلطة القيمية للنص، دعابة هازئة تفتت مركزيته الأنطولوجية .. يفسر لماذا يتعرّف النقد على نفسه بكونه ليس هدفًا وإنما لعبًا بالأهداف.

تحميل العدد

ليلة رائعة لقطار: تنويعات السقوط

ثمة رؤية نقدية تقارب مفهوم "العتبة" في القصة القصيرة بتمثله الواقعي أو المجازي أو الخيالي وفقًا للتفسير التقليدي من حيث كونها علامة للمرور، التخطي، الانتقال بين المدركات. لكن تفكيك مفهوم "العتبة" يتطلب استبصارًا مضادًا لتلك الرؤية، أي ما يكشف عن كونها لعبة تأملية في أشكال "الاستعمال" المراوغة التي تفترض حضورًا لمدركات حقيقية يتم العبور بينها، ويمكن نتيجة الإقرار بها الفصل بين الواقعي والمجازي والخيالي. هذا التقويض لمفهوم "العتبة" يحوّل القصة القصيرة إلى قرينة فاضحة لأوجه "السراب" التي يتوهم لكل منها وجود فعلي، أي قابليته لأن يكون شيئًا متعديًا لذاته، مخلّصًا لكل ما هو عالق بغموضه، مثلما يتوهم التحرك أو المراوحة بينه وبين خداع آخر. ثمة خلخلة تجرد "العتبة" من الثبات، فلا تصبح موضع اجتياز أو انتظار، وإنما احتجازًا غائمًا ومدوّخًا، بأصالة تطغى على حدوده المتصوّرة، كأنه الوعي بالسقوظ الأزلي في الدوامات المعتمة، عبر لحظة جرى استبدال مسارها من اليقظة الزائفة إلى العمى المتجذر. لحظة "قصصية" أيقنت تحجرها خارج "مكانها"، وقد حررها التحديق إلى غيابها من خضوعها الزمني كـ "ظاهرة" مؤقتة.

"أراه وحشاً يسد علي الشارع بكتفيه العريضتين. كان غريبًا أن يحمل الوحش ملامح جارنا مختلطة بملامح أبي، يتضخم جسده، حتى يغلق أي ثقب محتمل للهرب، تتسع عيناه وهو يوجه أشعتهما نحوي، يتحرك بتؤدة وثقل مسموع في اتجاهي، وأنا لا أعثر على مكان للهرب، ولا أستطيع العودة للخلف، نحو منزلي. أتضاءل ويتضخم، يتضخم وأتضاءل، ثم يضربني النوم فجأة".

في قصة "المتلصص" على سبيل المثال من مجموعة "ليلة رائعة لقطار" لأحمد ثروت، والصادرة عن دار الثقافة الجديدة، نجد العتبة / الخوف بين حياة الولد صاحب الأربعة عشر عامًا، والحياة الأخرى التي تمثل نجاته من الأربعيني المتلصص على جسده. تتخذ العتبة هنا شكلًا واقعيًا (سطح المنزل) الذي سيمر عبره من ماضيه كهدف شهواني إلى مستقبل متطهر من جاره المتربص أو "الثعبان الجائع" الذي يطارده. تتخذ العتبة أيضًا شكلًا مجازيًا؛ حيث تخطي عالم الولد المحكوم بالعجز الشخصي، والخاضع للقهر الأبوي بصوره المتعددة نحو عالم منفلت من سطوة القمع، تشيّده الإرادة الذاتية، ومحصّن من الرهبة والانكسار أمام الآخرين. أما الشكل الخيالي لهذه العتبة فهو التصوّرات الضبابية والمتغيّرة، غير المنضبطة للتحرر من كل ما يوجبه الواقع ويرسّخه الخوف؛ أي بما يتجاوز الامتزاج والتوحد بين الأربعيني المتلصص والأب. الخلاص من سلطة المطلق التي لا يمثل الأربعيني / الأب إلا نموذجًا بشريًا لها.

"أنا لا أقوى على مواجهته، ولا أجد مفراً للهرب منه، فصوّر لي عقلي أفكاراً كثيرة، كلها تؤدي غرضاً واحداً، الموت؛ موته أو موتي. لو مات هذا الرجل سيطمئن قلبي، ولو انتهيت من الوجود ستهدأ روحي. فلا طعم للقمة أذوقها بين أسرتي، ولا إحساس بسكينة أجده بين أصدقائي، لا أشعر بالبهجة ولا أحلم بمستقبل باهر ينتظرني. فقط الخوف. الرهبة هي ما تحاصر عقلي مع كل فكرة أو حركة".

