الثلاثاء، 11 فبراير 2025

رجل المنزل / فرانك أوكونور ـ ترجمة: ممدوح رزق

أيقظني سعال أمي. كان الصوت يأتي من المطبخ في الأسفل وعلى نحو أكثر فظاعة من الأيام السابقة. بات الأمر يستدعي الاهتمام. كنا نعيش وقتها في طريق يوجال القديم، المتخم بالتلال، والمؤدي إلى شرق يورك. ارتديت ملابسي، وبقدمين عاريتين نزلت السلالم. في ضوء الصباح النقي رأيتها منهارة على كرسي خيزران صغير بذراعين، وتمسك بجانبها دون أن تنتبه لوجودي. كانت قد حاولت إشعال النار، لكن الأمر لم يسر معها كما أرادت. بدت متعبة وعاجزة لدرجة أن الشفقة اعتصرت قلبي. ركضت إليها وسألتها:

"هل أنتِ بخير، أمي؟".

"سأكون بخير بعد قليل" أجابت وهي تحاول الابتسام. "الأعواد القديمة كانت مبللة والدخان جعلني ...".

"عودي إلى السرير وسأشعل النار" قلت.

"آه. كيف يمكن ذلك يا صغيري؟" قالت بقلق."حتمًا، يجب عليّ الذهاب إلى العمل".

"لا يمكنك وأنتِ في هذه الحالة" قلت. "لن أذهب إلى المدرسة وسأبقى في المنزل لأعتني بكِ".

فكرت مجددًا في تلك المسألة النسائية الغريبة؛ الطريقة التي تطيع بها المرأة أي شخص يرتدي سروالًا حتى لو كان عمره عشر سنوات فقط.

"سيكون جيدًا لو استطعت فقط أن تعد لنفسك كوبًا من الشاي، قد أكون بخير لاحقًا" قالت بتأنيب ضمير. نهضت ورعشة شديدة تتملكها ثم صعدت الدرج مرة أخرى. كنت أعلم حينئذ أن شعورها بالسوء بديهي.

أخرجت أعوادًا أكثر من حفرة الفحم تحت السلم. كانت والدتي مقتصدة جدًا لدرجة أنها لم تستخدم الكمية الكافية. لهذا كانت النار تخذلها أحيانًا. استخدمت حزمة كاملة، وسرعان ما بدأت النار تتأجج.  تركت الماء يغلي، وأثناء ذلك أعددت لأمي شريحة من الخبز المحمص. كنت مؤمنًا للغاية بتأثير الخبز المحمص الساخن مع الزبدة في جميع ساعات اليوم. صنعت لها كوبًا من الشاي، ووضعته على الصينية.

"هل هذا جيد؟" سألت.

"هل يمكنك أن تأتيني بكوب من الماء المغلي المتبقي؟" سألت بصوت متشكك.

"إنه مفيد جدًا" وافقت بسرور متذكرًا صبر القديسين على محنهم العديدة. "سأصب نصفه".

"أنا عجوز مزعجة" تنهدت.

"إنه خطأي" قلت آخذُا الكوب. "لا أستطيع أن أتذكر مقادير الشاي. ضعي الشال حولك وأنتٍ جالسة. هل أغلق نافذة السقف؟".

"هل يمكنك ذلك؟" سألتني بتردد.

"ليست هناك مشكلة" قلت وأنا أحضر الكرسي. "سأسجل التعليمات بعد ذلك".

تناولت الإفطار بمفردي إلى جوار النافذة ثم خرجت ووقفت عند الباب الأمامي مراقبًا الأطفال وهم في طريقهم إلى المدرسة.

"عليك أن تسرع وإلا ستُقتَل، سوليفان" صرخوا.

"لن أذهب" قلت "أمي مريضة وعليّ العناية بها".

لم أكن طفلًا خبيثًا بأي شكل، لكنني كنت استمد راحتي وأتأملها في ضوء مصائب الآخرين. سخنت وعاءً آخر من الماء ونظفت أدوات الإفطار قبل غسل وجهي ثم صعدت إلى الطابق العلوي مع سلة التسوق وقصاصة ورقية وقلم رصاص.

"يمكنكِ تدوين التعليمات الآن" قلت. "هل تودين أن أذهب لإحضار الطبيب؟".

"آه" قالت أمي. "لن يفعل سوى إرسالي إلى المستشفى، وكيف لي ذلك؟ يمكنك التوقف عند الصيدلية وشراء زجاجة دواء قوي للسعال".

"اكتبي ذلك" قلت. "إن لم تفعلي فقد أنسى. واجعلي (قوي) بحروف كبيرة. هل أحضر بيضًا للعشاء؟".

كان البيض المسلوق هو الطبق الوحيد الذي يمكنني تحضيره. توقعت أن تطلب مني شراءه، لكنها أخبرتني بإحضار "النقانق" أيضًا في حال تمكنت من مغادرة الفراش.

في طريقي إلى الصيدلية مررت بالمدرسة. كان يقابلها أحد التلال فصعدت مسافة قصيرة ووقفت هناك لعشر دقائق في شرود هادئ. كانت المدرسة ببوابتها وفنائها تظهر كما لو كانت مرسومة في لوحة، منعزلة وهادئة باستثناء جوقة الأصوات المنبعثة من النوافذ المفتوحة، ولمحات متقطعة من المعلم داني ديلاني وهو يمر من أمام الباب الأمامي بعصاه خلف ظهره، مسترقًا النظر إلى العالم الخارجي. كان بإمكاني الوقوف هناك طوال اليوم. من بين المتع العميقة والبسيطة كافة في تلك الأيام؛ كانت تلك هي الأغنى.

وصلت إلى المنزل فوجدت ميني رايان تجلس مع أمي. امرأة في منتصف العمر، ذات معرفة واسعة، متدينة، وتحب النميمة.

"كيف حالك، أمي؟" سألت.

"بخير" قالت أمي مبتسمة.

"لكن لا يمكنكِ النهوض اليوم" قالت ميني رايان.

"سأضع الغلاية وأعد لكِ كوبًا من الشاي" قلت.

"بالطبع، سأفعل ذلك" قالت ميني.

"آه، لا تقلقي، آنسة رايان"، قلت بخفة. "يمكنني التعامل مع الأمر بشكل جيد".

