الاثنين، 30 أبريل 2018

تدوينات القراءة: كيف يبرر الخطاب نفسه؟ (3)


يرتبط الغموض، وغياب الحكمة بموضوع آخر وهو انتفاء ما يُسمى بالتماسك البنائي؛ إذ يتم توجيه الانتقادات الثابتة لعدم وجود معطيات كافية، أو تسلسل منطقي للأحداث، أو تفسيرات عقلية مقبولة للتحولات أو الانتقالات المفاجئة، أو تبريرات حاسمة لدوافع الشخصيات وسلوكياتها، أو التزام بالمسارات الأساسية المتناغمة للسرد، أو التوافق بين اللغة ووعي الشخصيات وطبيعة الأماكن، أو الحصول على نهاية مشبعة تنسجم مع السياق الروائي.
يرجع هذا الارتباط إلى ما يقدمه هذا "التماسك البنائي" من دعم للوضوح المنتظر في العمل الأدبي، ولسهولة استخلاص "المعنى"، والحصول على "الاستفادة" أي "المتعة المعرفية والجمالية"؛ فالفهم لن يصبح عملية شاقة إذا كان كل شيء مرتبًا، يتنامى عبر نظام متوازن، وينتهي بعفوية محكمة .. هل يجب أن نتذكر الآن هيكلة تقرير تحكيم العمل لجائزة كتارا للرواية العربية والتي ناقشتها في مقال سابق؟:
"من السهل ملاحظة أنه في مقابل استخدام واضعي هذه الهيكلة لكلمات مثل: (تجريبي ـ غير مألوف ـ غير تقليدي ـ تجديد ـ طريف ـ ابتكار ـ غير مقلّد)؛ سنجد استخدامًا آخر لكلمات مثل: (بناء ـ خبرة ـ سلامة ـ بنية ـ إحكام ـ ترابط ـ تناسب ـ توظيف ـ مواءمة ـ خلاص ـ انتماء) .. كأن هناك خطاب يتم تكريسه عبر هذه الهيكلة يفيد بتحديد شروط للتجريب، وقواعد للخروج عن المألوف، ومعايير للابتكار .. لكن هذا الخطاب ـ بصرف النظر عن فكرة التقييم بالدرجات في حد ذاتها ـ لا يكرّس لهذا حقًا بقدر ما يؤكد أنه نتيجة هذه الشروط والقواعد والمعايير فإن كلمات: (تجريبي ـ غير مألوف ـ غير تقليدي ... إلخ) ليست سوى لافتات ضرورية أو عناوين رسمية ينبغي على أي جائزة ـ إن أرادت ذلك ـ أن تعطي بواسطتها صورة متوازنة لنفسها، تحميها استباقيًا ـ بحسب ما تعتقد ـ من النقد أو الاتهام بالرجعية، وفي نفس الوقت لا تحرم وجودها في (الحياة الثقافية) من وجاهة (المعاصرة) عبر استعمال كلمات ليس هناك أسهل من استهلاكها دون اهتمام يتخطى تدوينها في (هيكلة(".
يبرر خطاب التدوينات شهوة "التماسك البنائي" بذلك الإيمان الجذري ـ غير القابل للمساومة ـ بأن جميع النصوص لابد أن تمتلك ما يُعتقد أنها "صلابة" مماثلة لتلك التي تتسم بها المتون التأسيسية سواء كانت قصصًا تنتمي إلى كتب الديانات، أو حكايات قديمة تُشكل "التراث" بأصوله وتناسخاته الشفاهية والكتابية، أو تاريخًا أدبيًا توطد عبر الزمن كذاكرة جماعية راسخة من النصوص التراكمية التي تعاملت مع هذه القصص والحكايات العتيقة كأشكال متعددة لمنهج مقدس .. تماسك البنية إذن ليس بداهة شكلية، بل دليلًا على إيمان الكاتب بما يعتقده الجميع، وتصديقه للمُثّل والغايات التي يخضع لها القرّاء بصوّر متفاوتة.
من اليسير بالضرورة ملاحظة الصفات العدائية التي يمنحها المدونون لما يبدو أنه "خلل" في هذا التماسك: ترهل .. تفكك .. تشتت .. حشو ... إلخ؛ فكاتب الريفيوهات الممتلئ بما يكفي من النطاعة، والذي يميّز نفسه أحيانًا كناقد عن المراجعين الآخرين، لديه مشكلة حقيقية في التحدث عن ذاته؛ فهو دائم الإشارة إلى "القارئ" حينما "ينتقد" أمرًا ما، كأنه يردد طوال الوقت بأن ما يثير استياءه شخصيًا لاشك أنه سيثير استياء القراء كافة، والذين يتم اختزالهم وتجميعهم غصبًا في هذا الكيان الكوني، الكلي، المطلق، الشامل، الثابت، المحدد والمتوهم الذي يُسمى "القارئ" .. لا يوجد شيء نسبي هنا؛ فهذا المُراجع يتحدث باسم الجميع، وحينما يرى تفاصيل "غير مهمة" في عمل ما، أو عشوائية، أو عدم ترابط فإن المشاعر السلبية التي ستنتابه نتيجة لهذا "لابد" أنها ستصيب كل من سيقرأ هذا العمل، وبالتأكيد فإن هذه الأحكام (التقييمية) أسهل بكثير جدًا ـ حيث يظهر الفرق الجوهري ربما بين المراجع والناقد ـ من محاولة اكتشاف العلاقات المخبوءة بين هذه التفاصيل "غير المهمة" والتفاصيل الضرورية الأخرى، أو بناء هذه الصلات وفقًا لبصيرة تبتكر دائمًا ألعابها الخاصة، أو إضاءة الفراغات المتوارية التي يُحتمل أن يتلاقى داخلها ما هو "عشوائي" وما يبدو أنه أصل للحكاية، أو خلق استفهام تخييلي يضم الشذرات أو "الأشلاء المتفرقة" التي تظهر للوهلة الأولى كنتوءات خارج النسق السردي ويعطيها بالتالي آفاقًا تأويلية أبعد من الحدود البسيطة المباشرة، كما أن الإدانة السطحية أسهل بكثير جدًا من الصمت حينما يعجز المدوّن عن أن يقوم بما سبق .. ذلك بالإضافة أيضًا إلى عدم قدرة هذا النوع من كتّاب الريفيوهات على التفرقة بين "القارئ" الذي أبدى بالفعل من خلال مراجعاته عن الكتب نوعًا من الانحياز المشترك مع قراء آخرين في ظواهر معرفية وجمالية معينة، وبين الكائن المختلق الذي لا وجود له، الممثل للقراءة ذاتها ـ مثلما تحدثت في مقال سابق ـ المتنكّر لأي اختلاف أوتضاد بين القرّاء، والذي يفرض عليه قهرًا هذا المُراجع وعلى نحو مجاني كل تعارض أو تنافر بينه وبين عمل أدبي حتى يُكسب رأيه الشخصي ـ أو بالأحرى رؤيته القاصرة ـ مصداقية زائفة خارج حدوده الذاتية اسمها "القارئ"، وكذلك بين "القارئ" الذي تتم مخاطبته ضمنيًا أحيانًا، أو بشكل مباشر في وضعيته الاعتبارية القابلة للتجسد عندما يقبل اقتراحًا معينًا للتفكير أو النظر أو الالتفات إلى زاوية أو إلهام أو تساؤل ما داخل النص من قِبل الناقد، وهو الأمر المناقض لليقين بوجود "قارئ مهمين" من الحتمي أن يرفض "شيئًا سيئًا" بعينه داخل هذا النص.
هنا يعمل الخطاب ـ كما سبق وأشرت ـ كآلية ضبط وعقاب؛ إذ لابد أن يكون ما يراه هذا القارئ من عدم وجود معطيات كافية، أو تسلسل منطقي للأحداث، أو تفسيرات عقلية مقبولة للتحولات أو الانتقالات المفاجئة، أو تبريرات حاسمة لدوافع الشخصيات وسلوكياتها، أو التزام بالمسارات الأساسية المتناغمة للسرد، أو التوافق بين اللغة ووعي الشخصيات وطبيعة الأماكن، أو الحصول على نهاية مشبعة تنسجم مع السياق الروائي؛ لابد أن يكون هذا أمرًا مُسيئًا للعمل الأدبي يتوجب مواجهته، كما لابد ألا يكون هذا حكمًا شخصيًا لهذا القارئ بل يجب أن يكون حكمًا عامًا لجميع القراء، وهو بهذا التعميم القسري لا يحاول ضبط "الطريقة" التي تبناها الكاتب في هذا العمل، وعقابه على استخدامها؛ بل تصحيح جزائي لفساد الصلة أو انقطاعها بين هذا الكاتب والمبادئ الشاملة للحياة التي أكدها تراث إلهي مُلزم، وهو بمثابة الضلال الذي دفعه للكتابة بهذه الطريقة "الخاطئة".
موقع (الكتابة) ـ 29 إبريل 2018