لكن الخوف / العتبة لا يتحدد إلا بناءً على ما يتسم به الطرفان على جانبيه من مخاتلة ـ لكونهما وجهين للسراب ـ وهذا ما يجعل الخوف غير قابل للتحديد. فالولد في قصة "المتلصص" لا يكافح للانتقال جسديًا أو ذهنيًا أو خياليًا من مدرك لآخر، وإنما يحدس ضمنيًا بالإبهام الذي يكوّن ما يعتبره "ماضيًا حقيقيًا"، والذي يشكّل بالضرورة ما يفترضه "مستقبلًا ممكنًا"، وهذا الحدس ليس إلا إفاقة مضمرًة على أن الولد محض أداة وظيفية ملغزة في "قرار الوجود". مجرد حيلة أو حجة تتميز بالصفة الإنسانية، وتُستخدم في طبيعة الادعاء "الكونية" الشاملة، لإحكام التظاهر بأن ثمة مرورًا فعليًا من يقين إلى آخر، تحولًا من حالة إلى أخرى، بينما "لا شيء يتعدّى ذاته" أي يمتلك سلطة غيبية حاسمة، بما يُبقي شذرات العالم عالقة في غموضها. بما يُبقي كل فعل / تغيير محض توطيد مخادع لثبات عدمي من الأوهام التي تستعمل الولد أو بالأحرى تستعمل اعتقاده بكونه يجتاز عتبة الخوف أو ينتظر مرغمًا عندها.

"الصراخ الصادر من المنزل، أيقظ كل الكائنات الحية في الشارع، فاندفع الجميع فضولًا نحو البوابة المفتوحة، يتتبعون الصراخ الصادر من الأعلى، صاعدين الدرجات في هرولة وبريق أعين تبحث عن الكارثة. كان الجسد الصغير  مكوّماً على بسطة الدرج الأخيرة، تنبعث من عينيه نظرة ذهول ممتدة للأعلى بينما تقبض الكف الضئيلة على سكين ضخم ينز سائلًا أحمر لا يخص الفتى".

التلازم في نهاية القصة بين القتل (لو مات هذا الرجل سيطمئن قلبي)، والتخلص من النفس (لو انتهيت أنا من الوجود ستهدأ روحي) ينفي وجود العتبة، أو ما تم تصديق كونها عتبة، لصالح الاحتجاز "الغائم والمدوّخ" أو تفكيك مفهوم العتبة كلعبة تأملية. الرجل (رمزيًا وخياليًا) يستحوذ على روح الولد كمطلق "متلصص"، لن يستدرك قتله أو يمحو "سقوط الولد في الدوامات المعتمة". نظرة الذهول الممتدة لأعلى تقدم نفسها بديلًا عن الخطو الزائف من وجود معيّن إلى ما يتوهم أنه نقيضه مدخرًا احتمالاته المنقذة "طبيعة الادعاء الكونية الشاملة". الذهول هو الوعي باحتجاب المعرفة. لم يعد الولد جاهلًا، لأنه أدرك حينئذ بأنه لم يكن يرى حقًا. لم يفهم الجوهر التنكيلي غير المؤطر للخوف. أدرك أنه لا يمتلك بصرًا على الإطلاق. يصير العمى هو بنية القصة بعد تجريد "زاوية النظر" من "سرابيتها". تضع القصة بهذه الكيفية حدًا للإيمان بالحاجز الكاذب بين التماثلات المتنكرة في الاختلاف.

"عرضت عليه أن نذهب للدرس ونعود سوياً، لكنه كان خائفاً جداً من فكرة تحركه، فأصررت على إقناعه أننا سنذهب للدرس ثم نعود سريعاً، دون أن نحضر الحصة ـ فقط سنذهب ونعود ـ أخذت أقنعه أن يجرب شيئاً جديداً سريعاً، غير وقفته المملة هذه. تحرك "عمرو" بخطوات مترددة، لكنني جذبت يده، وأنا أحثه على الإسراع، حتى نعود قبل رجوع أخيه من العمل. لم أفكر فيما سيحدث بعد ذلك، فكل ما اهتممت به، أن يرافقني أحد في هذه الرحلة المزعجة".

تتكرر العتبة / الخوف في قصة "عمرو"؛ فصديق الراوي يبدو أنه يتخطى ـ مضطرًا ـ مكان وقوفه الدائم أمام بوابة بيته بتحريض من الراوي، وكأن الراوي لا يحتاج لرفيق حقًا في رحلته الشاقة إلى الدرس بقدر ما يريد أن يمارس فعلًا تحرريًا ولو من خلال طفل آخر طالما أنه لا يقوى على أن يمارس ذلك الفعل لنفسه. لكن هذا العبور للعتبة المكانية والنفسية سيتحوّل إلى مجرد إمعان في دفن وهم التحرر داخل المقبرة الزمنية؛ فالعقاب الجسدي ليس إلا مظهرًا شكليًا لطغيان "العقاب" في مشيئته الأكثر لؤمًا من "قرص الأذن" أو "تكسير العظام". العقاب قرار استباقي، لا يفصح عن كامل حتميته إلا في اللحظات "المستقبلية" أو "بعد أربعين سنة من التحولات" التي ربما يبدو خلالها الشعور بـ "الحرية" أمرًا بديهيًا. حينما يحاول ذلك الذي توهم اجتيازه عتبة الخوف أن يحوّل شعوره بـ "الحرية" إلى كلمات وسلوك. حينئذ تتجلى هذه "الحرية" عسيرة بما يفوق أي توقع. أكثر تلغيزًا من إشاراتها ووعودها "الطفولية" البسيطة التي تحتل غوايتها الروح المحاصرة بشكل مباشر فتظن أن المرور إلى "الخارج" هو "خطو فعلي" إلى أن يتم الانتباه أو التحديق في لانهائية الحصار وطبيعته الماكرة، المستقرة، كإرادة متعالية، لا يمكن تعطيلها.