"أليس ولدًا صالحًا جدًا؟" سمعتها تقول بصوت منخفض لأمي.

"صالح كالذهب" قالت والدتي.

"لا يوجد الكثير مثله الآن" قالت ميني. "معظم من يخرجون إلى الحياة هذه الأيام أقرب إلى الوثنيين منهم إلى المسيحيين".

في فترة بعد الظهر أرادت أمي أن أخرج للعب، لكنني لم أذهب بعيدًا. كنت أعلم أنه إذا ابتعدت لمسافة معينة سأكون عرضة للوقوع في الإغراء. أسفل منزلنا، كان هناك وادٍ وميدان تدريب خاص بالثكنات التي تقع فوقه على جرف جيري. أسفل ذلك، وفي حفرة عميقة؛ ثمة بركة وجداول الطاحونة تنساب بين التلال المكسوة بالأشجار. بمجرد أن أكون هناك، أنجذب بعيدًا عن العالم الحقيقي. لذا جلست إلى حائط خارج المنزل، وكلما مرت نصف ساعة أركض عائدًا إلى أمي لأطمئن عليها، ولأعرف إذا كانت تريد شيئًا.

حل المساء؛ أضيئت مصابيح الشارع، وجاء الصبي موزع الصحف يصيح في الطريق. اشتريت صحيفة وأشعلت المصباح في المطبخ والشمعة في علية أمي. حاولت أن أقرأ لها، لكن ذلك لم يكن ناجحًا جدًا. كنت أجيد فقط قراءة الكلمات ذات المقطع الواحد. كانت لدي رغبة كبيرة في إرضائها، وكانت لديها الرغبة في أن تشعر بالرضى.  ذلك ما جعل علاقتنا جيدة إلى حد ما بالنظر إلى الظرف الصعب.

لاحقًا، جاءت ميني رايان مرة أخرى، وقبل مغادرتها توقفت عند الباب ونظرت لي من فوق كتفها ...

"إذا لم تتحسن في الصباح، أعتقد أنني سأستدعي الطبيب" قالت.

"لماذا؟" سألت بقلق. "هل تعتقدين أن حالتها أسوأ مما تبدو، آنسة رايان؟".

"آه، لا أود قول ذلك"، ردت متظاهرة بعدم الاكتراث. "لكنني أخشى من إصابتها بالتهاب رئوي".

"لكن ألن يرسلها إلى المستشفى، آنسة رايان؟".

"قد لا يفعل"، قالت بتململ وهي تسحب شالها القديم. "لكن حتى لو فعل، ألن يكون ذلك أفضل من إهمال الأمر؟ هل لديك قطرة من الويسكى في المنزل؟".

"سأحضرها"، قلت على الفور. كنت أعلم ماذا قد يحدث للناس الذين يصابون بالتهاب رئوي، وماذا سيحدث بعد ذلك لأطفالهم.

"إذا استطعت أن تعصر ليمونة في جرعة الويسكي وتعطيها لأمك ساخنة فقد يساعدها ذلك على التخلص من السعال" قالت ميني.  

رفضت أمي الويسكي. كانت تخشى من التكلفة، لكن خوفي العارم منعني من التراجع.

ذهبت إلى الحانة. كانت ممتلئة بالرجال، الذين تراجعوا جانبًا ليتيحوا لي الوصول إلى البار. كنت خائفًا لأنني لم أدخل حانة من قبل.

"مرحبًا زهرتي القديمة" قال لي أحد الرجال بابتسامة شيطانية "لابد أن عشر سنوات قد مرت منذ رأيتكِ آخر مرة. ماذا تريدين؟".

أخبرني صديقي بوب كونيل ذات يوم أنه سأل رجلًا سكرانًا عن نصف جنيه فأعطاه إياه. كنت أتمنى دائمًا أن أقدر على فعل الشيء نفسه، لكنني لم أشعر أن ذلك قد يتحقق في تلك اللحظة.

"أريد نصف كأس من الويسكي لأمي" قلت.

"آه، يا له من غبي!" قال الرجل "يدعي أن الكأس لأمه، وآخر مرة رأيته فيها كان يجب أن يعود محمولًا إلى منزله".

"لم أكن كذلك" صرخت بغضب. "وهو لأمي. إنها مريضة".

"آه، اترك الطفل وشأنه، جوني" قالت النادلة قبل أن تعطيني الويسكي.  توجهت إلى المتجر لشراء ليمونة دون أن يفارقني الخوف من رجال الحانة.

تناولت أمي الويسكي الساخن ونامت. أطفأت الأنوار وذهبت إلى السرير لكنني لم أستطع النوم جيدًا. كنت أشعر بالندم لأنني لم أسأل السكران في الحانة أن يعطيني نصف جنيه. استيقظت مرات عدة بسبب سعال أمي، وعندما دخلت إلى حجرتها ووضعت يدي على رأسها شعرت به ساخنًا جدًا. كانت تتحدث بشكل غير مترابط، وما أخافني أكثر من أي شيء آخر أنها لم تتعرّف عليّ. ظللت مستيقظًا أفكر في ما سيحدث لي إذا كانت مريضة حقًا بالالتهاب الرئوي.

في صباح اليوم التالي تفاقمت الكآبة. بدا أن أمي ليست أفضل من أمس. فعلت كل ما بوسعي، ومع ذلك شعرت بالعجز. أشعلت النار وأعددت لها الإفطار، لكن هذه المرة لم أقف عند الباب الأمامي لأراقب الأولاد الآخرين في طريقهم إلى المدرسة. كان يُحتمل أن تصيبني الغيرة حينئذ. بدلًا من ذلك ذهبت إلى ميني ريان وأبلغتها بالأمر.

"سأذهب إلى الطبيب" قالت بحزم. "من الأفضل أن نتأكد بدلًا من أن نندم".

كان عليّ أولًا الذهاب إلى منزل أحد حراس قانون الفقراء للحصول على تذكرة تثبت أننا لا نستطيع الدفع. نزلت إلى العيادة بعد ذلك، والتي تقع في زقاق عميق وراء المدرسة، ثم كان عليّ العودة لتجهيز المنزل قبل وصول الطبيب. وضعت بجوار سرير أمي وعاءًا كبيرًا من الماء وقطعة صابون ومنشفة نظيفة. كان عليّ أيضًا تحضير العشاء.