الأحد، 29 أبريل 2018

أوراق سكندرية: التاريخ كجدل روائي

أتصوّر أن هناك سمة لافتة في سرد "جميل عطية ابراهيم" تقترن بالفكرة التي ربما تبدو أساسية عن عالمه الروائي بشكل عام، وأقصد بها أن هذا العالم يمثل تجربة ممتدة لواحد من أكثر الكتّاب المهمومين بالتاريخ المصري وتحولاته، وبمدى التأثير الذي تفرضه الإرادات المتغيرة للعالم على هذه التحولات .. هذه السمة تتعلق بالحرص الذي يتجلى عفويًا على عدم التورط في التحيّز الانفعالي عند مقاربة هذا التاريخ .. في المقابل يمكن الشعور بضرورة مناقضة لتثبيت ما قد يسمى بالطبيعة المثالية المفتقدة للتعايش كسياق حتمي عند التنقل من صراع لآخر .. هذه الطبيعة لا يمكن ملامستها ـ نظرًا لغيابها ـ وإنما يمكن إدراك المحاولات الدائمة للوصول إليها، للعثور عليها كحقيقة مختفية كانت مجسّدة في زمن ما، أو لخلقها كأنما هناك دلائل وعلامات في الماضي تؤكد بصورة دامغة أنها كانت تمهيدًا واقعيًا لها .. في نفس الوقت لا تُطالِب هذه الطبيعة بالتصديق أو الرفض بل بالتفكير في كيفية العمل لبلوغها، في اختلاف الظواهر الساعية للكشف عنها، في صور كفاحها لإثبات وجودها، في إشارات هدمها لنفسها .. من هذه النقطة يمكنني العبور إلى رواية "أوراق سكندرية" الصادرة عن دار الهلال عام 1997، حيث أراقب كيف يعمّق "جميل عطية ابراهيم" ملامحه السردية التي تكوّن ما يشبه ذاتًا أو هوية من خلال هذا العمل، أي عبر خصوصيته الأدائية.
(قامت سيلفي معهم. الرفاعي أكثرهم قلقًا. تحركت سيلفي ناحية الباب، أما الرفاعي فكان أسرعهم إلى الخروج. سار موكبهم، وضحك عجيب كفافي كما لم يضحك منذ قدومه إلى القاهرة، هذه عي بلد العجائب، رفاعية وباشوات، وثعابين تهرب من موردين في ظل حرية التجارة وتحرير الأسواق. تجارة الثعابين أصبحت مثل تجارة المخدرات مربحة، هذا صباح لن ينساه).
يبدو "جميل عطية ابراهيم" في رواية "أوراق سكندرية" كأنما يبحث في الفراغ، أي بين الحكايات والشخصيات والأماكن والذكريات عن حياة لها أكثر من وجه أو أكثر من احتمال .. هذه الحياة قد تكون زمنًا شخصيًا، وقد تكون زمنًا مفارقًا، وربما زمن انتقائي، ينتزع ما يليق به خارج الوحشية الكرونولجية، وتعيّن كل شخصية موقعها الصحيح في علاقاته .. لكن "جميل عطية ابراهيم" في الوقت نفسه يمرر انطباعًا بأن البحث عن هذه الحياة، وليس إيجادها، هو ما يحوّل "التاريخ" إلى "تأريخ" بواسطة حركة الذات في مواجهة قدرها، أو ما يظهر لها بوصفه "مواجهة"، مستثمرًا "الإسكندرية" كفضاء يتجاوز فكرة المدينة باعتبارها مسرحًا تتناسل مشاهده المتتابعة.
(الإسكندرية مليئة بالأشباح، أشباح تتحدث مع الناس، وتقضي لهم حوائجهم، في النهار والليل، وها أنا قد أسلمت حياتي، لهذه المرأة الشبح. كانت تبحث عن أثر لها قبل أن تمد يدها إلى الطعام، قائلة: لن آكل من طبيخ العفاريت، فكنت أطلعها على الأوراق الصغيرة التي تكتبها لي بخصوص الأسعار، وطلباتها، وأخبارها أيضًا، فتطلب مني ميراندا ترجمتها قبل أن تأكل. هذه حيلة من حيل ميراندا لتعرف أخبار البنت، وقد تقبلتها منها، كما أن حكاية الأشباح هذه راقتني، واستخدمتها من جانبي في التخلص من مآزق ميراندا المحرجة التي تضعني فيها، بسبب طيشها ورعونتها).
يكتب "جميل عطية ابراهيم" عبارات قصيرة موجزة ومتباعدة، كأنها تُنطق بأنفاس متقطعة لتعطي إيحاءًا بأنها نبرة شخص متعب .. كأن من يتحدث هي شيخوخة الراوي نفسها مصحوبة بشيخوخة التفاصيل والأشياء التي يتكلم عنها تحت الثقل المتراكم للفقدان .. هي في جانب منها تشبه الاستسلام لذات استنزفت كل طاقاتها في حروب قديمة خاسرة، وأدركت اقترابها من النهاية .. كأنها تعبير أيضًا عن عدم تصديق له إيقاع الاستعطاف أملا في غاية ملتبسة، بوسعها أن تنجم عن حقيقة مجهولة توجد في بُعد ما.
(سرت في ممرات خالية، وجلست سنين في مكتبك تطل على البحيرة، تسود الأوراق، نسيت عشرة الناس،، لا كلمة حلوة، ولا خبر يثلج الصدر، بل هي أخبار الهزائم. حطت الكوارث عليك يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وسنة بعد سنة حتى ضاع العمر ولم يطلع قمر أيامك، صباح الخير تنطق بها بعدة لغات حتى فقدت معناها ومللتها، توحشت يا عجيب. تهز رأسك لمن تعرفه وقد توقفت عن الكلام، قبضة يدك "مرزبة"، يا ليتك تفرغت لتقطيع الحجارة في جبل المقطم، وتركت الترجمة لأصحابها، فهذه ليست مهنتك).
إذا كانت قراءة أعمال "جميل عطية ابراهيم" يمكنها أن تدفعنا للتفكير في علاقة التوثيق السياسي والتاريخي بفن الرواية فهي ستضعنا بالتالي أمام أسئة التخطي المفترض للتوثيق نحو الجماليات السردية .. كيف تتحوّل ثورة 1919 مثلا، أو تاريخ الطبقة العاملة المصرية، أو تاريخ الفكر الاشتراكي في مصر، وهي الموضوعات التي استفاد "جميل عطية ابراهيم" من مصادر لها في "أوراق سكندرية" بحسب التنويه في نهاية الرواية؛ كيف تتحوّل هذه الموضوعات المتاحة كأحداث ومراجع إلى عمل روائي، لا يقدم نفسه كإعادة تدوير لما سبقه، أي أن يستخدم نفس الأساليب ونفس الإجابات، ولا كنسخة تقريرية أخرى من مصادر التوثيق، أي أن تضيع الحياة بغموضها وتمنّعها لصالح القضية؟.
(أدارت سيلفي محرك سيارتها. تنتظرني، قلت لها:
ـ هذه نظرة أخيرة يا سيلفي. ربما العمر لا يسمح.
نظرت إليّ فزعة، قالت من قلبها:
ـ بعد الشر يا أستاذ عجيب.
في الماضي سرت في جنازة أبي، حمل المشيعون النعش من البيت إلى الجامع، وبعدها توجهنا إلى مقابر الأسرة في مدافن الإمام الشافعي. هذه المرة، شيعته بمفردي).
أعتقد أن "جميل عطية ابراهيم" يقدم دائمًا النماذج التي تبقى مرتبطة بالفن أكثر مما تسعى للوجود داخل حصار السياسة والتاريخ، وهو في هذا يذكرني بحيثيات دفاع (سارتر) عن (الأدب الملتزم) من زاوية ارتباطه بالحرية واتخاذ موقف من العالم، ولكن دون أن نرهن كتابة "جميل عطية ابراهيم" بأي من المعايير والحدود التي تريد للوعي أن يتخذ أنساقًا أقرب إلى أحلام النبوة.
مجلة "عالم الكتاب" ـ يناير 2018

الخميس، 26 أبريل 2018

هل يختفي أدب الخيال العلمي؟

يواجه كاتب الخيال العلمي في تصوّري نوعين أساسيين من القمع: الأول يتعلّق بالسلطة الثقافية، وهرميتها القيمية المنحازة، التي تتحكم في الوعي العام، وسوق النشر، وحركة التداول. أما الثاني فيرجع إلى الجمود الذاتي ـ وله أسباب متعددة ـ الذي يمنع أعمال الكتّاب من أن تقدّم تمردًا ـ عصريًا ـ فعليًا على الخبرة النمطية لهذا النوع من الكتابة. يبقى الفرق بين رواية الخيال العلمي والرواية المعرفية إضافة إلى الاعتماد الجوهري على ما بعد "العلوم الطبيعية" متضمنًا المسارات الفلسفية والتاريخية المختلفة، والقدرة على التخطي الخيالي للأنساق "المعلوماتية"، هو وضع تاريخ كتابة الخيال العلمي موضع المساءلة عند كل كتابة كأنها مفترق للطرق. هذا ما يجعل "المعرفة" في نطاق غير وظيفي، أي غير محدد باستعمال المعلومات كذاكرة مستدعاة فحسب، بل يتعمّد هذا النطاق تحفيزها أيضًا على مقاومة براهينها. أعتقد أنه على كاتب الخيال العلمي ـ فضلا عن كونه مطالبًا بتوزيع مسارات انشغاله وطرق اكتسابه لـ "خامات" المعرفة، حيث كل شيء يقبل التورط ـ  عليه أيضًا عدم التوقف عن محاكمة الفوارق الشائعة بين الخيال والعلم، وعدم الاعتماد ـ كما كان الحال أغلب الوقت ـ على الاستشراف الغرائبي أو التنبؤ الإعجازي، وأن يدفع بالفلسفة ـ أي العمل غير المنضبط للفكر ـ نحو اللعب بثنائية الحلم والواقع لمراوغة أصولها المحتملة، وكذلك النظر إلى هذه الأداءات كأرق يلزم ما سبق وأسميته بـ (أحلام الطبيعة العجائبية لـ "العلم" في المتن القصصي)، أي أن هذه الأداءات تمثل إعادة كتابة لتاريخ أدب الخيال العلمي.
جريدة (الأخبار) المصرية ـ 25 إبريل 2018

