السبت، 31 أكتوبر 2015

مقابر الطيور

في قصة (الكناري) لـ (كاثرين مانسفيلد) رأت ربة البيت في إحدى الليالي حلماً بغيضاً، وحينما ذهبت إلى المطبخ من أجل كأس ماء بدا لها من خلال نافذة المطبخ كأن الظلام يحدق في الداخل .. هذا الظلام الذي كان يتجسس على فزعها، كان هو أيضاً ذلك الشيء العميق في الأسفل تحت الغناء العذب المرح للكناري، والذي عرفت أنه الحزن .. المسمار الكبير على يمين الباب الأمامي لم يكن من الممكن بالفعل أن تحتمل ربة البيت أن تنزعه حيث كان قفص الكناري الميت معلقاً .. بدا الكناري كأنه مات بداخلها، وشعر قلبها بالخواء كما لو أنه كان قفصه .. تحب ربة البيت التفكير في أن الكناري كان هناك دائماً ـ حيث يوجد المسمار ـ حتى بعد زمنها، أحياناً تسمع الناس المجاورين يقولون: (لابد أنه كان هناك قفص يتدلى منه)، وكان هذا يريحها؛ تشعر أنه لم يُنسى تماماً .. قلبها كان معلقاً على هذا المسمار، وكان يعيش بداخله الطائر الذي قال لها في الليلة الشتائية التي رأت فيها الحلم البغيض: (حلوتي! حلوتي! أنا هنا يا ربة البيت! أنا هنا!) فشعرت بالراحة لدرجة أنها أوشكت على البكاء .. كان الكناري يمثل وجوداً أعمق من مجرد الحضور المناقض لقسوة رجال ربة البيت الثلاثة، الذين يصفونها بـ (الرثة الهزيلة)؛ إذ لم يكن الرفيق الصغير المثالي، المتعاطف، الذي يعطي بغنائه البهجة إلى الحياة الموحشة لصاحبته وحسب .. كان الكناري هو الكيان المخبوء لربة البيت، الذي لم يكن لديها الفرصة كي تكشف عنه .. الحقيقة التي لم يرغب أحد في معرفتها .. لم يكن الكناري مجرد كائن مسالم، ملائم لتخفيف بشاعة الوحدة أو لمنح المواساة تعويضاً عن جفاء الآخرين، بل كان أقرب إلى الذات الطفولية لربة البيت التي يمكنها التغلب على الأحلام الكريهة، وعلى الظلام حين يحدق فيها، ويتجسس عليها من نافذة المطبخ في الليالي الشتائية .. لكن موت الكناري بدا أنه انتصار كان محتوماً لذلك الظلام، وهو ما كان يكمن تحت غناء الطائر، وما كانت تدركه ربة البيت عند الاستماع إليه.
تقول ربة البيت: (والآن قد ذهب. لن أملك طيراً آخر بعده، أو أي حيوان أليف من أي نوع. كيف يمكنني؟) .. لو كان الكناري مجرد أداة مضمونة للعزاء لما أكدت ربة البيت عدم قدرتها على امتلاك أي حيوان آخر بهذا التساؤل الاستنكاري: (كيف يمكنني؟) .. ربة البيت حينما يموت كيانها المخبوء، وتضيع حقيقتها التي لم يرغب أحد في معرفتها حيث لن تعود أبداً فإنها لا يمكن أن تستعير كيانً آخر أو حقيقة أخرى .. لن يكون بوسعها أن توجد في ذات أخرى بديلة .. ربة البيت لم تعد تملك سوى أن تترك المسمار الكبير على يمين الباب الأمامي ليتذكرها الناس كأنه شاهد قبر.

