السبت، 30 يونيو 2018

الرقص كبصيرة نصّية

إذا كان من المفترض التفكير في ماهية الأداءات الراقصة التي تؤديها "باليرينا" نسرين البخشونجي عبر نصوص مجموعتها الجديدة الصادرة عن شمس للنشر والإعلام؛ فإن مقاربة المشاهد الناجمة عن هذه الأداءات لا يفترض أن تبقى عالقة داخل إدراك ثابت بل يجدر بهذه المقاربة الوعي بالاختلاف بين هذه الأداءات، والوصول إلى نوع من الحدس تجاه تعارضاتها المخبوءة.
تبدو حركة الرقص في مجموعة "باليرينا" كأنها حفر مقتضب للكلمات في الفراغ؛ حيث أن ما يشكّل الانفعال والتناغم للإيقاع هو التثبيت المتتابع والمحسوب لمفردات اللغة، وهو ما يساهم بالضرورة في تجاوز صورها المباشرة .. كلمة كـ "النقاء" مثلا التي يعنون بها النص الأول في المجموعة سنجد أن المفردات القليلة التي تمثل الحصيلة اللغوية لهذا النص بمثابة امتداد متجانس لهذه الكلمة، والذي يبدو كتأكيد على فكرة تكوّنها عناصر أساسية "الروح ـ العشق ـ البدر ـ النور ـ الاصطفاء" .. لكنه الأداء الذي يُضمر بشكل عفوي نوعًا من الرجاء في الامتلاك الكامل لهذا "النقاء" .. في محو تمنّعه، وإزالة الضجيج المراوغ الذي يحاصره .. في استبدال مجازه الكامن داخل الحركة الراقصة للباليرينا بحيازته المستحقة، التي تُعادل "الاصطفاء" .. كأنه شكل من الثأر الضمني تجاه العداوات المتراكمة لهذا "النقاء"، والذي يبدو في احتياج إلى التحفيز بواسطة الإيقاعات المنسجمة حتى يكشف عما لا يبدو واضحًا في سياقاته التخيلية؛ أي أن يصير واقعًا حسيًا غير مهدد .. سنلاحظ هنا أن الكتابة تخطط لما يمكن أن نسميه المورفولوجيا الملائكية التي تميّز الشكل التقليدي للباليرينا؛ إذ أن ثمة بنية للأداء الراقص يكوّنها على سبيل المثال: "البياض ـ الشفافية ـ النصوع ـ الخفة" .. في علاقة هذه السمات ببعضها، وفي صلة كل منها بالكل؛ فإنها تسعى لتشكيل أجسام استبصارية لا تتوقف عند توثيق "الملائكية"، بل تستدعي أيضًا هوامشها المحتجبة، وإنتاج رموز لعذاباتها السرية.
يتكوّن نص "باليرينا" من إثني عشر مقطعًا يبدأ كل منها بـ "ذات يوم" .. نحن أمام استشراف إذن يأخذ طبيعة الحلم المتسم بالخفة الوردية للباليرينا التي يشبه فستانها المنفوش زهرة اللوتس .. هذا التمني النبوئي يعادل الرجاء الذي أشرت إليه باعتباره دليلا على (عدم الامتلاك) الذي يكافح لاستبدال المجاز (الأداءات اللغوية الراقصة) بالرقص الفعلي للباليرينا الحقيقية التي تخطو داخل القصيدة نحو حافتها .. هو طموح حينما يستبدل المجاز سيستبدل الواقع بالتالي؛ لذا فهي رغبة لإكساب الخيال وجودًا شاملًا، استنادًا على ما كان في الماضي مجازًا للواقع .. بهذه الطريقة تصبح حركة الرقص أسلوبًا للمقاومة، ليس ضد الحقيقة التي تنتمي إليها الكلمات المستخدمة في بلاغة الإيقاع فحسب، وإنما ضد عدمها أيضًا .. كأن هذه المقاومة هي محاولة لإعطاء تصوّر إيحائي للحقيقة البديلة المنتظرة؛ الأمر الذي يمكن أن يساعدها على التجسّد في الزمن ـ أو خارجه على نحو استثنائي ـ وفقًا للحلم اللغوي لهذه الحقيقة .. الحلم الذي ينسجه التانجو، وقوس قزح، والشمس، والمرآة، والحكايات.
"ذات يوم...
سأبدو كقديسة
بهالة بيضاء فوق الرأس
وسأطفو فوق
الظلام
كريشة".
بهذا لا يتم تثبيت الماضي بواسطة الإيقاع الراقص لكلمات الباليرينا فقط، وإنما يقوم كذلك بالتفاوض مع غموضه .. استنطاق هذا الماضي .. إعادة ترتيبه .. تعديله دون حسم ليتلاءم مع المقاومة .. كي لا يكون المصير الحتمي هو النسيان حقًا بعد انكسار الذات كطاحونة هواء ظلت تمنح فصولًا من روحها للعابرين .. لإعطاء الروح المتعبة التي تحمل صليبها أينما تذهب فضاءًا من الاحتمالات الملتبسة التي يمكنها أن تتحالف دون استبعاد أي منها .. الاحتمالات التي تقفز بين الكواكب، وتنتظر قدوم الظلام، وتصنع فقاعات ملونة .. التي تتواطأ في تمردها على نفسها لصالح إبهام يحلّق فوق الندم الذي أيقن أنها لا سبيل للعودة، ولا مجال للالتفات.
"بعد مائة عام
ستجدونني
ربما حرفًا بقصيدة منسية
أو ركنًا بعيدًا على وشك الانهيار...
وستجدونني
تاريخًا مكتوبًا،
بركن صورة ضوئية...
لم ولن تُطبع".
حينما نفكر في هذا التاريخ المكتوب بركن صورة ضوئية لم ولن تُطبع فنحن نواجه تساؤلًا جعلته الباليرينا عن طريق هذا الأداء الراقص ملغّمًا سلفًا؛ أي يكشف عن سعيه لمعالجة ثغراته بواسطة الرقص الذي تمارسه الكلمات المقتضبة .. عن محاولاته لتخطي المعرفة التي تجهّز خرافاتها المنطقية من أجله .. لذا فالتاريخ يشير إلى الأسباب الاستفهامية لطمسه عبر استرسال الباليرينا في حركتها اللغوية: مشانق الحزن .. السكين المكسور الذي يمسح الدموع .. اللعنة السيزيفية التي نقرأها هنا:
"تكبلني الأعشاب،
تسحبني لأعمق نقطة في قاع الحزن...
أطفو...
ألتقط نفسًا عميقًا...
أشاهد زرقة السماء
وأنا أنزلق مجددًا...
نحو الظلام.
أبعث من جديد،
كفرع نبات
جافًا هشًا.
أتنفس من جديد،
وأعاود الكرّة".
تطرح نسرين البخشونجي في هذه المجموعة ما يشبه إيتيقيا للأمل الذي تحمله الباليرينا؛ أي أنها تقدم إطارًا للمجاهدة التي تقوم بها هذه الباليرينا من خلال إيقاعاتها (كسلوك تخييلي)، لتشييد رجائها الأخلاقي الخاص عن السعادة .. الرجاء القائم على الفعل الشخصي الذي يجابه الأخلاقيات الاستباقية .. تفكير هذه الباليرينا في إمكانياتها، في ما تستطيع أن تقوم به مقابل الضرورات التي على استعداد دائم لقمعها .. في الاستجابة الأخلاقية الموازية للقدر، التي ربما تنبعث من وراء الجحيم.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 1 يونيو 2018