"لعنة الطبقة الوسطى. منها وُلدت لعنتي الخاصة، لعنتي المركّبة. نَمَت وسط جيل اُعتصر بين جيلين، يمثلان تضاداً في كل أشكال الحياة، الأفكار، الأحداث، الواقع والخيال. لم يستطع جيلنا المحايد، الانضمام للسابقين أو اللحاق بالقادمين، لم يقبل كل التقاليد والأساطير البالية، ولم يقو على اللحاق في ذات الوقت بكل هذا التطور المتسارع، التكنولوجيا التي لا تتوقف أو تهمد. حتى طفولتي كانت نصف طفولة، ليست مبهجة وليست قاسية. أنا شخص متوسط الذكاء، من جيل واقع في المنتصف بين حياتين، جئت وسط أسرة تنتمي لطبقة تجاهد السقوط، وتحبو نحو الارتفاع. كل شيء حولي في المنتصف، في الوسط. ليس الوسط المركزي المهيمن، الوسط الحاكم المدبر، لكنه وسط وسط مائع، ومنتصف راكد".

في قصة "ليلة رائعة لقطار" تتحدد العتبة في تلك المسافة التي سيقطعها القطار بين حياتين. بين الغربة والنجاة كما يُتصوّر. كأنهما يقينان، ليس كلاهما سرابًا عصيًا، يمتنع عن الحيازة. تتجاوز الغربة العوامل والتفاصيل التي يبدو أنها تعرّفها أو تكسبها هوية صلبة، وذلك ما يجعل "النجاة" بدورها غير قابلة للتجسد كحقيقة، كواقع آمن، غير زائل، لا يمكن انتهاكه. المسافة التي سيقطعها القطار هي هاجس "العتبات" جميعها، بما يعادل الاشتباك مع الأطراف المبهمة كافة التي يبدو أن ثمة ما يفصل بينها ويوحي باختلافها وتناقضها. الأطراف التي يتوهم الانتقال بينها حيث "الوسط" ليس إلا حاجزًا كاذبًا بين كوابيس متصلة لا بين حقائق متنافرة.

"للحظات بسيطة، استعدت كل حياتي، مرّت أمام عيني مترابطة مسلسلة، كانت لوحة أمي تصطدم بوجهي، تغلق عيني، بينما كانت زجاجات أبي تنهمر فوق رأسي، وأخي يصرخ بلا حدود. كنت متمسكاً بحقيبتي فوق كتفي، متمسكاً بجسدي. لم أفكر كثيراً، فقد فكرت كثيراً طوال حياتي، كل شيء أخذ أكثر من وقته بكثير، أخذ حياتي، تلك حياة لا يجب أن أدافع عنها، ليس لي حق في النجاة. اندفعت جارياً بكل قوة، ملقياً نفسي وسط المطر الملتهب".

يلقي الراوي في نهاية القصة نفسه وسط "المطر الملتهب" ما يذكرنا بنظرة ذهول الولد الممتدة لأعلى في نهاية قصة "المتلصص"، "كل فعل / تغيير هو محض توطيد لثبات عدمي من الأوهام". الأوهام التي تستعمل الرواي أو بالأحرى تستعمل اعتقاده بكونه يجتاز عتبة أو ينتظر مرغمًا عندها.  الحياة التي لا يجب أن يدافع عنها ليست ما يعجز عن القبض عليها وفقًا لما تأسست عليه وحسب، وإنما لأن "النجاة" ليست إلا امتدادًا خبيثًا لهذه الحياة. ليس هناك اختيار لأنه لا توجد خيارات. هناك بدائل مصطنعة تدعي الحياد بينما يكمن في طياتها التاريخ نفسه: "لوحة الأم، زجاجات الأب، صراخ الأخ". "المنتصف" إذن مكيدة لا باعتباره شركًا في حد ذاته، أو ورطة شخصية أو أسرية أو مجتمعية "أخذت أكثر من وقتها بكثير"،  ولكن لأن هذا "الوسط" يدعي كونه "ما بين" حقًا. لأنه يؤكد زيفًا بكونه يتموضع بين حقيقتين أو أكثر. لأنه يشوّش على كون "المتنقل" من نقطة لأخرى ليس "مستعملًا" في ترسيخ الأكاذيب والأوهام التي يتخيّل مروره بينها كحقائق. في الفصل بين الاحتمالات، كأن هذه الاحتمالات ليست إلا تنويعات ـ متفحمة ـ للسقوط نفسه.

