السبت، 6 أكتوبر 2018

حديقة الأرامل: الصمت بين بروست وكافكا

في مجموعته القصصية القصصية "حديقة الأرامل" الصادرة عن دار سطور ببغداد؛ يشيّد ضياء جبيلي ارتباطاً جمالياً بين الصمت والفقد .. الصمت الأشبه بالظلام الثقيل المهيمن، الذي يبتلع الكلمات كافة داخل الذات .. الفقد الذي يعني الغياب الكلي لإمكانية النجاة، أو معرفة ما يُعطّلها .. ينتج هذا الارتباط كينونة واحدة لا تُبقيهما مجرد موضوعين منفصلين يجمعهما تلازم ما، كأن يكون كل منهما ظلاً للآخر أو صدى له .. كأن ضياء جبيلي يكشف عبر قصص هذه المجموعة عن نوع من التوحد الغامض بين الصمت والفقد، لا تستقل معه ملامح أي منهما عن الآخر: صمت "كريمة" المقترن بالبكاء، وهي فاقدة القدرة على الخلاص من انتهاز الآخرين لآلامها "الدموع ذات الرائحة العطرية" .. صمت "زكي" العاجز عن الحصول على "الزمن المفقود" .. صمت الجندي "حميد" الذي فشل في إنقاذ نفسه من بين الجثث التي راكمتها الحرب .. صمت "محمود" الذي لم ينجح في استعادة المرأة من نقطة الأسفلت التي وقعت عندها، وجُرحت ركبتها .. صمت "آدم"  الذي لم يستطع منع أمه وبقية النساء المتجلبيات بالسواد من الرغبة في "زوربا" داخل حديقة الأرامل .. صمت "حازم" الذي لم يكن بوسعه إعادة الحياة إلى حبيبته النائمة في غرفتها / تابوتها / قبرها الموصد إلى الأبد .. صمت الشاعر الذي لم يقدر على كتابة صمته .. صمت "هالة" التي لم تعثر على "رجل العصافير" الذي تحلم به .. صمت الصياد العجوز الذي لم يتمكن من اصطياد غنيمته المرجوّة.
"وكما لو أنها اكتشفت الحيلة، صارت كريمة تقاوم البكاء بعناد وإصرار. حتى الدغدغة لم تعد تنفع في استجلاب دموعها. ربما تبول، لكنها لا تبكي. الأمر الذي أغضب والدتها، فعمدت إلى قرصها حيناً وعضها حيناً آخر، لكي تجبرها على ذرف الدموع. كانت تقرصها في كل مكان، من زنديها وفخذيها، حتى امتلأ جسدها بالندوب، ودُبغ جلدها من كثرة القرص والعض، ولم تعد تبكي".
يبدو الصمت متجاوزاً لكونه التعبير الأقصى عن الفقد فيصبح هو الفقد ذاته .. مُجسّداً ومنطوياً على كل ما يعلنه ويضمره .. يصبح الصمت كأنه الفقد عارياً، أو بالأحرى فاضحاً لإبهامه الخالص .. يتخطى الصمت فكرة العجز عن تحويل الشعور بالألم إلى مفردات، أو جعل التلاطم الذهني لغة ملموسة تحاول أن تكون جسراً نحو خلاص ما ..  بذلك يكون هذا الارتباط بين الصمت والفقد تعريفاً ملتبساً للزمن .. يقيناً مضاداً ومراوغاً للوجود الذي تختبره شخصيات المجموعة عبر صور عديدة .. هذا ما يقف وراء الانطباع الذي تغرسه القصص بأنها أقرب إلى الأحلام مهما بلغ نقاؤها الواقعي .. الأحلام التي لا تتكلم حتى لو بدا ظاهرياً أنها تقول شيئاً .. هي تؤكد نفسها عبر ما تحجبه، وليس عبر ما تصرّح به .. في الحلم أيضاً تتمثل الوحدة التي تبدو كفضاء مثالي لهذا التوحد بين الصمت والفقد .. العجز عن الامتلاك .. العجز عن فهم الخسارة .. العجز عن استيعاب ما تم خسرانه، وكذلك ما كان يجدر به أن يكون بديلاً لذلك المجهول الذي لابد من دفع ثمن ضياعه.