الثلاثاء، 26 يونيو 2018

القضيب الأبوي


تذكرت بينما أتصنت عليه هو وصديقه من وراء باب حجرة الصالون أنني بلا أصدقاء .. عندي شخص واحد أقول أنه صديقي في حين أنني أفرض صداقتي عليه في حقيقة الأمر .. ابني العاطل لديه أصدقاء كثيرون، وكان هذا سببًا وجيهًا للانتقام منه .. أقصد معاقبته .. تهذيبه وإصلاحه بمعنى أصح .. عمومًا لم أكن أحتاج لبذل جهد كبير .. كان يكفي حينما أراه سائرًا في الشارع مع أصدقائه أو واقفًا معهم تحت البلكونة أو يجلس بصحبتهم في حجرة الصالون أو يكلّم أحدهم في التليفون؛ كان يكفي أن أقول له بعد ذلك كلمة واحدة : (انت دلدول) .. خمسة حروف سحرية كافية لإحراقه تمامًا وإبقائه مشتعلًا مهما حاول إطفاء نفسه .. ربنا عرفوه بالعقل: كيف يمكن لشخص أن يكون لديه كل هذا الكم من الأصدقاء ويأخذون أغلب وقته هكذا دون أن تضيع شخصيته بينهم؟ .. دون أن يأتمر بأمرهم ويسير على هواهم؟ .. أولًا هو واحد وهم كثرة، ثانيًا كلما نادى عليه أحد من تحت ينزل ليقف معه .. كلما اتصل به أحد يرد عليه .. كلما جاءه أحد يستقبله .. لا يقول (لا) أبدًا فكيف لا يكون (دلدولًا)؟ .. كان لقب (الذيل) كبيرًا عليه لذا فهو لم يستحق سوى هذه الصفة التصغيرية، مع العلم أنني أتحدث فقط عن الشكل الخارجي لعلاقته بأصدقائه، ومدى خضوعه لهم، والله أعلم بالتأكيد في أي شيء يطيعهم أكثر من ذلك .. متعة كبيرة أن ترى وجهه بعد أن يسمعها مني: (انت دلدول) .. إحساس رائع باللذة وأنت تتأمله وهو يكتم غيظه بصعوبة مانعًا نفسه من القيام برد فعل يعيد رتق كرامته التي مزقتها وبعثرتها بسهولة كلمة واحدة .. متعة كبيرة وإحساس رائع باللذة لك أو لأي أحد آخر وليس بالنسبة لي .. لا شيء يمكنه أن ينقذني .. لا يوجد في العالم ما يمكنه معالجة أن يتهرب منك صديق ويرسل لك وأنت واقف على بابه من يكذب عليك ويخبرك بأنه غير موجود في حين أنك كنت تسمع صوته بوضوح تام قبل أن ترن الجرس .. لا شيء يقدر على تخفيف مرارة أن تظل تذهب كل يوم إلى صديقك الذي يتهرب منك حتى يرضى أن يقابلك في النهاية فتبتسم في وجهه بسعادة وامتنان وتستفسر بود كبير عن أحواله دون أن ترغب حتى في سؤاله عن السبب الذي يجعله ينكر وجوده كلما جئت إليه حتى لا يتضايق أو يغضب منك .. متعة كبيرة وإحساس رائع باللذة لك أو لأي أحد آخر وليس بالنسبة لي .. مهانة ابني العاطل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تفرحني.
https://drive.google.com/file/d/0B5D3ftm9yo4AWUQ0ZmxJRDBaLWc/view