أخبار الأدب

3 نوفمبر 2024

الخميس، 31 أكتوبر 2024

تحميل العدد الرابع من مجلة "الناقد"


 https://www.academia.edu/125131774/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9_%D9%85%D9%86_%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%AF?fbclid=IwY2xjawGQXh1leHRuA2FlbQIxMAABHcjbnDvAu5LdGEeVK1SRGWT_sQ6Sz3vMfmEtrq0e7jDwf6N_6ebuX5EmSw_aem_9fqgEVwKtH8wdmR6N4jtnA

إحراق البدايات

مرت لحظات صمت بيننا، كأن كلًا منا يفكر في ما يتعيّن عليه قوله ـ دون خطأ ـ حتى وصولنا المقهى .. اللحظات التي قد تحرّض بصورة لئيمة ومشوّشة على الشعور بأنها بداية حياة المرء على نحو ما .. بداية حياته مع الآخر .. بداية العالم .. آدم وحواء يسقطان من السماء في شارع طلعت حرب .. مطرودان من ألوهتهما ليتحوّلا إلى شيطانين يكتبان سرديتهما الخفية من داخل مخبأهما “الإنساني” .. ليكتشفا انتقامهما من الألوهة .. كنت وميادة تائهين بالرغم من معرفتنا الأكيدة بالمسار إلى “زهرة البستان” .. كأن علينا بناء الكوكب بركام آلامنا وتعميره بالفناء الذي سيتناسل من جثتينا دون أي ذاكرة .. لكنني لم أشعر في تلك اللحظات بأنني وميادة نستنسخ بداية ما، وإنما نختبر نزوة محتملة لإحراق البدايات .. نمنع إحراز الهدف الذاتي في الإعادة التليفزيونية .. نضع رأس الكون في شرجه .. كأنني وميادة سبق أن رسمنا صورة ضبابية لجنازة لا تضم سوانا؛ نحن الراقدان في ظلام النعشين، والجالسان وحدنا أمامهما، ومن يحفران وحدهما قبرين لنا في سماء أخرى منسوجة من دمائنا ثم يتلاشيان في العالم مجددًا كبشر عاديين؛ يتجولان بعظام مكسورة وحقائب مشتعلة في سفر بلا انعطافات .. كنت وميادة نفتش عن هذا الوداع الذي تشاركنا في تخيّله بالتسويات المأساوية الساخرة كافة التي يدبرها مزاج الغضب لدى كل منا تجاه مهانة وجوده .. ومثلما يغيب المكان كلما اقتربنا، ويضيع تمامًا كلما وصلنا إليه؛ فإن الوداع الذي كنت وميادة نطارده منذ اللحظة الأولى كان يتبدد بضراوة متصاعدة، ورغم محاذير “الخبرة”، كلما صرنا أكثر تشبثًا ببعضنا .. كلما صار كل منا أكثر التصاقًا وتورطًا مع نفسه تحت وطأة هذا التعلق .. كان غريبًا ومفجعًا أن يؤدي القرب بيننا إلى أمل في “تغيير العالم”.

لم أتوجه بنظرتي ناحيتها وهي تسير على يميني وإن كنت لم أتوقف عن استراق النظر لملامحها وجسدها بطرف عين، وأحيانًا كنت أنظر لأسفل شاكرًا القدر أنها ترتدي حذاءً لا يُظهر أصابع قدميها .. كان بوسعي سماع أنفاسها اللاهثة رغم الضجيج، بل بدا كأن ضجيج الشارع تحديدًا هو ما يدعم هذا الوضوح لصوت أنفاسها دون أن يمتزج به؛ صار لهاثها الرقيق نغمة متفردة والضجيج كورال مشتت في خلفيتها .. كانت القاهرة هذا المساء غريبة: ليست بالغة القبح أو شديدة الجمال كما تكون دائمًا حين آتي إليها في مرات نادرة .. كانت غريبة لأنني للمرة الأولى أمشي في شارع قاهري محاولًا إبطاء خطواتي التي يشكو من سرعتها “غير المبررة” كل من يرافق سيري، ومع ذلك ثمة شابة لا أعرفها، بينما يتلاصق جسدانا من حين لآخر بصورة خاطفة، تخبرني إيقاعات كعبها العالي بأنني لست في حاجة لهذا الإبطاء، لأنها أيضًا تمتلك طبيعة من يهرع لإنقاذ أحد ما أو اللحاق بشيء مجهول حتى لو كان المشوار مجرد نزهة أو ذهاب إلى مقهى …

جزء من رواية قيد الكتابة

الصورة لـ joel peter witkin

لهذا نكتب الروايات: استجواب العالم

تنطوي كتابة رواية جديدة ـ ولو بشكل غير واع ـ على مراجعة للماضي. المنجز الروائي للكاتب، متضمنًا بالضرورة رؤيته وقناعاته تجاه “تاريخ الرواية”، وهو ما يشمل الملابسات العديدة المرتبطة بفعل الكتابة مثل الحياة الشخصية للروائي، وملامح وتوجهات “المناخ الثقافي”، والشروط العامة التي يُعتقد أنها تهيمن على الاستجابات القرائية والنقدية. هي مراجعة استجوابية للغة حيث تبدو “الخبرات” و”التجارب” كأنها تحديدًا ما يضمن لكتابة رواية جديدة أن تظل دائمًا محاولة لكتابة الرواية الأولى. مراجعة استجوابية للعالم.يمثل كتاب “لهذا نكتب الروايات”، شهادات وحوارات روائيين إسبان، ترجمة وإعداد وتقديم د. محسن الرملي، والصادر عن منشورات تكوين، يمثل رفيقًا حميميًا في هذه المغامرة الجدلية للاشتباك مع الفن الروائي، بكل الأرق المتجدد الذي يتسم به العمل على رواية جديدة. من هنا تأتي الخصوصية الممتعة للكتاب التي شكّلها بهاء الترجمة وتنوع الأفكار والقضايا الهامة التي يناقشها عبر الشهادات والحوارات.