وصل الطبيب بعد العشاء. رجل سمين، ذو صوت عال، ومثل كل المجذوبين في مهنة الطب، يرى نفسه "الطبيب الأفضل في كورك، لو فقط اهتم بنفسه".

لم يكن يبدو مهتمًا بنفسه كثيرًا ذلك الصباح. "كيف يمكن أن تفعل ذلك الآن؟" قال متذمرًا وهو يجلس على السرير ودفتر الروشتات على ركبته. "المكان الوحيد المفتوح هو المستوصف الشمالي".

"سأذهب يا دكتور" قلت على الفور، مرتاحًا لأنه لم يتحدث عن المستشفى.

"إنه طريق طويل" قال بارتياب. "هل تعرف المكان؟".

"سأجده" قلت.

"أليس صبيًا رائعًا؟" قال لأمي.

"أوه، الأفضل في العالم يا دكتور!" قالت. "لا يمكن أن يكون هناك ابن أفضل منه".

"هذا صحيح" قال الطبيب. "اعتن بأمك؛ ستظل دائمًا أغلي ما لديك. نحن لا نهتم بهم عندما يكونون معنا" أضاف لأمي "ثم نقضي بقية حياتنا نادمين على ذلك".
كنت أتمنى لو لم يتفوّه بهذه الكلمات. كانت تتوافق تمامًا مع مزاجي، ولجعل الأمور أسوأ؛ لم يستخدم حتى الماء والصابون اللذين أعددتهما له.

أعطتني أمي تعليمات حول كيفية الوصول إلى المستوصف. انطلقت ومعي زجاجة ملفوفة في ورقة بنية تحت ذراعي. كان الطريق يصعد عبر منطقة فقيرة مكتظة بالسكان حتى الثكنات على قمة التل فوق المدينة ثم يهبط بين جدران عالية قبل أن يختفي فجأة داخل ممر حجري مرصوف بمنازل من الطوب الأحمر على جانب واحد، ينحدر بشدة نحو وادي النهر الصغير حيث يوجد مصنع للبيرة.

وقفت، وعلى الجانب المقابل من التل؛ رأيت مجموعة من المنازل المتناثرة، ترتفع بشكل جذّاب إلى القمة الدائرية، حيث ينتصب برج الكاتدرائية المشيّد من الحجر الرملي الأرجواني، ومنارة كنيسة شاندون المصنوعة من الحجر الجيري. على مستوى بصري كان المشهد شاسعًا جدًا، لدرجة أن الضوء لم يتخلله كليًا بالإشراق نفسه. كان نور الشمس يتجوّل عبر تفاصيله كما في البراري، يحدد في البداية صفًا من الأسطح بسطوع ثلجي، ثم يغوص في عمق بعض الشوارع المظلمة، ليرسم عبر الظلال أشكالًا لعربات متسلقة وخيول مجهدة.

استندت على الجدار المنخفض وفكرت في مدى سعادة الشخص الذي يتاح له التطلع إلى هذا المشهد دون أن يكون لديه ما يؤرقه. تخلصت من هذا الخاطر بتنهيدة ثم بدأت انزلق دون توقف إلى أسفل التل قبل أن أصعد عبر سلسلة من الأزقة المسقوفة والمصطفة حول مؤخرة الكاتدرائية التي بدت هائلة الآن.

كان معي بنس واحد، أعطتني إياه أمي كنوع من التشجيع، وقررت أنه بعد الانتهاء من مهمتي سوف أدخل الكاتدرائية وأنفقه على شمعة للعذراء المباركة كي أجعل والدتي تتحسن سريعًا. كنت متأكدًا أن ذلك سيكون أكثر فاعلية داخل كنيسة كبيرة حقًا مثل تلك، وقريبة جدًا من السماء.

كان المستوصف عبارة عن ممر صغير قذر يحوي مقاعد على أحد جانبيه ونافذة مثل تلك الموجودة بمكتب تذاكر السكك الحديدية في الطرف البعيد. فتاة صغيرة ترتدي شالًا مخططًا بالأخضر تجلس على أحد المقاعد. طرقت النافذة ليفتحها رجل يبدو متجهمًا ومتهالكًا. دون انتظار أن أتكلم؛ انتزع الزجاجة والروشتة من يدي وأغلق النافذة ثانية بلا كلمة واحدة. انتظرت لحظة ثم رفعت يدي لأطرق مرة أخرى.

"عليك أن تنتظر أيها الصبي الصغير" قالت الفتاة بسرعة.

"ماذا سأنتظر؟" سألت.

"يجب أن يُعدّها" شرحت. "يمكنك الجلوس".

جلست، سعيدًا بوجود شخص ما يرافقني.

"من أين أنت؟" سألت.

"أعيش في شارع بلارني" أضافت عندما أخبرتها. "لمن الزجاجة؟"

"لأمي" قلت.

"ما خطبها؟".

"تعاني من سعال شديد".

"قد تكون مصابة بالسل" قالت بتفكير. "ذلك ما كانت تعاني منه أختي التي توفيت العام الماضي. أتيت لإحضار مقو لأختي الأخرى. يجب أن تتناول المقويات طوال الوقت. هل تعيش في مكان جميل؟".

أخبرتها عن الوادي، وأخبرتني عن النهر القريب من بيتها. بحسب وصفها؛ بدا أنه مكان أجمل مما أعيش فيه. كانت فتاة صغيرة، لطيفة وثرثارة، ولم ألحظ الوقت حتى انفتحت النافذة وخرجت زجاجة حمراء.

"دولي!" صرخ الرجل الغاضب وأغلق النافذة ثانية.

"هذا أنا" قالت الفتاة الصغيرة. "زجاجتك لم تجهز بعد. سأنتظرك".

"لدي بنس" قلت بفخر.

انتظرت حتى خرجت زجاجتي ثم رافقتني نحو الدرج المؤدي إلى مصنع البيرة. في الطريق اشتريت حلوى مقابل البنس ثم جلسنا على الرصيف بجانب المستوصف لنأكلها. كان الجو لطيفًا هناك مع برج شاندون في الظل من وراءنا، والفروع الصغيرة للأشجار تتدلى فوق الجدران العالية، والشمس بتوهجاتها الذهبية الكبيرة تلقي بخيالاتنا المتشابكة على قارعة الطريق.

"أعطني رشفة من زجاجتك" قالت.