الأحد، 24 يونيو 2018

متى تعلن عن شبحيتك؟

Cairo, March 2012. Credit: Bieke Depoorter/Magnum Photos
حدث بالفعل أنني استوقفت تاكسيًا ذات يوم، ونظرًا لوجود صبي صغير في المقعد الأمامي تبين لي فيما بعد أنه ابن السائق فإنني جلست في الكنبة الخلفية .. بعد لحظات من التحرّك سألني السائق عن الاتجاه الصحيح المؤدي للمكان الذي أرغب في الذهاب إليه متعللًا بجهله للتغيرات التي طرأت على المسارات القديمة للشوارع حيث أنه عائد منذ وقت بسيط من سفر غيّبه عن المدينة سنوات طويلة .. هنأته على سلامة العودة ثم طمأنته على صواب الاتجاه الذي قصده، وقبل الانعطاف نحو شارع جانبي؛ ابتسم السائق موجّهًا حديثه إلى الصبي لينبهه إلى اقتراب عبورنا أمام الاستوديو الذي سبق أن التُقطت لهما فيه صورة مع أمه حين كان طفلًا .. تبددت الابتسامة من وجه السائق وهو يمر بنا أمام مساحة ترابية فارغة إلا من بعض مخلفات الهدم المتناثرة، وحينما استفهم الصبي عن مكان الاستوديو أشار إلى هذه البقعة مجيبًا بخيبة أمل بأنه كان موجودًا هنا، ولكن من الواضح أنه تم هدمه .. بعد تجاوز هذه القطعة من الخلاء المُحبط سأل الأب ابنه إذا كان لا يزال يحتفظ بهذه الصورة فرد عليه الصبي بالإيجاب ثم طلب منه أبوه أن يحرص عليها جيدًا كي لا تضيع، وبعد أن هز الصبي رأسه بالموافقة وصل بي التاكسي إلى حيث أريد فغادرته وظللت واقفًا أراقبه حتى اختفى.
هذا يعني أن كل ما سبق العبارة الأخيرة في قصة "ثغرات الخلود" من مجموعتي "مكان جيد لسلحفاة محنطة" قد تم في الواقع حقًا: "مشيت ويدي المرتعشة تتحسس جيبي لتتأكد من وجود الصورة في مكانها".
لنتخيل كتابة أخرى لهذه القصة يكشف فيها السارد عن تماثله مع الصبي الصغير في اللحظة التي يتحدث خلالها السائق عن الصورة القديمة التي تجمعهما مع الأم .. أن يفكر السارد في وجود صورة اُلتُقطت له أيضًا مع أبويه في أحد الاستديوهات حينما كان طفلًا .. هذا الكشف المبكر عن التماثل بين السارد والصبي سوف يحتجز القصة داخل حدود واقعيتها حتى مع الإعلان عن وجود الصورة في جيب السارد في نهاية القصة .. سيظل السائق وابنه والسارد شخصيات فعلية مستقلة عن بعضها، كما أن الصورة ستظل صورة حقًا بدرجة ما رغم الغرابة المحتملة لوجودها في جيب السارد في تلك اللحظة، وهو ما سيمكن تفسيره بالإحكام القهري للحرص عليها من الضياع .. لكن عدم كشف السارد عن نفسه إلا في نهاية القصة، والإعلان عن أنه كان حاضرًا في حكاية اللقطة الفوتوغرافية، والاستوديو الذي تم هدمه، وضرورة الحفاظ على هذه الصورة سيجعل القصة تتجاوز التماثل بين الصبي والسارد إلى تطابقهما .. سيكون الصبي والسارد شخصية واحدة، كأن السارد يشاهد نفسه أثناء جلوسه في الكنبة الخلفية للتاكسي وهو يتحدث مع أبيه حينما كان صبيًا صغيرًا .. السارد لا يقول هنا: (هذا الصبي يشبهني، وهذا السائق يشبه أبي، والصورة التي يتحدثان عنها لدي مثلها)، بل يقول بواسطة الصمت الذي تتم إضاءته في نهاية القصة: (هذا الصبي أنا، وهذا السائق أبي، والصورة التي يتحدثان عنها صورتي) .. حينئذ سيتوقف السائق عن أن يكون أبًا فقط، والصبي ابنًا له، والسارد شخصية مشابهة للصبي، والصورة مجرد لقطة فوتوغرافية قديمة يمتلك الأطفال الذين تقدّم بهم الزمن خطوات كبيرة نحو الموت نسخًا مختلفة لها؛ بل سيكون السائق هو فكرة الأبوة نفسها، مثلما سيجسّد الصبي والسارد في تطابقهما فكرة البنوة التي في سبيلها لأن تكون أبوة أيضًا، كما ستصبح الصورة هي الماضي الذي لا يمكن مفارقته .. تتحوّل القصة إلى حلم عن "الخلود" الذي يمكن السخرية من استحالته باعتبار أن الحفاظ على الصور التي خلّفها الفناء ـ كأنقاض الهدم ـ هو مجرد ثغرة من ضمن ثغراته.
إذا كان من الممكن توقع أن يكون السارد الذي أخفى ارتباطه بحكاية السائق وابنه هو نفسه الصبي؛ فإن هذا التوقع سيكون منفصلًا عن وجود الصورة في جيب السارد .. كان يمكن للسارد بدلًا من أن يتحسس جيبه كي يطمئن على الصورة أن يفكر في وجودها داخل مكان آخر يخصه ويتسم بالأمان مثلًا .. ولكن الصورة أشبه بسراب غامض، يحتل الذات؛ وهذا ما يُسبب رعشة اليد عند ملامسته.
إن الكشف عن وجود الصورة في جيب السارد يعني أن هذا السارد لم يكن حاضرًا فحسب عند التقاط الصورة بين الصبي الصغير وأبويه، بل كان موجودًا من قبل، وسيمتد هذا الوجود بعد هذه اللحظة التي تحسس فيها هذا السارد جيبه ليتأكد من وجود الصورة؛ أي أنه يكمن كشبح في جميع الحكايات الأبدية للفقدان بين الآباء والأبناء .. الحكايات التي لا تعني حمايتها من الضياع أن يتحوّل الحنين إلى مجرد بديل تهكمي للخلود؛ بل الإبقاء على احتمالات أن تُفهم .. أن تُعالج .. أن يُعاد بعث هذه الحكايات على نحو مبهم دون ثغرات .. أن تُنقذ عبر تحويلها إلى لعبة قصصية كأنها خلاصها الوحيد.
يرتبط سؤال "متى تعلن عن شبحيتك؟" بسؤال الكيفية؛ أي الطريقة التي تعلن بواسطتها عن هذا الوجود الشبحي .. الأسلوب الذي تحدده اللحظة الكاشفة عن أنك كنت حاضرًا طوال الوقت من وراء صمتك الظاهري .. فكر في الحكاية الواقعية التي عثرت خلالها على نفسك داخل شخصية أخرى .. حاول أن تجعل القصة التي ستستثمر هذه الحكاية أقرب إلى الحلم المنحاز لاستفهامات الوجود والزمن، التي لا تتوقف عند الخطوط الواقعية التقليدية، وذلك عن طريق اختيار اللحظة المناسبة التي تعلن فيها عن طبيعتك كشبح مخبوء داخلها .. اجعل القصة في نهايتها بواسطة هذا الاختيار مفارقة للتوقع مهما اقتربت التكهنات من سرها.

