السبت، 24 سبتمبر 2016

ليس مجرد جبل يمكن هدمه بالأظافر

ذات مساء بعيد كان وحده في البيت، يؤدي بوجهه في المرآة حركاته الغريبة، ويغني ما يخطر على ذهنه من أغاني معروفة، مستبدلاً كلماتها الأصلية بألفاظ وعبارات تتخطى الحدود المتخيلة للبذاءة .. لم تكن تلك الممارسة تنتمي لقائمة هواياته التي يحتاج للقيام بها من حين لآخر، فهو لم يتعوّد مثلاً على الإسراع بالرجوع إلى منزله، أو النهوض من أمام شاشة الكومبيوتر فجأة، أو استئذان ضيوفه كي يجري نحو المرآة، ويؤدي حركات وجهه، ويرتجل كلمات بديلة للأغاني .. كان يفعل هذا فقط حينما يكون بمفرده، وإذا مر بالصدفة أمام مرآة .. لابد أنه تصوّر أكثر من مرة أن يراه، أو يسمعه شخص ما، ولابد أيضاً ـ وهو لم يحدث على الإطلاق ـ أن يوجّه إليه هذا السؤال المنطقي: لماذا تفعل ذلك؟ .. في كل مرة تتمسّك دماغه بإجابة بديهية ثابتة، وهي أنه فشل بكفاءة خارقة على مدار عمره في أن يكون صديقاً لكل من عرفهم، وألا يسمح لأحد منهم أن يكون صديقاً لسواه .. المغامرة التي بدأها منذ اللحظة الأولى لوجوده داخل المدرسة الابتدائية، وانتهت تقريباً بعد إصداره لرواية قصد من ضمن أهدافها أن يقطع علاقته بكل من تبقى من أصدقائه .. بالطبع لديه فائض من المشاهد الداعمة لهذه الإجابة، يرى نفسه منذ الطفولة يتنقل بينها ليس للحصول على الحب والتقدير كما يتمنى الشخص العادي، بل سعياً لاحتكارهما، وحرمان كل اصحابه منهما .. كان دائماً يريد أن يبقى وجهه هو الوحيد المتفرّد بالإضاءة، وأن تظل بقية الوجوه مطفأة، يعذبها الظلام واحتراق العيون كلما نظرت إليه .. هل تتذكر حينما كانت أختك تلعب (السلم والثعبان) مع أولاد عمك، ثم أمسكت باللوحة الكارتونية، وطوحتها بعيداً مع الزهر والقشاطين لتهدم الدور .. كان أسرع واحد في العالم يخاصم اصدقائه .. لم يكن يغضب فحسب من تصرّف جارح، أو كلام ساخر، أو ضحكة مهينة، وإنما كان هناك أيضاً ما هو أقوى .. الأشباح النارية الطائشة التي تتراقص في دمائه، وتدفعه كوابيسها طوال الوقت لمحاولة تثبيت أصدقائه عند قدميه .. أن يحافظ على الوضعية المثالية لهم كحرّاس أوفياء، ينبغي أن يوفروا له غذاءه اليومي من الاحترام، والود، والطيبة الخاضعة .. ألا تكون هناك أدنى صلة بين أي تابع مخلص، وبقية زملائه من الأتباع الآخرين الذين يتولون حماية كرامته .. ظل أسرع واحد في العالم يصالح أصدقائه بعد خصامهم، ناجحاً في تثبيت جسده عند أقدامهم .. حافظ على وضعيته المثالية كحارس وفي يوفر لهم الغذاء اليومي من الاحترام، والود، والطيبة الخاضعة .. هكذا وصلت به الدنيا إلى أن يؤدي بوجهه في المرآة حركات غريبة، ويغني ما يخطر على ذهنه من أغاني معروفة، مستبدلاً كلماتها الأصلية بألفاظ وعبارات تتخطى الحدود المتخيلة للبذاءة.
 لكنه في ذلك المساء البعيد تجمّدت ملامحه على نحو مباغت، وصمتت أغنيته في منتصفها، وشعر أن هذه اللذة السرية لابد أن تكون حياته كلها .. ينبغي أن يتعمّد تحويلها إلى فعل تلقائي، مهيمن، ومتواصل .. قرر أن آخر الحلول التي يمكنه اختبارها هو أن يقود نفسه نحو الجنون التقليدي بحيث يصبح واحداً من هؤلاء الذين يُضحكون الناس، أو يثيرون الشفقة، وفي الغالب لا يمكن تحمّل العيش برفقتهم .. كان ذهنه يتمعن في ذلك الاحتمال الذي يفترض اختفاء الذاكرة، وبالتالي تنقية الجسد من الألم والرعب، وتحويل الموت إلى مجرد خطوة داخل المرح دون وعي بأنها الأخيرة .. كل الوجوه بلا استثناء أصبحت منذ ذلك الحين مرايا، يؤدي حركاته الغريبة فيها، ويغني أمامها ما يخطر على ذهنه من أغاني معروفة، مستبدلاً كلماتها الأصلية بألفاظ وعبارات تتخطى الحدود المتخيلة للبذاءة.
مرت أيام وشهور وسنوات دون أن يصل إلى مرحلة الجنون التقليدي .. لم يقف الفشل عند ذلك الحد، بل أن كافة البشر الذين اعتمد عليهم في إثبات جنونه بعد تحويل حركات وجهه وأغانيه إلى أفعال تلقائية، مهيمنة، ومتواصلة لم يضحكوا، ولم يشعروا بالشفقة، والأفظع أن تحمّلهم للعيش برفقته لم يصيبه الضعف .. بقيت ذاكرته حادة الوضوح ، وظل جسده يواصل الزحف تحت ثقل الألم والرعب، وبالتأكيد ازداد رسوخ الوعي بأن الموت خطوة ساطعة خارج المرح .. بالأمس، وقبل أن يغمض عينيه للنوم قرأ أن (روبن وليامز) شنق نفسه بحزام البنطلون .. أزال صورته من خلفية اللاب، وقرر أن يعيد حركات الوجه، والأغاني المرتجلة إلى الخفاء. 
من المجموعة القصصية (دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير) ـ مؤسسة المعبر الثقافي 2015