"لكن الأستاذ زكي لم يكن يكترث لكل ما يقال عنه، وواظب على قراءته المتقطعة التي استمرت إلى أن حان موعد إحالته على التقاعد بعد أربعين عاماً من الخدمة. وكان ثمة موظف شاب جديد يستعد لإشغال مكانه في قسم الصادر والوارد، فخطرت له فكرة هي أن يقوم بإهداء الرواية التي أنهى، قبل مغادرته الدائرة بيوم واحد، الجزء السابع والأخير، من دون أن يفهم منها شيئاً. لم يسأله أحد ماذا عنى الكاتب بالزمن المفقود، فأغلب الذين توجهوا إليه بالسؤال إما ماتوا أو أُحيلوا إلى التقاعد قبله بسنوات، أو فُصلوا من العمل بسبب تهمة سياسية أو اختلاس".
لكن الارتباط بين الصمت والفقد يكافح لاستهداف غاية أخرى .. أن يعيّن نفسه كوجود موازٍ لارتباط آخر بين الصمت الغيبي والموت المتواري خارج اللغة، والذي لا يُنهي الحياة فحسب بل يبدأها ويُسيّرها .. كأن كل شخصية داخل المجموعة تحاول أن تتقمّص بطريقة أو بأخرى تلك القوة المطلقة غير المرئية التي لا يمكن إدراكها، والتي تقف وراء الفقد .. أن تسعى للتنكر في تلك الإرادة المعتمة باستخدام التفاصيل الضئيلة للقهر كأنما سيؤدي هذا إلى النفاذ إليها .. إلى رؤيتها، ومن ثمّ إلى ملامستها .. ربما سيؤدي هذا إلى جعلها شيئاً يمكن تضليله، أو الوصول إلى حافته حيث يمكن القفز إلى أمان مفترض يكمن وراء حتميته .. الصمت الفردي الذي يجاهد لأن يكون مرآة لصمت لانهائي، حيث الفقد يريد أن يرى أصوله ودوافعه في وحشية مختبئة بإحكام.
"وبينما هو على هذا الحال، سمع الجندي حميد العشب المتيبس وهو ينوء تحت ثقل البساطيل بخشخشة مرعبة. وأصوات نوابض الإرجاع في البنادق، تعلن إن ثمة من صار مستعداً لإطلاق النار في أي لحظة يتحرّك فيها. فعلم أن مجموعة من جنود الإنقاذ يتقدمون في تلك الأثناء لإخلاء الجثث. إلا أن أحداً منهم لم يتفوّه بكلمة واحدة يتعرف خلالها على هويتهم، كما لا يمكنه التعويل، في حال حدث ذلك، على اللهجة التي يرطنون بها، فغالباً ما يستخدم أحد الطرفين لغة الآخر، في مثل هذه المواقف، بقصد التظليل. فمكث في مكانه لا يلوي على شيء".
من الجدير بالانتباه في المجموعة أنه على الرغم من اعتماد ضياء جبيلي على الأسلوب الحكائي الشارح، الواصف والمفسّر، الذي يقدّم التتابع المنطقي للتفاصيل والأحداث إلا أنه مع ذلك أسس حضوراً طاغياً للصمت داخل القصص .. كرّس جبيلي لهذا الصمت دون الاتكاء على التوالي غير المنتظم للعبارات المقتضبة التي تضمن تشظياً مغوياً للسرد، وبالتالي تؤكد الكتمان البديهي للأسرار من خلال سيطرة الفراغ على النص .. كأن أكثر القصص وضوحاً وإسهاباً ـ بصرف النظر عما تكتسبه من صفات الواقعية والفانتازيا ـ يمكنها أن تخلق هذا الصمت .. أن تكشف عنه، وتمتد به خارج حواجز الشرح والتفسير .. ربما يدعم هذا الأسلوب تلك المباغتة الأثيرة في نهايات القصص، والأقرب إلى ضوء مفاجئ، وحاد مصوّب على الغدر.