"لماذا؟" سألت.

"ألا يمكنك تذوقها؟. "طعم زجاجتي مروّع" قالت.

"المشروبات المقوية طعمها سيء. يمكنك تجربتها إذا أردت".

تذوقتها وبصقت رشفتي سريعًا. كانت محقة؛ طعمها مروّع بالفعل. بعد ذلك لم أستطع منعها من تذوّق زجاجتي.

"هذا رائع" قالت بحماس بعد تناول رشفة منها. "زجاجات السعال دائمًا ما تكون رائعة. هل تجربها؟".

فعلت، ووجدتها محقة في ذلك أيضًا. كان طعمها حلوًا جدًا ولزجًا.

"أعطني رشفة أخرى" قالت بحماس وهي تمسك بالزجاجة".

"ستنفد كلها" قلت.

"لا، لن تنفد" ردت ضاحكة. "لديك جالونات منها".

لسبب ما لم أستطع مقاومتها. جرفتني من مرساي إلى عالم غير مألوف من الأبراج والأشجار والدرجات والأزقة الغامضة والفتيات الصغيرات ذوات الشعر والأحمر والعيون الخضراء.

أخذت رشفة وأعطيتها أخرى. ثم بدأت أشعر بالذعر. "لقد أوشك على النفاد" قلت. "ماذا سأفعل الآن؟".

"أنهه وقل إن السدادة سقطت" أجابت.

ومجددًا، بدا ما قالته معقولًا بما فيه الكفاية. أنهينا الزجاجة بيننا، ثم، وبينما كنت أتظلع إليها وهي فارغة في يدي كما جلبتها، متذكرًا عدم الوفاء بكلمتي للعذراء المباركة، وأنني أنفقت البنس الخاص بها على الحلويات؛ اجتاحتني مرارة رهيبة.  لقد ضحيت بكل شيء من أجل الفتاة الصغيرة، وهي في المقابل لم تهتم بي. زجاجة السعال كانت مطمعها طوال الوقت، واكتشفت خداعها متأخرًا. وضعت رأسي بين يديّ وبدأت أبكي.

"لماذا تبكي؟" سألتني الفتاة الصغيرة بدهشة.

"أمي مريضة، ونحن نشرب دواءها" قلت.

"آه، لا تبكي كالعجائز!" قالت باحتقار. "كل ما عليك قوله إن السدادة سقطت. بالتأكيذ هذا شيء يمكن أن يحدث لأي شخص".

"وعدت السيدة العذراء بشمعة أيضًا، وقد أنفقت المال عليكِ!". صرخت، ثم أمسكت فجأة بالزجاجة الفارغة لأركض في الطريق بعيدًا عن الفتاة وأنا أبكي متحسرًا على ما أهدرته.

الآن، لم يعد لدي سوى ملاذ واحد فقط. عدت إلى الكاتدرائية بأمل حدوث معجزة. ركعت أمام ضريح السيدة العذراء، أطلب المغفرة على إنفاقي البنس الخاص بها، ووعدتها بشمعة أخرى من أول بنس أحصل عليه إذا ساعدت أمي على الشفاء قبل رجوعي إليها.

زحفت بائسًا نحو المنزل، عائدًا إلى قمة التل العظيم، لكن بعدما انطفأ كل ضوء، وأصبح التل عالمًا موحشًا، غريبًا وقاسيًا، إلى جانب ذلك راحت الأعراض المرضية تداهمني. اعتقدت أني على وشك الموت، وكان ذلك من ناحية ما أمرًا جيدًا.

حينما عدت إلى المنزل لكمني صمت المطبخ ثم منظر المدفأة التي انطفأت نارها، فأدركت، وبمنتهى القسوة، أن السيدة العذراء قد خذلتني. لم تكن هناك معجزة، وأمي لا تزال في السرير. على الفور رحت أصرخ.

"ما الأمر يا صغيري؟" نادت أمي بقلق من الطابق العلوي.

"لقد فقدت الدواء" صرخت مندفعًا إلى الأعلى مجتازًا الدرج لأرمي نفسي على السرير وأدفن وجهي في الملابس.

"أه، يا عزيزي، إذا كان هذا ما يزعجك!" قالت بارتياح وهي تمرر أصابعها في شعري.

"هل حدث مكروه؟" أضافت بعد لحظة "حرارتك مرتفعة".

"شربت الدواء". صرخت.

"آه، ما الضرر؟" همست لتهدئني. "يا لك من طفل مسكين، سيء الحظ! كان ذلك خطأي لأنني تركتك تذهب كل تلك المسافة بمفردك، ثم تنتهي رحلتك بلا جدوى. اخلع ملابسك الآن. يمكنك الاستلقاء هنا".

نهضت، وأخرجت نعلها ومعطفها، ثم بدأت تفك حذائي وأنا جالس على السرير. قبل أن تنتهي كنت قد استغرقت في النوم. لم أرها وهي ترتدي ملابسها ولم أسمعها تخرج، لكنني بعد فترة شعرت بيد على جبهتي، ورأيت ميني رايان تتطلع إليّ، وتضحك بسخرية.

"آه، ليس بالأمر السيء" قالت، وهي تسحب شالها حولها. "سوف ينام حتى الصباح. عزيزتي مدام سوليفان، تعرفين أنه يجب عليكِ البقاء في السرير".

كنت أعلم أن ذلك حكمًا علىّ، لكن لم يكن بإمكاني فعل أي شيء. في وقت لاحق رأيت أمي تدخل بالشمعة فابتسمت لها وابتسمت لي.

قد تشعر ميني رايان نحوي بالازدراء كما تشاء، لكن هناك آخرون لا يشعرون بذلك. لقد حدثت المعجزة بعد كل شيء.