الخميس، 22 سبتمبر 2016

رواية «باب الليل» لـ«وحيد الطويلة» .. إيماءات الدخول والخروج الاستعارية

أريد بداية أن أشرح ما الذي يعنيه (الإيماء) كأداء مهيمن للسرد في رواية (باب الليل) لـ (وحيد الطويلة) .. الإيماء الذي يمكن اكتشافه مع السطور الأولى:
(باب لزج متواطىء، يتحرك سريعاً، ثم يرتد بطيئاً كأنه يشارك بدوره في المكيدة، يتلقاهم حوض من المرمر الأبيض تحت أضواء كامدة تعلوه مرآة عريضة، تعكس بابين متجاورين، واحد للنساء وواحد للرجال بالطبع، باب الرجال في الغالب غير مقفل، موارب فحسب، ينظر عبره الواحد إلى الواحدة، يرقبها، يترقبها حين تهم بالخروج، يراها في المرآة المتواطئة أيضاً، في الواقع يرمي أذنه من قبل، يتسمع تكته بعد أن أقفلت الواحدة تكتها).
الإيماء يبدأ إذن بالارتداد البطيء لباب الحمام .. بالمواربة .. ثم يمتد طوال الرواية كنظام مجازي للغة .. الاستعارات المواربة التي ترقب وتراقب .. اللغة التي لا تمرر بل تتواطأ مع التفاصيل .. التي تتوحد مع الظلام السري للشخصيات فتبنيه بالكيفية اللائقة .. تخلق الليل المخبوء للعالم وفقاً لطبيعة كوابيسه.
(الواحد والواحدة اللذان في الخلف ينتظران دورهما في الاغتسال كانا قد أنهيا المهمة، تبادلا أرقام التليفونات سريعاً، أخذ رقمها في الغالب، وربما أخذت رقمه أحياناً، قد لا يعجبها من منظره، من بدنه المترهل غير المشدود أو وسامته الغائبة، لكنه في مستقره داخل الشريحة وسط غابة الأرقام، والاحتياط أحياناً واجب، فمن تعافه اليوم قد تحتاجه غداً).
إيماءات العرض والطلب قبل عقد صفقات الجنس داخل الحمام .. تواطؤ المجاز مع الأحلام المتوارية التي ترقب وتراقب هذه الصفقات .. اللغة التي تخبرك دائماً أن هناك الكثير جدا مما لا تعرفه عن ما تحكي عنه .. أن هناك كلمات ناقصة أو شيء غامض لا يريد الاكتمال .. في الحوارات المتبادلة بين الشخصيات .. في أفكارها عن نفسها وعن الآخرين .. في أمنياتها .. كأنك تستمع طوال الوقت لمحاولاتهم المهزومة لتأكيد عدم قدرتهم على إدراك كيف يصفون أحلامهم .. عدم قدرتهم على التيقن من أن هذه الأحلام تخصهم في الأساس.
(ـ تصور، المجاهدة الثانية عشرة كانت تعلق في غرفتها وفوق سريرها مباشرة من قبل أن نشتري الماخور ـ صورة ياسر عرفات.
ـ لم نكن نعرف.
يلتفت ناحيتك صامتاً، يحملق فيك بعينين لوزيتين صافيتين تحكيان وحدهما:
ـ اشترينا سوق المومسات بثمن خمس كيلوات من الهيروين دبرها أحد مناضلي الثورة المتحصنين في لبنان، تصور!
استلمت الكمية في بون، وباعها العميل المزدوج في برلين، وبجزء من ثمنها اشتريت الماخور، بعد ذلك اشتريت مطعماً ونادياً للرقص، نصرف من إيراداتها على العمليات في أوروبا).
تتجاوز رواية (باب الليل) ما يُطلق عليه دائماً (هموم الواقع العربي المتدهور) .. هي حتى تتخطى الطغيان الجنسي كسلطة سردية .. يمكن تصور أن الصراع الجوهري في (باب الليل) ينطلق من خيبات السياسة ومكائد الشبق، ولكن (وحيد الطويلة) سيمتد به إلى ما هو أبعد .. سيجعنا نتأمل ـ بالتواطؤ اللازم ـ كيف يجاهد كل فرد داخل الرواية كي يحقق حكاية جديدة خارج جسده باستعمال أجساد الآخرين .. قصة مغايرة لذاته، لا تستبعد تاريخه الخاص، ولكنها تستطيع إنقاذه بأن تُعيد إيجاده في حياة مختلفة .. حضور مبرر، يحرره، وفي نفس الوقت ينجح في تثبيته بأي شكل داخل الزمن .. داخل أبدية ما .. الوصول إلى السماء عبر المقهى متفادياً الموت .. التحوّل إلى مطلق بديهي، ناجم عن معالجة كافة التجارب التي تم غض الطرف عنها، وإغراقها بطيبة خاطر في ظلال العدم بتعبير (غاستون باشلار)"1" ..  كأنه محو ضمني لهذه التجارب .. استرداد ميلاد لم يتم .. انتحار آمن .. انتقام يائس باللذة.
(إن كنت سعيد الحظ قد تصادف أبو شندي في المقهى بالليل بوجه حليق، شكله ابن ليل أنيق، النبل يكاد ينط منه، وإن صادفته نهاراً فستجد الضيق يطفح من خلقته بوجه فائض عن ملامحه بالهزيمة. يغيب أياماً، ربما نفدت نقوده، ربما يصعد إلى الشاطىء الذي أبحرت من شواطئه سفن الفلسطينيين العائدة إلى رام الله ليتأكد أن الشاطىء مازال في مكانه).
كأن تحقيق الحكاية الجديدة خارج الجسد يقتضي دخول قصص الآخرين إليه بواسطة أجسادهم .. الحكايات التي ينبغي أن ترمم فراغاته، وتسد ثغراته حتى تكتمل الحياة المفقودة .. الفضاءات المضادة التي تولد في رؤوس البشر أو على الأصح في فجوات كلماتهم وفي كثافة حكاياتهم كما قال (ميشيل فوكو) في محاضرته الإذاعية (أماكن أخرى) عام 1966 "2" .. يهمني هنا اقتباس أحد الأمثلة التي ذكرها (فوكو) في هذه المحاضرة:
(السرير الكبير للوالدين. إنه فوق هذا السرير الرحب حيث نكتشف المحيط، ما دام إنه يمكننا أن نسبح بين أغطيته؛ ثم أن هذا السرير الرحب بعد ذلك هو أيضاً السماء ما دام أننا نستطيع أن نهتز فوق نوابضه؛ وهو أيضاً الغابة، ما دمنا نختبىء فيه؛ وهو الليل، ما دمنا نغدو أشباحاً بين أغطيته؛ وهو المتعة، أخيراً، ما دام أننا سنعاقب مع عودة الوالدين إلى المنزل).
لهذا يدخل الجميع في الرواية عبر(الأبواب) ـ أبواب الذاكرة والمقاهي والوجوه والشوارع والحمامات واللغة والأرواح والبيوت والأجساد ـ لتشييد الفضاءات المضادة .. تكشف الإيماءات ـ كلغة للاغتراب ـ عن تحوّل هذه الأبواب إلى ممرات للإنفصال .. ترسخ حقيقتها العدائية كأماكن مواربة .. مساحات انعزالية بين الشخصيات وبعضها، وبين الشخصيات وماضيها رغم الظواهر التي تبدو مناقضة.
(هل رأيت يوماً وجه رجل عاشق؟ هل اكتشفت يوماً كيف تتبدل ملامحك فجأة في المرآة وفي أعين الآخرين؟ كيف تشعر أنك أصبحت أكثر الرجال وسامة على وجه الأرض وأكثرهم امتلاءً وزهواً؟
قلت: هل تؤلمك قدماك؟
ـ لم أمش بعد كثيراً
ـ لقد جريت أمامي طويلاً في حلم الأمس.
أخذتني، أخذتها وذبنا. أصبحنا نفساً واحدة).
تبدو شخصيات (باب الليل) كأنها تتحرك رغماً عن إرادة باطنية مجهولة، غير مستوعبة .. متنافرة مع ما تتجه إليه الأجساد دائماً .. حركة مستقلة مجبرة على الحدوث، حيث كل خطوة تعمّق من حدة التنافر مع الرغبة المطموسة في الداخل، وهذا ما يفسر سطوة (الإيماء) في الرواية .. حتى الجنس ذاته يظل في واقعه غير المعلن إيماءات حتمية بفضل ما يحكمه من عماء .. المواربة النفسية / الاستعارية للغة كضامن قهري للدخول والخروج من أبواب المقاهي والحمامات .. من فتحات الأجساد .. من الأوطان .. من الحياة والموت .. كأن ما كوّن ذلك الليل حقاً، والذي تقود كل الأبواب إليه هي جميع الحكايات المغايرة التي لم تتحقق، والأبدية التي لم توجد، والمطلق الذي لم يتحوّل إليه أحد .. كأن رواية (باب الليل) هي الفضاء المضاد الذي تكفل (وحيد الطويلة) بخلقه من روؤس البشر، ومن فجوات كلماتهم، وكثافة حكاياتهم.
1ـ (جدلية الزمن) / غاستون باشلار ـ ترجمة: خليل أحمد خليل / المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1992.
2ـ (الجسد الطوباوي، أماكن أخرى) / ميشيل فوكو ـ ترجمة: محمد العرابي / منشورات الانتهاكات ـ العدد السادس 2016.
موقع (الممر)
20 سبتمبر 2016