الكناري – قصة كاثرين مانسفيلد
ترجمة رقية كنعان 

هل ترى هذا المسمار الكبير على يمين الباب الأمامي؟ أنظر إليه برعب حتى اللحظة وأيضا لم أحتمل أن أنزعه. أحب أن أفكر أنه كان هناك دائماً حتى بعد زمني. أحياناً أسمع الناس المجاورين يقولون: "لا بد أنه كان هناك قفص يتدلى منه"، وهذا يريحني؛ أشعر أنه لم يُنسى تماماً.
لا تستطيع أن تتخيل كم غنى بشكل رائع، لم يكن كتغريد طيور الكناري الأخرى، وذلك ليس فقط في مخيلتي. عادة ومن النافذة اعتدت رؤية الناس يقفون عند البوابة ليسمعوه أو ربما ينحنون فوق السياج بجانب البرتقالة المزيفة لفترة طويلة من الوقت- مأخوذين.
أفترض أن ذلك يبدو منافيا للعقل- ليس إن كنت سمعته- ولكن حقاً بدا لي أنه غنى أغنيات كاملة ببداية ونهاية لكل منها.
على سبيل المثال، عندما كنت أنهي عمل المنزل في فترة بعد الظهر وأغير بلوزتي وأحضر حياكتي إلى الصالة هنا، اعتاد أن يقفز يقفز يقفز من عمود إلى آخر، ينقر مقابل القضبان وكأنه يحاول جذب انتباهي، يرتشف قليلاً من الماء كما يليق بمغن محترف ثم ينطلق في أغنية رائعة، فأضطر أن أضع إبرتي جانبا وأستمع إليه. لا أستطيع وصفه؛ وليتني أستطيع، ولكنه دائماً كان الشيء نفسه كل عصر وشعرت بأني فهمت كل نوتة منه.
لقد أحببته. كم أحببته! ربما لا يهم كثيراً ماهية أن يحب أحد في العالم، ولكن الحب شيء واجب. بالطبع كان هناك دائماً منزلي الصغير والحديقة، ولكن لسبب ما لم يكونا أبداً كافيين.
الأزهار تستجيب بشكل رائع، ولكنها لا تتعاطف، ثم أحببت نجم المساء- هل يبدو ذلك حمقا؟ اعتدت أن أذهب إلى الساحة بعد الغروب، وأن أنتظره إلى أن يشرق فوق شجرة الصمغ المظلمة ثانية. اعتدت أن أصفر: "ها أنت هناك، يا حبيبي" وفي ذات اللحظة يبدو لي أنه يشرق لأجلي وحدي. بدا وكأنه يفهم ذلك... شيء ما مثل الشوق، وهو مع ذلك ليس الشوق. أو الأسف- إنه أقرب إلى الأسف. أسى لأي شيء؟، لدي الكثير لأكون شاكرة بسببه.
ولكن بعد أن جاء إلى حياتي، نسيت نجم المساء؛ لم أعد أحتاجه. ولكنه كان غريبا، عندما جاء الرجل الصيني إلى الباب ليبيعه حمله عالياً في قفصه الدقيق، وبدلا من الرفرفة، مثل عصفور صغير مسكين، أعطى سقسقة صغيرة ضعيفة، وجدت نفسي أقول، كما اعتدت أن أقول للنجم فوق شجرة الصمغ:"ها أنت هناك يا حبيبي". ومن تلك اللحظة كان ملكي.
يدهشني حتى اللحظة أن أتذكر كيف، هو وأنا، تشاركنا في حياتنا. في اللحظة التي أجيء فيها في الصباح وأرفع قطعة القماش من على قفصه يحييني بنوتة صغيرة ناعسة، عرفت أنها عنت:"ربة البيت! ربة البيت!" ثم أعلقه على المسمار في الخارج بينما أقدم لرجالي الثلاثة الشباب إفطارهم، ولم أكن أحضره في الداخل أبداً إلى أن يكون المنزل لنا ثانية. ثم، عندما ينتهي الغسيل، كان عبارة عن تسلية صغيرة. كنت أنشر جريدة فوق زاوية من الطاولة، وعندما أضع القفص فوقها، اعتاد أن يضرب بجناحيه بيأس، كما لو أنه لا يعرف ما سيحدث. "أنت ممثل صغير" هكذا اعتدت أن أوبخه ثم أكشط الصينية، أغبرها بالرمل الطازج، أملأ آنية البذور والماء، أثبت قطعة من عشب الطيور ومسحوقاً منعشاً بين القضبان، وأنا واثقة تماماً أنه فهم وقدر كل جزء من هذا الأداء. أنت ترى أنه كان بطبيعته رائع الأناقة. لم يكن هناك لطخات فوق ساريته، عليك أن تراه يستمتع بحمامه لتعرف أنه كان لديه عاطفة حقيقية تجاه النظافة. حمامه يوضع في الأخر، وفي اللحظة التي يكون فيها فيه فإنه يقفز بداخله. في البداية يرفرف جناحاً واحداً، ثم الآخر ثم يغطس رأسه ويرطب ريش صدره. قطرات الماء كانت تنثر فوق المطبخ كله، ولكنه لم يكن يخرج. اعتدت أن أقول له: "الآن هذا كاف جداً، أنت تستعرض فقط" وأخيرا يقفز وهو واقف على رجل واحدة، يبدأ يجفف نفسه بمنقاره، يعطي هزة، ضربة، ارتعاشه ويرفع حلقه- أوه بالكاد أتحمل أن أستذكر ذلك. كان وقت تنظيف السكاكين في ذلك الوقت دائماً وكان يبدو لي أن السكاكين تغني أيضاً، وأنا افركها لامعة على اللوح.
الرفقة كما ترى- ذلك ما كانه. رفيق مثالي. لو عشت وحيداً فستدرك كم ثمين ذلك. طبعا كان هناك رجالي الشباب الثلاثة الذين كانوا يأتون للعشاء كل مساء وأحيانا كانوا يبقون في غرفة الطعام بعدها يقرؤون الجريدة. ولكن لم يمكن أن أتوقعهم يهتمون بالأمور الصغيرة التي كونت يومي. ولم عليهم ذلك؟ كنت لا شيء بالنسبة لهم. في الحقيقة، سمعتهم في أحد المساءات يتحدثون عني على الدرج ب "الرثة الهزيلة" . لا يهم. لا يهم ولا بأي شكل. إني أتفهم تماما. هم شباب ولم علي أن أمانع؟ ولكني أتذكر أني شعرت بشكر خاص أني لم أكن وحيدة ذلك المساء. أخبرته، بعدما خرجوا، قلت:"هل تعرف ماذا يسمون ربة البيت؟" ووضع هو رأسه إلى جانب ونظر لي بعينه اللامعة الصغيرة إلى أن لم أمنع نفسي من الضحك. بدا وكأن ذلك يذهله.
هل ربيت طيوراً؟ لو لم تفعل فكل ذلك يجب أن يظهر، ربما، مبالغاً به. الناس لديهم فكرة أن الطيور بلا قلوب، مخلوقات صغيرة باردة، ليست كالكلاب أو القطط. المرأة التي تساعدني في الغسيل اعتادت القول في أيام الاثنين عندما تتعجب لم لا أربي "كلب صيد ثعالب جميل"، " لا يوجد راحة سيدتي في كناري". غير صحيح، غير صحيح البتة. أتذكر في إحدى الليالي رأيت حلماً بغيضاً – الأحلام يمكن أن تكون قاسية بشكل كريه- حتى بعد أن استيقظت لم أستطع التغلب عليه، وهكذا وضعت ردائي وذهبت إلى المطبخ في الأسفل من أجل كأس من الماء. كانت ليلة شتائية وتمطر بغزارة. أظن أني كنت لا أزال نصف نائمة ولكن من خلال نافذة المطبخ لم يكن أعمى، بدا لي أن الظلام يحدق في الداخل، يتجسس. وفجأة أحسست أن فوق الاحتمال أنه لا يوجد لدي من أقول له "رأيت حلما بغيضا" أو "خبئني من الظلام" ، حتى أني غطيت وجهي لدقيقة وعندها جاءت "حلوتي! حلوتي!" صغيرة، قفصه كان على الطاولة وقطعة القماش انزلقت بحيث شق من الضوء أشرق خلالها، "حلوتي! حلوتي!" قال الرفيق الحبيب الصغير ثانية، بنعومة بقدر ما يمكن له القول، "أنا هنا يا ربة البيت! أنا هنا!"، كان ذلك مريحاً جميلاً لدرجة أني أوشكت على البكاء.
والآن قد ذهب. لن أملك طيراً آخر بعده، أو أي حيوان أليف من أي نوع. كيف يمكنني؟ عندما وجدته مستلقياً على ظهره، وعيناه باهتتان ومخالبه منزوعة، عندما أدركت أني لن أسمع ثانية حبيبي يغني، شيء بدا وكأنه مات داخلي. قلبي شعر بالخواء كما لو أنه كان قفصه. يجب أن أتغلب على ذلك. بالطبع يجب ذلك. المرء يمكن له تجاوز أي شيء مع الوقت. والناس يقولون دائماً أني أملك حسماً مرحاً. هم محقون وأنا أشكر ربي أنه لدي.
كله سواء، بدون أن تكون مريضاً، وتفتح الطريق إلى – إلى الذكريات وهكذا، يجب أن أعترف أنه يظهر لي أن هناك شيئاً حزيناً في الحياة. من الصعب قول ما هو. لا أعني الأسى الذي نعرف أجمعين، كالمرض والفقر والموت. لا، إنه شيء مختلف. إنه هناك، عميق في الأسفل، عميق ، جزء من المرء كتنفسه. مهما عملت بجد وربطت نفسي علي فقط أن أتوقف لأعلم أنه هناك، ينتظر. غالباً ما أعجب إن كان الجميع يشعرون بذلك. لا يمكن للمرء أن يعلم. ولكن أليس استثنائيا أن تحت غنائه العذب المرح الصغير كان هناك –الحزن؟ آه، ما هو؟ -ذاك الذي سمعتُ.

المصدر:
Katherine Mansfield
The Collected Short Stories
Penguin Modern Classics
1984