"حين خرج محمود من المصحة، لم يذهب إلى البيت، بل قادته قدماه، كالعادة في مثل هذا اليوم من كل عام، إلى شارع الاستقلال في وسط المدينة، ليتكرر المشهد التراجيدي الذي دأب على أدائه في السادس عشر من نيسان، بكاء، وشم، وتقبيل، وإنصات للأرض الإسفلتية. عندئذ لم يشك أحد، من الذين واكبوا الحدث طوال الأعوام الماضية، أن محمود مجنون فعلاً، باستثناء أفراد الشرطة الذين يتجولون في الجوار، فقد رأوا أن لا خلاص من هذا الرجل غريب الأطوار إلا بالحبس. فقيدوه، واقتادوه مخفوراً إلى المركز، وكانت تهمته إزعاج الناس وقطع الطريق والتسبب بالزحام".
لم يستعمل ضياء جبيلي "البحث عن الزمن المفقود" و"المسخ" في مجموعته القصصية فحسب، بل أعاد أيضاً بواسطة شخصيات "حديقة الأرامل" كتابة عملي بروست وكافكا عبر الارتباط بين الصمت والفقد .. إعادة الكتابة التي تكشف عن هذا الارتباط كجوهر في الروايتين .. أصبحت شخصيات المجموعة شريكة بتأويلات صمتها المتنوعة في صراع بروست مع الزمن، وفي تأمل كافكا لتحولاته الكابوسية .. كأن كل شخصية في "حديقة الأرامل" تمتلك هوية باطنية لمسخ صامت، غابت عنه كلياً القدرة على الانفلات من الزمن، وبالضرورة يمكن لها أن تتبادل مواضعها مع الشخصيات الأخرى، وأن ترسم في تشكيلها خطوطاً مغايرة .. هذا ما يضيف للمجموعة طبيعة الحكاية الواحدة التي تتعدد فصولها بتواطؤ ضمني بين الشخصيات المختلفة.
"كنت نائماً أيضاً في عالم ذلك الحلم، أو الكابوس المقزز. وعندما استيقظت من نومي الحلمي ذاك وجدت أني قد تحولت إلى إنسان.. وتحديداً إلى غريغوري سامسا ضخم وهائل. الأمر الذي أذهل أبويّ فتوجسا منه خيفة. تحسسا بقرونهما الاستشعارية الخطر القادم، وهو إصبعي السبابة الذي هبط عليهما، ورحت أداعبهما به مثل كلبين مذعورين، بغية طمأنتهما. لكني، بمجرد أن لامستهما، حتى فرّا هاربين إلى إحدى الزوايا، وراحا ينظفان نفسيهما، وظهرا، أثناء ذلك، كما لو أني لطخت رأسيهما بالبراز. ثم لاذا بالفرار، تملؤهما الحسرة على ابنهما الذي تحول إلى إنسان قذر كما يُهيأ لهما".    
بالنسبة لي لم يكن الصمت الذي فشل الشاعر في كتابته في قصة "الشاعر والصمت"، والذي لا يمكن فهمه، وإنما يُطارد دائماً من أجل انتهازه؛ لم يكن سوى الحقيقة المتمنّعة لهذه الأشكال المتعددة من الفقد: الذبول الميت لـ "كريمة" .. الأشياء التي لم تكن ذات قيمة التي يبحث عنها "زكي" مع المسنين وسط النفايات .. الهيكل العظمي للجندي "حميد" .. احتضان "محمود" للأسفلت .. أمنية آدم أن يكون زوربا اليوناني لجميع الأرامل ..  موت "حازم" الذي يعتني بموت "حياة" .. نواح الرجل غريب الأطوار كعصفور فقدته "هالة" .. كتلة لحم الصياد العجوز المشوهة التي طعنتها الأسماك. لهذا فإن "حديقة الأرامل" هي التفكير في الوحدة كفضاء للصمت الذي لا يمكن كتابته:
"حاول النهوض لكنه لم يستطع. ألفى نفسه وحيداً مع الصمت المطبق من حوله، الكثير من الصمت الذي لم يستطع أن يعبّ منه ورقة صغيرة كان بإمكانها أن تجعل منه ثرياً وسعيداً بقية حياته. عندئذ، لفظ الشاعر أنفاسه ومات. مات بصمت".
جريدة "أخبار الأدب" ـ 7 أكتوبر 2018