يقول الروائي رفائيل ريج:

“ولكننا انتبهنا إلى أن هذا التمرد والتجريب قد خلق قطيعة مع القارئ، لذا قررنا ألا تكون أعمالنا عبارة عن مونولوج داخلي ومغرق في الذاتية، وإنما حاولنا استعادة العلاقة مع المتلقي، ومن ذلك عدنا، نوعًا ما، إلى التجنيس والتصنيف كوسيلة يعرفها القارئ”.

“وبما أننا بالأصل لا نقصد أن نستعرض أو نتبجح أمام القارئ بذكائنا، وأن هدفنا هو التواصل معه، أي يهمنا أن نكون مقروئين، فقد عدنا إلى ما يثق به القارئ وما يهمه .. إلى البحث عن متلقي مكمل وشريك ولاعب مع الكاتب، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا التي تهم الإنسان المعاصر”.

“هناك تيار ما بعد الحداثة، وهو الذي أحسب نفسي عليه، حيث ذلك الصنف الذي يتعامل مع الإرث الأدبي نفسه ويسخر منه، فأقوم بمزج الأجناس، أدب عن الأدب .. سخرية حتى من العمل داخل العمل نفسه وكسر قوالب السرد، نوع من المسافة لاحترام القارئ، ولكن دون خداعه”.

إن القارئ بالنسبة للروائي “التجريبي” أو “المتمرد” هو كائن غائم، محتمل، لا يتصف بالعمومية، ولا ينفصل عن الكاتب، ولكنه لا يطابقه كليًا كما يتراءى لنفسه لحظة الكتابة، أي كما يتخيّل الروائي ذاته على نحو تام. هو أشبه بالشبح الذي يتم اكتشافه بواسطة الكتابة، أو القرين الغامض الذي تقتفي الرواية أثره فيبدو أنها تخلقه أكثر مما تعثر عليه، وهذا ما لا يجعل القارئ المحتمل نسخة صارمة من الكاتب وإنما طيفًا خفيًا لوجوده، يفكك بطريقته المراوغة صورة الروائي في مرآة الواقع، فرضية ممكنة وعسيرة تختبئ في كوابيسه. بذلك فإن فكرة “القطيعة مع القارئ” وما يتبعها من “استعادة العلاقة مع المتلقي” هي جزء أصيل من انشغال وعمل هذا الكاتب باعتبارها موضع “تقويض” وليست “رهابًا”؛ حيث أن تخريب الطبيعة النمطية لـ “التواصل” هو مرادف بديهي للتجريب، فضلًا عن أن “الاستعراض” و”التبجح” إلى آخر الصفات التي يستسهل القارئ وبشكل عام إطلاقها على الأعمال “الغرائبية” كدفاع غريزي عن ثوابته ومسلماته؛ حينما يستعملها الروائي نفسه بتصديق وإيمان فإن الأمر لا يرجع لسلطة القارئ نفسه بقدر ما ينتج عن وعي الكاتب بالتمرد، أي بحدوده التي لا يجب ـ في تصوّره ـ أن تطغى على ما يسميه “ثقة القارئ” أو “المتعة الآمنة للمتلقي”. روائي يحذر من اغتنام العداوة الناجمة عن “ضربة الفأس ضد البحر المتجمد” بتعبير كافكا. من هنا يمكن النظر إلى تعبير “احترام القارئ” عند تبني السخرية من الإرث الأدبي أو مزج الأجناس أو كسر قوالب السرد بأنه يدل على نوع من التسوية التي يحاول الروائي من خلالها ـ مدفوعًا بذلك الانحياز ـ إيجاد توازن بين حاجته الضرورية للعب من جهة وبين أن يكون “مقروءًا” من جهة أخرى.    

يقول الروائي خافيير غارثيا سانجث:

“أكتب الرواية بطريقة مختلفة لأنه في هذه الأيام، يبدو أن أي أحد يمكنه كتابة رواية، ويجرؤ على نشر قصة خيالية، قصة ركيكة تحت يافطة الرواية. لذا فمن الضروري أو من الأفضل والصحي، ولكن ليس لا غنى عنه، أن توجد كتابة مختلفة، بعض الروايات ليست لمجرد الترفيه، وإنما لتحريك أو لخرق روح القارئ، وإذا أغاظت بعضهم .. فهذا أفضل وهو المُرتجى”.