الأربعاء، 20 يونيو 2018

نحو لا تعريف تراجيديا الهلاك


في كتابها "ومن بعدنا الطوفان" الصادر حديثًا عن دار صفصافة، بترجمة مميزة لعبد الرحيم يوسف تقف الكاتبة والأكاديمية الهولندية مينيكه شيبر عند حدود المفهوم دون تفكيك المصطلح، ومن ثمّ كان الرصد والتحليل للأساطير موضوع كتابها يعيدان التأكيد على المعرفة التي تندرج في الإطار الشامل، سابق التعيين للوجود الميثولوجي. لكنني أتصوّر ـ نظرًا لأهمية الكتاب ـ أن ثمة قراءة ضرورية يجدر بها أن تقوم بهذه الخلخلة، أي أن تبدأ خطوات الانتهاك فيما يسبق المتن الأسطوري نفسه، وأقصد بذلك هذه الأنظمة من البديهيات المصطنعة التي أقرت طبيعة مستقلة للميثولوجيا، ورسمت بالتالي خطوطًا عازلة لسياقاتها. هنا لا تصبح الأسطورة تاريخًا بدائيًا مقصيًا في شكل "خرافات مستحيلة" أمام "السيولة المتطورة لمنطق العلم"، كما أنها لا تظل خالقًا دائمًا للعالم حيث لا تتوقف الآلهة أو الرموز الأزلية عن إنتاج أشكال متغيرة من الصيرورة فحسب، بل يرتبط تفكيك المصطلح بفتح حدوده المغلقة، بتذويب حواجزه النمطية، باكتشاف الميثولوجيا داخل كل ما كان لزامًا ـ كجوهر قهري للمعرفة ـ أن تبقى خارجه. هذا الإجراء سيحوّل المعنى الأسطوري إلى فكرة مؤجلة طوال الوقت. إلى احتمال مستمر في إرجاء يقينه. هو نوع من الأنطولوجيا المضادة التي تتشكّل دون ثبات بفضل محاولاتها لإثارة استفهامات تم التغاضي عنها أو إبعادها بشكل مقصود. لاكتشاف التواطؤ بين الدوافع والممارسات التي تقف وراء التحقيب الميثولوجي، وتثبيت الانقطاعات بين الأزمنة، أو ما يمكن أن نطلق عليها الصدوع المتعمّدة التي تحدد البدايات، والنهايات، والتوقفات، والتباعدات، والفصل بين فضاء حاسم من الإدراكات المتآلفة عن فضاء آخر.
حينما أفكر في ما يُسمى بـ "نهاية العالم" فإنني لا أستعيد فقط النبؤات المرتبطة بالأمر عبر مجرى التاريخ، أو قصص الفيضانات والزلازل والأعاصير والانفجارات البركانية اللاحقة في تشابهها أو حتى في تطابقها مع السرديات القديمة سواء كان ذلك مقرونًا بالإشارة إلى سُبل الإنقاذ أو الخلاص أم لا، وإنما أفكر أيضًا في النهايات اللحظية المتعاقبة ـ ضمن المجال غير المحكوم للأسطورة ـ في الانبعاثات المتراكمة لهذه النهايات التي لا تضع حدًا للحياة، وإنما تقود استمراريتها. أستعيد الوجوه اليومية ـ اللانهائية ـ للفيضانات والزلازل والأعاصير والانفجارات البركانية التي تزيح الميثولوجيا عن مركزها التقليدي، وتكشف عن امتدادات مختلفة لذاكرتها المحتجزة ـ كتراث مميِّز لحضارات معينة ـ عن الأسطورة كحكايات لا تميّز أصحابها.
إن الكوارث الكونية تحدث بالفعل، وبتفاقم عشوائي ليس أقل من تصاعد تراجيدي يسخر من الذروة، وهو ما كانت تحتاجه المعتقدات الأسطورية كضمانات غير قاصرة. لم تتعطل الحوادث المرعبة حتى تستأنف نشاطها، كما أن الوجود الإنساني يُمحى بصور عفوية متلاحقة، دون خلل في حركة الأجساد، أو في الظواهر الواقعية التي تسحب الميثولوجيا من السطح "الدمار ـ الصدمات القاتلة ـ النكبات المميتة" إلى العمق الذي ألحق تخفيفًا روتينيًا بالتأثيرات الدالة لهذه المفردات مقارنة بالسريان المألوف للتفاصيل الاعتيادية المباشرة التي أُهملت من نطاقات الأسطورة. هو ببساطة القدرة على استيعاب أنه لم تكن هناك نجاة حقيقية للجنين من الطوفان الأول "انفجار غشاء السائل المحيط به"، وأنه من أجل إثبات هذا المصير ينبغي ألا تُستبعد أي فكرة يمكن استعمالها خلال الحكاية التالية لتلك اللحظة، مهما كانت المحاذير التي تسعى لتجريد هذه الفكرة من البُعد "الأسطوري". هو أيضًا القدرة على الامتناع عن إقصاء أي تفاصيل تخص "الموقف الفردي" الذي نُسقطه على الكون استجابة لفرضيات صارمة حول ماهية الأسطورة. ستتخلى الميثولوجيا عن كثير من الانطواء الشائع إذا أتيح لها اقتفاء أثر النيازك والكويكبات والمذنّبات المتكاثرة التي استقرت داخل الأشياء، أي داخل اللغة التي تحوّلت بالضرورة إلى ماهو أكثر دهاءً من التنانين السماوية أو الثعابين ذات الرؤوس العديدة.