الجمعة، 30 أكتوبر 2015

الأيادي البيضاء للخطيئة

يثبّت (جي دي موباسان) في قصته (تهور) صياغة تنبؤية لبداية العلاقة بين زوجين؛ فالتمهيد العاطفي الذي يؤسس لحياتهما يتضمن وعداً بالمسار الذي ستخطو هذه العلاقة بداخله .. يكشف (موباسان) على نحو واضح عن العوامل التقليدية التي تخلق الانجذاب بين الرجل والمرأة، والتي تنبع بداهتها الغريزية من ارتباطها بالطبيعة .. رجل أحب فتاة لأنها جميلة، والفتاة أحبت الرجل لأنه غازلها .. تلك هي المعادلة التي يطرحها (موباسان) بشكل مباشر، حيث يكتسب الاندفاع الشعوري فورانه التلقائي بفضل قوة الشغف الذي يوحّد بين هذه المشاعر وبين الجمال الرومانسي الحاضر في المكان الذي تتحقق بداخله المعادلة .. (كان يخلط بين الوله الذي ولدته فيه تلك الفتاة وبين الشعور الغامض والقوي الذي يبعثه في روحه وقلبه وشرايينه ذلك النسيم المحمل بالملوحة والحيوية، والمفعم بأشعة الشمس وموجات المحيط) .. الطبيعة إذن ـ السحر المهيمن الذي يترسخ كمشاهد بصرية محفزة، ويمتد كقرارات حسية تنشأ على إثرها العلاقات بين الرجال والنساء ـ هي الضرورة التي تخلق الرغبة .. (لأنه من الطبيعي أن تحب الفتيات الشبان الذين يقولون لهن الكلمات الرقيقة العذبة) .. جعلت الطبيعة من وجود الرغبة حقيقة معتادة، نتجت عن استجابة إلى احتياج تلقائي لامتلاك الجمال المحرّض طغيانه خارج الجسد .. (موباسان) بهذه الصياغة لـ (طبيعة الحب)، كموضوع حتمي مرتبط بـ (رومانسية الطبيعة المشهدية) أعطى لشرح الكيفية التي كوّنت الصلة بين الزوجين بُعدها الاستشرافي؛ فـ (الطبيعة) ستجعل حياتهما تصل ذات يوم إلى مرحلة الملل وانطفاء الرغبة؛ لأن هذه هي الحالة (الطبيعية) التي يجب أن تمر بها أي علاقة بدأت بشكل (طبيعي) مثل علاقتهما .. (موباسان) لن يخبرك أن الطبيعة كاذبة، ولا ينبغي تصديقها، وأننا نجيء إلى العالم وبداخلنا جوع عظيم لا يخمد إلى الإيمان بوعودها رغم كل البدايات والمصائر المتطابقة .. يكفي (موباسان) أن يبدأ قصة بين حبييبن، بطريقة عادية تماماً، ويتنقل تدريجياً بين أحوالها المنطقية المتتابعة ليمرر إليك هذا.
حينما يقرر الزوجان لإنقاذ حياتهما من الضجر والتقزز، وإيقاظ نار الحب من جديد الذهاب إلى أحد المطاعم الكبيرة لتمثيل دور عشيقين؛ سيبدوان وكأنهما يشتركان في اقتناع  ضمني بفهم (بودلير) للحب: (اللذة الوحيدة والقصوى للحب تكمن في اليقين بإتيان الشر. الرجل والمرأة يعرفان منذ الولادة أن الشر مكمن كل لذة) .. الرجل سيحاول أن يتقمص دور الزوج الخائن، أما الزوجة فكأنها تريد أن تكون (مدام بوفاري) أخرى دون أن يعلن (موباسان) عن هذه المصافحة مع (شارل بودلير)، و(جوستاف فلوبير) بشكل صريح، وإنما كانت (باريس) كمكان للقصة، فضاءً شهوانياً وموحياً، يلائم هذه الحفلة الفرنسية خارج الزمن.
يمكننا الوعي بالعمق المونولوجي للحوار بين الزوج وزوجته اللذين تحولا إلى عشيقين مصطنعين، يحاولان إعادة التوهج إلى حكايتهما الباردة؛ حيث يبدو الديالوج بينهما ليس مجرد اشتباكات لسانية تستهدف أن ينجز كلاهما الغرض من موقعه، وإنما كانت المحادثة أقرب إلى التأثيرات الطافية للصراعات التي يخبئها الحوار الداخلي عند كل من الزوج والزوجة .. كأن ديالوج آخر غير مسموع يدور تحت غطاء المحادثة الظاهرية بينهما عن الخطيئة .. هذا الحوار غير المدرك هو نزاع مستتر بين المونولوج السري الذي يحدث داخل الرجل ومثيله عند المرأة، أما المحادثة المسموعة فكأنها حصيلة مرتبكة من الآثار المتغيرة لكل من الديالوج الداخلي عند كل منهما .. ما هي طبيعة هذا الحوار؟ .. الرجل والمرأة يسترجع كل منهما تاريخه الشخصي بمعزل عن الآخر، يستجوبه، ويحاول أن يكتشف سبلاً مختلفة لإعادة الدخول في العلاقة بواسطتها من أجل النجاة .. يتفحص كل منهما المفاهيم العامة والأفكار المتبدلة حول الحب والشهوة والطهارة والدنس، ويتأمل التجارب السابقة ـ حتى التي توقفت عند حدود الانشغال الذهني ـ الخاصة بالخبرات الأخرى للعواطف المحرمة .. كل منهما يعيد تقييم الماضي، ويحاكم الأطر المطلقة التي تتحرك الأجساد وتتفاعل وفقاً لإرادتها، كما أن كلاً منهما يحاول العثور على ممر جديد ومضمون داخل الظلام يساعده على تجاوز الخسائر الفردية التي تتجلى في تعاسة الآخر .. المحادثة المعلنة بين الزوج والزوجة هي إذن أشبه بجدل الأصداء الخارجية للأصوات الباطنية المتجابهة داخل كل منهما .. لكن هذا المونولوج الداخلي عند الرجل والمرأة حينما يحضر كصدى ملموس فهو يكافح لتكوين يقين عن موضوع الرغبة، ويسعى في نفس الوقت لمحوه .. أقنعة من استدعاءات اللغة تريد التلاحم لتشكيل معرفة حاسمة عن المتعة، ولا تتوقف عن تفتيتها .. ما يظهر من كلمات المرأة تحديداً في الحوار المكشوف مع زوجها يعطي فكرة عن المونولوج الداخلي الذي يدور بداخلها في تلك اللحظة، حيث يبدو موقفها داخل المحادثة الواضحة كأنه صدى خارجي لصوت صراع باطني بين (الأنا)، و(الهو) .. نزاع (فرويدي) بين الزوجة والعشيقة .. ربما يفكر (موباسان) في الطبيعة على هذا النحو: الخيال الرومانسي الذي يبدأ بالبحر والسماء والشمس سيذوب ذات يوم في سائل أصفر شفاف داخل كأس الشمبانيا الذي تشرب منه زوجة تحاول أن تكون عشيقة لزوجها .. أن تكون عشيقة لكل الرجال الذين لم تعرفهم من خلال هذا الرجل الذي كانت لها عشيقات كثيرات .. الطبيعة تستخدم الذين يجب أن يظلوا عمياناً من البداية وحتى النهاية.