أحيانًا يبدو ثمة تناقض بين سعي الروائي “لخرق روح القارئ” وبين إدانته أن يكتب “أي أحد” رواية، متعللًا بتلك اللافتة الأزلية “المبتذلة” و”المرهبة” التي تسمى “الركاكة”. لماذا يبدو تناقضًا؟. لأن الروائي يُفترض هنا أن يكون مجابهًا للتسلط بشتى طرقه وأشكاله، ولعل استعمال وصف “الركاكة” بحد ذاته يعتبر سيفًا مجانيًا على رقبة من يريد ممارسة “حقه” في كتابة الرواية كلما أراد من يعد نفسه “روائيًا حقيقيًا” أن يشبع عفويًا ودون اعتراف بذلك شعورًا متوطدًا بالنقص وانعدام الثقة. يبدو تناقضًا لأن الروائي يُفترض هنا أن يستوعب بأن أعماله التي يتفاخر بكونها سببًا “للإغاظة” يسهل في المقابل وبنفس التلقائية أن تبرر وضع سيف “الركاكة” على رقبته من قِبل قارئ أو روائي آخر يترصد في جبهة مضادة، ذلك لأن “الركاكة” شأن أي مفهوم رجعي مستبد ليس أكثر من قناع بلا وجه، يمكن لأي شخص ارتدائه تمجيدًا في ذاته وتحقيرًا مما يعارضه، مشكّلًا ملامحه المصطنعة بما يروق له من أفكار ومبادئ تريد فرض نفسها كمرجعية كونية أو قانون مطلق. لكنه ليس تناقضًا؛ لأنه ليس كل روائي يسعى “لخرق روح القارئ” بوسعه تأمل “قدرته الفعلية” على تحقيق ذلك، أي محاكمة اليقينيات واقتلاع الجذور التي تعطّل بصيرته الروائية عن أن يكون “مخرّبًا” حقًا.

يقول الروائي خافيير مارياس:

“إن الأمر يتعلق بنشاط شعبي يدفع بأي شخص قد تعلم القراءة والكتابة في المدرسة، إلى عدم الاكتراث بأي نوع من أنواع الدراسات العليا ولا التوجه إلى أي تخصص”.

“كتابة الرواية لا تمتلك مميزات خاصة بها؛ والدليل على ذلك هو أنها جنس كتابي ـ اتفق على ذلك أو لم يُتفق ـ يمارس كل أصناف الفردية، مهما كان نوع المهنة أو التخصص، وعليه تُفترض فيه السهولة وخلوه من أية أسرار. وفي ضوء هذا، وحده، يمكنكم تفسير كتابتها من قبل: الشعراء، الفلاسفة، كتاب السيناريوهات، الاجتماعيين، اللغويين، السياسيين، المطربين، المذيعات، مدربي كرة القدم، المهندسين، معلمي المدارس، العمال، الممثلين، النقاد، الأرستقراطيين، القساوسة، ربات البيوت، أطباء النفس، أساتذة الجامعات، العسكريين ورعاة الماعز. وهذا أمر يدعو إلى التفكير بلا شك. وإذا ما تركنا جانبًا سهولتها وخلوها من خصائص محددة، فلا بد أن تعطي الرواية شيئًا ما، أو على الأقل أن تنشئ زخرفية جيدة .. ولكن أي نوع من الزخرف هذا الذي يكون في متناول يد كل المهن؟! وبغض النظر عن مكوناتها السابقة .. ماذا سيقدم؟ هل هي سمعة ومكسب إذًا؟”.

“إن الروائي الواقعي ـ أو الذي يُسمى هكذا ـ هو الشخص الذي يكون عند الكتابة متواجدًا ويعيش على الأرض، كما هي أو كما يحدث فيها من وقائع، مازجًا عمله بعمل المؤرخ أو الصحفي أو الموثق. أما الروائي الحقيقي فهو لا يعكس الواقع، وإنما الأصح، يعكس اللاواقع، مدركًا بأن هذا الأخير لا يمكن تصديقه ولا هو بالفنتازيا .. وإنما ببساطة، هو ما يستطيع الواقع أن يعطيه ولكنه لم يعطه .. وهو شيء على العكس من الأفعال، ومن الحوادث، ومن المعطيات والمعلومات والماجريات .. على العكس من (ما يحدث). هذا فقط ما يمكن اعتباره ممكنًا وتستمر إمكانية وجوده .. هو احتمال أدبي في كل زمان ومكان. ولهذا ما زالت تُقرأ حتى اليوم روايات مثل: دون كيخوته ومدام بوفاري”.

إن كتابة الرواية من قِبل أشخاص، وبالهزل المعتاد المثير للسخرية، يٌحكم عليهم بعدم “الأصالة” لكونهم ينطلقون في كتاباتهم من “تخصصات غير روائية” كما يتم تصنيفهم عند البعض ـ أو الكثيرين ـ ليست حجة حاسمة في استبعادهم عن “الفن الروائي” أو نفي “المقدرة الروائية” عن أعمالهم، استنادًا إلى ما يُطلق عليها “الزخرفية الجيدة” التي بحسب “الأوصياء” على هذا النوع الكتابي لابد أن تقدّمها الرواية؛ فهذه “الزخرفية” مسألة نسبية تمامًا، لا ترضخ لقواعد إلهية أو معايير جازمة، أي أنه لكل عمل روائي، بصرف النظر عن مهنة كاتبه، ما يمكن أن ندعوها “زخرفيته الخاصة” التي تمتلك طوال الوقت فرصة الإشارة إلى اختلافها، أي أن تبين خصوصيتها وسط ما يظن أنه “مشاع روائي” أو مجرد “نشاط شعبي” يستهدف السمعة والمكسب وحسب، بعيدًا عن “القيمة الجمالية” التي لا تضمنها بالتأكيد “الدراسات العليا”، وبهذا فإن إجادة القراءة والكتابة تسمح بالفعل لأي شخص “أن يمارس حقه” في كتابة الرواية، سواء كان مكترثًا بأن يكون “متخصصًا في الأدب” أم لا، فهذه الخصوصية قد تحققت بالفعل لحظة الكتابة. الأمر يرجع إلى اكتشاف الحاجة والرغبة ومن ثمّ اتخاذ القرار الذي يعادل رهانًا شخصيًا لا يُفترض أن تسيطر عليه محاذير استعلائية، حيث تظل كيفية دعم هذا القرار بكل الوسائل الممكنة شأنًا ذاتيًا وليس إلحاحًا أبويًا بالإخضاع والمعاقبة. إن التهديد بـ “الجودة” ليس أكثر من استخدام متعسف للغة، سيادة انتهازية على الكتابة، فالروائي يستهدف “جودته” التي لا تعني في النهاية سوى سرابية “الجودة” نفسها مقابل أن يفعل ما يرى أنه يتحتم عليه القيام به، وليس إرضاء ذائقة معيّنة “متغيّرة بتعدد الأوصياء”، تطارده دومًا من أجل الامتثال لمتطلباتها، هربًا من الوصم بـ “الرداءة”.