قراءة أساطير هذا النوع من "الجحيم" لا تأخذني نحو العوالم السفلية السحيقة بل إلى العوالم المعلنة التي صارت إليها الآن. إلى الظلام الراهن المهيمن داخلي وفي الخارج محاولًا تبيّن كيف أصبح هذا الذي يتم الإشارة إليه كـ "حطام"، أي الكينونة التي آلت إليها تلك "الصدمات الكونية" أو "الأحداث المهولة". محاولًا تبين الوضعية الخاصة التي تمثلني، أو الحيز الجدلي الذي تنتمي إليه فرديتي داخل الافتراضات المتعلقة بـ " الحوادث الدراماتيكية التي انتشرت عبر الروايات المكتوبة والتقاليد الشفاهية". قراءة هذه الأساطير هو كفاح لرؤية كيف بدأت قصتي الشخصية، وكيف شهدت تحولات وانقلابات، وكيف ظلت محتفظة بثوابت جذرية كأنها غرائز للحياة والموت: الخير والشر ـ الإباحة والتحريم ـ الثواب والعقاب ـ الفناء والبعث ـ الفردوس والجحيم. لماذا لا أفكر في جسدي عند مقاربة حكايات نهاية البشرية باعتباره ناجمًا عن تسويات سردية متناسلة عبر الزمن بين الأنبياء والمتنبئين؟. بوصفه نتيجة لتوظيفات متشعبة، أو استعمالات متعسفة لا تهمد للطبيعة والغيب والأحلام، أو كحصيلة مما تعرّضت له الأفكار والمشاهد من اختلاقات التداول الشفاهي، أو تحريفات التدوين؟. هكذا يمكن للدهشة أن تتسلل إلى ما هو أبعد من التماثل بين الكتب المقدسة والحقائق الجيولوجية، وأقصد بهذا مراوغات الميثولوجيا، المتضمنة للتعديلات والإضافات والمحذوفات والتواطؤات المتعمدة أو التداعيات غير المقصودة، والتي ساهمت في تكوين نهايتي الذاتية قبل لحظة وجودي في العالم. الوجود الذي ليس أكثر من إعادة توليد لطقس بالغ القِدم، جرى تأليفه كمزيج من احتمالات التنقل الشفاهي لوقائع ربما تكون قد حصلت بالفعل، وبين تخيلات ممكنة لم ترتبط بخبرة بشرية خارج الذهن، أو تجارب موضوعية تم الاتفاق أو التأكد من حدوثها.
كان يجب إذن أن أتوقف عند هذه "الحكمة" التي كتبتها مينيكه شيبر في مقدمة كتابها: "كل الأساطير قصص، لكن ليست كل القصص أساطير" نظرًا لأنها تلخص كيف توقفت شيبر عند حدود المفهوم دون تفكيك المصطلح كما أشرت في البداية. إن كل القصص يمكنها أن تكون أساطير لو حاولنا اكتشاف التمظهرات المغايرة لما سبق واعتبرناه أسطوريًا داخلها. لو حاولنا أن نضم ما كنا نعتقد بمنتهى الحسم أنه غير أسطوري إلى تأويلاتنا للأساطير. لو توقفنا عن التمييز بين أنساق نجدها معنية بمناقشة "مسائل وجودية" وأنساق أخرى لم نجدها كذلك لمجرد أننا اتخذنا قرارًا مسبقًا بهذا الشأن. علينا أيضًا ألا نضع تمييزًا ـ كما يروق لكثير من الباحثين ـ بين القصة والأسطورة في جانب ما. هذا الجانب "العملي" يتعلق بـ "أصل" القصة. إما أن يحمل ـ بحسب ما يرون ـ إمكانيات "حقيقي ـ واقعي ـ فعلي" فتظل قصة، وإما أن يحمل سمات "خيالي ـ مختلق ـ متوهم" فتصبح أسطورة. لنتأمل هذا "الأصل" في ضوء عدم اكتماله الدائم. إنه شيء يسعى طوال الوقت لإتمام نفسه، لذا فهو متبدّل، وغير ثابت. لا يمكن له أن يحمي تعريفًا محصنًا، مكتفيًا بذاته عن "الحقيقة" التي يمثلها. هو في احتياج مستمر لما هو خارج عنه، للرؤى التي تتفحصه، للتخيل الذي يراقب ويُعدّل ويعيد ترتيب تفاصيله، للمغامرات اللاواعية التي تأخذه بعيدًا عما كان يظن أنها حدود له. إذا كنا نعتبر في هذا الوقت من التاريخ أن ثمة انعدام أو على الأقل افتقار مُحبط للغرائبيات الاستثنائية القديمة ـ حيث يمكن التفكير أيضًا في طغيان ما يُطلق عليه الفانتازيا المأساوية الباردة التي حلت مكانها ـ  فإننا لا نعيش عصرًا لاأسطوريًا بل هو جزء من الكتاب الذي لا ينتهي كما وصف "بورخيس" ألف ليلة وليلة. قد تكون كل القصص أساطير لو تعاملنا مع استقلال الحدث كادعاء. لو نظرنا إلى ذلك الشيء الظاهري المرصود كواقع لن يتحقق إلا عن طريق خضوعه للحكي المتواصل، لإعادة الحكي في لعبة التفسير اللانهائية، أو ما يمكن أن نسميه انتزاع الميثولوجيا الفردية داخل الحكاية المصنّفة كوجود "جماعي" فعلي، غير مختلق.
مجلة (عالم الكتاب) ـ أبريل 2018