 موقع "الكتابة" الثقافي

9 فبراير 2025

افتتاحية العدد الخامس من مجلة "الناقد" ـ يناير 2025

خلال تلك المرحلة المبكرة  لم يكن لمطالعاتي في "النظرية النقدية" الشغف نفسه الذي كان يتملكني تجاه القراءات التحليلية للأعمال الأدبية .. كنت أكثر اهتمامًا بالتأويل العملي للنصوص من الأفكار المجردة، ولا شك أن ذلك ينبع من غريزتي ككاتب، يستهدف التجارب الحية والاختبارات الملموسة .. كانت كلمات المترجم د. محمود الربيعي في مقدمته لـ "الصوت المنفرد" عن أن فرانك أوكونور في هذا الكتاب أقرب إلى الفنان المبدع من الناقد المحترف، لا يعمل في مستوى نظري بل يغرق يديه في النصوص الإبداعية، ولا يحمل صولجانًا مسيطرًا بل مصباحًا مضيئًا؛ كانت هذه الكلمات تصف طبيعة النقد الأدبي الذي أفضل قراءته، وبالتالي تحدد ما أريد أن تتسم به كتاباتي النقدية، باستثناء "إصدار الأحكام" اعتمادًا على التفسيرات الشخصية للعمل كما أشار د. الربيعي إلى أوكونور "التفسير دائمًا هو طريقه إلى إصدار الأحكام" ..  كأن التفسير هو "الصواب الأوحد" الذي يبرر بالضرورة الحكم التقييمي الناجم عنه، وليس مجرد "رؤية خاصة" أو "وجهة نظر" تخضع لشروط "المفسِّر" حتى تلك التي لا يستوعبها، وتحتم عليها عفويًا التنكر والاختباء في صورة "الحقيقة المطلقة" لكي تتيح لحاملها ممارسة السلطة الأبوية على النص .. لم أكن حينئذ بالطبع قد صادفت مقولة ميشيل فوكو التي جعلتها بعد سنوات طويلة تصديرًا لكتابي "نقد استجابة القارئ العربي":

"لا أستطيع إلا أن أحلم بنقدٍ يتجنب إصدار الأحكام ويكتفي ببث الحياة في مجموع أعمال كاتب ما، أو في كتاب، أو جملة، أو فكرة … إنه لن يضاعف عدد الأحكام بذلك بل علامات الحياة".

أتذكر أن أغلب ما قرأته من الكتابات النظرية في تلك الفترة "النصف الأول من حقبة التسعينيات" سواء عربيًا أو مترجمًا كان يبدو لي تجسيدًا لمحاولات الهيمنة على "الكتابة"، وهو ما كان يمثل عداءً مع طبيعتي التجريبية في القصة القصيرة التي ظلت تدفعني منذ البداية للمغامرة ضد موضوعاتها وأساليبها التقليدية ومن ثمّ ضد المبادئ العامة والقناعات الجاهزة للكتابة نفسها .. كان "اللعب" المتجاوز للنظرية، المفكك لتحيزاتها يشكّل البصيرة النقدية أو بالأحرى يكتشفها حيث لا ضامن للمواصلة سوى وعي "اللاعب" ذاته أي ما يكوّن ويقود حياته كليًا، وكأن تفكيك التحيزات نوع مضاد من التنشئة والتحفيز والدعم بالسُبل كافة التي تتخطى "المعرفة الأدبية".

على جانب آخر كان بديهيًا أن يتجلى الجوهر الاستبدادي والهزلي لتلك المبادئ والقناعات في القراءات التحليلية أكثر من الأعمال النظرية وذلك ما كان محرّضًا لي، وبالخطوات التصاعدية اللازمة، على التفكير في أن المزاج الاحتفالي للنقد الأدبي لا يقتصر على التأويل المتحرر من "التقييم" في حد ذاته، وإنما على الانتهاك "النظري" للمفاهيم التقييدية حيث تتحوّل هذه المفاهيم إلى غنائم ثمينة لذلك الطفل الذي يلهو بالكلمات دون ميول أيديولوجية أو أهواء عقائدية، أو حتى استعداد لاكتساب أيًا من تلك الميول والأهواء.

هذه الخلخلة النظرية لا تُعرّف "الناقد" وحسب، وإنما تُعرّف "التنظير" نفسه خارج الإلزامات الناجمة عن شبق احتكار المصطلح، والتي تسعى دائمًا لفصله ـ أي التنظير ـ عن "الخصوصية التأويلية" للناقد، بما في ذلك من خلط بائس بين "المنهجية الصارمة" أو "النمط المتعسف للقراءة" وبين "البصمة الإغوائية للتقويض" التي تميّز "الناقد" عن "القطيع النقدي". 

تحميل العدد

الناقد 5.pdf - Google Drive

أنت لا تخُصُّني.. وأنا لا أخُصُّك: الذكرى المؤجلة

في مجموعته الشعرية "أنت لا تخصني .. وأنا لا أخصك" الصادرة عن دار الأدهم؛ تومئ لغة مؤمن سمير ـ بكل ما يمثله الإيماء من اقتضاب ذاهل وحسرة منطوية على غضب متناثر ـ تومئ نحو ذكرى لم تحدث في نطاق التجربة الحسية للمرء. ذكرى غيبية منفصلة عن الوجود، ومن ثمّ لا يمكنها أن تتحوّل إلى مشهد من "خبرة معيشية" بل إنها تناقض معنى "الخبرة" نفسه. هذه الذكرى هي من تكتب الحكايات، عوضًا عن الافتقار إلى إمكانية كتابتها. عوضًا عن كون هذه الذكرى تقع في الجانب المضاد من "الكتابة". الذكرى التي حدثت في ماض غير معلوم، خارج العمر، وخارج الأقدار كافة ...

"في السنوات الأخيرة صارت علاقتي بذاكرتي أكثر اتساقًا، صرت لا أقضي أيامى وأنا مقعى في غبش المرآة، حدادًا على نفوق صفحات كاملة وارتعاش أجزاء أخرى، بل وأيقنت أنني أحب كونها حرة كالهواء، تستّف ما يحلو لها فقط وهي تصّفر بكل سعادة، وهذا هو الجمال بعينه.. الأحلى أنها لا تمل من إثبات شبابها وفوران دمها فتملأ كل ما ينقص ويغيب بخيال طائش لكنه حنون، تكمل بحكايات، الحق أنني أرتاح لها في كل مرة، كبديل لحياة باردة".

ذكرى مبهمة تتوارى في "غبش المرآة"، لا تخص حياة المرء ولكنها تخلق هذه الحياة بغيابها، تحددها بما تمحوه وتنبئ به من أثرها الغامض بين الميلاد والموت. بالخيال الذي يكافح فقدانها الحصين ويناوش ظلالها المطموسة. الذكرى التي يتغير ويتبدل الحدس بوجودها من عماء لآخر، من رعشة لأخرى، بحسب حريتها المطلقة في تشكيل "ذاكرة" المرء المؤقتة، وبقدر ما تبديه تلك الذاكرة المنهكة من وفاء أو تمارسه من خداع...