ينشأ التمييز أحيانًا بواسطة تحديد تعريفين مختلفين لمصطلحين، يتسم أحدهما بالأفضلية والآخر بالدونية إشباعًا لرغبة “تنظيرية” في إبداء التفوق مع الانتماء إلى المصطلح “الأفضل” والتبرؤ من “الأدنى”. ليس هناك أسهل من ممارسة هذا الخداع اللغوي في مجال “الأدب”، ذلك لأن السمات التي يتم تعيينها للفصل بين المصطلحين “المخترعين” لا تعدو أكثر من “بلاغة”، حين تخضع للخلخلة ستتناثر دون تفاوت “طبقي” بحيث يمكن لأنقاض أي منهما أن تنسب للآخر. التمييز بين الروائي “الواقعي” والروائي “الحقيقي” يندرج تحت هذا الوهم. من الذي يستطيع أن يقرر، وبنقاء كامل من الشك، بأن الرواية التي تقدم ـ بحسب الإكراهات المصطلحية ـ ما يسمى بالحوادث والمعلومات “الموثقة” لا يمكن أن يكون لها “تأثير” الرواية التي تقدم “حيوات متخيلة”، أو “اللاواقع”؟ من الذي يستطيع بالأساس أن يضع حدًا ملزمًا يفصل “الخيال” عن ما يعد توثيقًا للواقع في الرواية؟ أليس “ما جرى” ـ وفقًا لما هو جدير بأن يعرفه كل روائي ـ مهما كانت “الدقة” في استدعائه لن يكون كما هو حين يُكتب، وسيكون دائمًا شيئًا آخر حين يُقرأ؟ ألا يكمن الخيال في ما هو أكثر اتساعًا من “اللاواقع” حيث تكشف “الحادثة” أو “المعلومة” عن جوهرها التخييلي لحظة الكتابة؟ إن مادة المؤرخ أو الصحفي ليست محصنة في “واقعيتها” التي لا يخدشها التوظيف الروائي، ولكنها خيالية أيضًا وفقًا لما يسمى “زاوية النظر” التي لا يضبطها “المصطلح” وإنما مشيئة الرواية نفسها بحيث يمكن لهذه المادة أن تفصح عن ذخيرتها الخيالية وبالأثر ذاته الناجم عن دون كيخوته ومدام بوفاري.

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا:

“أعتقد أن أي كاتب يجب أن يشعر بأنه مرتاح مع أي جنس كتابي يعبّر به، مثل الإغريقيين، الذين كان بالنسبة إليهم، كل شيء هو شعر أو (إبداع / خلق) سواء أكان مسرحًا أو أساطير أو نثرًا أو شعرًا، بالنسبة إليّ أشعر بالراحة مع كل هذه الأجناس التي أكتب بها، ولكن بشكل أكبر مع الشعر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما يراه أو يعتبره الآخرون أنه الجنس الذي ينجح فيه الكاتب أكثر من غيره، إضافة إلى أنني أضع ما هو شعري دائمًا في كل ما أكتبه، بما في ذلك في الصحافة، المهم في النهاية أن يشعر الكاتب بالراحة في التعبير عبر الجنس الذي يكتب فيه”.

تعيد هذه الكلمات كتابة ما ذكرته سابقًا حول ذلك الفرق المدعي بين الروائي “الواقعي” و”الحقيقي”، فهي كلمات مجابهة للتمييز، وتتموضع في ما يستحق التركيز عليه عند مقاربة الرواية “المهم في النهاية أن يشعر الكاتب بالراحة في التعبير عبر الجنس الذي يكتب فيه”. ذلك هو الأساسي هنا بعيدًا عن “التنظير”، فالأمر يتعلق بالمرح الفردي وبمأساوية هذا المرح عند البناء والهدم، لحظات الاتساق والطيش، المبادلة بين الرصانة والجموح، لا بتحويل هذه الارتكابات إلى “نظام موجِب” للفن الروائي.