تهور
جي دي موباسان

قبل الزواج كانا يتحابان بعفة وطهارة.
وكانت بداية حبهما لقاء جميلا في أحد شواطئ البحر، حينما رآها تمر أمامه في الأفق الأزرق الذي يعانق فيه المدى المائي سعة السماء. كانت هي تتهدهد في كامل زينتها، بقامتها النحيفة وشعرها الأشقر ومظلتها الفاتحة. وكان هو يخلط بين الوله الذي ولدته فيه تلك الفتاة وبين الشعور الغامض والقوي الذي يبعثه في روحه وقلبه وشرايينه ذلك النسيم المحمل بالملوحة والحيوية، والمفعم بأشعة الشمس وموجات المحيط.
لقد أحبته لأنه غازلها وكان شابا وغنيا وطيبا وحساسا، أحبته لأنه من الطبيعي أن تحب الفتيات الشبان الذين يقولون لهن الكلمات الرقيقة العذبة. لهذا، خلال ثلاثة أشهر، عاشا جنبا إلى جنب، العينان في العينين، واليدان في اليدين؛ لا يفترقان. وكان لتحية الصباح التي يتبادلانها قبل الذهاب إلى الحمام، ولهمسات المساء فوق المائدة أو تحت نجوم السماء وسكون الليل طعم القبلات المحمومة على الرغم من أن شفاهما لم تلتقيا أبدا.
وحينما يغمضان أعينهما يشرع كل منهما في الحلم بالآخر، وحالما يستيقظان لا يكف كل منهما عن التفكير في الثاني. ودون أن ينطق بكلمة ينادي الآخر ويعبر بروحه وجسمه عن رغبته فيه.
بعد الزواج صار حبهما حسيا؛ في البداية نوعا من الشبق والهيجان المتواصل، ثم ودا ساميا ممزوجا بالمداعبات اللبقة واللمسات الشاعرية اللطيفة والخليعة. وغابت عن أعينهما تلك النظرات البريئة إذ أن كل حركاتهما كانت تذكـّرهما دفئ ساعات الليل الحميمة.
 أما الآن، ودون أن يتجرأ أي منهما على الاعتراف به، وربما دون أن يدركانه بعد، فقد بدأ كل منهما يمل من الآخر. رغم ذلك فهما لا يزالان يتحابان. لكن لم يعد لدى كل منهما ما يكشفه للآخر. ليس هنالك شيء لم يكررا فعله مرات ومرات، لا شيء جديد يمكن أن يتعلمه أحدهما من الآخر: لا اندفاع طارئ ولا نبرة مبتدعة تضفي على الكلمات المكررة والمملة رونقا جديدا.
ومع ذلك كانا يجبران نفسيهما على إيقاظ نار الحب التي عرفاها في إثناء لقاءاتهما الأولى؛ اصطنعا حيلا بريئة وألعابا ساذجة أو معقدة، وقاما بمحاولات خائبة عديدة لكي يضرما لهيب الشوق في قلبيهما ويبعثا في شرايينهما هيجان شهر العسل. وقد يحدث في بعض المرات، بعد أن يبذلا جهودا مضنية في شحذ رغبتهما، أن ينجحا في اصطياد لحظات من الجنون المصطنع الذي تتبعه مباشرة لحظات طويلة من الضجر والتقزز. جرّبا ضوء القمر، والنزهات تحت أوراق الشجر في الليالي الباردة، وضفاف الأنهار الغارقة في الضباب، وازدحام الأعياد الشعبية…
وذات صباح قالت “هنريت” لـ”بول”:
– ألا يمكن أن تصطحبني إلى الملهى؟
– بالتأكيد يا عزيزتي.
– إلى ملهى مشهور جدا.
– بكل سرور.
نظر إليها متسائلا بعينيه ومخمنا أنها تفكر في شيء ما لا تريد أن تقوله. وأضافت:
– إلى ملهى …. كما تعرف… كيف أشرح لك هذا؟ …. إلى ملهى راق. إلى أحد تلك الملاهي التي يعطي فيها بعض الرجال والنساء مواعيد لبعضهم بعضا.
فابتسم قائلا: فهمت: تقصدين كابينة داخل مطعم كبير؟
– نعم، نعم … لكن داخل مطعم كبير يعرفك فيه الجميع وسبق أن تناولت فيه الطعام … تعرف أريد أن … لا، لن أتجرأ أبدا على هذا.
– بلى، قولي، يا عزيزتي.. فيما بيننا هذا لا يعني شيئا. ليس هنالك بيننا أي سر.
– لا، لن أجرأ.
– هيا لا تقومي بدور البريء هذا! تكلمي!
– إذن، إذن… أريد.. أن تعـدني عشيقتك. نعم عشيقتك، وأن ينظر لي الخدم الذين لا يعرفون أنك متزوج بصفتي عشيقتك. وأريدك أنت أيضا أن تصدق أنني عشيقتك.. لمدة ساعة.. في ذلك المكان. وسأؤمن أنا نفسي أنني عشيقتك … سأرتكب خطيئة كبيرة. سأخونك… معك. إنه أمر قبيح. لكني أريده.. لا تجعلني أحمر خجلا هكذا! لا يمكنك أن تتصور القلق والإحراج الذي يسببهما لقائي بك فسي مكان مريب كهذا… مكان يمارس فيه العشق كل مساء، نعم كل مساء !إنه أمر قبيح وأشعر بالخجل. لا تنظر إليّ هكذا!
ورد عليها وهو يضحك مرحا:
– نعم سنذهب هذا المساء.. إلى مكان يعرفني فيه الناس جيدا.
وفي حوالي الساعة السبعة مساءً كانا يرتقيان سلم أحد المطاعم الكبيرة الواقعة في أحد شوارع باريس. كان يقودها وعلى شفتيه بدت ابتسامة المنتصر الذي ضفر بفريسته. أما هي فقد وضعت على وجهها قناعا شفافا. وحالما دخلا كابينة مؤثثة بأربعة كراسي وصوفة عريضة من المخمل الأحمر جاء إليهما مدير المطعم بملابسه السوداء وقدم لهما قائمة الطعام التي أخذها بول وناولها بدوره إلى زوجته قائلا:
– ماذا تريدين أن تتناولي؟
– لا أدري. ماذا يأكل الناس هنا؟
حينئذ بينما هو يخلع معطفه ويناوله إلى الخادم شرع بول يقرأ لزوجته قائمة الطعام:
–  وجبة دسمة: مرق، دجاج، فحسة أرانب، شروخ بالطريقة الأمريكية، سلطة خضار متبلة وحلويات وسنشرب شمبانيا.
في أثناء ذلك كان مدير المطعم ينظر إلى الفتاة وهو يبتسم. وحين استعاد قائمة الطعام قال بصوت هادئ:
– السيد بول يريد مشروبا ساخنا أو شمبانيا؟
– سنشرب شمبانيا نقية.
بدت العادة على وجه هنريت حينما أدركت أن مدير المطعم يعرف جيدا اسم زوجها. وبعدما أحضر لهما الأكل جلسا جنبا إلى جنب فوق الصوفة وأخذا يأكلان. وكانت عشر شمعات تضيء الكابينة وينعكس نورها في المرايا المغطاة بآلاف الأسماء التي نقشت بزوايا الأحجار الكريمة والتي تبدو هكذا كأنها بيت عنكبوت.
كانت هنريت تشرب الكأس تلو الأخرى لكي تصبح أكثر مرحا على الرغم من أنها شعرت برأسها يثقل من الكأس الأولى. وبول الذي أثارته الذكريات وأخذت عيناه تلمعان،  لم يكف عن تقبيل يد زوجته المنفعلة والسعيدة والتي انتابها إحساس غريب من وجودها في هذا المكان المريب. اثنان من الخدم المتجهمين، الصامتين، المتعودين على رؤية كل شيء ونسيان كل شيء وعدم الدخول إلا في اللحظات المناسبة والخروج في الدقائق الحرجة، كانا يجيئان ويروحان في هدوء تام.
في منتصف العشاء، باتت هنريت منتشية، منتشية تماما. وبول، على غير عادته في الأيام الماضية  صار ظريفا وأخذ يهرس ركبتها بشدة. وسرعان ما صارت وجنتا هنريت حمراء وعيناها تشعان بالحيوية والجرأة، ولم تلبث الفتاة أن بدأت تثرثر:
– أوه بول! اعترف! هل تعلم؟ أنني أريد أن أعرف كل شيء.
– تعرفين ماذا يا عزيزتي؟
– لا أتجرأ أن أقوله لك.
– قولي على كل حال.
– هل كانت لديك عشيقات؟ … كثيرات… قبلي؟
كان مترددا. ومستغربا قليلا. لا يدري هل ينبغي عليه أن يخفي مغامراته أو يتفاخر بها.
وأضافت هي:
– أوه! من فضلك! أرجوك قل لي! هل كان لديك منهن الكثير؟
– عدد قليل.
– كم؟
– لا أدري بالضبط. هل نعلم نحن الرجال مثل هذه الأشياْء؟
– ألم تعدهن؟
– لا أبدا.
– أوه! إذن كان لديك منهن الكثير؟
– نعم، أكيد.
– كم تقريبا؟ فقط بالتقريب؟
– لكني لا أدري أبدا يا عزيزتي. في بعض السنوات كان لدي الكثير . وفي سنوات أخرى أقل.
– كم في السنة، قل!
– أحيانا عشرون، ثلاثون. وأحيانا أربع أو خمس فقط.
– أوه! هذا يعني أنه كان لديك أكثر من مئة امرأة.
– نعم، تقريبا.
– أوه! كم هذا مقزز!
– لماذا مقزز؟
– لأنه مقزز. حينما نفكر فيه… كل هؤلاء النساء… عرايا.. وكل مرة الشيء نفسه… أوه! إنه مقرف على كل حال… أكثر من مئة امرأة!
صُدم بول أن تحكم زوجته أن ذلك مقزز. ورد عليها بتلك النبرة المتعالية التي يستخدمها الرجال ليفهموا النساء أنهن يقمن بحماقة ما:
-هذا هو المضحك، حقا. إذا كان الأمر مقززا أن تكون لديك مئة امرأة، فهو أيضا مقزز حينما يكون لديك واحدة.
– أوه! لا. مطلقا.
– لماذا لا؟
– لأنّ المرأة … علاقة، لأنها…  حب يربطك بها. بينما مئة امرأة…! إنها قذارة! سؤ سلوك! لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يسمح رجل لنفسه أن يحتك بهؤلاء الفتيات الوسخات كلهن!
– لا، إنهن نظيفات جدا.
– لا يمكنهن أن يكن نظيفات وهن يقمن بالمهنة التي يقمن بها.
– بالعكس تماما؛ إنهن نظيفات بحكم المهنة التي يقمن بها.
– أوه! حينما تتصور أنهن الليلة الماضية يفعلن الشيء نفسه مع رجل آخر! يا للفضاعة!
– ليس أكثر فضاعة من الشرب في هذا الكوب الذي شرب فيه لا أدري من هذا الصباح، والذي غُسل بعناية أقل، بالتأكيد.
– أوه! اسكت! إنك تستفزني.
– إذن لماذا تسألينني إن كان لدي عشيقات؟
– حسنا، قل لي؛ هل كانت عشيقاتك، المئة، كلهن فتيات؟
– لا.
– من هن إذن؟
– ممثلات، عاملات، وبعض الحظيات…
– كم من هؤلاء الأخيرات؟
– ست.
– ست فقط!
– نعم.
– هل كن جميلات؟
– نعم طبعا.
– أجمل من الفتيات؟
– لا.
– أيهن كنت تفضل: المحظيات أو الفتيات؟
– الفتيات.
– أوه! كم أنت قذر! لماذا هكذا؟
– لأنني لا أحب أبدا التفنن والاحتراف.
– أوه! يا للهول! إنك متوحش؛ هل تعرف؟ قل لي: هل يسليك أن تتنقل هكذا من فتاة إلى أخرى؟
– نعم.
– كثيرا؟
– كثيرا.
– ماذا كان يسليك؟ ألم يكن يشبهن بعضهن بعضا؟
– لا. أبدا.
– لكن النساء يتشابهن!
– أبدا.
– ولا في أي شيء؟
– ولا في أي شيء.
– إن هذا لمضحك. ما هو المختلف لديهن؟
– كل شيء.
– الجسم؟
– بالتأكيد، الجسم.
– الجسم بأكمله؟
– نعم الجسم بأكمله.
– وماذا أيضا؟
– طريقة التقبيل، والكلام، والهمس….
– آه! أنه لمسلٍِ أنْ تـُغيـّر!
– بالطبع.
– وهل الرجال مختلفون؟
– هذا؟…. لا أدري.
– لا تدري؟
– لا.
– ينبغي أن يكونوا مختلفين.
– نعم. بالتأكيد.
وظلت هنريت واجمة في مكانها، تفكر وكأس الشمبانيا في يدها. كان مليئا. شربته دفعة واحدة. ثم وضعته فوق الطاولة وطوقت زوجها بذراعيها، وهمست في فمه:
– أوه! عزيزي، كم أحبك!
واحتضنها بقوة … واضطر أحد الخدم الذي كان يهم بالدخول إلى التقهقر وأغلق خلفه الباب. وتوقفت الخدمة لمدة خمس دقائق تقريبا. وحينما ظهر مدير المطعم مرة ثانية بوقاره وقامته المهيبة، حاملا الفواكه كانت هنريت تحمل كأسا أخرى بين أصابعها، وتحملق في السائل الأصفر الشفاف الذي بداخله كما لو كانت تبحث فيه عن أشياء  مجهولة ومرغوبة. ثم همهمت بصوت حالم: “أوه! نعم، لا شك أنه سيكون مسليا…”