"تعلمنا من آبائنا أن ندفن الحكايات / في الأقلام / في رعشة الخط / واللون الذي يتغير مع كل نظرة / وأن ننتشي كذلك / بنسيان أن الملتحف / بالأقدار / مجرد حرف عريان..".

تفكر قصائد مؤمن سمير في الأبوة بوصفها آلية قمع وتغاض ومسايرة. قمع إشهار الألم كما تستوعبه الذات، والتغاضي عن ثغرات "المعرفة" التي تبرر هذا الألم، ومسايرة الإيمان بجدوى قبوله. تفكر القصائد بالتالي في أن هذه الأبوة تمتلك القدرة على تقويض نفسها، أي أن تعيد إلى كل "ذات" أبوتها المسلوبة، وبالضرورة تتبدد "الأبوة" كفكرة أو كمفهوم مطلق. الأبوة التي تحتكر ذكرى متعالية لم تحدث في الأسر الدنيوي، ولا تخص "ذاكرة" المرء" إذن، و"ذاكرة" المرء لا تخص هذه الذكرى المجهولة، ولكنهما مرتبطان ومتلازمان في شرط التيه، في حتمية التخلي والانفصال عن "الوصول" أو "الغاية" المحمية بذاتها، دون نقص. دون شر الحرمان ...

"كلما فارقني الناس / يتعثر قليلًا في حفر الطريق / ثم يدق الشيطان جلدي .. / هذا العجوز، عشير أبي وجدي / يحزن عليّ بصدق وأنا وحيد .. / ربما يضع وروده على قلبي / وصقوره على ذراعي / وربما نأخذ نفَسَاً عميقاً / ونغمض عيوننا / ونقفز..".

التفكير في الأبوة ينطوي ـ بالمنطق الحدسي للكتابة ـ على تأمل العصيان. الشيطان بصيرة العزلة. الأصل الثأري للذات من الذكرى المبهمة باعتبارها تعريفًا لعالم "الأبوة". بوصفها سر "الذاكرة العابرة". ذكرى مترفعة، في تعذرها وفي كونها جوهرًا مقصيًا للذات؛ تكمن في الهجران المتكرر (الفائض بالعثرات الضرورية) بين عتمة وأخرى (حيث تتراوح وتتمازج الدموع والألوان) وبإيقاعات مخاتلة، تتظاهر بكونها استجابة لكل أمل مترنح، بينما تضمر لحنها الاستباقي الأخرس، المتجذر بمشيئة تحتفظ لنفسها بأن تعيش هذه الذكرى الملغزة كواقع أبدي، لا يخدشه "الزمن" ...

"من يوم الحريق الذي أحاط ببيتنا / وجعله يفر من أمام البحر / وتلك القداحات تثيرني.. / كنت ساعتها صغيراً / والنار كانت صغيرة / تكبر رويداً رويداً / وتحبو لتلسع أقدامنا.. / ساعتها كنا نتوهج كل مساء / حتى أن الحقد عاد مع العاصفة / وأعطانا البحر ظهره / ومحانا من أحلامه..".

باستعادة "الحميمية الكونية" للنار عند "باشلار" فإن "الحريق" يقوم أيضًا بـ "إضاءة" ذلك البتر الغامض بين الذات و"الذكرى" التي لم تحدث في التجربة الحسية. النار تصير إيماءة أي تتوحد الكتابة بالنار بما يعادل قيامة عقابية للانفصال. انفصال الذكرى الغيبية عن الوجود. وبالغرابة الجامحة فإن وهج النار نوع من الاستئناس بهذه الذكرى بالرغم من إبهامها، أو خاصة أمام البداهة الوحشية لغيابها. في مواجهة كونها "الشر" الذي ينتج الأحلام ويلتهمها كما تفعل النار بالأشياء التي تنكشف حينئذ طفوليتها. "الشر" الذي يبطن نجاة خفية، إعجازية "خارج الأقدار"، لا يمكن اجتياز المسافات ـ كالبحر مثلًا ـ للوصول إليها. هي نجاة هزلية إذن. الذكرى التي لم تحدث حين تكتب الحكايات فإنها لا تبوح بسرها ولكنها تؤكد استحالتها. تكشف عن عدم قابليتها سوى أن تكون سرًا.

"أقدام أبي الثقيلة / وطيران أطفالي للجنة.. / الرقص مع الأشباح / والموسيقى عندما تنفلت / ثم تعود للمعطف.. / كلهم هنا / في نفس اللحظة الخاطفة / التي سقطت على رؤوسنا / وهي تتنهد..".

نلاحظ الدمج بين ما هو بصري وسمعي وحركي في تشكيل مؤمن سمير للحظة أشبه بمرآة من شظايا الماضي، وكأن هذا الدمج ـ كإرادة خيالية ـ يحاول استباق هذا التفتت، أي حينما كانت المرآة نفسها "مفهومًا متأصلًا" يواري غموضه في المكوّن الحسي المتظاهر بالانتماء الذي يعكسه. كأن مؤمن سمير يشيّد لحظة مناوئة للقهر المخبوء في غموض المرآة، بالعناصر الحسية نفسها، لا في تبعثر الشظايا وإنما في تحالفها، في حضورها بكيفية متواطئة تتقدم على "السقوط"، وكأنه يخلق لحظة خاطفة بديلة، متماسكة بطريقتها الخاصة، تحوم حول الذكرى المبهمة التي حدث هذا التفتت إثر غيابها. الذكرى التي حلت "ذاكرة الانمساخ" بدلًا منها ومن ثمّ لم تكن "المرآة" سوى لغم مدفون في صورة الماضي.  

"لكن جلدي يخذلني.. / كلما يمر الظلام عبره / يصحو في صندوقه / ويسدّ النوافذ / كأنه حريق عجوز.. / ثم يتثاءب / ويفتح القلوب على مصراعيها / كلما فاتت جوارنا / نظرة زائغة..".