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

مُستخدِم العميان

الذين يلتقطون لغتي كأي كلب أجرب .. الذين يرصونها جنب بعضها، أو تحت بعضها بحسب آخر نص لي .. الذين يواظبون على النشر في موقع، ثم ينتقلون إلى غيره ورائي كظلٍ مات صاحبه .. الذين يزيدون جرعة البذاءة في كتاباتهم، ويخففونها بناءً على المزاج الحاضر لوقاحتي .. فرحي بكم يعادل امتناني لامرأة كتبت اسمي موزعاً فوق حلمتيها، وعانتها.
الذين يقتربون مني، ثم يظنون أنهم اقتربوا كأي كفيف يمشي فوق البحر .. الذين يعرفونني، ثم يظنون أنهم عرفوا بقدر التنكر الذي أصفع به كل واحد منهم على مؤخرته الكبيرة .. الذين يشكرون النوم لأنه حوّل اليأس ـ المتاجرة بانتحار لم ينفذوه بعد ـ إلى حلم يرون فيه أنفسهم في سباق معي .. في منافسة أجلس داخل المدرج وحدي أتفرج عليها، وأضحك .. أنا مُستخدِم العميان، ومُستعمِل أصحاب المؤخرات الكبيرة، المتوهجة مع تواصل الصفع .. أنا كابوس النائمين، اليائسين، المتاجرين بالانتحار .. الذين لا تعني الحياة لهم أكثر من إنكار أنني أُملِي عليهم ما يكتبونه، وما يُفكرون فيه .. أنت تحرز أهدافاً في نفسك يا عدو الآلهة، ولابد أن نفسك تضع لولباً جيداً لأنها لم تحبل حتى الآن.
منذ عشرة أعوام تقريباً .. مرتان، أو ثلاث كل سنة؛ أسمع، وأقرأ هذه الكلمات بصيغ مختلفة: (أنت مختلف .. لا أحد يكتب مثلك .. نصوصك تجعل من كتابات الآخرين متشابهة، بينما تقف وحدك في منطقة لا يصل إليها غيرك، الفرق بينك، وبينهم أنهم قريبون دوماً من أماكن التصوير، بل مقيمين فيها، بينما أنت بعيد) .. أسمعها من قرّاء بالصدفة على مقهى، أو في ندوة، أو داخل مكتبة، وأقرأها عبر رسائل البريد الإلكتروني، وبريد (الفيس بوك)، وتعليقات المواقع، والمنتديات التي أنشر بها .. أحياناً تأتيني بنبرة إدانة تصل حد الذهول، والغيظ لكوني (بعيد) .. كل ما أشعر أحياناً أنه ينقصني، وأنني في أشد الاحتياج إليه يختفي، ويضيع تماماً في هاتين المرتين، أو الثلاث من كل سنة .. كل شيء عدا تلك الكلمات يصير خائباً، ورخيصاً، وتافهاً .. أشكركم كثيراً .. أنا أعرف جيداً أن معكم كل الحق. 
لابد أن أترك فوضى ما .. خلل في نظام، وعيب في تنسيق .. ليس عن قصد، وإنما عن تكاسل هو في حقيقته تعمّد لإفساد رونق لا يكتمل إلا بثغرة هنا، أو هناك .. استجابة تلقائية لرغبة ثابتة في التشويه، وفي عدم الإكمال النموذجي .. كم كتاب، وكم غلاف كتاب، وكم مدونة، وموقع، وصفحة إنترنت أهملت جرحاً في الجمال الظاهري لخروجهم إلى العالم، أو ربما تغاضيت عن قبح أكيد، وواضح، وشامل في بعض الأحيان .. كم مرآة حرصت ـ بديهياً ـ على أن تظل مجروحة، وملوثة .. أمينة في تمرير نسخة من وجهي تعيش في مخزن الأنقاض، المعروف باللاوعي، أو على الأقل مخلصة في قذف لطشات من روحها على جدرانكم.
أنا راقصة استربتيز لم تمتلك يوماً مزيلاً لرائحة العيون.
من رواية (الفشل في النوم مع السيدة نون) ـ دار الحضارة 2014

السبت، 17 سبتمبر 2016

ما يُضرب به من جلْدٍ، سواء أكان مضفورًا أم لم يكن

نساء (رامبرانت) اللاتي مازلن في انتظار عشاقهن على الحائط
ولا يكملن التعري للأسف.
تلاميذ الابتدائي في بداية الثمانينيات
الذين لم تتبدد ابتساماتهم حتى الآن
رغم التراب والإضاءة السيئة.
فروع اللبلاب الذي زرعته للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة
داخل إحدى شرفات Mary Poppins.
المصابيح الصغيرة
التي تحتاج لحرمان الأنوار الساطعة مؤقتاً من الحياة
كي يتمكن صوتها الضعيف من الاعتذار
عن الإضاءة في الوقت الخاطىء.
والساعات .. بالطبع
اللحظات التي تمر كأنها بلا حواس
أو تعبر فراغاً طويلاً.
لا أثق في تلك الأزمنة
المعلّقة على المسامير
ليس لأنها مرفوعة فوق صلابة زائفة
حيث يمكن للذاكرة أن تتهاوى لأي سبب
بل لأنها تستند إلى ثبات حقيقي
يجعل من سقوط اللوحات والصور والنباتات والمصابيح القديمة
مفاجأة نادرة
صدفة شكلية لا تهدد السحر
الذي يمكنه استعادة السماء فوراً
كأن العالم يمكن تعريفه بالهواء الممغنط
أو بالجاذبية المضادة.
الماضي المنتصب
الذي لا يتفاوض حول استجابات أخرى
كعجوز أعمى
يسترد طفولته كلما تخيل وجهي
أو أنه مثلما أعتقد
يراني جيداً.
اللوحة: (هندريكا تخوض ماء الجدول) لـ (رامبرانت).

السبت، 10 سبتمبر 2016

مشكلات صغيرة في فهم العالم

الشيء والشيء الآخر

موظف الاستقبال
داخل عيادة الكشف المبكر عن الأورام
يستمع لإذاعة القرآن الكريم .