    

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

وثيقة (إيمانويل كانط) عن (سلفادور دالي)

الموت هو الأصل الحسي عند (دالي)، والذي سيتحوّل إلى مفاهيم تشبه (الالتهاب السحائي) الذي قتل أخاه في سن السابعة، أي قبل ثلاث سنوات من بداية وجوده في العالم .. عندما يحمل (دالي) اسم أخيه الميت سيبدأ في تثبيت موقعه فيما فوق الحدس والعقل .. لن يتعامل مع الحواس كمصدر إدراك خادع، يقوده بالضرورة نحو العقل الديكارتي، كما أنه لن يثق كلياً في المعرفة الناجمة عن التجربة الحسية كما راهن (دافيد هيوم) .. خبرات تحرير الذات من صورة الأخ بالثورة على أب يحمل حباً مستحيلاً لصبي مات، ويرى في ذلك الذي على قيد الحياة نصف إنسان هي البراهين الأوليّة لتدنيس التوافق بين العقل والحواس .. تخريب التجانس، كأنه انتهاك بدائي سيتطور ليصبح تخطياً مدموغاً لظاهراتية (هوسرل)، وللحلول الوسط الممكنة بين (العقلانية)، و(التجريبية) .. استخدم (دالي) كافة ما يصلح من حيّل الطفولة لمعاقبة أبيه على عدم مبالاته بمشاعر ابنه: الصراخ المتواصل .. التظاهر بالسعال، وادعاء الاختناق بشكل هيستيري .. تعمّد التبول في الفراش والتبرز في غرفة المعيشة أو داخل الدولاب .. كان كل ما يعنيه هو رؤية أبيه خائفا وغاضبا ومذلولا، لكنه لم يستطع التوقف عن الإعجاب به حيث كان يراه دائما عملاقا في قوته وعنفه وسلطته وحبه القاهر خاصة لسلفادور (الأول) .. تلك كانت جذور رفض التوافق الضمني بين المفاهيم العقلية والصور الملموسة للزمان والمكان .. كان (دالي) يخلق بنية إدراك خاصة فيما وراء التخيل والفهم كشرطين قبليين قائمين في الذهن البشري .. سيتم استبعاد الأسس التي يُحتمل أن تقوم عليها التجربة عبر توحيد المدركات الحسية في نسق واحد .. المشاهد الأولى في حياة (دالي) كانت تحضيراً لخلود انتقامي من الإحالات الصارمة للذات، وهو ما سيواجه تحدياً محكوماً باليأس مع موت أمه (عسل الأسرة)، الملاك الذي ارتبطت صورته بالقرنفل المزروع على يديها بالشرفة.
كان (سلفادور دالي) يرى أن هناك صراعاً دائراً بينه (الذات) والطبيعة (المحسوس) عليه أن يصححه (الموضوع)، أما الشغف بالموت فكان هو المسؤول عن تكوين المقولات التي يتم من خلالها توجيه الإدراكات الحسية نحو العالم .. تنظيم التجربة في صور وأطر عقلية بواسطة الشبق حيث تصبح هذه المقولات جزءا من الذات العارفة دون أن ترتبط بأي حالة حسية بل أشبه بحالة باطنية موجودة قبلاً داخل الذات .. مع هيمنة هذه الحالة أصبح (دالي) من الناحية التاريخية، ومنذ لوحة (إصرار الذاكرة) قادرا على أن يقدم معادلا لمعادلة الزمان والمكان .. بالنسبة له فإن الزمن لا يمكن التفكير فيه دون المكان، وكان هذا ما تحاول لوحاته أن تؤكده.
في لوحته
 Araignée du soir Espoir
1940 تعبير كامل عن حقيقة الدراما العميقة الخاصة به أو الصورة الذاتية التي يتم على أساسها تحقق الموضوع: طفل له أجنحة ملائكية يجلس على مدفع مستند إلى عكاز يبزع من خلاله حصان محاجره فارغة وسيقانه الأمامية تشكل راعي النصر المجنح الذي ينتهي بدوره إلى قدم عملاقة سيالة تربط بين الثدي الطويل الأعرج الذي ينزل من المدفع ، وأمام هذا المدفع إمرأة عرجاء منشطرة إلى نصفين مستندة على فرع شجرة مزروعة في إطار هندسي .. الإطار الذي أنشأه الذهن كي يضع الفهم بداخله الوحدة المركبة للمدركات الحسية .. لم يكن لدى (دالي) انفصام بين الذات والموضوع حيث كانت وظيفة الذهن توليف نسق ماجن يوحّد الكثرة الذهنية للغرائبي، ويضع روابط من الفانتازيا المستحيلة للأشياء، وعلاقات أقرب للتزاوج السادي والمازوخي للذات العارفة.
بارتباطه بـ (جالا) تجاوز (دالي) رفض أو قبول الوجود الموضوعي للأشياء كما وجد عموده الفقري، ورغم اعتقاده في البداية بأنها ستلتهمه إلا أنها على العكس علمته أن يتناول الحقيقة ويأكلها بحسب تعبيره .. أن ينتج معرفة لما وراء المحسوسات كبديل للمعرفة التي لا مجال للحصول عليها (نقض الميتافيزيقا) .. بدا كأن (دالي) قادر على إثبات الحالات الماوراء حسية التي لا يمكن إثباتها، والتي يمكن للذهن البشري تصورها سواء كانت على مثال أو متضادة مع البنى الحسية.
عام 1956رسم (دالي) (الطبيعة الميتة الحية): إناء الفاكهة طافيا في الفضاء بمروحة والفواكه والقرنبيط والطائر والكوب والزجاجة تفرغ نفسها وسكين أمام نافذة من خلالها نرى بحرا متموجا لا نهاية له بينما يد تمسك بقرن وحيد القرن .. كان هذا بمثابة تصور تركيبي للوجود، مضاد للتصور التركيبي الغائب، الذي لا يمكن الحصول عليه .. كان (دالي) يرى في هذه اللوحة تصحيحا للطبيعة عن طريق التواصل مع فكرة الزمان / المكان من خلال رؤية (الخفة) التي تحطم العامل الرياضي .. يشيّد (دالي) رابطاً موحداً لأجزاء الوجود، يعارض الروابط الموحدة المفترضة التي تحدد الغاية والإيمان بالحركة كأداة للوصول إلى هذه الغاية من خلال التاريخ .. كان (دالي) هو الذات وفعل المعرفة معاً .. الذات والوحدة والمعنى والموضوع .. التنوع الشيطاني للفردية، وللأشياء غير الموحدة التي لا تملك وحدة خارجية منعزلة عن الذات .. كان (دالي) هو الكثرة المتناقضة التي بلا هدف للأجزاء الفردية والشيئية للوجود.
("دون كيشوت" هو أحد المجانين وأكثر المهووسين المتعلقين بشيء ما على هذه الأرض والذي يريد أن يمتلك أندر الأشياء في العالم لذلك شعرت أن كل رسم لي عن دون كيشوت يجب أن يكون أندر الأشياء) ...
هذا ما كتبه (سلفادور دالي) عن (دون كيشوت) وعن اللوحات التي رسمها له .. كان يُشكّل وجهاً آخر لنسبية المعرفة .. الشك المعرفي في وجود الموضوع ذاته كشيء مستقل عن الذات .. الشك في إمكانية معرفة الأنا لذاتها حيث لا يمكنها التحول إلى موضوع لها نظراً لاستحالة وجود مسافة بين الذات والموضوع .. كأن (دالي) كان يعيد ما كتبه عن نفسه بكلمات أخرى :
(أنا "دالي" الذي نبذني وطردني والدي، وتحت ظل شجرة زيتون وبين الصيادين عشت آلامي للنهاية مثل المسيح، وظلت عبقريتي في حالة مضادة للجاذبية مثل أحد الكواكب في مجموعة شمسية كنت أسيطر عليها).