الأربعاء، 25 أبريل 2018

رحيق العالم ... جدل الغواية

يطرح المترجم أحمد أبو الخير في مقدمة كتابه "رحيق العالم" الصادر حديثاً عن منشورات الربيع في القاهرة خيطاً ملهماً يمكن استثماره خلال قراءة مجموعة الحوارت المترجمة التي تضمنها الكتاب. هذا الخيط يتعلق بما أسماه أبو الخير "البحث في الجذور التاريخية لمفهوم الحوار"، وتحديداً بالغواية الإبليسية لآدم كنقطة بدء محتملة. لكن استثمار هذا الخيط لا يفترض الالتزام بأي نوع من التحديد، بل هو انشغال ومراقبة للاستفهامات في المقام الأول: من يأخذ في هذه الحوارت دور الشيطان؟، وهل يظل محتفظاً طوال الوقت بهذا الدور أم يتم تبادله مع الطرف الآخر؟. ما هي طبيعة "الغواية"؟، وأي نتائج أو إضاءات تُفضي إليها؟. هل يقتصر وجود "الشيطان"، وبالضرورة "الغواية" داخل الحوار فقط، أي بين الطرفين الظاهريين اللذين يمثلان قاعدتيه الأساسيتين؟، أم أن هذا الشيطان يوجد على عكس ما يبدو خارج المشهد الحواري، وأن الغواية ـ نتيجة لهذه المسافة الفاصلة ـ تخلق وتنضج مكائدها لدى هذا الطرف الثالث أي "القارئ"، والذي لم يكن شريكاً في البدء، وإنما أصبح مدبراً أساسياً بفضل اقتفاء الأثر وتفحص الاحتمالات؟. ألا يفترض بالحوار وفقًا لهذا أن يتضمن أكثر من متكلم وأكثر من مخاطب إليه، أي تعددية متغيرة بين "الشيطان" و"آدم" توسّع حدود مشهد الغواية الجدلي المؤلّف بين شخصين إلى لانهائية من المضاعفات المتواصلة؟.
لنتأمل مثلاً إجابة سيمون دي بوفوار حول سؤال عن رؤيتها لنفسها كمخدوعة عند النظر إلى سنوات المراهقة الساذجة: "كان لديّ ما أردته، وعندما يكون كل شيء قد قيل وفعل، فما يريده المرء هو دائمًا شيء آخر".
ليس الحوار مجرد تذكير أو نقاش حول الشيء "الأبعد والمتواري خلف هدف الرغبة" بل محاولة أخرى لصياغة إبهامه. محاولة تعيين جديدة لموقعه الغامض. التفكير في ماهية القوة العدائية التي تحدد الإرادة، وتقود إلى تحقيق غايتها، مؤكدة في الوقت نفسه على الاستحالة الدائمة لبلوغ حقيقة ما كانت تقصده خلف نجاحها. ما هي الأطراف التي تأخذ هويات متعارضة في هذا "الخداع"، أو في "الفراغ المتجذر داخل إنجازات الإنسان" بحسب الرفض المشترك بين بوفوار وسارتر للتوليفة بين الوجود والكينونة؟، وهل من الأنسب حقاً أن نمنح هذه الهويات صفة التعارض أم أن لكل منها دوره "الكوني" في التواطؤ؟.
فلاديمير نابوكوف الذي يشير في بداية حواره إلى عدم اهتمامه بالحكم الأخلاقي للعلاقة بين همبرت ولوليتا، نلمس في إجاباته على الأسئلة اللاحقة ميلاً غاضباً أشبه بالهوس الثأري لإطلاق الأحكام القيمية تجاه كتابات معاصريه: مبتذل ـ سوقي ـ مزيف ـ فج ـ أحمق، مندفعاً بهذه الكراهية الإلهية من رمزية فرويد مروراً بالتجريديين والسيرياليين وحتى أولئك الذين لا يعنون شيئاً بالنسبه له: بريخت، فوكنر، كامو، أو "الذين يشكلون التفاهة بعينها" كما يقول .. حسنًا؛ ليفكر الشيطان في ما وراء "الغواية" أو الاحتياج المرير لنابوكوف كي يعبّر بهذه اللامبالاة التنكرية عن عدم قبوله لهؤلاء الكتّاب بتلك الطريقة "الاستعراضية" التي يمكن أن تُستعمل بسهولة مماثلة لدى كاتب "مبتذل" في قوائم لعناته. أتخيل لو أن أحد "السوقيين" قد قام بتمزيق رواية "العين" مثلاً أمام حشد مثلما فعل نابوكوف بـ "دون كيشوت"، أو وصف كاتب "مزيف" نابوكوف بأنه كاتب لا قيمة له مثلما وصف "جوجول". ليس نابوكوف هو الشيطان هنا بل آدم الذي يضع "فردوسه" المفقود في مقابل "جحيم" الآخر الذي حرمه من جنة طوباوية كانت تتصدر طموحه النرجسي، ويرى نفسه جديرًا بالاستئثار بها. هذا الفردوس ليس مجرد كفاح نحو وضعية إلهية داخل الهراء النخبوي المروّع أو "المؤامرة المتملقة ضد عقله" بحسب تعبيره، بقدر ما هي سلطة جمالية على التاريخ الأدبي نفسه الذي كان يجدر به معاقبة "يقظة فينيغان" وقتل فكرة "الترتيب التنافسي المعاصر للكتّاب" في مهدها. هو آدم غير المعني بالأمر، المستعد دائماً للانفجار معلناً ـ بمنتهى الهشاشة اللائقة "آراء قوية" ـ وهو عنوان لأحد كتب نابوكوف ـ عن ما الذي ينبغي أن يكون عليه "الكاتب الحقيقي".
حالة مشابهة نجدها عند "ترومان كابوتي" في الحوار الذي يبدأ خلال إحدى إجاباته إقرارًا بـ "عدم إمكانية تحديد ما هو الأسلوب" مقترنًا بالتأكيد على أن "كل الكتّاب لديهم أسلوب" لينتهي ـ في الإجابة ذاتها ـ باستعراض "عديمي الأسلوب" أو "الضاربين على الآلة الكاتبة" كما وصفهم، أي الذين بحسب يقينه "ليسوا كتّاباً" بالنقيض ـ طبعاً ـ مع كابوتي. هي تقريبًا الغواية ذاتها التي رأيناها عند فلاديمير نابوكوف، التي لا تكشف الضعف الناقم، ولا التناقضات المرتعشة فحسب، بل تفضح شكلاً من الاحتياج لن نجده مثلاً عند وودي آلن في الحوار الذي اقتبس من نهايته: "أشعر بأنني لم أفعل حقاً أي عمل ذي مكانة براقة وأصبح علامة، أياً يكن الوسيط الذي عملت فيه، أشعر بهذا بشكل صريح. أشعر بأن الكثير مما فعلته في حياتي هو نوع من أنواع الثًقل الذي ينتظر الرفع عن طريق اثنين أو ثلاثة من الأعمال الجيدة حقاً والتي آمل أن تأتي".
لا تتعلق المسألة هنا بالتواضع ـ سواء كان صادقاً أو مدعياً ـ بل بغواية مختلفة. بكون وودي آلن شيطاناً من النوع الذي يقدر على تمييز آخرين داخل جنة ما يحسب نفسه خارجها مهما اختبر من اللحظات التي جاهدت لإثبات عكس هذا التصور. الآخرون الذين من المحتمل أنهم يفكرون في أنفسهم بهذه الكيفية التي تذكرنا في جانب منها بما وراء الرغبة المتحققة عند سيمون دي بوفوار. الشيطان الذي لا يريد إخراج آدم من الفردوس المعاند، ولكنه يفكر كثيراً في أنه لا يريد هذه الجنة أصلاً، بل يريد أن يُشبع فقط ـ ولو لمرة واحدة ـ ذلك الجوع الملغز والمتمنع الذي يحتله بإصرار، ولم يرتكب بعد ـ وربما لن يشعر أبداً بذلك ـ ما ينبغي أن يفعله تجاه إلحاحه القهري الذي لا يهمد. هذا الجوع هو تمرد على فكرة الفردوس ذاتها، وهي واحدة من الحساسيات الغريزية المألوفة في أفلام وودي آلن وكتاباته.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 24 إبريل 2018