وحدة الوجود

من الخلف
الوراء المعهود
وراء الكافة
من الخلف إجمالا
أي أي وراء
حيث لا ينبغي على العينين أن تتوقعا شيئا
يُخرِج الرأس من جاذبية العنق
الرأس بلا أجنحة
بلا جناحين
بلا جناح
الهواء محايد وغير مجبر على الفهم
ليست هناك مسارات خاطئة ينبغي تصحيحها
الهواء له خلف طبعا
نزيه بحسابات الماوراء
اتجاه غير محدد
للتدحرج
لأن الفراغ بريء من التواطؤ
زمن غير محدد
للتدحرج
لأن الوقت ليس مسؤولا عما يحدث خلاله
خصوصا في اللحظات السريعة الخاطفة
الخاطفة
الشهقة الفجائية
للتدحرج
ستثبت الرأس في بقعة ما
وتعيد فتح عينيها
بجوار المنضدة مثلا
زهور بلاستيكية فوق المنضدة
نحن الذين نتظاهر بوجود فجيعة حولنا
في حين أن المنضدة بريئة ومحايدة
ولانخصها
الزهور البلاستيكية لم تطلب أن ننظفها من دماء قليلة
بعثرها التدحرج
ما الذي يعنيها .. ؟!
كونها ليست حقيقية
فهذا ليس سببا للخيانة
على الأقل ليست حقيقية مثل الرأس المتدحرجة
التي تتدحرج بشكل مضحك
هي ليست حقيقية
لديها استيعاب تلقائي لحتمية التدحرج
الذي بالتالي لا يكون مضحكا
بقعة ما
لها رائحة مضاجعة سلحفاتين عاديتين
الرائحة هي نفسها فوق سطح المنزل الآن
الآن
حيث الدود يأكل إحدى السلحفاتين
الرائحة هي نفسها
في حوض الحمام
الآن
حيث السلحفاة الأخرى تشرب ماء كثيرا
لتعيش
الرأس باتجاه التلفاز
لم يظهر الله في نهاية الموجز
ليعتذر
الرأس المتدحرجة نحو العنق
الجاذبية منهمكة
أو هكذا تدعي
أنها منهمكة في ترتيب شيء ما
لكنها حقيقة متروكة للارتجال
هي لابد أن تترك نفسها للارتجال
هي مرتجلة
بإحكام .

لانستحق كل هذا الخير

دقة قلب أقوى
دقة قلب أقوى
بينهما استمرار ما لطبيعة مسالمة
عليه أن يوفر جناة بديهيين
لتسلية الطبيعة المسالمة التي تضيق
مستمرون
يضيقون
بين دقة قلب أقوى
ودقة قلب أقوى
مستمرون لديهم جناة بديهيون
كثيرون وجاهزون بالطبع في أي وقت
بالتأكيد من ضمنهم هم أنفسم
للاعتذار للطبيعة المسالمة التي تضيق
دقة قلب أقوى واحدة ونهائية
نهائية
مستمرون في داخل بعضهم البعض
داخل كتلة واحدة ونهائية
للطبيعة المسالمة
كتلة واحدة وهائلة
حيث لا توجد فراغات
هل هناك حاجة للتبرير ؟!

حجرة النوم

واقف على السرير
لكنه ليس تمثالا
رغم كونه محنطا
هو يتحرك ببراعة داخل ثباته
ابتسامته واقفة على السرير
ابتسامته واسعة
واسعة للداخل تحديدا
فهي تبدو كالنعاس المطمئن
المحسوم
عينان مرتخيتان
شبه مغلقتين على حسابات منتهية
منسجمتان جدا مع الابتسامة الواسعة للداخل
ثابت كما يريد
هو يتواجد أيضا في أماكن أخرى
تشبه هذا السرير
كل الأماكن حقا
والأشرطة السوداء في يديه
مربوطة
هي شبكة ذات ثقوب وهمية
معلقة بطريقة ( في ماذا سنتناقش ؟!!! )
امرأة نائمة في السرير
ورجل نهض
صباح .

لم يحدث في مثل هذا اليوم


القمر في ليل اليوم
قمر
الشرفة في ليل اليوم
شرفة
المقعد في ليل اليوم
مقعد
لم يكن بالونا متهدلا
لم تكن ضيقة
لم يكن جامدا
فارغ من الهواء
حفرة معلقة
وعاء صخري
أنا في ليل اليوم
أنا .

الألم


الكائنات الكارتونية موجودة
لكنها ليست موجودة حقا
هي تدعي الوجود
امتثالا لقرار شخص عادي
لكنها لا تتحمل نتائج وجودها
الأشياء الكارتونية تحدث حقا
لكنها لا تحدث
أو على الأقل تدعي الحدوث
كمبرر درامي
دون أن تنفذه
للأشياء الكارتونية فراغ
لكنه ليس فراغا
أو على الأقل يدعي أنه فراغ
لتمرير حياة محكمة
لكنها وهمية في حقيقتها
سأقبل التغاضي عن ثلاثين عاما مضت
مقابل ثلاثين عاما كارتونيا قادما
أو أكثر بكثير
سأقبل التغاضي عن ثلاثين عاما مضت
وثلاثين عاما قادمة
أو أكثر أو أقل
مقابل موتا كارتونيا في النهاية
إنها الفرصة الوحيدة
وربما الأخيرة
التي بمقدوري منحها للعالم
كي يعتذر بطريقة مناسبة .
من مجموعة (بعد كل إغماءة ناقصة) ـ دار (المحروسة) للنشر 2009