الأحد، 18 أكتوبر 2015

الفيلم

إلى (ميمي الابيض)
قضى عمره داخل السينما القديمة يشاهد الحياة فوق شاشتها الهائلة، ويضيء مسارات متناثرة داخل ظلامها بالكشّاف الصغير ليرشد المتفرجين إلى الكراسي الخالية .. لم يكن عمراً مكتمل السعادة بالتأكيد! .. لكن على الأقل كان لديه شعور ثابت بالسرور الخفي فيما وراء القلق والكآبة والملل .. لذة الانفصال عن العوالم المختلفة التي تتعاقب أمام عينيه فوق الشاشة الهائلة .. كان يشعر دائماً بالاطمئنان لكونه يختلف عن كل هؤلاء البشر الذين يدخلون السينما القديمة كل يوم، ويسترشدون بالضوء الخافت للكشّاف الصغير الذي يحمله، حتى يصلوا إلى مقاعد البهجة والألم .. الذين يغيبون في صور عديدة من ذواتهم، أو داخل تخيلات متعددة لأنماط مغايرة من الحياة .. كان محصناُ ضد إغراء التقمّص الذهني للشخصيات التي لم يتعطل تتابعها طوال سنوات الماضي داخل الأفلام، فضلاً عن كونه لم يصادف طوال عمره كائنً يشبهه داخل تلك التنويعات التمثيلية التي تتوالى في الظلام .. كان في ذلك امتيازاً منطقياً أدرك منذ زمن أنه جدير به .. كأنه توصل مع مرور الوقت إلى الحكمة الجوهرية لوظيفته التي تقتضي أن يكون دليلاً إلى العالم لا أن يكون موضوعاُ له .. أن يساعد القادمين لمشاهدة الحياة على المرور إلى حكاياتهم المرئية دون تورط في علاقة مع أحداثها .. كان يؤمن أن لإجادة العمل في هذه المهنة مكافأة روحية تتلخص في اليقين الذي سيحصل عليه بعد سنوات الخبرة بأنه لا أحد سيتمكن من رؤيته فوق الشاشة الهائلة بأي شكل.
بعد أن هُدمت دار العرض القديمة، كان عليه دون شك أن يبحث عن واحدة أخرى، لكنه فشل في العثور على تلك السينما التي لا يمكن أن تستمر حياته بدونها .. لم يكن بمقدوره أن يمتهن وظيفة أخرى تُشعره بأنه أحد موضوعات العالم المتاحة للمراقبة .. مر وقت طويل دون أن تضعف رغبته في استرداد العمل الذي أُجبر على تركه، حتى بعد أن تحوّلت أيامه إلى عذاب متصاعد .. لم يكن هناك أكثر قسوة بالنسبة إليه من اليقين بكونه مرئياً .. وصل به الألم لدرجة أنه كلما صادف أرضاً خالية، تتحلى بقدر من الاتساع إلا ويضيف بصره إليها فوراً الحوائط والسقف والمقاعد والشاشة الهائلة والظلام، ثم يرى جسده يتحرك أمام خلفية من أصوات الفيلم ممسكاً بالكشّاف الصغير .. كانت السينما بمثابة تعويض مستقر، باستطاعته العودة إليه دائماً كي يتخلص من الجروح التي تسبب فيها وجوده خارجها، أي في الأوقات التي كان خلالها جزءا من الحياة التي يُمكن مشاهدتها .. كأن اليأس قد وصل بروحه إلى المدى الذي لم يعد بوسعه أن يتحمّل العالم مع شراسته؛ أصبح يمشي في الشوارع، خافياً وجهه بقناع أسود كأنه الظلام، وممسكاً بالكشّاف الصغير ـ حتى خلال النهار ـ الذي ينبعث منه ضوء خافت، ويحرّكه بين أقدام الناس، مشيراً بيده الأخرى في نفس الوقت إلى اتجاهات بعيدة كأنه يقود خطواتهم إلى حيث ما لا يمكن أن يصل أحد.

السبت، 17 أكتوبر 2015

التفاوض مع القدر

للوهلة الأولى بدا أن الآنسة (ميدو) قد حصلت بواسطة البيانو، وغناء فتيات المدرسة برفقتها على ما يشبه مساحة كونية خارج مأساتها الشخصية، أتاحت لها ـ استغلالاً لدرس الغناء ـ قيادة العالم نحو التوحد مع آلامها .. بعد استلام رسالة انفصال من خطيبها تقوم الآنسة (ميدو) بتدريب الفتيات على مرثاة مؤلفة من التنهد والنشيج والأنين والصراخ دفعت بعضهن للبكاء، لكن هذه المرثاة ستتبدل إلى أغنية مبهجة بعد استلام الآنسة (ميدو) رسالة أخرى أثناء الحصة يتراجع خلالها خطيبها عن الانفصال.
في قصة (درس الغناء) لـ (كاثرين مانسفيلد) يبدو الأمر أكثر تجاوزاً لمجرد حيز من المواساة، أو من التحرر التعويضي، يتخطى ظلام الحدود الفردية، استعملته الآنسة (ميدو) لكسب غنيمة  قد تكون أكثر ما يحتاجه إنسان يجرّب تعاستها وهو التضامن الجماعي ـ خاصة لو كان غنائياً ـ مع يأسها الحاد .. العزاء الذي سيتحوّل بعد لحظات إلى تشارك في السعادة .. إن توظيف درس الغناء كان أقرب لامتلاك نطاق لازمني أتاح للآنسة (ميدو) اللعب بالزمن الواقعي .. غناء الفتيات الصغيرات كان عودة تخييلية بمأساتها إلى الخلف، أي حيث لا تزال في مرحلة عمرية يمتد أمامها مستقبل يختزن وعداً باستدراك هذه المأساة .. كانت الآنسة (ميدو) في الثلاثين، وكان خطيبها (باسيل) في الخامسة والعشرين، وكانت خطبتهما معجزة بالنسبة لها .. أعاد غناء الفتيات للمرثاة الآنسة (ميدو) إلى أن تكون واحدة مثلهن: فتاة صغيرة، آلامها ليست نهاية العالم.
هذا الرجوع بالزمن لم يكن قاصراً على اكتساب الآنسة (ميدو) لحياة الفتيات الصغيرات وحسب، وإنما كان درس الغناء طريقاً لعبورها نحو ماضيها الشخصي أيضاً .. بمساعدة المرثاة حصلت الآنسة (ميدو) على استرداد خيالي جعل من لحظة التعاسة هذه مجرد حدث ينتمي إلى البداية، وبالضرورة سيتحوّل إلى دافع لخطوات بديلة، تسير بحياتها نحو نسق آخر لا ينتهي بها إلى اليأس الذي يفتتها الآن.
لكن ـ ولن يكون هذا غريباً ـ ربما يكون اختيار الآنسة (ميدو) لهذه المرثاة تحديدأً لتدريب الفتيات على غنائها بالتزامن مع مأساة انفصالها عن خطيبها، وحرصها شديد الصرامة على أن تؤدي الفتيات الأغنية بالانضباط التعبيري التام لانفعالاتها؛ ربما يكون هذا الاختيار بمثابة إغلاق لباب الكون بعد خروجها منه .. إطفاء أضواء العالم الذي طردها من رحمته .. ربما لم يكن درس الغناء استعارة متوهمة لحياة الفتيات الصغيرات، تساعد الآنسة (ميدو) على ترويض آلامها حينما تكون واحدة منهن، بل على العكس ربما كان طريقة لأن تجعل حياتها هي حياتهن .. أن يصبح التنهد والنشيج والأنين والصراخ أسس حتمية لقدر الفتيات أيضاً، لن يمكن تغيير المصير الذي سينتهي إليه .. كأن الآنسة (ميدو) كانت تقول لنفسها أثناء درس الغناء (إذا لم يكن لي حظ من السعادة، فلا ينبغي أن يكون لأحد من بعدي حظ منها) .. قد يكون تبرير ذلك التفكير في وعيها أنه ليس نتيجة رغبة في هيمنة بؤسها على الآخرين، بل نتيجة إدراك حقيقة الطبيعة الظالمة للوجود التي لا يمكن الهروب منها .. بعد استلام رسالة أخرى من خطيبها يخبرها من خلالها أن تنسى ما قاله عن الانفصال في رسالته السابقة، ستفتح الآنسة (ميدو) باب الكون الذي أغلقته، وستضيء العالم من جديد، وستعطي الفتيات قدراً مختلفاً، ومصيراً مغايراً بواسطة أغنية أخرى تليق بسعادتها.
إن (كاثرين مانسفيلد) في هذه القصة تمرر ما يشبه وثيقة منغّمة عن الذات الأنثوية في حالاتها المتبدلة: الأمل .. الحب .. اليأس .. التحرر .. السعادة .. حتى يبدو (درس الغناء) كأنه لا يتعلق بالآنسة (ميدو) وفتيات المدرسة على نحو خاص بل برحلة المرأة عبر الزمن، وكيف لهذه الرحلة في علاقتها المرتبكة بالوجود أن تشتبك حالاتها النكوصية، والاستشرافية بواسطة الآخرين كمحاولة للتصالح مع لحظات الواقع التي لا تمر في سلام.