الاثنين، 23 أبريل 2018

الذكرى السرية لبول شيلدون وإيني ويكلس


أعادتني أمي إلى بيت العائلة .. لا أدري لماذا، أو كيف، لكنني أدركت أنها لن تسمح لي بمغادرته أيضًا .. لم أستطع أن أسألها عما حدث؛ كانت عيناها المرتخيتين بوهن مستسلم تقولان أنها لن تخبرني بأي شيء .. أصبحت أنا وهي نعيش وحدنا في البيت الذي عرفت أنه سيظل مظلمًا طوال الوقت، وأن الليل خارج نوافذه الموصدة بإحكام لن يخمد أبدًا .. مثلما كنا دائمًا منذ زمن بعيد؛ لم نتبادل سوى أقل الكلمات الضرورية، التي تُسيّر الحياة، لكنها لا تكشف أسرارها بل تضمن بقاءها في طي الكتمان .. كانت تؤدي كما تعوّدت في الماضي جميع المهام المنزلية في صمت منهك، ولم تقصّر مطلقًا في توفير العناية الأمومية التقليدية لي، وبشكل ـ كالمعتاد ـ مجرّد من العاطفة المعلنة .. كانت الرهبة الوحشية للغموض تتزايد مع التفكير في الأسباب المبهمة التي جعلت أمي ليست في حاجة للخروج من البيت أو حتى للنظر خارجه، بالإضافة إلى الدوافع التي جعلت الآخرين في الخارج والذين أسمع أصواتهم بوضوح لا يرغبون في طرق الباب الذي تحتفظ بمفتاحه ولو مرة واحدة .. كان من البديهي أن أحاول الهرب، ومع ذلك لم أقدم على تحقيق هذه الضرورة .. كنت أعلم تمامًا أنها ستنجح في منعي .. لم أكن مريضًا أو مصابًا، وإنما كنت رجلا سليمًا في الأربعين، ولكنني استوعبت كيقين عفوي، لا يحتاج لأدلة منطقية أن هذه العجوز المريضة التي تجاوزت السبعين ستمتلك ـ بكيفية مجهولة ـ من القوة الاستثنائية المفاجئة ما يكفي لإجهاض محاولاتي عند ظهور أي بادرة لها .. لم أحاول استغلال نومها كي أجرّب فتح النوافذ، أو الوصول إلى مفتاح البيت، وبالتأكيد لم أحاول الصراخ .. لم يكن معي هاتفي المحمول، أما تليفون البيت فكان من السهل استنتاج أن الحرارة قد فُصلت عنه، وبالطبع لم تكن أمي تمتلك هاتفًا .. سمحت لي بالكتابة حينما طلبت منها ذلك، ولكن كان شرطها الوحيد أن أكتب رواية تحوّل الماضي إلى حياة تعويضية شاملة، مصححة بدقة، من الجمال المثالي .. كانت تريدني أن أكتب شيئًا مناقضًا تمامًا لما تعرف أنني أكتبه دائمًا: لا أحداث واقعية سيئة .. لا تجرّؤ على القدر .. لا تخيلات شيطانية أو كلمات بذيئة .. أحضرت لي رزمة كبيرة من الصفحات البيضاء كانت تحتفظ بها بالإضافة إلى الأقلام، كما سمحت لي أيضًا أن أضيء حجرة مكتبي القديمة كي أتمكن من الكتابة .. أصبحت هذه الحجرة هي المكان الوحيد الذي ينبعث منه النور داخل البيت .. كانت تستجيب بمنتهى الطاعة الطفولية والرجاء المترقب لرفضي الصارم إطلاعها على ما أكتبه، أو حتى على فكرة مختصرة للرواية التي أجبرتها على الانتظار حتى انتهائي منها .. كانت مساحة اللغة اليومية بيننا تتسع مع تنامي شعورها بالسعادة وهي تتابع الامتلاء المتواصل للصفحات البيضاء بالعبارات البعيدة عن متناولها .. عدا المزحة الاعترافية بأن خطي أصبح لطفل في العاشرة بعد سنوات طويلة من عدم استعمال الورقة والقلم، واستخدام اللابتوب الذي سُجنت بدونه؛ عدا ذلك ظلت الكلمات بيني وبين أمي ـ رغم تزايدها ـ مقتصرة على ما هو لازم فحسب، لا تقترب مما حدث قبل أن تُعيدني إلى البيت، ولا تناوش أي مصير محتمل لهذا الاحتجاز الملغز .. لم أرغب في خسارة هذا التغيير بمحاولة إدراجه ضمن صفقة تقترح على أمي إطلاق سراحي مقابل إنجاز الرواية التي ترغبها .. كان لدي تأكدًا تامًا من أنها لن تُنهي هذا الاعتقال مهما أنجزت من كتابات مرضية؛ لذا كان ينبغي أن أحافظ على غنيمة الأوراق والأقلام التي منحتها لي .. بعد وقت طويل أدركت أن ما كتبته طوال الفترة الماضية يفرض عدم بقائي في بيت العائلة لحظة أخرى .. كان يتعيّن عليّ الخروج بهذه الأوراق في أسرع وقت ممكن .. غادرت حجرة مكتبي المضاءة بالنيون الأبيض إلى الصالة المظلمة فوجدت أمي تقف بانتظاري، وتتمعّن في وجهي بنظرة تؤكد معرفتها بحقيقة ما كتبته، والذي كان معاديًا كليًا لما أرادته، وبأنني قررت أن أتركها الآن .. أمسكت كتفيّ بيدين صلبتين، وتجاعيدها الذابلة تصرخ بغضب عارم دون أن تنفرج شفتاها الصغيرتين .. تملصت منها بصعوبة بالغة ثم جريت إلى الداخل بعيدًا عن باب البيت الذي كانت تحول بيني وبينه .. أسرعت خلفي ولحقت بي ثم دفعتني نحو الجدار بقبضتيها المغتلتين وأمسكت برزمة الأوراق التي أحملها محاولة أخذها من بين يديّ اللتين تتشبثان بها .. استجمعت كل ما لدي من طاقة لانتزاع الأوراق بعدما شعرت أنها قاربت الحصول عليها .. أعدت الرزمة إلى ما بين ذراعي وصدري عنوة ليختل توازن أمي بشكل بسيط، وتسقط بإحدى ركبتيها على الأرض بعدما أصبحت تقبض على الفراغ؛ فانتهزت ذلك وأسرعت نحو باب البيت الذي اكتشفت عندما أدرت مقبضه بيأس أنه لم يكن مغلقًا بالمفتاح مثلمًا تصورت دائمًا .. أدرت عينيّ نحو أمي التي استردت توازنها فورًا، وعاودت الاندفاع خلفي وقد تحوّل الغضب في وجهها إلى شراسة صامتة .. نزلت السلالم جريًا حتى وصلت إلى الشارع، وحينما شعرت أنني أصبحت أمتلك مع المخطوط الذي أحتضنه بين يديّ حريتنا أخيرًا؛ قررت الوقوف داخل سكون الشارع المعتم إلا من أنوار متباعدة غاية في الشحوب انتظارًا لرؤية أمي .. كان يجب أن أطمئن عليها، وحينئذ سيمكنني مواصلة الهروب دون أن تلحق بي .. ظللت واقفًا في انتظار ظهورها، لكنها لم تخرج .. اقتربت بحذر من بوابة البيت متطلعًا إلى السلالم فوجدتها خالية .. رفعت رأسي إلى الشرفة عسى أن أجدها لكنها لم تكن هناك ..  فجأة عرفت أن أمي لن تظهر أمامي مطلقًا؛ فهي لم تعد هناك .. عرفت أنني حينما غادرت البيت الآن فإنها قد غادرته أيضًا، وأنني حينما أخطو مبتعدًا عن هذا الشارع ومعي هذه الأوراق فإنها ستتحرك في نفس الاتجاه دون أن أراها.

الجمعة، 20 أبريل 2018

"مدينة الحوائط اللانهائية": ما تحتاجه الأسطورة


استمتعت كثيرًا بقراءة مجموعة "مدينة الحوائط اللانهائية" للكاتب "طارق إمام" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، والحقيقة أن "طارق إمام" يقدّم ما أراه تطبيقًا ناجحًا لفكرة "التأليف" التي تمزج بين التخييل في نطاقه العفوي ونتائجه غير الناشئة عن قصد حاسم، أي الخاضع للإلهام، وبين الاختلاق الكلي، المتعمّد، القابض بوعي تام على ما يهندسه من أكاذيب، دون تحريض مبهم سابق الوجود. هي الفكرة التي تُعامل أحيانًا على نحو مجاني بنوع من الابتذال. استفاد "طارق إمام" من ذخيرة قصصية متعددة، ليست جميعها تراثية بالتأكيد، ولكنها أعمال تنتمي بشكل أو بآخر إلى هذا العالم "الخرافي"، تستلهم روحه، وتستعمل أساليبه، وتعتمد على منطقه العجائبي وتستدعي جزئياته الغرائبية، لكن هذه الاستفادة كانت داعمة لقدرة بارعة على النسج والبناء، وترتيب حدث إثر آخر، وخطوة إثر أخرى، المفاضلة بين الاحتمالات المختلفة، وانتقاء ما يمكن تضفيره، وخلق امتداد مركّب له عند اقترانه بالتفاصيل الأخرى. رسم الملامح، وتحديد الخصائص، وتعيين الدوافع والرؤى المرجعية لكل مسار ستقصده الشخصية بما يشكّل هويتها، ويكوّن انحيازاتها، وعلاقاتها مع الشخصيات الأخرى، وبالتالي يرسم طبيعة ملائمة للأحداث التي تصل إلى الغاية التي تم تنظيم هذا الاندماج المخترع من أجلها.
ما يميز هذا النهج هو أن الاحتمال الذي يتم اختياره للاستمرار في تشييد البنية لا يستبعد الاحتمالات الأخرى التي لم تُستخدم، بل يبقيها داخل الفراغ الصامت للحكاية. يصبح القرار المتخذ أثرًا مخاتلًا لما هو غير مرئي من القرارت المرجأة. هكذا يقدم هذا النهج ما هو أكبر من الحكاية، إنه يقدم أيضًا صورة للكيفية التي يفكر بها "طارق إمام" في تشكيل حكايته.
(في اليوم التالي استيقظت كل امرأة وضعت الكحل في عينيها بعين واحدة بيضاء في منتصف وجهها، بلا حدقات، تسيل منها دموع حارقة على الدوام، بينما تحوّل موضع جبل الكحل إلى عين واسعة، تسبح فيها ثلاث سمكات كبيرة).
يقدم "طارق إمام" أيضًا من خلال هذه المجموعة اقتراحًا جماليًا لإعادة قراءة هذا الماضي الذي تنتمي إليه قصصها، ولكن إعادة القراءة هنا لا تعني مجرد إغراء نوستالجي لاسترجاع الحكايات القديمة بل إعادة الانشغال بها، أي وضعها دائمًا داخل إطار استفهامي، لا يتوقف عن إنتاج افتراضات متبدلة للمعرفة التي ارتبطت بها.
(أحيانًا كنا نشعر أن الصوت قادم من ناحية المقابر العمومية، وأحيانًا نكون على وشك التأكد من أن مصدره شارع البحر المزدحم على الدوام بالقباطنة والبحارة والأغراب والمسوخ. وفي فترات كثيرة كنا نحس أنه آت من مكان مرتفع قريب من السماء).
علينا أيضًا مراقبة كيف يمتد "طارق إمام" بالإحكام الضروري لعناصر القصة إلى السياق الحكائي الذي يتضمن القصص كافة، دون أن تخسر كل قصة خصوصيتها، ودون أن تتنافر مع المعمار "المديني" الأشبه بالموطن التصارعي للغرباء، والذي يوزّع ألاعيبه على نحو بالغ الرسوخ عبر الوحدات السردية للمجموعة.
(تفتح عينيها على السماء، يسقط فيهما المطر كأنهما بئران غائرتان لا ترتويان، كانت هذه طريقتها لكي تستطيع الرؤية بشكل أفضل. كانت في رحلتها الغريبة تلك، تلم كل الذكريات التي استقبلها تراب الشارع في عام مضى لتضعها في جوالها الضخم).
تبدو "مدينة الحوائط اللانهائية" كأنها ممر لتناثر الزمن؛ حيث يتوقف خلالها الوقت عن أن يكون تتابعيًا رغم ما يبدو أنه تعاقب بديهي. هذا التناثر مأخوذ لحالات متابينة، تُفرز أحلامها وكائناتها، وتتخطى كل ما يمكن اعتباره حدودًا لها. هنا يصير الزمن كأنه وقت شخصي، يمكن إدراكه، ولكنه متسمًا بنوع من البدائية السحرية التي تكمن داخل الكينونة لا خارجها.
(حين قرر أن يعود إلى السماء، على مرأى من العيون المهزومة المتطلعة من شرفات البيوت، لم يرفرف مثلما جاء، لكن هبطت طائرة ضخمة، صعد سلالمها بثقة، رأت فيها العيون التي تحجرت فيها الدموع علامة مرعبة لعدو، ليدركن في هذه اللحظة فقط، أن الحرب قد انتهت).
بشكل كبير لا توجد "الأسطورة" بالنسبة لي في المدينة ذاتها: السكان، التاريخ، المتاهة، القتل، الأشباح، سواء كبُعد خيالي أو "تأليفي"، أو كعالم يتم توظيفه لصالح واقع ما. توجد الأسطورة في الاستراتيجية أو في الأداء التوليدي للحكي الذي اتبعه "طارق إمام" ذلك لأنه ببساطة جعل في الإمكان القيام بهذا التبادل اللازم بين الشخصيات وحكاياتها؛ فالمرأة ذات العين الواحدة تستطيع أن تحضر في حكاية القرصانة، أو طباخة السم مثلا، كما أن بحر الدموع يمكنه أن يكون فضاءًا مرنًا أو أفقًا مهيمنًا خارج تخومه المتوقعة. ثمة سهولة متاحة لوضع معنى، للتفسير أو لرصد التشابهات الدالة بين قصص المجموعة وعلامات في الماضي أو داخل مجريات الراهن، ولكن ما يجعل هذه المعاني أو التفسيرات متجاوزة للتأويلات التاريخية المعتادة التي طالما التصقت بهذا الرصيد الغرائبي هو التكنيك الذي ربما يعوّض ما فقدته الأسطورة بتعريفها التقليدي، أو تحديدًا ما فقدته مقارباتها الشائعة بقلق شبقي، استفهامي، مجادل، لا يخاطب القيم النمطية أي مناقض للحكمة، قد تكون الأسطورة بالفعل في أمسّ الحاجة إليه.
موقع (الكتابة) ـ 18 إبريل 2018