السبت، 9 يونيو 2018

backspace


كأنها آخر ما تبقى من دماء ظلت تفقدها ببطء طوال أكثر من خمسين سنة .. ربما لم تكن دماءً حقًا بقدر ما كان الفراغ البارد الذي خلّفه الانسحاب التدريجي لهذه الدماء، وترك لديها فقط القدرة على النظر في عينيّ لتسأل: "هنعمل إيه دلوقت؟...".
سؤال غريب بين اثنين فقدا أخاهما الثالث منذ لحظات، وأصبحا وحدهما آخر ما تبقى من أسرة مات معظمها تباعًا.. ليس للسؤال علاقة بتوسل طبيعي أن هذا الأخ ربما لم يمت حقًا، أو بأنه يمكن التوصل لعزاء ما يخفف قليلا من قسوة موته، أو حتى بإمكانية العثور عليه ثانية داخل حلم أو ذكرى أو جلسة تحضير أرواح .. كان للسؤال علاقة أكثر باسترداده فعليًا من الموت؛ لهذا كانت الصيغة الأنسب لسؤال أختي: "كيف نعيده ليعيش كما كان؟" .. شيء ما جعل سؤالها يخرج من بين شفتيها المرتعشتين متنكرًا بتلك الصورة التي ليس بوسع أي إله مهما فعل التكفير عن إثم وجودها .. شيء يشبه طفلا لا يتوقف على الاستمناء أثناء تجوّله داخل فراغ بارد، خلّفه انسحاب تدريجي لدماء أكثر من خمسين سنة.
أين الغرابة؟! .. ماذا لوعرفتِ بأنني حينما هربت من عينيكِ ونظرت لأسفل حابسًا دموعي بأقصى ما لدي من خوف كان أشد ما يؤلمني هو الريموت كنترول الذي كان يقلّب به أخونا قنوات التليفزيون .. حيث كان يظن باطمئنان ما أنه يرى شيئًا .. الريموت الذي سيظل على مكتبه منتظرًا يد أخرى، بينما التليفزيون المطفئ سيظل مطفئًا.
يصبح الميت جميلا بقدر مساعدة حياته لنا على كراهيته، أو على الأقل على تثبيت حياد مبرر يعزل زوايا أخرى يمكن لأذهاننا عن طريقها اتخاذ مواقف مغايرة لصلاتنا بعالمه الخاص .. يصبح الميت جميلا بقدر قدرتنا على إخصاء أهميته، والتحصن بأسباب مقنعة وحاسمة لكونه بلا فائدة .. ذلك الفخ الذي يشبه كل فخ .. ليست هناك ثغرة في مكان ما يمكن بواسطتها التحرر من سلطة الغموض .. ربما أكثر الأشياء عريًا وأكثر المواقف وضوحًا وأكثر الكلمات صراحة هي التي تدفعني للإيمان بذلك .. العري والوضوح والصراحة مجرد ظنون قاتلة لا تفارق جسدي .. أفكار ومشاعر عن تدبير مجهول لا أعرف عنه أكثر من أن جسدي ليس إلا خدعة شأن الحجرات والكتب والأضواء واللوحات والصور والأحلام والذكريات .. الغموض عندي لا يميز بين خبرات البشر كافة، الذين تركوا موتهم مستريحًا في حلقي .. أتخيل أحيانًا لدرجة الانغماس التام أن أستقبل أنا وأختي مكالمة تليفونية من أخي ليخبرنا بأن من مات هو شخص آخر .. نسخة مطابقة له حلّت مكانه في ذلك اليوم، وهي من عاشت لحظة الموت وتم دفنها في صباح اليوم التالي .. أتخيل أخي يقول لنا وهو عاجز عن السيطرة على ضحكاته أنه سيشرح ويفسر حينما نلتقي تفاصيل العثور على هذا البديل، والأسباب التي دفعته للاختفاء .. يقف تخيلي عند هذا الحد .. لا تهمني التفاصيل والأسباب على الأقل الآن .. لا يعنيني سوى أنه لا يزال حيًا .. لكن من هو هذا البديل؟! .. كيف يكون نسخة مطابقة لأخي؟! .. لماذا حلّ مكانه في ذلك اليوم تحديدًا؟! .. كيف عاش لحظة الموت؟! .. كيف عاش الحياة التي لم أمر خلالها، ولكن يكفي أن أعرف بأنه دُفن في صباح التالي كي يتملكني هوس عنيف لاسترداده من الموت؟!.
لا شيء يضيع .. تاريخ المشاهد الضبابية وتجارب التأرجح بين الحواف المعتمة للميت حيث كان يدعي مضطرًا القدرة على الوقوف فوق أراض صلبة أو الطيران متخيلا أجنحة ممكنة .. كل التصورات المتشابكة التي تخترقني كجثث تنتظر إعادة تشغيلها بيقين ما ستظل تشارك في اللمس والنظر وفي أصوات لا أسمع سوى بدائل وقحة لرغبتها في الانفلات .. ستظل قرارت ودوفعًا لا أمتلكها وإنما أتظاهر ـ شأن الجميع ـ بأنني مصدرها، وأنه ليس لها أي علاقة بالمصائد اللحظية المتراكمة التي لا تشبع من متعة امتطاء الأرواح المعمية بتصديق المعنى.
شهر كامل يا أخي ولم تدخن سيجارة واحدة .. لابد أنك "خرمان" جدًا الآن .. العقلاء المغفلون سيرفضون الاعتراف بذلك .. سيدّعون كذبًا بأنك في حاجة للدعاء .. "دعاء" هي اسم الشهرة لأمهاتهم .. يجدر بهم معالجة قلوبهم التي أنهكها الفزع بعيدًا عنك .. يلزمك فقط سيجارة، ولست في حاجة لمساعدة من أي نوع كي أفهم هذا .. موتك أعطاني الثقة في انعدام حيلتي أكثر من أي وقت مضى.
موت الآخرين هو تأكيد متجدد على أن الماضي سيظل مقيمًا في أمعاء اللعبة المبهمة للتصورات المتشابكة، وأنني كدفاع تقليدي عن النفس ينبغي أن أرفض الموت كحقيقة، والموافقة على تفسيراته المتوهمة أحيانًا كي أُبقي على حياتي .. كي يظل الغموض القادم من أبعد نقطة زمنية خالدًا رغمًا عني.
21 / 3 / 2013
اللوحة: Death in the Sickroom, 1895 by Edvard Munch