الجمعة، 9 سبتمبر 2016

الحوض الزجاجي

كنت أجلس بجواره، لكن هذا لم يكن يعني لحظتها الرفقة العادية التي يصبح فيها المرء قريباً من جسد تقليدي يُشكّله مزيج ضبابي من شخصيات مختلفة .. كان فرداً محدداً بملامح وتكوينات مدركة، يمكن بسهولة لمس حوافها .. إنه كائن (ثمانينيات المنصورة) الذي ضاجع راقصات (شارع صيام)، وشرب البيرة مع المارلبورو الأحمر والفول السوداني في فنادق (مكة) و(القاهرة) و(كليوباترا)، وغازل بنات ونساء (السكة الجديدة)، وحضر حفلات رأس السنة في (مارشال المحطة) والأفراح في (أبو شامة)، ووزّع (النقوط) على الراقصات والمطربين والموسيقيين، ولعب القمار على القهوة (الأهلية)، وأكل كثيراً في (رستوران داندي)، وفي شارع الهرم رقصت النجمة (هندية) على طاولته، قبل أن يدور على الكباريهات متتبعاُ (عدوية) طوال الليل، وحتى الصباح.
حضوره كان يعني أننا نعيش الآن في هذه الحقبة (الثمانينيات)، وداخل هذه المدينة (المنصورة) حتى لو كان الزمن والمكان مختلفين .. أتأكد الآن من هذه المعرفة: طبيعة وجوده التي انتزعت حينئذ استقلالها بوضوح تام من كيانه المحتشد، وبتخوم صلبة، لن تسمح بالضرورة أن تتداخل معها، أو تشاركها أي طبائع أخرى من شخصيته، تشوّش على نقائها، أو تشتت بميوعة هيمنتها، وهذا ما يحتّم على الوقت والحيز الجغرافي الحاليين الاختفاء تحت ثقل زمنه ومكانه.
كانت الحجرة مضاءة بالنيون، لكنه لم يكن مجرد ضوء النيون الشائع .. لحظتها كان الضوء الذي يجعل من الظلام، أو على الأقل خفوت الأنوار في الخارج يقيناً محسوماً، غير قابل للجدل .. الضوء الذي يُعرفك بشغف على احتكار السطوع، خاصة حين تطير عيناك من النافذة المفتوحة، وتحلّق لذتك في الفضاء الليلي الممتد بلا نهاية حول الحجرة، حيث ترقد أسفله الشوارع والبيوت التي نامت مصابيحها، أو التي على وشك النوم .. كان ضوء نيون لعائلة تحتفل سعادتها بحكايات لا تخص أحداً سوى أبنائها، ولكنها تقبض على العالم .. حكايات تنتمي إلى (الثمانينيات)، وإلى (المنصورة(.
لم تكن هناك عائلة حقاً  .. كنت أنا، وهو، وامرأة عجوز فحسب .. لكن يبدو أن اتفاقاً ضمنياً سبق وأن خلق داخلنا تصديقاً مشتركاً بأننا عائلة بالفعل، الأمر الذي بدا معه جلوسنا كأنه تعبير عن الألفة التي تُشيّد جسوراً حريرية بين الأقارب.
كان يحكي كيف كان يبدأ (كازينو الليل) سهرته بمطلع أغنية صاحبته (شريفة فاضل): (الليل)، مع انبعاث الأضواء الهائجة .. قاطعته العجوز بكلمات غير مفهومة .. لم تكن جالسة معنا، وكلماتها ـ رغم كونها غير مفهومة ـ كانت توثيقاً لمتعة الإصغاء التي ينسجها الحكي .. كانت تكلمنا من وراء مكتبة كبيرة، تفيض رفوفها العالية والعريضة بالكتب .. عين من عينيها تنظر إلينا من شق ضئيل بين كتابين في طرف المكتبة، والعين الأخرى تنظر إلينا من شق ضئيل مشابه بين كتابين في أقصى طرف المكتبة الآخر .. كانت ساحرة مخيفة.
في وسط الحكي خرجت العجوز من وراء المكتبة .. كان شعرها أبيضاً، قصيراً، ولم تكن تغطيه، وإنما عقصته خلف رأسها تاركة ما تحرر من الضفيرة المستديرة منكوشاً .. كانت ترتدي ذلك النوع من جلاليب البيت الذي لا يليق إلا على الأمهات أو الجدات .. عندما رأيت ملامحها لم أعرفها، وإنما كنت مقتنعاً تماماً أن في وجهها لا تكمن جميع النساء اللاتي عرفتهن، وكذلك اللاتي لا أدري عنهن شيئاً فحسب، وإنما كان في ملامحها أيضاً غموض لازمني يتخطى كونها امرأة، بل يتعدى البداهة البشرية أصلاً .. كانت هناك مراوغة تتجاوز التمييز بين الذكوري والأنثوي، تمتلك الذاكرة السرية للحياة والموت، ولا تبقيها كمخلوق مفزع، ولا تثبّت الطيبة في نفس الوقت .. تتحدث معنا بكلماتها المعتادة غير المفهومة، دون أن يبدو علينا القلق من الالتباس الذي يزاوج بين كونها غريبة، وأنها حارسة على (ثمانينيات المنصورة) أيضاً.
فجأة وجدت نفسي أنهض، وأجري داخل الحجرة .. لم أكن أعرف هل أريد الخروج، أم الاكتفاء بالهروب في الداخل .. هل كان يوجد باب أساساً .. أسرعت العجوز دون جزع، أو ارتباك، أو تردد، وإنما بمنتهى الهدوء والاطمئنان بدأت ترفع أغطية المقاعد والكنبة، وتُمسك بالأشباح المختبئة أسفلها، ثم تقذفها بتلاحق قوي بين قدميّ .. كانت الأشباح مزيجاً من دخان، وحيوانات غريبة، ميتة، ومسلوخة، وفقاعات رمادية محبوس فيها حروف، وأرقام ..  ظللت أجري داخل الحجرة محاولاً تفادي الأشباح التي تتدافع على الأرض بشراسة نحو المسارات المختلفة التي أتجه إليها .. كان كائن (ثمانينيات المنصورة) يراقب المشهد مذهولاً، يمنعه الرعب من التفكير في ترك الكرسي الذي يجلس عليه.
من المجموعة القصصية (دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير) ـ مؤسسة المعبر الثقافي 2015

الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

رسائل الخلاص الجمالي

هناك العديد من الأفكار الأولية التي يمكن أن تُخلق في أذهاننا أثناء قراءة مجموعة (مزيد من كل شيء، أو لا شيء على الإطلاق) لـ (حازم عزت) .. أن هذه القصص تقودها إدانة للماضي البشري الذي تحكمه الحروب الاستغلالية والصراعات القاتلة منذ بدايته .. الحروب التي تتخذ ظاهرياً شكل النزاع بين ما يُسمى بالخير والشر في حين أنها في حقيقتها شقاء كامل .. هذه الإدانة لديها تصور ما عن أنه كان من الممكن أن يمتلك الوجود الإنساني ذاكرة بديلة لو تحرر من أي سلطة تفرض خوض الصراعات من أجلها .. الحضور خارج هذه الحروب يشبه الوقوف داخل نقطة مجازية، ممتدة في الخيال أكثر ما هي مستقرة في الواقع، ويحاصرها ـ منطقياً ـ خطر مضاعف.
لكن الجدير بالانتباه حقاً في هذه المجموعة أن قصصها تبدو ـ وبشكل قوي للغاية ـ كتأمل سردي لفلسفة (شوبنهاور) عن الإرادة والخلاص من عبوديتها.
لنقرأ مثلاً هذه السطور من قصة (فراشات ضالة):
(قابع هو ببيته الخشبي في برزخ يفصل بين المتقاتلين، متقوقع في شرنقة من مخاوفه وهواجسه وظنونه، فتاته تلهو وتلعب بجهلها بالخوف وبدمّاها الباهتة.
"لم دقت أجراس الحرب أبوابنا!" لا ينفك يتساءل مرتجفاً، طبّق راحة يده وكأنما يمسك مسجلاً أمام فمه، وقال بصوت رخيم "الطمع".
وفي وجدانه أطرق "نحن لا نستطيع القضاء على الطمع ما لم نقضي على مشاعر البشر".
وأدرك أن كل نزاع منذ السليقة، وهابيل وقابيل يتقاتلان على شيء، كلاهما يرغب أن يقتنيه وحده"
علينا أن ننتبه أولاً إلى أن فعل إطباق راحة اليد الذي يشبه الإمساك بالمسجل أمام الفم أثناء التحدث أو التفكير يبدو كمحاولة مجازية لتوثيق ذاكرة شخصية، مقموعة داخل الماضي الكلي للحروب .. ترك بصمة خيالية للرعب الذاتي الذي أجبره تاريخ الصراعات الجماعية على الصمت .. إن الطمع الذي لا نستطيع القضاء عليه ما لم نقض على مشاعر البشر مثلما جاء الفقرة السابقة يمكن إعادة قراءته في تعريف (شوبنهاور) للإرادة:
(إنها الطبيعة الأعمق، وهي بمثابة اللب لكل شيء جزئي كما هي بالنسبة للكل. وهي تظهر في كل قوة عمياء في الطبيعة كما في كل فعل إنساني مدروس).
علينا أيضاً أن نقرأ تفسير (شوبنهاور) للإرادة:
(إن كل رغبة تنشأ عن حاجة، وبالتالي من نقص، ومن ثم من معاناة، وإشباع كل رغبة يُنهيها، ومع ذلك فمع كل رغبة تُشبع، تبقى هناك في النهاية عشر رغبات في حاجة إلى الإشباع، وعلاوة على ذلك، فالرغبة تدوم طويلاً، والحاجات بلا نهاية،، بينما الإشباع قصير الأمد ويأتي بالكاد. وحتى الإشباع النهائي يكون في ذاته ظاهرياً فحسب، فكل رغبة تُشبع تفسح في الحال مجالاً لرغبة جديدة، وكلتاهما وهم).
اللافت أيضاً في قصة (فراشات ضالة) أن الرجل الذي تطارده الطائرة أو الموت القادم من الحرب حينما اشترى ملاءة بيضاء وعبوة طلاء بلون الدم، وشق الملاءة نصفين ونام بداخلها ثم رسم بعد ذلك زخارف في أطراف اللوحة باللون الدموي والتي كتب عليها (لا وجود لرابح، ولا وجود لخاسر فكلكم أغبياء مصرون) قبل أن يشهرها في الهواء؛ حينما فعل ذلك كأنه كان يحاول الجمع بين السبيلين للخلاص عند (شوبنهاور) من شرور الإرادة وهما الفن أو التأمل الجمالي (الرسم والكتابة على اللوحة)، والزهد (النوم داخل ملاءة بيضاء تصلح ككفن أيضاً) .. ربما يكون من المدهش فعلاً في هذه القصة هو أن هذا الرجل حينما حاول أن يجعل زوجته جزءً من اللوحة بعدما شاهدها في رداء فاضح بواسطة اللون الأحمر المتوغل إلى ثيابها كان يبدو كأنه يسعى لتحريرها مثله بنفس الطريقة التي قرر أن يقاوم بواسطتها الألم، وفي نفس الوقت كان يؤكد إرادة الحياة من خلال الغريزة الجنسية التي اعتبرها (شوبنهاور) التوكيد البدني للإرادة .. هذا التوكيد لإرادة الحياة الذي مارسه الرجل مع زوجته هو الخطوة التي تسبق إنكار هذه الإرادة عن طريق الزهد؛ أي الوصول إلى أعلى درجات الأنانية التي تمهد للتخلي التام والتخلص من وهم الفردية .. هذا ما حدث للرجل في القصة حينما رأى زوجته فجأة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، واللون الأحمر هو قطاف عذريتها, وحقيبة يدها تتحوّل إلى حقيبة مدرسية .. كأن الإرادة يُعاد ولادتها مع كل محاولة لتأكيدها، وأن هذا الذي يبدو حلماً يحدث على نحو عادي بين الناس كواقع يومي .. إذن تلك هي الهوية التي يتسم بها كل من يحاول الخلاص من (الجشع): أن يكون عارياً أمام الجميع وهو يحاول أن يخبرهم بأنه لا وجود لرابح ولا وجود لخاسر .. كأن هذه اللافتة هي قصة قصيرة تمت صياغتها على نحو مختلف، وأن هذا الرجل هو (حازم عزت) نفسه.
تقدم لنا قصة (الشجرة) ما يشبه محاكاة خاصة لقصة الخلق .. خلق (الإرادة) .. الحصاة التي صارت نبتة ثم شجرة ابتلعت الأب في باطنها، وأصبحت تطرح ثماراً حمراء (المرض والموت)، وثماراً بيضاء (الدواء والحياة) .. الخير والشر .. الأخان اللذان سيقتل أحدهما الآخر ثم يموت معه بعد أن تسحبهما الشجرة أسفلها ..الشر الذي يبقى شراً، والخير الذي ليس خيراً كما يبدو بل مظهر آخر للشر .. الحياة التي تلمع ثمارها في العيون الجائعة ثم تبتلعهم لتسقط حصاة مزخرفة جديدة بديعة الرسوم، وتستمر الشجرة في النبت والطرح إلى الأبد.
أظن أنه من الوارد جداً الشعور بالشغف البورخيسي داخل مجموعة (مزيد من كل شيء أو لاشيء على الإطلاق) .. ليس فقط على مستوى الفانتازيا الحلمية أو اللعب بالشفرات والرسائل الغامضة بل أيضاً بوضع الخبرة البشرية في نطاق الغموض والاستجواب العجائبي .. أتذكر قصة (الأسطوانة) لـ (خورخي لويس بورخيس) حيث الحطاب العجوز الذي قتل المتشرد لطمعه في أسطوانة (أودين) التي كانت تومض في يده الفارغة، ثم لم يجدها بعدما ألقى جثته في النهر، وظل يبحث عنها دون جدوى .. استدعاء هذه القصة كان يتم تدريجياً مع قراءة قصة (مزيد من كل شيء) .. حكاية الأم لطفلتها الميتة عن الجدة التي مات زوجها فأخبرت ابنتها أنه مسافر تحت الأرض .. تقص الأم حكايتها مع جدتها ومع الولد (إدوارد) كما لو أنها حية .. والد (إدوارد) الميت الذي ترك رسالة لإبنه في كتاب سيتتبع مع صديقته ما جاء فيها ليصلا في النهاية إلى هذه العبارة (البحث عن مزيد لا ينتهي، لأن كل مزيد يؤدي إلى مزيد) .. هل علينا استرجاع تعريف (الإرادة) عند (شوبنهاور) مرة أخرى؟ .. لنقرأ هذا المقطع من القصة:
(قال إدوارد: "لماذا لم يترك لي الرسالة من الأساس في هديته؟"! قالت لنا عاملة المكتبة بعد أن فهمت كل شيء: "لو فعل هذا لما كان الأمر مهماً، لن يكون للرسالة معنى إذا لم تأت بحثاً"!).
لهذا يمكن أن يكون فعل القتل في قصة (بورخيس) أكثر أهمية من أسطوانة (أودين) نفسها .. أن التفكير فيما يعنيه (مزيد من كل شيء) أكثر ضرورة من الامتلاك ذاته .. التأمل في مقابل التورط .. هذا ما يجعل الأم تحاول إعادة طفلتها الميتة إلى الحياة بواسطة الحكي .. إنقاذها من الموت دون استردادها جسدياً، وفي ذلك إنقاذ للأم نفسها من الحياة .. تقول في القصة:
(سأخبرك سراً، أنتِ كبرتِ الآن وستتفهمين، أنا أحدّث نفسي أحياناً ـ أعرف أنني أطيل النظر إلى الفراغ، يعرفني وأعرفه، يحكي لي ويعرف عني كل حكاياتي، وإلا لما كنت هنا ـ أعني أنني أفكر، فيما يجول بخاطري ويكاد يكسّره كما لوأنكم: أنتِ وأبوكِ وجدتكِ، ذهبتم في رحلة سياحية إلى مدينة الأحلام والعجائب، وأنا تعللت بخوفي من ركوب الطائرة، فبدلاً من هذا ركبت السرير).
تدفعني هذه القصة ـ والمجموعة بشكل عام ـ لاقتفاء أثر عناوين عديدة تطغى بطريقة ما على القصص .. أقصد هنا (الإرث والتناسخ والعود الأبدي) .. إن الأم في قصة (مزيد من كل شيء) تحوّل الطفلة الميتة إلى نسخة منها مثلما حملت هي نفسها إرث الفقد من الأم .. حوّلت والد (إدوارد) برسالته المخبوءة في المكتبة إلى أبيها، وفي نفس الوقت استعادت أمها وزوجها عبر الطفلة الميتة .. تكرار ما حدث بكيفية خيالية .. كأنها كانت تحاول تحرير الجميع من (الإرادة).
قصة (مقايضة) مثال ساطع على العناوين التي ذكرتها سابقاً .. هناك وهم مقايضة .. أن تتحوّل من فأر إلى آدمي يملك ذاكرة الفأر مقابل أن تفقد النطق والسمع .. نقرأ في هذه القصة:
(أفهمتني أنه لي أن أرى نسختين سابقتين فقط مني، وأنها والفأر هما أنا لكن في حياتين سابقتين، أما القزم فهو أنا أيضاً لكن في حياة أسبق، وأنه إذا ما مت الآن، وتقرر أن أولد من جديد في حلة أخرى فلن أرى السلحفاة، وسأظل أرى الفأر والآدمي الأخرس هذا).
لدينا في هذه القصة كل شيء حددته سابقاً: (الإرث والتناسخ والعود الأبدي) .. لكنني أظن أنه من الأجدر التوقف عند إلهامين أساسيين: الأول هو أن (الإرادة) لا تتعطل بل يتم توارثها في جميع النسخ التي لا تتوقف عودتها (القهر والغيرة والانتقام)؛ فالفأر الأكبر ينتهي موت البشر بين أسنانه .. الثاني هو السبب الذي يقف وراء الرغبة في الاحتفاظ بالماضي رغم بؤسه .. هل هناك إيمان ما بالقدرة على ترويضه في حياة أخرى دون فقدانه؟ .. هل هو التمسك بالخبرة أي بحصيلة الإرادة عبر الأزمنة؟ .. ربما بحثاً عن تأكيده قبل اكتشاف الرسالة، أي قبل تأمله، والخلاص من عبوديته.
أعتقد أن التأمل السردي لفلسفة (شوبنهاور) في المجموعة قد بلغ ذروته في قصة (لا شيء على الإطلاق) .. نحن أمام عودة لكتاب (مزيد من كل شيء) الذي ترك والد (إدوارد) لإبنه الرسالة بداخله في القصة التي تحمل نفس الإسم ولكن الكتاب هذه المرة يتم اكتشافه تحت رأس شاب أربعيني منتحر في قبره .. ينزل التُربي إلى الشارع عارياً بعد قراءته للكتاب ويقول للناس:
(اخلعوا كل ما يقيد الإنسان .. كل ما استُحدّث لينظم أموركم .. اخلعوا السلطة .. اخلعوا الضوابط الدنيوية والفوقية .. انفضوا عن كاهلكم الدين .. اتركوا السياسة وكفوا عن كونكم مسيّسين .. امسحوا الحدود الجغرافية .. عيشوا الحياة بلا وصاية أو خضوع لإرادة أحد).
لا يصل التوحد مع (شوبنهاور) إلى أقصاه في هذه الفقرة، بل دعونا نتعامل معها كتأكيد جديد على ما شرحته سابقاً، لكن التوحد سيبلغ ذروته حقاً مع خروج روح الشاب الأربعيني المنتحر من القبر بعد محاربة المحافظين للمتحررين أنصار فكر التُربي الذين قُتلوا ثم قرر ما تبقى منهم الانتحار بعدما حاصرتهم جيوش المحافظين .. الشاب الأربعيني الذي سُجنت روحه في جسده ـ لأنه انتحر ـ حتى حان وقت تحررها فخرجت مريضة إثر الأسر الطويل كما جاء في القصة، هذا الشاب كان يود إخبار المتحررين ألا ينتحروا كي لا يصيبهم ما تعرّض له، وأن يرحبوا برصاصات المحافظين ليجنبوا أرواحهم العذاب .. كان (شوبنهاور) يرى أن الانتحار ليس حلاً، لأن الانتحار هو قضاء على الفرد لا النوع؛ فإرادة الحياة سوف تستمر حتى بعد فناء الفرد .. الانتحار لا يُصلح ما أفسده الوجود، والعزاء الوحيد عما في الحياة من شر هو قصرها، وهذا أفضل ما فيها .. كأنه لا يجب أن تفوتك ـ حتى داخل الجحيم وبينما تحول الإنفلات منه ـ فرصة أن تتأمله عن طريق الفن أو الزهد الأخلاقي.
يكتب (حازم عزت) لغة مقتضبة، ذات إيقاع سريع، توحي دائماً بأنه يرسم خريطة لتلك النقاط المجازية التي ينبغي أن نقف بداخلها خارج الحروب والصراعات .. كأنه يمرر شفرات لكيفية الحصول على الذخيرة التي نحتاجها من العالم لنمتلك حرية اللعب .. هل علينا أن نفكر في مصير النسخ الأخرى من كتاب (مزيد من كل شيء)، وفي من هم الأحياء والموتى والمنتحرين الذين وصلت إلى أيديهم هذه النسخ؟ .. هل هذه المجموعة نسخة من هذا الكتاب؟ .. إن ما قام به (حازم عزت) يشبه ما فعله الدب الأب مع ابنه .. ألقى بنا أمام الفهد الصياد .. الخيانة والموت .. كأن البنت التي حكى أبوها لها قصة (صغير الدب والفهد الصياد) هي نسخة من المرأة التي كانت تحكي ماضيها لابنتها الميتة في قصة (مزيد من كل شيء) بعد عودتها في صورة أخرى .. كأن حكاية (صغير الدب والفهد الصياد) هي جزء من كتاب (مزيد من كل شيء) .. حسناً .. ربما من ضمن ما يجب مواجهته داخل تلك اللعبة السردية هو ذلك الغيبي الذي خلق الإرادة .. المقدس الذي لا نعرف هل هو القوى العظمى التي أنشأت الكون وتسيّره وتبعث برسائلها الغاضبة تحت رؤوس المنتحرين، أم أنها هي التي تمنعنا دائماً من العودة بناب الفهد الصياد.
موقع (زائد 18)
6 ـ 9 ـ 2016