الثلاثاء، 17 أبريل 2018

ست وعشرون عينًا في ورشة ممدوح رزق


أحمد أبو الخير 
في خلال آخر عشر سنوات تقريبًا، انتشرت فكرة الورش الابداعية بشكل مكثف، حيث فيها تعليم أو تنظيم العمل لكِتابة رواية، هدم الأصنام المُتعارف عليها حول عادات الكِتابة التي تحصر المؤلف داخل زاوية بائسة، أو مثلاً فك شفرات القصة القصيرة ومعرفة أصولها ومدى أهمية التكثيف عند كِتابتها، بمرور الوقت اتسع الأمر ليشمل تعليم السيناريو وأصول المسرح ومن قبلها بكُل تأكيد التمثيل، للدرجة التي صار حتميًا معها دراسة هذه الظاهرة، ومعرفة أصلها من فرعها، ومدى الإنتاجية المثمرة – لا المهدرة – التي تخرج منها.
الروائي والمترجم محمد عبد النبي له تجربة في تنفيذ الورش الأدبية حيث كان يٌشرف منذ عام 2009م بنفسه عليها، ثم جمع هذه التجربة في كِتابه “الحكاية وما فيها” الصادر عن مؤسسة هنداوي، حيث يقول في مستهل الكِتاب “كل ما تفعله الورش الأدبية، وكل ما يحاول هذا الكِتاب أن يُقدمه، هو التشجيع على العمل والانتاج في إطار مُنظم، بعيدًا عن أهواء المُبدع ونزق تجلياته وتقلباته، واستسلامه لأوهام الوحي وانتظار الإلهام.”
انتهي كلام عبد النبي.
ولا يزال – إلى اللحظة الحالية – الصراع دائرًا حول ما تفرزه هذه الورش، والآراء المنقسمة – في تطرف أحيانًا – حول ماهية هذه الورش وهل ما تٌخرجه فعلاً هم مبدعون؟ أم مُجرد مُدعي ثقافة، كُتاب (نص كم) سيعملون على إصدار ضوضاء وصريخ في سوق النشر؟.
ولكن في الأسواق الأدبية الخارجية، الورش هي أمر مُعترف به، بل وإنّ المبدعين الخارجين منه يحظون باعترافات في المحافل وفي الجوائز الدولية، مثلاً المغربية ليلي سليماني الفائزة بجائزة الجونكور، خريجة ورشة كِتابة تابعة لأشهر دار نشر فرنسية، دار غاليمار. فالأمر هنالك – في السوق الأوربية والأمريكية كذلك- معترف به، ويفرز مبدعون، ولكن بالطبع هناك معارضون.
ومن الورش الأدبية التي أقيمت مؤخرًا، وداخل إحدى المُدن بعيدًا عن القاهرة، وما يدور حولها من مركزية ونحوه والاستئثار التام بالحصيلة، وأن القاهرة هي أصل كل شيء، ومن عندها يبدأ كُل شيء، ورشة لكتابة القصة القصيرة أقامها الناقد والروائي والقاص ممدوح رزق في مدينة المنصورة داخل مركز أركادا المُهتم بالجانب الأدبي والثقافي.
وبعد أيام قليلة يحتفل هو والمتخرجون من الورشة بإصدار كِتاب إلكتروني تحت عنوان”ست وعشرون عينًا على الجسر” يضمن القصص التي كتبها المُتدربون خلال فترة الورشة التي امتدت لقرابة شهرين من بداية سبتمبر حتى نهاية أغسطس من عام 2017م، وبسؤاله عن اختياره لهذا الاسم قال:
هذا الاسم نبع من المُتدربين أنفسهم، فالعنوان دليل على عيون الكُتاب الثلاثة عشر في المجموعة، أما الجسر فهو مفترق الطرق في قصة”رجل عجوز على الجسر” لإرنست هيمنجواي، والتي كانت المادة الأولى في الورشة، ومن خلالها أدركت هذه العيون ضرورة أن تظل مراقبًا للجسر أينما وُجِد لاكتشاف القصة التي تدور فوقه.”
استمرت الورشة شهرين مُتتالين، فهل كانت فترة كافية ليستطع المُتدرب أن يستقي كافة الخبرات لكتابة القصة القصيرة؟ وهذا السؤال توجهنا به إلى إحدى المُتدربات، سارة طوبار، فقالت:
لا أعتقد أنني استطعت أن أجمع داخل جٌعبتي كُل الخبرات، ولكن الورشة كانت نافذة مُختلفة لكتابة وقراءة القصة القصيرة، مساحة لتلقي رؤية جديدة، تبادل خبرات وتجارب مُتنوعة، مساحة للابداع والتحرر من الشكل التقليدي للقصة القصيرة. فكلمة كُل الخبرات بكُل تأكيد – وأنا مُرتاحة- أقول أنّها تحتاج وقت أطول.”
الورشة بشكل عام تخضع لقانون التأثير والتأثر، العلاقة المباشرة التي تمتد قرابة الشهرين بين المُتدرب والمدرب لابد أن تنتج شيئًا، عند المُتدرب تُنتج تعلم، تنظيم، ترتيب الأوراق المبعثرة، ولكن ماذا تفعل عند المدرب؟، يُخبرنا ممدوح رزق”لقد حصلت على استفادات كثيرة، وضمن مستويات مُختلفة يصعب حصرها، منها مثلاً اكتشافي لنفسي داخل هذا الاطار الممتع. التعرف على تأثيرات تجربتي الشخصية على الآخرين، وبكُل تأكيد استلهام العلاقات المُمكنة بين ما يُنتج عن هذا الاكتشاف وحياتي ككاتب.”

ويبدو أن المنصورة كانت إحدى محطات الانطلاق للناقد ممدوح رزق، حيث أنّه يسير حاليًا في خطوات الاعداد لورشة خاصة بالقصة القصيرة ليٌشرف عليها في القاهرة، وسيتحدد موعدها قريبًا، بل ويفكر في إقامة ورشة خاصة بالنقد الأدبي في المنصورة ولكن “ما أفكر فيه حاليًا هو تكرار نجاح ورشة القصة القصيرة في مكان آخر. لتأكيد على أن السبب الرئيسي في النجاح هم كُتاب الورشة الذين سعدت وتشرفت بالعمل معهم على مدار شهرين متصلين. وهم مُتدربون مخلصون وعلى المستوى الإنساني من أرقي وأجمل البشر الذين عرفتهم.”
وسألنا القاصة والمُترجمة نداء الحلوجي عن تجربتها الذاتية داخل الورشة فقالت:
إذا أردت الحديث عن الورشة، فلن أجد أفضل من تلك اللحظة التي انفجرت فيها فكرة ما في رأسي، ومضيت أكتبها بكل سهولة، لأنطلق منها وبسببها. ومنذ بدأت الكِتابة في سن صغيرة، لم أكتب ولو مرة واحدة بنفس السهولة التي شهدتها في الورشة، دومًا كنت خائفة أو مُرهقة أو تائهة. وعلى مدار الورشة لم تصبني أي من كُل هذا إلا بنسب لا تّذكر مقارنة بالماضي. الفضل يعود للأستاذ ممدوح الذي كان يعمل على إزالة الحدود والحواجز لننطلق، يضع بين أيدينا المساعدات ويشدد على عدم خوفنا.
أذكر مثلاً في إحدى المرات، طلب منا إعادة كِتابة قصة لكاتب كبير، برؤيتنا الخاصة. عُدت للمنزل وفكرت في الأمر، امتلاك القدرة على إعادة تشكيل ما لا يعجبني، وإخضاعه لرؤيتي أنا، فهذا أمر غريب، ولكنني مضيت أكتب، وبما يُناسبني ويناسب عالمي الخاص. استطاع الأستاذ ممدوح أن يفتح لي بابًا لم أتجرأ على الاقتراب منه. هذا ما فعله معنا –ومعي تحديدًا- أنّه نزع عني الخوف.
أذكر في حفل التخرج، ويوم الختام، أخبرته بأنني لن أسمح مجددًا بأن يُخبرني أي أحد مهما كان بأنني لا أستطيع الكِتابة، لحظتها تغيرت ملامحه للجدية التامة مشوبة ببعض الاستنكار، وطلب مني ألا أسمح بهذا. نظرته تلك هي تلخيص للورشة. هو آمن بنا جميعًا، حتى في أقل لحظات إبداعنا، فجعلنا نؤمن بأنفسنا.”
أما نُورهان البدوي لخصت تجربتها داخل الورشة عبارة واحدة فقالت:
لما احتضنت القلم لأول مرة في ورشة القصة، أدركت أنني لن أشعر بالوحدة والعجز مرة أخرى.”
بوابة "كُتب وكتّاب"ـ 16 إبريل 2018