الأربعاء، 6 يونيو 2018

"أخبار الرازي" ... شذرات الجنون

تمثل مجموعة "أخبار الرازي" واحدة من الكتابات القليلة والنادرة، المنفصلة فعليًا عن الطغيان المتواصل من التراكمات المتشابهة في القصة العربية .. مجموعة لا تقدم نفسها فحسب ككتابة معادية للسياقات السردية السائدة بل وتكشف بالضرورة أيضًا عما تعنيه هيمنة التكدسات المسالمة التي تكاد تكون نسخًا من بعضها داخل المنجز القصصي بشكل عام .. هي تفضح بصورة بديهية كيف تُستخدم صفات مثل "مختلف" و"مفارق" على نحو مجاني وباستسهال عفوي لتمييز كتابات نمطية وأليفة بالمقارنة بمجموعة مثل "أخبار الرازي" الصادرة عن منشورات الجمل.
"لست مجنونًا، وإن كنت أود أن أكون كذلك. كنت المعتوه الوحيد الذي درس علم النفس ظنًا منه أنه سيصبح مجنونًا. وها أنا اليوم، نفساني، أي على النقيض تمامًا من حلمي".
في هذه القصص القصيرة سيحاول "أيمن الدبوسي" أن يحقق حلمه المهدر .. أن يدخل إلى الجنون من بابه الهزلي؛ أي من باب الكفاح لمعالجته .. أن تكون الكتابة هي الواقع السري الجنوني البديل الذي يُحتمل أن يكون تعويضيًا بطريقة ما .. ليس الحلم أن يتحوّل إلى مجنون فقط، بل أن يكون هذا الجنون هو العالم نفسه .. الجنون الذي يصبح ما قبل البداية وما بعد النهاية، وبالتالي يصير باعتباره الحياة والموت شيئًا آخر، بلا تعريف أو هوية، أو حتى احتمال للخلاص .. يصير غريزة هازئة أصلية لا تنفلت منها التفاصيل كافة.. جريمة موازية شاملة، تخلق الوجود، وتنهيه ثم تكرر ذلك طوال الوقت، كل مرة بصورة مختلفة لا تنطوي سوى على ما هو أكبر من الرجاء واليأس .. السخرية .. لعبة الهدم والبناء .. إعادة التبادل والتركيب والحفر المستمر للممرات المقموعة بين جميع العناصر، وداخل كل فكرة عن الكينونة .. إنه اقتفاء أثر "الضراط" كجوهر للكون.
"كلما قابلت محمد إلا وكان يُسر لي بحكمة، وكنت أدفع له لقاء ذلك، فيشكرني وينصرف إلى الكافيتيريا. في المرة السابقة حكي لي أنه رأى الله تحت الغطاء ساعة الفجر. فسألته عن رد فعله: قال إنه لم يتمالك عن الضراط، فاختفى الله".
إذا لاحظنا الدلالة "الرسولية" لاسم الشخصية المنسجمة مع "الحكمة" و"رؤية الله" و"ساعة الفجر" فإن الضراط سيكون وسيلة إخفاء باعتباره مرآة حيث لاشيء ينظر إلى لاشيء .. لاوجود يشاهد نفسه .. هذه المواجهة "الكاشفة" التي ربما لا تتحقق إلا لنبي حقيقي .. نبي مضاد للنبوة .. نبي يتقدم في الاتجاه المناقض للألوهة حيث يستخدم إمكاناته وسماته الخارقة ـ كفصامي ـ لجعل نفسه ابنًا متفردًا للعدم .. كمخلّص عظيم من الإيمان بأي مما يُعد حقيقة .. كمنقذ خرافي من النور المتوهم، ومرشد إلى الظلمة الفارغة من الاحتيال المقدس، حيث لا يوجد ما يتحتم تصديقه كسبب للنجاة .. كان الضراط احتفالا تهكميًا ـ لأيمن الدبوسي ـ بهذه الرؤية التي قرأناها جميعًا.
في قصة "الرجل الأخضر" يجدر بنا الانتباه إلى هذا المجاز:
"وقف في معطفه الرث وحذائه الغارق في الوحل، يقطر ماءً، وكأنما جيء به للتو من قبر كان يحفره في يوم هطل".
ثم نقارن بين هذا المجاز ونهاية القصة:
"الرجل الأخضر كان فقيرًا فقرًا فاحشًا. الفحش، لا يمكن أن يكون إلا الفقر، ولونه أخضر. كان أزرق من البرد والهمّ، وأصفر من الجوع والوهن، وهذان الوغدان، إذا التقيا على رجل، يصيّرانه أخضر اللون"