الأحد، 4 سبتمبر 2016

الميتافيزيقا المضادة

أتصور أن التفكير في انحياز (محمد الفخراني) لأن تُقارب روايته (ألف جناح للعالم) الصادرة مؤخراً عن (الكتب خان) كأسطورة مرآوية لواقع معين، محدد بأطر مدركة، وبلغة يمكن اكتشافها، أتصور أن هذا التفكير يمثل أحد (الأعاجيب) المقاومة لقراءة الرواية .. الخيال في (ألف جناح للعالم) لا يعكس واقعاً بل أنه ليس مرآة أصلاً .. هو حضور هائل وراء موضوع الكون نفسه .. وجود خارج الزمن، ينظم أحلامه دون أصل في الماضي، وبألعاب مجازية غير مشروطة بنظام سابق للبلاغة .. هذا ما تنجزه طوال الوقت حركة السرد غير المتوقعة، وطبيعة الشخصيات وعلاقاتها الجدلية، والتفاصيل التي تمر عبر السياقات المتعددة للحكي، كما لو أنها غير معنية بضرورة بنائية مقصودة، بل كما لو أنها منفصلة عن غايات القدر والمصير لصالح الخيال ذاته.
(ظلت تطارد رائحة الحلوى وهي تحضن أوراقها حتى تلونت السماء بالبنفسجي الفاتح، يمكنها الآن العودة إلى البيت لتقرأ أوراق "الليل"، تلفتت حولها لتختار طريقاً للخروج، رأت طفلة تعبر إلى شارع جانبي، وهي تمسك بخيط في نهايته بالونة حمراء، تبعتها، وجدت نفسها بمواجهة فاترينة ملأى بالحلوى، كان المحل المفضل لها، وصاحبته الأربعينية، بشعرها الذهبي وساقيها الحلوتين تقف في فتحة الباب وتبتسم لها، ابتسمت لها "سيمويا"، ومررت عينيها على ساقيها).
أشياء العالم تصلح كخامات .. هذه إجابة الرواية عن التساؤل الذي ربما يصبح الأكثر جوهرية عند البعض .. ماذا عن العالم كفكرة ذهنية ستحدث مشهدياً في المستقبل كما تتم في الحاضر؟ .. ماذا عن أشيائه الحتمية التي لا يتم تداولها كظلال خارج أجسادنا بل كحياة مظلمة في الوعي؟ .. (محمد الفخراني) يستعمل كافة الحسيات الممكنة لا لخلق سيرة غرائبية ترتفع فوق أي تاريخ منظور ـ أو هكذا يبدو ـ بل للوصول إلى أقصى يقين محتمل لتلك الحسيات عما يمكن أن تخلقه .. المعرفة المقموعة (الخارقة) التي بوسع رواية مثل (ألف جناح للعالم) البرهنة على أن العالم يمتلكها .. أجنحته غير المرئية .. هذا ليس اكتشافاً عجائبياً يوازي ما تنجزه (سيمويا) في الرواية .. إنه الحقيقة (البديهية) المبتورة عن ما يسمى بـ (الواقع) وبالتالي عن ما يطلق عليه (العالم الغرائبي) نفسه .. الحقيقة التي تتنشر في غموضنا الجسدي، ولا علاقة لها بالتمثيلات المشهدية في الخارج حيث تستقر العتمة.
(لا تفقدى شَغَفَك سيمويا"
قال القبطان المذهول وأدار الدفّة، انطلقَتْ السفينة بسرعة كبيرة.
 قابلَهم ضباب برتقالى، دخلوه، قلّلَ القبطان سرعته، سمعوا مع صوت البحر حفيف أشجار، شمّوا رائحة منعشة كأن ألف شخص يُقشّرون ألف برتقالة فى اللحظة ذاتها، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" برذاذ القشر يلمس وجهيهما وجفونهما مثل نشوة، رأيا البرتقال يتطاير حول السفينة، ويعبر فوقها، كأن أشخاصًا يتبادلونه أو يلعبون به، حاولا أن يُمسكا بواحدة، يراوغهما البرتقال، ويسمعان ضحكات أطفال فى كل محاولة، ترك القبطان الدفّة، راقَبَ البرتقال لحظات، قفز وأمسكَ بواحدة، قشّرها بيديه، اقتسمها مع "سيمويا" و"دوفو"، توقف البرتقال عن الطيران، تلاشى الضباب عدَا طبقة خفيفة على سطح البحر، لم يكن هناك أطفال أو أشجار.
خرجَتْ السفينة إلى الأزرق.
"أنظرا خلفكما"، قال القبطان.
رأى "دوفو" و"سيمويا" الضباب البرتقالى يتكوّن من جديد).
أسس (محمد الفخراني) في رواية (ألف جناح للعالم) ما يمكن أن أطلق عليه (ميتافيزيقا مضادة) .. لقد وضع (الشغف) سردياً كماهية للموجودات وكعلة للأسباب .. كقدرة مطلقة أوجدت العالم، وتقوده، وتكمن وراء ظواهره .. طالما أن الأمر كذلك فكل شيء سيتغير (منطقياً) .. ستختلف المبادىء التي تحكم الموجودات والأسباب والظواهر .. ستصير حضوراً لم يسبق لنا إدراكه .. ستتحول الحسيات نفسها إلى (ماورائيات) مستقلة، ولن تبقى كوسائط لأصل متعال .. ستتبادل الخواص فيما بينها دون تأطير، ولن تخضع لغتها للمفاهيم الموحدة للعلامات .. لن تكون مرآة (أسطورية) لعنصر آخر سبق لمسه.
(تنقّلَتْ السفينة بين درجات مختلفة من ألوان الليل، توقّفَتْ فى مساحة ساكنة، ليس بها موج، فقط يرتعش الماء بخفة، صوت البحر بعيد كأنه وشيش، سحب القبطان ذراعًا حديدية زرقاء بجوار الدفّة، بدأت السفينة تغطس ببطء، حتى لم يتبق من جسمها على سطح البحر غير متر واحد، مشى القبطان إلى أبعد نقطة فى المقدمة، فتحَ فى جانبها الخارجى بابًا عَرْضيًا، سحَبَ من داخله شريط فلّين، عَرْضُه مترين، طوله ثلاثة أمتار، وسُمْكه نصف متر، ألقاه على سطح البحر، وقفز إليه، أشار إلى "سيمويا" و"دوفو"، قَفَزَا، تمدّدَ على بطنه، حَدّقَ فى الماء، فَعَلَا مثله، رأيا فى عمق البحر طبقات بألوان مختلفة، زرقاء، خضراء، حمراء، برتقالية، ورديّة، ذهبية، صفراء، بيضاء، بنفسجيّة، تكرّرَتْ الألوان بدرجات مختلفة، بدَتْ كأنها لن تنتهى، حتى رأيا طبقة مُعتمة، نفَذَ بصرهما منها إلى قاع مضئ، بَدَا قريبًا، كادا يمدّان أيديهما إليه، خَشِيَا أن يخدشا هذا الجمال، كأن كل شىء خُلِقَ للتوّ، أو أنه موجود منذ أول لحظة فى الوجود، انمحَتْ ذاكرتيهما، نَسيَا كل لحظة حزن وفرح، تلاشى الوقت والمكان.
 كانا ينظران مباشرة إلى سرّ البحر).
لابد من الإلتفات إلى فكرة غياب المعنى في الرواية .. من أهم الهواجس ـ وأكثرها غرائبية أيضاً ـ التي يمكن أن تطغى بفضل هذه المغامرة السردية هو أن الإحالات التي قد تبدو لها أهمية بوجه عام، ربما ستصبح اعتبارات ثانوية هنا .. نعم في الأمر مخاطرة كما أظن، ولكنها تليق وتتفق تماماً مع اللعبة الهائلة التي قررها (محمد الفخراني) منذ البداية وظل ملتزماً بها .. ليست مخاطرة وحسب بل وقبولها شاق أيضاً ولكن له ثمن أكبر من المتعة .. كيف يمكن تصديق أن الزمن والحياة والحرية بل والحب نفسه أساسيات تقف على حافة الرواية وليس في عمقها؟ .. كيف يمكن أن نتعامل مع هذه الحكمة (من أحب نجا) كهامش وليس متناً؟ ..  إذا كان (محمد الفخراني) قد أسس في رواية (ألف جناح للعالم) ما أطلقت عليه (ميتافيزيقا مضادة) فإن هذا يستدعي ـ منطقياً أيضاً ـ شكلاً من أشكال (الهرمنيوطيقا المضادة) .. التأويل الذي لا يفسر الحكي بوصفه حقلاً من الرموز المثالية، المرهونة بحقيقة كلية خارجها بل كمراوغة أدائية قائمة في ذاتها .. الذي لا يعيد الدال إلى (مدلولات كاشفة) بل يتستفز شياطينه .. حسناً .. لو تركنا الأمر للحب ـ كمتن ـ سنظل عالقين داخل الزمن الذي انفصل (محمد الفخراني) عنه في الرواية .. سنظل سجناء كافة السرديات التي أخبرتنا بهذه الحكمة (من أحب نجا) .. لكن في (ألف جناح للعالم) نحن لسنا عالقين في تاريخ ما بل استبدلنا كافة الغايات بعدم فقدان الشغف .. بالخيال .. بأجنحة العالم ..  هذا ما لا يمكن أن يكون مشابهاً لشيء آخر ..  الشغف لا يمكن أن يخضع لماهية محددة أو لعلة ثابتة أو لقدرة محسومة .. الشغف لا يكون إلا ذاته، ولا يخلق إلا ما يخصه، وما لا يتكرر حتى لو بدا ـ ظاهرياً ـ أن ثمة واقع ينفي ذلك .. أن تحب، فهذا مستوعب ومفهوم، لكنه ـ كما حاولت الرواية أن تخبرنا ـ ليس مستوعباً ولا مفهوماً إلا بواسطة الغموض الذي يهيمن على خطواتنا التي تتحرك باتجاهه .. إلا بواسطة الخيال.
 أخبار الأدب
 03/09/2016