لا تحتاج قصيدة ما لكلمة "بحر" على سبيل المثال لكي نبصر غريقًا، تقتحم الأطياف المشوّشة والمبتورة وعيه المنسحب. أطياف المسافات التي لم توجد، والخطوات التي توهمت المراوحة والثبات. الغرق مقيم في الجلد، الظلام، النوافذ، القلوب، النظرات الزائغة، أي في الحكايات التي تخطها الذكرى المستحيلة. الغرق مقيم حيث لا يحضر إلا السر، أي أنه ليس إلا كل شيء، وذلك تحديدًا ما كان يكفي مؤمن سمير لكي يوثق "حكمته الشعرية" المضادة لـ "الحكمة"، وتلاعبًا بالكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود" في قصيدة "هناك":

 "رأسي فارغ / نظرتي فارغة.. / إذن أنا هنا / إذن أنا حي..".

"هناك" هي نقيض الحضور، فأنا بقدر ما أتواجد "هناك"، أي حيث تغيب ذكرى حدوثي خارج الأقدار، بقدر ما أتنكر قسرًا في التواجد "هنا"، أي في العالم المنقطع عن المدى المحتجب الذي جعلني نسخة مناقضة لنفسي. جعلني ممرًا زائلًا للفراغ؛ أعرّف "عدم حضوري" بأنه "الحياة"، ومن ثمّ أطلق على "ذاكرتي" بأنها "كل الماضي" الذي يسبق الموت. كأنني لم أكن يومًا غير مهدد بالفناء في أسطورتي الحقيقية. هذا ما جعل "الأنا" مرجأة في عنوان المجموعة "أنت لا تخصني.. وأنا لا أخصك" بدلًا من أن يكون "أنا لا أخصك.. وأنت لا تخصني" .. إرجاء الأنا إقرار بـ "ذكراها المؤجلة".

 أخبار الأدب

2 فبراير 2025

تحميل العدد الخامس من مجلة "الناقد"


الاثنين، 13 يناير 2025

ورشة "القصة الرسائلية" وتوقيع كتاب "خيانة الأثر" بنادي القصة في المنصورة / مكتبة مصر العامة








 

أهم إصدارات 2024: جويس منصور فى كتابين لمحسن البلاسى

صورة موضوعية


ممدوح رزق

من بين إصدارات 2024 يتخذ كتابان للشاعر والتشكيلى والمترجم محسن البلاسى أهمية خاصة؛ ذلك لأنهما يتناولان الأيقونة السيريالية المصرية الفرنسية جويس منصور بجهد متفرد وكثافة جمالية مميزة، الكتاب الأول «قصص مؤذية» ويضم جميع الأعمال النثرية لجويس منصور، أما الكتاب الثانى «جويس منصور... طفلة مسك الروم» فهو عن حياة الكاتبة والمفكرة السيريالية التى ولدت عام 1928 فى بودين بإنجلترا ورحلت عام 1986 فى باريس.

قصص مؤذية
يضم الكتاب خمسة كتب: الراقدون الراضون، يوليوس قيصر، زرقة الصناديق (مسرحية)، الذى / التى، وقصص مؤذية. بالإضافة إلى دراسة مطولة للمترجم، وكذلك مقدمة كتبها الشاعر الفرنسى بيير باتيو.

إن قراءة الأعمال النثرية لجويس منصور أشبه بالإفاقة المضادة، انتباه يناقض الإدراك المروّض بالتطهر والرجاء، أشبه بالتسلل المرتعش جذلًا ورهبة عبر الصدوع والأغوار المتوعدة لمخطوطات سحر قديمة، أكثر بدائية من الحياة والموت، أى حيث اللغة لا تزال كامنة فى خامها الغيبي؛ لا يقين يحصنك من اللعنة، ولا معرفة تصد عنك الانتشاء بالموت.

جويس منصور على هذا النحو تجعلك تعيش حقًا؛ حين تفكك الحياة ذاتها فى بصيرتك الكابية؛ فتعثر على النقاء الوحشى لمذاقها المكبوت، تستيقظ من الغياب المحكوم بالوعى، لتسترد العدم الذى تحجبه الذاكرة، تتحوّل من فريسة للرموز والعلامات إلى مُطارِد لمتاهاتها المحترقة.

ذلك لأن نثر جويس منصور يفجر الهلع المترصد الذى يعبر بالنفس خارج التظاهر القيمى بالانسجام، نحو أسطوريتها المعادية للتمثل. شبحيتها المنتهكة للخلاص، تستعيد الذات كإعادة خلق تقويضية إبهامها الأزلى، كطيف متناثر مجرد من الوصايا حيث تبدّل الكوابيس مساراتها من الاختباء فى «اليقظة» إلى التوغل عبر الأشلاء الجسدية وأنقاض العالم باتجاه الصمت الذى تتبدد عنده الاحتمالات الكاذبة للنجاة.
 
«سقطت ورقة ميتة على فمى، وها هى رطوبته البرِّيَّة تستيقظ. أبحث عن نفسى لمدَّة دقيقة كاملة بين الحلقات المطَّاطية التى تحيط بالذاكرة: إنها تهرب. استيقظ بسرعة، كتاب يقع. عالم الصحراء. غادرت شارع Aubépines فى عجلة من أمرى، لأجد القِلادة التى تربطنا (ولكنْ، مَنْ يحمل السلسلة؟) أنا أتقدَّم، أسير على طول الحاجز، وأشير إلى علامات المرور الملوَّنة بلون النيون الأزرق المحبَّب لى هناك فى الجزء الخلفى من المستشفى، ووجود كلب أسود بجانبى يجيب عن الاسم شبه المَنسِيّ «يوتيك»، وأنواع أخرى جديدة.

حجاب من الغَيْرة فى أوج السُّرَّة. أسقط من أعلى الحاجز. سمعتُ أنه إذا قام الثعبان بتنظيف أُذُنَيْكَ فى أثناء النوم بعمق، فعند الاستيقاظ ستجد لسان الطيور قد أصبح واضحاً. إذا كان النوم هو السقوط، فما هى اليقظة؟».



جويس منصور... طفلة مسك الروم
«على مدار أكثر من ثلاثين عامًا تم تقديم جويس منصور للشرق الأوسط فقط كشاعرة إيروتيك، وتم تقييدها فى ذلك الإطار عبر حركة نقدية رجعية، وتم تجاهلها تمامًا كقاصة وفنانة بل وناقدة ومفكرة سيريالية، شاركت بشكل جذرى ومركزى فى صياغة وتشكيل الحركة السيريالية منذ خمسينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي.