درس الغنــاء
كاثرين مانسفيلد
ترجمة: نجوى نجاتي

بيأس – بارد، يأس حاد – مدفون عميقاً في قلبها مثل سكين شريرة، قطعت الآنسة ميدو- بردائها التدريسي وقبعتها وحاملة عصا المايسترو- الممرات المؤدية إلى قاعة الموسيقى. فتيات من كل الأعمار، متوردات لبرودة الجو، يرغين بمرح إثارة الركض إلى المدرسة صباح يوم خريفي جميل، مسرعات، واثبات، مهتاجات، ومن غرف الصف الفارغة سمعت أصوات ضرب طبول سريعة، رنّ جرس، وصوت مثل صوت عصفور زعق، موريل. وبعدها سمع طرق من جهة الدرج ، طق- طق. أحد ما قد أوقع كرات التدريب الحديدية.
استوقفت مدرسة العلوم الآنسة ميدو.
"
صباح الخيــر" صاحت بصوتها الجميل، وتشدقها المتصنع." أليس الجو بارداً؟ قد يكون الشتـاء."
الآنسة ميدو متشبثة بالسكين، حدقت بكره في معلمة العلوم. كل ما فيها كان حلواً، باهتاً، مثل العسل. لن تدهش لرؤية نحلة عالقة في جدائل ذاك الشعر الأصفر.
قالت الآنسة ميدو متجهمة: " قاسي تقريباً"
ابتسمت الأخرى ابتسامتها المعسولة.
"
تبدين متجمــدة" قالت. وعيناها الزرقاوتان متسعتان، وشعاع ساخر يبدو منها. ( هل لاحظت شيئاً؟)
قالت الآنسة ميدو: " ليس سيئاً إلى هذه الدرجة" وألقت نظرة ازدراء على معلمة العلوم رداً على ابتسامتها ومضت..
أربعة أرتال، خمسة، ستة اجتمعت في قاعة الموسيقى. خفت الضجيج. وعلى المنصة قرب البيانو وقفت ماري بيزلي، الطالبة المفضلة للآنسة ميدو ، وعازفة الأدوار المصاحبة. كانت تدير الآلة الموسيقية وحين رأت الآنسة ميدو أطلقت صوتاً عالياً محذراً " صه – صه- يا بنات!" . الآنسة ميدو- ويداها مقحمتان في أكمامها، وعصا المايسترو تحت ذراعها- خطت خطوة واسعة نحو الوسط، صعدت الدرجات، استدارت بحدة، قبضت على الحامل الموسيقي النحاسي، ركزته أمامها، وضربت ضربتين حادتين بعصاها طالبة الصمت.
"
صمتاً، أرجوكم! فوراً!" وناظرة إلى لا أحد سبحت نظراتها فوق ذاك البحر من القمصان الصوفية الملونة، والوجوه المزهرة المحنية والأيدي، وربطات الشعر الفراشية المهتزة، وكتب الموسيقى المنشورة. كانت تعلم تماماً ما كانوا يفكرون " ميدي غاضبة." لا بأس فليفكروا ! ارتعشت أهدابها، رفعت رأسها فجأة، تتحداهم. ما أهمية أفكار هذه المخلوقات لشخص يقف هنا ينزف حتى الموت، يطعن في القلب، في القلب، بمثل تلك الرسالة.
<2>
.."
أشعر أكثر وأكثر قوة أن زواجنا سيكون غلطة. ليس أنني لا أحبك. أحبك قدر ما أستطيع أن أعشق امرأة، لكن ، والحقيقة تقال، توصلت إلى نتيجة مفادها أني لست رجل زواج، وفكرة الاستقرار تملؤني فقط بالــ---" وكلمة "غثيان" كشطت قليلاً وكتب فوقها كلمة " أسف".
باسيل! مشت الآنسة ميدو نحو البيانو. وماري بيزلي التي كانت تنتظر هذه اللحظة، انحنت إلى الأمام، خصلاتها المجعدة سقطت فوق وجنتيها حين تنفست الصعداء قائلة " صباح الخير آنسة ميدو" وتحركت إلى الأمام لتقدم لمدرستها أقحوانة صفراء جميلة. هذا الروتين الصغير للوردة يتبع منذ وقت طويل طويل، فصل ونصف تماماً. و كأنه جزء من الدرس يحدث حين يفتح البيانو. لكن هذا الصباح، بدل أن تثبتها في حزامها وهي تميل نحو ماري" وتقول شكراً لك ماري كم هي جميلة! افتحوا الصفحة الثانية والعشرين"، كيف كان رعب ماري حين تجاهلت الآنسة ميدو الأقحوان كلياً، ولم ترد تحيتها بل قالت بصوت جليدي " الصفحة أربع عشر، رجاءً, ضعن علامات على النبرات بشكل جيد."
لحظة صاعقة! توردت ماري حتى تجمدت الدموع في عينيها، لكن الآنسة ميدو عادت إلى الحامل الموسيقي، ورن صوتها عبر قاعة الموسيقى.
"
الصفحة الرابعة عشر. سنبدأ بالصحفة الرابعة عشر. الآن مرثاة، يا بنات، لابد أنكم تعرفونها بعد كل هذا الوقت. سندرسها كلها معاً، وليس أجزاءً، كلها معاً. وبلا تعبير. لذا غنين ببساطة كاملة، أشيروا إلى تقسيمات الأزمنة باليد اليسرى."
رفعت عصا الاوركسترا، و ضربت الحامل الموسيقي مرتين.
جاء صوت ماري منخفضاً في النغمة الافتتاحية ومنخفضة كانت جميع الأيدي اليسر، جالدات الهواء ومتوافقة تلك الأصوات الشابة النائحة: - " بسرعة! آه، بسرعة تتحول ورود السعادة، بسرعة يتحول الخريف إلى شتاء موحش. . سريع الزوال! آه، بسرعة تتلاشى بهجة الموسيقى من الأسماع."
يا للسماء، ما الذي يمكن أن يكون أكثر مأساوية من هذه المرثاة ! كل نغمة منها تنهد، نشيج، أنين حداد مخيف. رفعت الآنسة مود ذراعيها في الرداء الواسع وبدأت تدير الفرقة بيديها الاثنتين. ".... أشعر أكثر فأكثر أن زواجنا سيكون غلطة.." ضربت. وصرخت الأصوات: " يزول بسرعة! آه، يزول بسرعة." ما الذي أصابه ليكتب مثل هذه الرسالة! ما الذي دفعه لذلك! لا يتضح شيء منها. رسالته الأخيرة كانت تتحدث عن مكتبة من شجر البلوط المدخن كان قد اشتراها لكتبنا , “وحامل أنيق صغير للصالون" ، هكذا قال، " قطعة متقنة جداً نقشت عليها بومة على قوس، تحمل ثلاث فراشي قبعات بمخالبها." كم ضحكت لذلك! يا لتفكير الرجال أ يحتاج أحد ثلاثة فراشي للقبعات! وغنت الأصوات " يتلاشى من الأسماع".
<3>
"
مرة ثانية" قالت الآنسة ميدو. لكن هذه المرة مقاطع.وبلا تعبير أيضاً." " سريع! آه سريع جداً." وبإضافة كآبة الصوت المنخفض نادراً ما يمكن للمرء تجنب الارتعاد " تذبل ورود السعادة." حين جاء لرؤيتها آخر مرة، كان باسل قد وضع وردة في عروته. كم كان أنيقاً في تلك البزة الزرقاء الفاتحة، وتلك الوردة الحمراء الداكنة! أدرك ذلك أيضا. لم يستطع تجاهل الأمر.أولاً عبث بشعره ثم بشاربه، وبرقت أسنانه حين ابتسم.
"
زوجة المدير ما زالت تدعوني للعشاء. أمر مزعج جداً. لم أحظى بأمسية منفرداً بنفسي في ذاك المكان."
"
ألا يمكنك الرفض؟"
"
أوه، حسناً، ليس مفيداً لرجل في مثل مكانتي أن يكون غير شعبي."