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا أيضًا:

“بشكل عام، هناك تجريب أقل بكثير مما كان عليه الأمر سابقًا، وأرى أن من بين أسباب ذلك هو أن المستوى الثقافي والمعرفي للكُتاب قد تراجع وكذلك المستوى الثقافي عند القراء، وأصبح أقل مما كان عليه في مراحل سابقة، وشروط السوق، والطلب التي ذكرناها، هي السبب في ذلك، بحيث صار الكتاب الأكثر تجريبية هو الأقل مبيعًا، ولذلك تتم المراهنة على أدب أكثر بساطة ومباشرة ووضوح، كونه يصل إلى القراء بشكل أسهل وأسرع وأوسع”.

يحق للروائي أن يقارن بين عمله “التجريبي” وبين أعمال الآخرين التي يراها “أكثر بساطة ومباشرة ووضوحًا”، أي ما هو “أكثر مبيعًا” وفقًا لما يسمى بـ “تراجع المستوى الثقافي عند الكتّاب والقراء”، وكذلك “شروط السوق”. لكن عليه أن يساءل نفسه: على ماذا تعتمد هذه المقارنة حقًا؟ .. على ما يريد أن يكتبه أم على ما يريد أن يقرؤه غالبية الناس “كما يدل كل شيء ربما”؟ .. على عزلته أم صورته في الخارج؟ .. على “تجريبيته” أم على العنف الذي يعتقد أنه من الضروري ممارسته تجاه “الكتابة الرائجة”؟ .. إن الإجابة على هذه الاستفهامات ستحدد ببساطة طبيعة “الجرح” لدى الروائي؛ الرواية بكل ما تفرضه من قتال ضد النمط والقانون “خاصة الذي يجعل كتابة ما أقل شأنًا من أخرى”، أم تشييد هرم روائي للعالم يبدأ من الأسفل حيث “البيست سيلر” وينتهي في القمة “المعتمة” أو “الأنا”؟

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا أيضًا:

“إن بلدنا عالق بين الكهنة الذين ترسخوا في العقود الماضية والذين يسيطرون على عالم الجامعات والمؤسسات والجوائز، ويعيدون أنفسهم بشكل مضجر ومستمر من خلال الكليشيهات والصيغ نفسها، وبين أولئك الذين يتطلعون إلى العثور على نموذج سردي ناجح يتناسب مع صرعات اللحظة الراهنة ومع ما يفترض أن تبحث عنه دور النشر. أجد الأمر مزعجًا وعقيمًا”.

إلى ماذا يتوجه “الغضب الروائي” في حالته التجريبية بالنظر إلى ما يحيط بالكتابة مما يسهل وصفه بعوامل “الانحطاط” أو بتهذيب أكثر “غياب النزاهة”؟ ثمة فرق بين توجيه الغضب إلى “أنواع الرواية الأخرى”، وبين توجيهه إلى السياقات المعرفية السائدة، المتجذرة بطبيعة الحال، التي لا تبدأ بما هو “رسمي” ولا تنتهي بما هو “جماهيري”. السياقات التي تفاضل وتفرز وتقصي وفقًا لآليات “شعبوية” بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من علاقات القوة والاستثمار التجاري وإعادة التدوير المروّضة. السياقات التي تكتب تاريخًا زائفًا بالتزامن بين التكريس من جهة والإزاحة من جهة أخرى، وليس “الرواية” نفسها، المغايرة فقط عن روايتك، التي يكتبها شخص آخر لديه ـ مثلك ـ ما يبرر فعل ذلك، وهذا ما يفترض بالضرورة أن يحدد للروائي الدائرة “العتيدة” التي تحاصره، وينبغي أن تستهدفها بصماته التدميرية.  

يقول الروائي خوسيه لويس سامبيدرو:

“إن الحقيقة الروائية تصل إلى أقصاها عندما تُكتب بدافع حاجة داخلية … في إحدى مقابلاته الصحفية المنشورة أخيرًا، ينبه رودولف نورييف تلاميذ رقص الباليه، بالقول: (إذا استطعتم العيش بلا رقص، فاتركوه فورًا). هذه النصيحة تصلح أيضًا للكتاب. فالرواية العظيمة تظهر مثل ورم في أحشاء الروائي، ولا بد من إجراء عملية له. أي كتابتها. إذن فليس المؤلف هو الذي يقوم بإنتاجها، وإنما هي التي تتبلور داخله وتستخدم قلمه أو ريشته من أجل الطيران، مثلما يجبر الجنين أمه على الولادة”.

إن الحقيقة الروائية تصل إلى أقصاها حينما يكون ثمة وعي بالاحتياج إلى كتابة رواية تضمر دافعًا مستعادًا لاستجواب تاريخ الفن الروائي. الوصول بالعالم إلى إنكار نفسه، بكل ما يؤطره من نماذج قهرية للكتابة، أي استدراجه نحو ذلك العمى الساحر الذي تنتهي إليه الرواية كغاية مؤجلة، ظلت تخطو عبر أشلاء اللغة قبل أن تتجسد في ما وراء الحياة والموت. الحقيقة الروائية هي التي تنبّه الروائي وعبر متاهاتها غير المتوقعة بأنها ضد كل حقيقة.

أخبار الأدب

6 أكتوبر 2024