خطاب جويس منصور الشعرى والسردى عالمى وهو صوت امرأة واعية بقوة اللغة كوسيلة مقاومة للعبودية الجسدية بشتى أشكالها الاجتماعية».

حياة جويس منصور هى سيرة الارتباك والغموض والمجازفات القلقة، استغراق فى سفر متأرجح من التنقيبات الاندفاعية نحو تقمص الألغاز والتشتت بوصفه سبيلًا خلًاقًا للوجود المغامر، للبصمة الفريدة بكل ما تنطوى عليه وتثيره من مراوغة.

 «وهكذا ندرك عند قراءة أعمال چويس منصور، التأثيرات التى ربما تكون قد تعرضت لها فى صالون مارى كافاديا، “علوم السحر كانت مألوفة لمفردات چويس منصور الشعرية، كما تتضفر مفرداتها مع عنفها الإيروتيكى حيث خط الدم والعرق والدموع ينسجم مع موضوعات الحب والموت”، وبفضل ترددها الدائم على هذا الصالون ولقائها بچورج حنين، وسفرها المتواصل إلى فرنسا قبل رحيلها النهائى إلى باريس عام 1956، حتى لو لم تكن تعرف أندريه بريتون بعد ولم تكن جزءًا من الحركة الباريسية.

أو عضوة رسمية فى الحركة السوريالية المصرية، شعرت چويس منصور بألفة مع السوريالية بعدما عرَّفها حنين على البيان الأول للسوريالية.

مثل العديد من المثقفين الناطقين بالفرنسية فى مصر، كانت چويس أيضًا مواكبة للحركات الأوروبية الطليعية الأخرى، بما فى ذلك السوريالية الباريسية، لكنها لم تعتبر نفسها شاعرة سوريالية بشكل مباشر».

صدر الكتاب عن دار صفصافة كاقتفاء أثر حاذق عبر أوراق جويس منصور بحثًا فى حياتها ومراسلاتها وعلاقاتها ومؤلفاتها ومسارات حركتها، أى فى ذلك التحريض المتعدد فائق الحساسية والعنف لارتحالها الذى يمزج بين الأسى والفوضى والدهشة فى استشرافات مغوية. حكايات مسكونة بالمخاطرة، تخاتل الزمن وتحفر شعريتها الخاصة فى أفق غائم مجابهًا الاحتيال الأبوى. 

«لم تكن چويس منصور ذلك النموذج للفتاة الأرستقراطية الغنية، عاشت فى القاهرة مراهقة صغيرة ثم زوجة وشاعرة شابة، بعد ذلك لم تكن مدللة من السورياليين فقط لإعجاب أندريه بريتون بها، لكنها قبل كل ذلك أحدثت ثورة إيروتيكية وفلسفية وشعرية وسوريالية لها ملامحها الخاصة وطريقها الخاص، منذ فترة مراهقتها المبكرة التى عاشتها فى مصر حيث عانت من تمزقات وجودية واجتماعية أرقت راحتها كسليلة لعائلة غنية ومستقرة».

دائمًا كنت أفكر فى أن جويس منصور شخصية روائية بكل ما تشمله حياتها وكتاباتها من ثراء انعزالى، وتحولات معاندة، واستراقات غاضبة أشبه بالاجتياح الثورى من أسر الاعتياد والتدجين والمسايرة دون تنكر فى رداء نضالى منسوج من عمومية مبتذلة.

أتصوّر بشكل شخصى جدًا أن كل رواية تتضمن صوتًا أنثويًا فإنها بطريقة ما تبحث عن جسد جويس منصور، عن روحها وكلماتها وعفويتها الحسية الماجنة، تبحث عن ذلك الطيش التدميرى بالغ الرقة والشراسة معًا، الذى يحلق فى السماء بقدر ما ينبش فى القبور.

«أرادت چويس باستمرار تكثيف اللغز الذى يحيط بها، فمزجت الحديث عن حياتها الأولى فى مصر بسير ذاتية كاذبة كثيرًا ما كانت تتحدث بها بفكاهة شعرية، كانت تحب أن تبث الارتباك مع الفكاهة، لتصنع أسطورتها الخاصة التى انتهت بأسطورة الشابة غريبة الأطوار، وكانت دائما تتحدث عن قرينة لها سترسلها لمن يريدون مقابلتها! مجدت الموت والصدمة الجسدية بتمزقاتها الوجودية التى تشعبت لثورة شعرية منذ رحلت والدتها وهى فى الخامسة عشرة من عمرها».

هذا العصيان هو فن جويس منصور، المسكوت عنه فى الصوت العابر المختنق بقهر أزلى، متفاخر بأبديته المحتومة. موسيقى الجموح التى تتلاعب بالخرس المُكره تحت سطوة المحظور، تلهو باليأس الصدئ الذى يكمم الجنون.

ذلك العصيان يحوّل الحياة إلى لعبة إيروسية تتحطم ويُعاد تكوينها بالشغف الماكر نفسه الذى تُرتكب به الجرائم فى أحلام الأطفال، لعبة تتفكك ويُعاد تركيبها بالحدة والخبث اللازمين للسخرية من الفناء، فن جويس منصور الذى يقتل الأمل فى الصباحات المشمسة الواعدة بالأوهام، ليبقيه حيًا فى الدماء الفاتنة المتدفقة عبر ليل الكتابة الحالك.

«نحن الذين ننتظر قفزتك الأخيرة 
لتمزيق إرادتك.
امرأة تقف فى منظر طبيعى خال من العيوب
الضوء القاسى على بطنها المنتفخ
امرأة غنية وحيدة بدون رذيلة أو صدر
امرأة تصرخ بازدرائها فى أحلام مضطربة
سيكون السرير جحيمها».

إنه خيال الزهرة النادرة أو رائحة هذيانها التى ترتكب البطش السيريالى كما لو أنه ليس إلهامًا فنيًا فحسب وإنما قرار شيطانى مقموع للحياة نفسها مثلما وصف أندريه بريتون «صرخات» جويس منصور فى رسالته إليها عام 1954:

«لقد تأثرت بهذه الكلمات، بكتاباتك التى منحتنى النعمة لمرافقتها. أنا أعشق الشيطان فقط وأنت تعيدينه للحياة».

الإثنين، 06 يناير 2025 - 04:25 م