عولت الأصوات " الوزن الموسيقي المرح" أشجار الصفصاف، خارج النوافذ العالية الضيقة، تحركت مع الريح. لقد فقدت نصف أوراقها. الأشجار الصغيرة المتشبثة تتلوى مثل أسماك رصت ضمن صف. "... أنا لست رجل زواج..." كانت الأصوات قد سكتت، والبيانو ينتظر.
"
جيد جداً" قالت الآنسة ميدو بنغمة مازالت غريبة ومتحجرة مما جعل الفتيات الأصغر سناً يشعرن بالخوف فعلاً. " وبما أننا الآن قد تعرفنا عليها، سنغنيها مع التعبير. التعبير بقدر ما تستطيعون إضافته إليها. فكرن بالكلمات يا بنات. استخدمن مخيلتكن. " سريع! آه سريع جداً" صرخت الآنسة ميدو. " هذا يجب أن يطلق بعنف – عالي، نغم شديد قوي – مرثاة. ثم وفي السطر الثاني، شتاء جاف، اجعلن جاف تصدر وكأن ريحاً باردة تهب من خلالها. جـــــاف!" قالت ذلك على نحو بغيض مما جعل ماري بيزلي على المنصة الموسيقية، تلوي ظهر كتابها. " السطر الثالث يجب أن يكون متصاعداً دفعة واحدة. زائل! آه، الوزن الموسيقي المرح. كسر على الكلمة الأولى من السطر الأخير، يمضي، ثم على الكلمة بعيدا ًيجب أن يبدأ بالموت.. بالتلاشي... إلى أن تصلن الأسماع ، لتكون لا أكثر من همس ضعيف.. يمكنكن خفض أصواتكن قدر ما ترغبن تقريباً عند السطر الأخير. الآن، رجاءً."
مرة ثانية ضربتان خفيفتان، رفعت ذراعيها من جديد. " سريع! آه، سريع جداً".- ".. وفكرة الاستقرار تملؤني بالغثيان لا غير—" الغثيان كانت الكلمة التي كتبها. مثل قول أن خطوبتهما قد فسخت نهائياً. فسخت! خطوبتهما! لقد تفاجأ الناس كثيرا حين خطبت. معلمة العلوم لم تصدق ذلك بدايةً. لكن أحداً لم يفاجأ بقدرها. كانت في الثلاثين. وباسيل كان في الخامسة والعشرين. كان الأمر معجزة، ببساطة، معجزة، أن تسمعه يقول بينما كانا يتمشيان خارجين من الكنيسة في تلك الليلة المظلمة جداً، " تعرفين، بطريقة أو أخرى، لقد أغرمت بك." وكان قد أمسك بطرف وشاحها المصنوع من ريش النعامة. " يرحل بعيداً عن الأسماع."
<4>
"
كررن! كررن!" ، قالت الآنسة ميدو . " المزيد من التعبير يا بنات! مرة ثانية!"
"
سريع! آه، سريع جداً." الفتيات الأكبر عمراً أصبحن قرمزيات اللون، بعض الأصغر سناً شرعن يبكين. قطرات كبيرة من المطر تضرب النوافذ، ويمكن للمرء أن يسمع الصفصاف يهمس، ".. ليس الأمر أني لا أحبك..."
"
لكن حبيبي، إن كنت تحبني" ، فكرت الآنسة ميدو " لا أبالي كم ، أحببني أقل ما ترغب" ، لكنها تعلم أنه لا يحبها. لم يبالي كثيراً بكشط تلك الكلمة " غثيان" ، بحيث لا تتمكن من قراءتها! " سريعاً يتحول الخريف إلى شتاء جاف" عليها أن تغادر المدرسة لتختفي في مكان ما. " يرحل بعيداً" بدأت الأصوات تخفت، تتلاشى لتصبح همساً.. لتزول تماماً..
فجأة فتح الباب. فتاة صغيرة ترتدي الأزرق تقدمت مرتبكة إلى الممشى، مائلة الرأس، تعض شفاهها، وتفتل السوار الفضي في معصمها الوردي الصغير. صعدت الدرجات ووقفت أمام الآنسة ميدو.
"
حسن، مونيكا، ما الأمر؟"
"
أوه، إن سمحتي" ، قالت الفتاة الصغيرة، لاهثة، " الآنسة وايت تريد رؤيتك في غرفة المديرة."
"
حسن جداً" ، قالت الآنسة ميدو وتوجهت نحو الفتيات، " سأدعكن لأخلاقكن للتحدث بهدوء بينما أكون خارجاً" . كنّ مقهورات جداً لفعل أي شيء سوى ذلك. أغلبهن كنّ ينظفن أنوفهن.
كانت الممرات صامتة وباردة، رددت صدى خطوات الآنسة ميدو . والمديرة جالسة وراء مكتبها. لبرهة لم ترفع بصرها. كانت كالعادة تفك نظارتها، التي علقت بعقدة ربطة عنقها. " تفضلي بالجلوس آنسة ميدو" ، قالت بلطف بالغ. ثم التقطت مغلفاً زهرياً من حاملة الأوراق. " أرسلت في طلبك الآن لأن هذه البرقية أرسلت لك."
"
برقية لي، آنسة وايت؟"
باسيل! لا بد أنه انتحر، جزمت الآنسة ميدو. امتدت يدها، لكن الآنسة وايت سحبت البرقية لبرهة." آمل أنها ليست أنباءً سيئة" ، قالت بنبرة أكثر من لطيفة. ومزقت الآنسة ميدو المغلف لفتحه.
قرأت:
"
لا تعيري انتباهاً للرسالة، لابد أني كنت مجنوناً، اليوم اشتريت حامل قبعات – باسيل " ولم تستطع إبعاد عينيها عن البرقية.
<5>
"
آمل ألا شيء خطر جداً" قالت الآنسة وايت منحنية إلى الأمام.
"
أوه، لا ، شكراً لك آنسة وايت وتوردت الآنسة ميدو ، " لا شيء سيء على الإطلاق... الأمر" – وضحكت ضحكة صغيرة معتذرة – " إنها من خطيبي يقول أن ... يقول أنه—" وحل صمت. قالت الآنسة وايت
"
فهمت". ثم صمت آخر. ثم – " ما زال لديك خمس عشرة دقيقة أخرى لحصتك، آنسة ميدو، أليس كذلك؟"
"
بلا آنسة وايت " . نهضت وركضت نحو الباب.
"
أوه، لحظة فقط آنسة ميدو" ، قالت الآنسة وايت. " يجب أن أخبرك أني لا أوافق أن تستلم مدرساتي برقيات مرسلة لهن خلال ساعات المدرسة، إلا في حال أخبار سيئة جداً مثل الموت" ، أوضحت الآنسة وايت "
أو حادث مؤلم جداً أو شيء من هذا القبيل. الأخبار الجيدة آنسة ميدو، تنتظر دوماً ، كما تعرفين"
على أجنحة الأمل أجنحة الحب أجنحة السعادة، عادت الآنسة ميدو إلى قاعة الموسيقى، صعدت الممشى، صعدت الدرجات، واصلة إلى البيانو.
قالت: " الصفحة اثنان وثلاثون، ماري" " الصفحة اثنان وثلاثون" والتقطت الأقحوانة الصفراء ورفعتها إلى شفتيها لتخفي ابتسامتها. ثم استدارت إلى الفتيات، دقت بعصاها " الصفحة اثنان وثلاثون يا بنات، الصفحة اثنان وثلاثون."
"
جئنا اليوم هنا مع ورود على المحمل، مع سلال الفاكهة وشرائط الأحذية، للتهنئة ..
"
توقفن! توقفن!" ، صرخت الآنسة ميدو " هذا قبيح. هذا بغيض" وأضاءت محدثة فتياتها." ما بكن جميعاً؟ فكرن، يا بنات بما تغنين. استخدمن مخيلتكن. " والورود على المحامل. سلال الفاكهة وشرائط الأحذية و تهنئة" واندفعت الآنسة ميدو: " لا تظهرن حزينات هكذا، بنات. يجب أن تكون الأصوات دافئة، مرحة ، متشوقة. تهنئة . مرة أخرى . بسرعة. كلنا معاً. و إذاً الآن!"
وهذه المرة علا صوت الآنسة ميدو فوق جميع الأصوات الأخرى - ممتلئاً عميقاً، غنياً بالتعبير.