تدوينات القراءة: كيف يبرر الخطاب نفسه؟ (2)


لا تتعلق هذه الخلاصات بكتابة معينة، بل تبدو عند تتبعها كأنها أصل غريزي، تطغى هيمنته بأشكال متعددة على المراجعات العربية؛ فمن السائد على سبيل المثال احتفاء القرّاء ـ حتى داخل الأعمال التي تبدو معقدة ـ بالجوانب التي تعطي انطباعًا ـ مهما كان خادعًا ـ بالبساطة، أو سهولة الفهم، أي التي لا تستلزم بذل جهد في استيعابها. كأن النص يقوم بمهمة التلقين مثلما يجب على أي مصدر معرفة أن يفعل امتثالًا لما يفرضه المصدر الكلي الأكبر للمعرفة، وهو المقدس.
ليس هذا فحسب، بل تحاول هذه التدوينات أيضًا إخضاع ما ليس مفهومًا إلى الشروط العفوية للإدراك المباشر، أو النطاقات غير المجهِدة، التي لا تستفز أو تجادل الثوابت المضمونة. كأنها تسحب هذه المتون "العسيرة" بعيدًا عن إبهامها الشائك، الذي ربما يناوش محظورًا ما، أو يقترح تساؤلات لا يجدر طرحها إلى حالة من التجريد القسري الذي ينقّيها من الخصائص "الصعبة"، ويمنحها الطبيعة المسالمة، أي البسيطة والمفهومة الأقرب إلى درس أو عظة أو رسالة قيمية ينبغي الاستفادة منها.
يكاد معظم التقدير الموجّه إلى أعمال "نجيب محفوظ" مثلا من هؤلاء القراء يكون مندرجًا تحت ذلك الإطار ـ قد يبدو هذا بالنسبة لكاتب ما كأنه نوع من الاغتيال أو الإساءة للنص؛ إذ أن هذا الاحتفاء بالقشور التي لا تمثله، أو بالسطوح الباهتة التي يخوض مغامرته بعيدًا عنها، هذا الاحتفاء أشبه بالتعرّض للمسخ. لكنني، وإن كنت لا أنكر بالطبع على أي كاتب هذا الشعور بعدم الرضى على الأقل؛ أجد ضرورة لتخطي مثل هذه المفارقات الهزلية ليس فقط للاستمتاع بشكل من التجاوب بين عمل هذا الكاتب والقارئ، وبصرف النظر عن المستوى الذي عقدت هذه الصفقة البائسة من خلاله، وإنما للاستمتاع كذلك بتأمل الطريقة التي يستخدم بها القارئ عمل هذا الكاتب لتأكيد نفسه. لإثبات ما هو عليه؛ فالقارئ حينما يمارس هذا النوع من الاحتفاء المروِّض، أو عند انتقاد عدم الفهم لا يفعل ذلك من أجل تغيير النص بقدر ما يؤديه من أجل منح يقين جديد لوجوده الذي يسبق العمل الأدبي، لما يمثله هذا الوجود، لما سيظل يعتقده عن ذاته وعن العالم بعد الانتهاء من قراءة هذا النص.
أستعيد الآن ما قاله "رونان ماكدونالد" في كتابه "موت الناقد":
"دفاعًا عن عالم المدونات وتفضيلها على المراجعات الأدبية المطبوعة، يدعي كتّاب الشبكة العنكبوتية أنهم يأخذون النصيحة في العادة من أشخاص يعرفونهم، ويتفقون معهم في الرؤية والذائقة. إنهم يرغبون في قراءة ما يريدون أو مشاهدة ما يعتقدون أنه سيمتعهم، لا ما يحاول الخبير إقناعهم أنه جدير بالانتباه. تتمثل المشكلة الرئيسية في هذا الموقف في كون القراء والمشاهدين يعتمدون في الحقيقة على نظام من المراجعات يعزز تحيزاتهم ونزوعاتهم ويؤكدها بدلًا من أن يتحداها ويضعها على المحك. يستطيع ناقد قدير ذو خبرة، يتمتع بقدر من الاحترام والمرجعية، أن يقنع القراء بإعطاء عمل غريب غير معروف فرصة ثانية، ليروا ما لم يستطيعوا أن يروه في المرة الأولى. هذا ببساطة واحد من الأسباب التي تجعل النقد الصحي الذي يتوجه للجمهور يقدم خدمة مفيدة للفنون: إنه يعيد النظر في الآراء المتداولة والأشكال المستهلكة ويقدم وجهة نظر عكس السائد. في هذا السياق يمكن للنقاد المتدربين، رغم الحديث عن تحجر ذائقتهم ، أن يكونوا مبشرين بالجديدلكن عالم المدونات، المزدهي بتنامي سلطته، يعلن عن ازدرائه لثقافة المراجعات في الصحف المطبوعة وفكرة الناقد بوصفه خبيرًا".
إننا عند تأويل ريفيوهات هؤلاء القرّاء سنلاحظ أن إشكالية "عدم الفهم" لا ترجع سوى إلى خطأ الكاتب الذي حينما أقدم على "التعقيد" فإنه ارتكب إثمًا تجاه قيمة تكفلت الكتب المقدسة بحمايتها؛ فالنص يجب أن يكون واضحًا ـ مثلما يُعتقد ـ كالآية أو الحديث النبوي، وحينما يشكو قارئ ما ـ بتفاصيل مختلفة عن قارئ آخر ـ في مراجعته من "غموض المعنى" في العمل الأدبي، أو حينما يهاجم غياب "الحكمة" التي يمكن استخلاصها من هذا العمل ـ من السهل أن يرصد أي متابع قاموسًا من التعبيرات الشائعة، والاستفهامات الاستنكارية المتكررة أو ما يُسمى بـ "السلوك اللغوي" في ريفيوهات هؤلاء القراء: "لم أحصل على أي استفادة من هذه الرواية ـ ما الغرض من كتابة كهذه؟ ـ لم أخرج من هذا الكتاب بقيمة ما" ـ حينما يفعل القارئ ذلك فكأنه بالضبط يوجه تحذيرًا استباقيًا: "ومن يستطيع أن ينحاز إلى الغموض الذي يناقض الصواب المعلن والمحصّن للخطاب الإلهي، أو يرفض وجود الحكمة التي تنطق في الوثائق العقائدية بالصدق المطلق، وتمتلك بقدرتها الغيبية الأقدار والمصائر كافة؟! .. إذا لم تكن قادرًا على إقناع الجميع بحقيقة تدعم ما يؤمنون به مثلما تفعل المتون المقدسة التي تشتمل على الحقائق الكلية الأعظم فإن هذا يمثل خللًا في علاقتك ككاتب بهذه الحقائق غير القابلة للشك، و بالتالي بالصور والتمثلات الإنسانية التي تجسّدها".
قد تنطوي متعة الكاتب أيضًا الذي يحصل على ذخيرة ملهمة نتيجة هذه المراقبة للقارئ على متعة أخرى، وهي تأمل الفرق بين التغيّر المستمر للذائقة الأدبية الذي لا يجب التوقف عن المراهنة عليه، وبين المرجعيات التي تظل ثابتة رغم التبدّلات المنطقية، وبين الدوافع الحاكمة المشتركة بين ذائقات مختلفة، وبين سياقات المعرفة التي تحاول السيطرة على هذا التحولات، أو احتجازها ـ كسلطة ـ داخل مسارات نمطية.
موقع (الكتابة) ـ 15 إبريل 2018

الثلاثاء، 10 أبريل 2018

تدوينات القراءة: كيف يبرر الخطاب نفسه؟ (1)


منذ سنوات طويلة وصلتني بالبريد رواية لكاتب عربي أتذكرها جيدًا. كانت أقرب إلى رواية "دينية" تحتشد بالاقتباسات الحكمية والأدعية والتوسلات التي يبعث بها شاب "مثلي" إلى الله راجيًا أن يغفر له "خطاياه"، وأن يخلّصه من "الدنس". ربما كانت تمثل بالفعل النسخة المناقضة لرواية "في غرفة العنكبوت" لمحمد عبد النبي. لم أفكر حينئذ في كونها مجرد رواية ساذجة بل امتدت بي حساسيتي العدائية تجاه هذا النوع من الكتابات إلى التساؤل حول "شرعية" وجودها .. نعم .. إذا كنت ستملأ صفحات كتاب ما بنفس المحتوى الذي يمكن بعفوية خالصة أن يفرزه أي متعبّد آخر يؤمن بحقيقة شاملة لذاته كـ "إنسان آثم"، ولا يريد سوى التطهّر والتكفير عن ذنوبه فما هو المبرر للكتابة؟ .. لماذا لا يكتفي بطل الرواية سواء كان شخصية واقعية أو متخيلة بالصلاة والدعاء وترديد المتون الاستغفارية والتعاويذ الشائعة دون توثيقها؟ .. لماذا لا يقاوم "الشيطان" ويسعى "للتوبة" في مكان آخر؟ .. ربما كنت سأفكر في الأمر بنفس الطريقة لو كانت الرواية مجرد استعمال تقليدي لأي من الأنماط الاجتماعية أوالسياسية أوالتاريخية السهلة، لكن ما أعطى للاستفهام قوته الملحّة هو الطابع "الاستفزازي" لموضوع للرواية بالنسبة لي: نحن مذنبون في حق "المقدس" الذي طالما فكرت فيه كشيء لم يكن ليقبل أن يكون إنسانًا .. قادني هذا التفكير نحو مسار مغاير: هناك دائمًا لكل كتابة ضرورة ما لدى منتجها، ولدى قارئ لها أيضًا .. هذه الضرورة تنطوي على ما يمكن أن يُعد خصوصية غير مطالبة بأن تكون مرضية بصورة مطلقة، أي أن توزع دون عطل حصصًا مشبعة لجميع من يصادفونها. في الوقت نفسه يمكن لشخص آخر أن يكتشف مكانًا داخل هذه الكتابة يصلح لبناء جسر ما، لا يُلزم الباقين بمشاركته العبور فوقه .. ما أتحدث عنه ليس مستويين متفاوتي العمق، بل سياقين منفصلين داخل فضاء واحد .. أن تراها رواية "دينية" تحمل تلخيصًا اعتياديًا لتراث بدائي، وأن تكون رسالة من كائن لم تجذب كلماته اهتمامك إلى كائن لديه استعداد لاستقبالها كأنها تقصده تحديدًا.
ترتبط هذه الفكرة بسطور أستعيدها الآن من مقال سابق لي بجريدة "القصة" حول ما يُسمى بـ "الحشو الروائي":
(في السنوات الماضية قرأت وكتبت عن كثير من الروايات سواء عربية أو مترجمة، معظمها سيفقد نصف حجمه تقريبًا لو أعدت كتابته، وهذا أمر ليس له علاقة بإعجابي المؤكد بهذه الروايات .. الصفحات التي بدت زائدة بالنسبة لي في كل رواية من هذه لم تكن بالوصف السهل والساذج مجرد "حشو" مسيء للعمل، وإنما مادة روائية تقع دائمًا في نطاق الاحتمال بأن هناك قارئ آخر في حاجة إليها .. هذا القارئ الآخر ليس فردًا بل ممثلا لكل من يشابهه أو يتوافق معه في هذا الاحتياج، فضلا عن أنه كذلك القارئ الوحيد الذي قد لا يشاركه أحد في ضرورة وجود هذه الصفحات، ولكنه يستحق ـ باعتباره مجردًا من حصانة الآلهة ـ أن يحصل على هذه المادة الروائية، وأقصد بهذا القارئ الوحيد الكاتب نفسه، الذي كان لديه يقين ما في لحظة معينة بأن وجوده في العالم يتطلب هذه الصفحات داخل الرواية حتى لو تبدّل موقفه من هذه الحتمية في لحظة أخرى).
حينما أقول أنني ككاتب أستمتع بكوني مقروءًا، وبأن كتاباتي محل تقدير وتحليل وتداول فهذا لا يعني توجيه أي نوع من الخصومة نحو كاتب آخر يتخذ موقفًا لامباليًا أو ازدرائيًا تجاه القراء بشكل عام. لكن الاستمتاع لا يقتصر على هذه المظاهر الاحتفائية بل يتخطاها نحو تشريح القراءات التي تتناول أعمالي أيضًا. حينما أضفت كتبي إلى موقع جودريدز عام 2009 لم يكن الغرض هو قراءة التدوينات حولها فحسب بل تأويل هذه التدوينات أيضًا، مراقبة سلوكها اللغوي، النطاقات التي تتحرك في حدودها، والمقارنة بينها. كان الغرض هو اقتفاء أثر ما تتبناه، وما تهمله، وتفسير الدوافع وراء ذلك.
موقع (الكتابة) ـ 8 إبريل 2018

الاسم الكامل لأبي

قبل أيام قليلة من بلوغي الواحد والأربعين عرفت أن الاسم الكامل لأبي هو "رزق رزق سعيد سعيد". هذا الاسم لا يجب أن يُستخدم خارج نكتة ما، أو أن تحمله شخصية سينمائية كي تؤكد بالطريقة الهزلية القديمة إلى أي مدى كان القدر كريمًا معها، أو لتسخر على النقيض من حظها العاثر في الحياة. لا أتذكر أنني قابلت اسمًا يحمل هذه الصيغة التكرارية من قبل، وأشعر نتيجة لهذا أن الاكتشاف الذي يُضحكني الآن قد يكون واحدة من الرسائل الغريبة التي أصبحت تمرر لي في السنوات القليلة الماضية كمصادفات. العلامات التي تقصدني تحديدًا، وتُبعث في اللحظات المناسبة، قادمة من ذلك الاحتمال الغامض وراء العالم وفقًا لخطواتي المكشوفة كليًا بالنسبة له. أكره أن أتحدث كباولو كويلو، ولكني أعرف تمامًا أن الكينونة المتخيلة لهذا الاحتمال الغامض في ذهني قد تمثل كابوسًا مروّعًا لكويلو. يبدو الآن أنه يمنحني توافقًا إغوائيًا جديدًا، أو إثباتًا مُلهمًا لنظام مبهم من الأفكار المتراكمة، المستمرة في تأكيد نفسها كحقائق ناقصة لحياتي، ولتاريخ أسرتي. هل هو حدث عرضي أن أعرف هذه المعلومة عن أبي قبل يوم واحد من الموعد الذي قررته للبدء في هذه الكتابة، أم أن إشارة تخص المخطط المجهول لوجودي، وللحياة والموت بالضرورة، قد أُظهرت عن عمد في هذا التوقيت كي تدعم تصوري لما أواصل اعتباره نوعًا من الميتافيزيقا العاقلة التي دبرت كل شيء؟. كأن الغيب قد قرر مرة أخرى، وبالكيفية المراوغة المألوفة، أن يعطي خطواتي دافعًا رمزيًا ليعمق الثقة في قرائن الماضي، وفي قوة انسجامها. الذخيرة الاعتيادية التي تأتي في الزمن الملائم حتى يستعملها عمائي في سبيل وصوله نحو اليقين الكامل. هكذا أتخاطب أنا وذلك الاحتمال الغامض خارج العالم داخل ما أفترض أنها الحرب القديمة بيننا.
لم يكن لدي من قبل اهتمام كبير بمعرفة الاسم الخامس لي، الذي ظل مجهولًا تمامًا، وبالتالي لم أُقدم على محاولات جادة لاكتشافه. في طفولتي كنت أعتبر النزال المتفاخر بين الأولاد حول من يمتلك معرفة بأكبر عدد من أسماء جدوده سخيفًا، ربما لأنهم كانوا يحولون الدعابة الشهيرة للخواجة بيجو إلى موضوع هام، وهو ما كان يُشعرني بنوع من عدم التكافؤ. كنت أحس أثناء مراقبتهم بأن اسمي قد انتهى مبكرًا، أي قبل أن يصبح تعريفًا حقيقيًا لي مثل بقية أقراني، والذي كان الخاسر منهم يعلم اسم جده الثالث على الأقل. بالطبع كانت هذه اللعبة فضاءًا مثاليًا للاختلاق، ولكني لم أكن أستطيع الكذب في هذا الشأن. كان الأمر بالنسبة لي يتعلق بالهوية التي لا ينبغي تزييفها حتى ولو في إطار المرح الطفولي الذي لم يكن يبدو لي كذلك حينئذ، وبصرف النظر عن انشغالي بالتخلص من الفراغ العالق في هذه الهوية من عدمه. كان من البديهي أن يُترك التعريف العائلي مبتورًا عن أن يحصل على استمرار ملفق، مهما كانت القوة المتأرجحة للتأثر بعدم المعرفة.
لكن الشعور بالنقص الذي كرّس لعدم الاهتمام بمعرفة المزيد من أسماء جدودي لم يكن ناجمًا عن غياب الإدراك، وإنما لإحساس بأن النهاية المبكرة لاسمي لم تحجب اسمًا من الأسلاف فحسب بل قامت بالتعتيم على حياة تم فصلها عن سلسلة من الحيوات السابقة. مقارنة بالآخرين مكتملي الهوية، كان نقصان اسمي غريبًا، مثيرًا للشك، وربما الخوف أيضًا. بدا لي أن الاسم الأخير لي قد تحوّل إلى حافة ملغزة، شاهدة على انقطاع مفاجئ حدث في ماض بعيد، وترك صمتًا شبحيًا محل وجود طُمس عمدًا. لهذا لم أرغب في أن يكون لي علم بما كنت أعتبره سرًا مقلقًا، أو بالأحرى لم أسع لهذه المعرفة، وإن ظللت إحدى أمنياتي في العالم أن تأتيني بمحض إرادتها. لاشك أن علاقتي بأبي قد ساهمت بصورة حاسمة في عدم الحرص على إدراك الحقائق العائلية التي أجهلها؛ فطوال ثلاث وعشرين سنة عشتها معه قبل أن ينسيه الزهايمر كل شيء لم أحصل على فرصة مواتية لسؤاله عن الاسم الخامس لي، وحينما أقول مواتية فإنني أقصد اللحظة المضمونة التي أشعر خلالها بيقين تام أنه لن يترتب على حضورها عواقب سيئة. كانت التعريف المبتور في اسمي يمثل قهرًا غامضًا، محصنًا بصرامة تهديدية قاطعة، ينسجم تمامًا مع شخصية أبي ويرسّخ لها، ولهذا كان يجب أن يُعامل هذا التعريف مثله، أي بعدم التفكير في الاقتراب من احتمالات استفزازه. على جانب آخر كنت متأكدًا، ودون محاولة للتيقن من هذا الاعتقاد بأن أمي لا تعلم عن أسماء جدودي أكثر مما أكتبه على أغلفة الكشاكيل والكراسات، وكان ذلك يرجع أيضًا إلى توافق عدم المعرفة لأمر كهذا مع شخصية أمي. كانت لأمي طبيعة توحي دائمًا بأنها لا تمتلك الإجابة حول ما تود أن تسألها عنه، خصوصًا حينما يتعلق الاستفهام بأبي حتى لو كانت تعلم هذه الإجابة بالفعل.
هكذا حددت زيارة أختي إلى السجل المدني بداية هذه الكتابة.الزيارة التي كان يمكن ألا تحدث لو اتخذت حياتها نسقًا آخر. كانت تحتاج إلى هذا المستخرج من شهادة ميلاد أبي لإتمام إجراءات المعاش الذي أرادت الحصول عليه بعد طلاقها. أعطتني الورقة الرسمية لأطّلع عليها فشعرت عند قراءة اسم أبي كاملًا للمرة الأولى أنه أعيدت ولادته ثانية بعد ثمانية وثمانين عامًا من ميلاده الأول، وبعد أربعة عشر سنة من موته الذي أنهى حياة عمرها المخادع أربعة وسبعين عامًا. "بدأ أبي حياة جديدة الآن" قلت في نفسي بألم يمزج بين أحاسيس غير متناقضة: الشغف، الارتباك، الحسرة، الخوف، السرور، الندم، السخرية بينما أفكر فيما ستصير إليه هذه الكتابة. لقد توقف التثبيت اللغوي لتلك البصمة العائلية عندي أنا وإخوتي: لدي طفلة، أما أخي الكبير فلم يسم أيًا من ابنيه على اسمه، بينما لم ينجب أخي الأكبر قبل موته. بناءًا على المنطق الذي يتخذه هذا النهج من التشابهات فقد كان لزامًا على أي من أبناء أبي أن يُعطي اسمه لواحدٍ من أولاده، والذي سيكون عليه بالتالي أن يُكلف أو يوصي ابنه بتسمية الولد الذي سينجبه بنفس اسمه حفاظًا على هذا الإرث من العطل. كان أبي هو المسؤول عن حماية هذا المسار الذي لن يكون صادمًا لو تم اكتشاف أن التمسك به يسبق الجد الثالث. أبي هو الذي حمل اسم أبيه من بين شقيقين، ومع ذلك لم يطلب أو يحاول أن يأخذ عهدًا من أحد أبنائه الذكور باستكمال الرحلة. كأنه أراد أن يتوقف الأمر عنده، أو لم يكن مهتمًا به، أو لم يكن يرى في أي منا جدارة ما بحماية هذا التاريخ، أو أنه ـ وهذا هو الاحتمال الأقرب ـ كان يعتبر أن حضوره الأبوي، وما سيتركه من هذه الأبوة داخل أبنائه لا يحتاج دليلًا من اللغة على بقاء أجدادي.
بعد خروجي من بيت العائلة متجهًا إلى منزلي رحت أفكر في أن هذا الاسم الذي قرأته في مستخرج شهادة الميلاد أكثر اتساقًا مع شخصية أبي من اسمه المجتزأ. إنه أشبه بتناسخ إلهي. بسلطة أبوية تسلّم نفسها لإثباتات متعاقبة من الخلود. هذا ليس اسمًا، وإنما صف من المرايا المتعددة لا يمكن الخطأ أو التغافل عن الانطباع الذي ينطوي عليه بضرورة أن يستمر في التزامه بنفس السياق التأكيدي. أن يضاعف كل أب نفسه ثم يأتي دور اسم جديد من الأبناء ليقوم بنفس المهمة، ربما لأنه لن يمكن كحذر اجتماعي وتاريخي ـ للأسف ـ أن يحمل جميع الجدود والآباء والأبناء اسمًا واحدًا. ربما أقصى ما يمكن تحقيقه هو انتقال الإثبات المختلف للأبوة من زمن لآخر، كأنه تيار من التجذر الصلب يسري عبر الأجيال في عائلة واحدة. تصورت بشكل عفوي لو أنني أنجبت ولدًا واسميته "ممدوح" لأصبح اسمه كاملًا "ممدوح ممدوح رزق رزق سعيد سعيد". سيبدو هذا الاسم كسباب لنفسه وللآخرين. كإيحاء بمرض عقلي وراثي. كمزحة تجاوزت حدودها الآمنة. كان من الغريب والملفت للغاية أن القوة التكرارية لاسم أبي تصلح أيضًا على نحو مضاد ـ ودون أن يلحق بها أي ضعف ـ أن تكون إقرارًا بهشاشة الفكرة الإلهية عن الرجال الذين يسكنون هذه القاطرة الاسمية. يناسبها أن تبدو كتلعثم لسلطة أبوية لا تثق في خلودها. يصلح اسمه أيضًا كفضح للتخاصم والانفصال بين كل أب وابنه عن الآباء والأبناء الآخرين. في هذه اللحظة أدركت أن أقرب ما يمثله الاسم الكامل لأبي هو لعبة استخراج الفروق الدقيقة بين الوجوه المتشابهة، والتي كانت مادة ثابتة في مجلات القصص المصورة القديمة.
"
جزء من نص طويل قيد الكتابة"
اللوحة: Avenue of Poplars at Sunset, 1884 ،Van Gogh
أنطولوجيا السرد العربي ـ 7 إبريل 2018

الاثنين، 2 أبريل 2018

الكوميديا النقدية.. القرّاء كأبناء شرعيين (3)


لكن الممارسات التطبيقية ـ بوصفها الأقرب ربما والأكثر تداخلا مع وعي القراء وتدويناتهم ـ ليست وحدها ميدان "الأبوة النقدية" بل تنشط هستيريا هذه السلطة أمام ظواهر وأحداث تمثل تهديدًا أو مجابهة لمرجعياتهم.
كان حصول "بوب ديلان" مثلا على جائزة نوبل للآداب عام 2016 من أكثر اللحظات قسوة على هؤلاء النقاد، ومن أكثر المواقف الكاشفة للجذور الثقافية الصلبة التي تحدثت عنها في المقال السابق باعتبارها محرّكًا ثابتًا لهوس الهيمنة المعرفية لديهم؛ فلم يكن من الصعب أن يتم رصد ذلك الناقد الذي بُنيت سمعته أو قام رصيده في الحياة النقدية على الإدانة، وتوزيع الصواب والخطأ، أو على إعادة تدوير عقيمة لتراث جسيم من التناسخات الهامدة، وقد تحوّل إلى نفس "القارئ العادي" الذي طالما هاجم ذائقته، وشجب انحيازاته، ليدخل في سباق هزلي مع نقاد و"مثقفين" آخرين لاسترداد "القيمة المهدرة" عبر السخرية "اللزجة" من فوز "مغني" بجائزة نوبل .. كانت فرصة أيضًا هناك من أراد استغلالها، حتى لو لم يسبق له قراءة بوب ديلان من أجل الحصول على هذه "القيمة" التي يؤمن تمامًا أنها تنقصه، في حين أن إيمانه بها هو ما يجبره على محاولة تعويضها بهذه الصورة التعيسة .. ليس النص وحده هو الذي يفضح إذن الوهم الفاصل بين الناقد، ومن يُسمى بـ "القارئ العادي" بل يمكن لحدث معين أن يجعل ناقدًا ما يعتبر نفسه أكثر "ثقافة"، و"علمًا" من شخص آخر أن يتصرف تمامًا، ودون أدنى مغايرة مثلما يتصرف هذا الشخص الآخر. أن يُعري هذا الحدث ادعاءاته بكونه مختلفًا. يمكن لموقف ما أن يسوق أحد النقاد، وأن يُجبر استجابته على التجسّد بالضبط كأنما يقول: "لن أقدر أن أراجع أو أن أفكر في الانحياز النخبوي الذي يسيطر على أحكامي. لا أستطيع أن أجادل المبادئ الرجعية، أو أن أتحدى التصنيفات والتراتبيات الثقافية والأدبية والفنية الصدئة التي شكّلت ذاكرتي، وحددت وعيي .. لا يمكنني أن أقبل أو أستوعب التحولات التي قوّضت الأنظمة الطبقية القديمة، المحتقرة لما تم الاعتياد على تسميته بـ "التفضيلات الجماهيرية" .. المتغيرات التي خلخلت المعايير القيمية المتعسفة، والتي تتعمّد إقصاء ما يُطلق عليه "الذوق الشعبي" .. ليس بوسعي أن أتجاوز طغيان المفاهيم لصالح التجاور والتعدد والتشابك وتذويب الحدود الأزلية المصطنعة .. أريد أن أكون كما أنا، وأن أدافع عن هذا الإيمان، وأن أظل أحارب من أجله .. أريد أن أستمر في محاولة جعل الآخرين مثلي، وأن أعاقب من يرفض أن يكون كذلك بأي شكل ممكن .. لا يعنيني أن بوب ديلان شاعر، وأنه مُنح جائزة نوبل لقصائده .. هو مُغَنٍ فقط .. مجرد مُغَنٍ".
هناك قراء عُرف عنهم حبهم لأشعار بوب ديلان؛ إذ كانوا دائمي الإشارة لسيرته الإبداعية، ونشر الاقتباسات من قصائده على صفحات التواصل الاجتماعي .. هؤلاء أنفسهم لم يستوعبوا أن بوب ديلان قد فاز بجائزة نوبل .. لم يفهموا لماذا فاز بهذه الجائزة التي لا تعنيني الآن في حد ذاتها .. لم يتقبلوا فكرة أن يفوز بوب ديلان بنوبل في مقابل أسماء أخرى ـ أكثر أهمية ـ يتم ترشيحها كل عام ولا تحصل عليها .. إن ما حدد (الأهمية) لدى هؤلاء القراء ـ ومنهم من ساهم في فقرات السخرية ضد فوز بوب ديلان ـ هو نفسه ما كرّس للانحياز النخبوي عند هؤلاء النقاد .. أن تحب بوب ديلان شيء، وأن يفوز بجائزة كان يستحقها "هاروكي موراكامي" أمر آخر .. يمكن لكل هؤلاء النقاد والقراء أن يستخدموا في هذا الصدد كلمات شائعة أقرب إلى اللافتات التحذيرية الضخمة سهلة الاستدعاء: المعنى ـ الثقافة ـ العمق، لكن الأمر لا يتعلق بهذه المفردات التقليدية المائعة بل بالأسباب المتراكمة التي جعلت كلمة مثل (المعنى) تفقد أهميتها أو تكتسب منزلة أقل حينما نتحدث عن أشعار بوب ديلان .. بالدوافع المتكاثرة التي أعطت لكلمة "الثقافة" حقيقة حاسمة قررت ـ كإجراء منطقي ـ وضع بوب ديلان في مكانة أدنى من كاتب آخر .. بالبديهيات المكدسة التي منحت كلمة (العمق) وظيفة عنصرية، جعلت قصائد "بوب ديلان" بالضرورة في مستوى أقرب للسطح من أعمال كاتب آخر. .. الأمر يتعلق بمحاكمة ما يسبق الهيمنة، بتشريح ما قبل (المعرفة)، وتفكيك المسارات التي تكفلت بإنتاج وترسيخ هذه (الأبوة).
هناك زيف هائل ومسيطر وراء ما يُسمى بالفجوة بين الناقد والقارئ .. أتحدث عن الناقد الغاضب، المروّض، المقدِس لليقينيات الثقافية والأخلاقية والجمالية، والقارئ اللامبالي، المدجّن، المقدِس لنفس اليقينيات، ودائم التطلع من وراء لامبالاته نحو هؤلاء النقاد كي يجدد ثقته دائمًا في كونه على صواب مثلهم.
موقع (الكتابة) ـ 1 إبريل 2018