لن يكون المجاز فاعلا حقًا، وكاشفًا عن براعته إلا بفضل كلمات النهاية؛ فالرجل كأنما يحفر قبره أو قبر ابنته المرتجفة التي تعاني من تأخر عقلي عميق، وصرع مزمن، حيث ينفق أبوها كل ما لديه من مال ليصل من قريته النائية إلى مستشفى الرازي كي لا يفوّت على ابنته موعدها الشهري الذي يُحضرها فيه لتجديد وصفة الدواء .. كأنما يحفر قبرهما المشترك .. لننتبه أيضًا إلى هذه العبارة "الفحش لا يمكن أن يكون إلا الفقر" .. هي لا تعرّف الفحش وحسب، بل تعرّف أيضًا ما تم الاعتياد على وصفه ـ زيفًا ـ بالفحش .. بذلك لا تكون هذه "الحكمة" تلفيقًا سماويًا، بل لعنة أرضية عارية .. إنها كلمات كان ليقولها محمد "الآخر" وهو يطلق ضراطه في الفجر مثلما أزاح الجنة من مكانها في قصة "مرفوع القلم":
"أضاء وجه محمد بتلك الابتسامة الفريدة، ثم قال لي وأنا أهمّ بالانصراف:
(أخشى ألا يدخل الجنة غير المجانين يا دكتور).
(أخشى أن نكون في الجنة في هذه الحالة ونحن لا ندري) قلت وانفجرت ضاحكًا. إلا أن محمد علي لاحقني بالكلام وأنا أغادر الموقف:
(دكتور، دكتور، أنا منحبش نكون مجنون. قُتلو يا ربي أعطيني الفكر والمال والجنة نجيبها بذراعي)".
سنلاحظ أن البعوض الذي كان يحوم حول رأس محمد في بداية القصة سينقشع مع عبارته الأخيرة .. كأن البعوض هو إشارة للجنون الذي أثبت محمد بهذه الكلمات في نهاية القصة أنه مجرد منه .. هي حكمة أيضًا تستعمل "الإيمان التقليدي" لتسخر من القيم التي يفرضها: المجانين لا يحاسبون .. مرفوعو القلم .. يدخلون الجنة مباشرة .. الجنة التي لا ينبغي أن تكون مضجرة، مسكونة بالحملان، ولا يستطيع المرء داخلها أن يكون آثمًا وشريرًا، وتستحق الولوج من الخلف لإفسادها كما في قصة "آخر يوم على الأرض" .. حسنًا، لا يريد محمد / أيمن الدبوسي أن يكون هذا هو الثمن إذا كان المقابل "الجنة" موجودًا حقًا .. هذا النوع من الجنون الذي يتجاوز بلاهة العقل وحساباته ومعادلاته الخرقاء المتبجحة .. لو كان الأمر صحيحًا لعاش المجنون منعزلا في الجنة بعيدًا عن أحبابه "العقلاء" الذين قد لا يشاركونه النعيم .. لهذا كان يتمنى لو كان الجنون مُعديًا ليعدي به من يحبهم ويضمن لهم دخول الجنة التي يُحتمل ـ وهو هاجس آخر ـ ألا يدخلها إلا المجانين .. الهاجس الذي يمحو فكرة لا تمنح ـ دون مبرر منطقي وبكيفية تعذيبية ـ يقينًا حاسمًا عن نفسها.
في قصة "استمناء قهري" نقرأ:
"لكن لا شيء عنده يضاهي الاستمناء! فهو لا يرضى أن يكون (فرحه) معقودًا (بيد) غيره، فلا أحد (يفهمه) مثلما (تفهمه) يده".
وهو ما يذكرني بهذا المقطع من روايتي "الفشل في النوم مع السيدة نون" الصادرة في 2014:
"يدي هي أعز أصدقائي .. هي صديقتي الوحيدة، لأنها الوحيدة التي تفهمني أما الباقين فأولاد شرموطة .. وجودي لا يتمثل في شيء إلا فيها، وهي الشئ الوحيد الذي لا يمكنني تعويضه .. أتحدث عن يدي اليمنى التي تعرف الحقيقة، وتظل ساكتة .. هي علامة إذلالي للعالم، وإشارة كفايتي كإله .. حمايتي من رغبة نرجسيتي بالتحقق عبر الانخراط الجمعي .. التي تُنهك أحياناً كعاشقة أتعبها طول المدة التي استغرقها حبيبها في الوصول إلى الأورجازم .. ربما تتضايق قليلاً ـ ولا أعرف لماذا ـ إذا ما تبللت أصابعها .. هذا ليس دماً يا عزيزتي".
هذا الاستمناء على كل شيء من الشاب ابن السابعة عشرة الذي أتت به "أمه" إلى المستشفى، والتي كان يُطل عليها من فرجة الباب وهي تستحم، واستنفدت معه كل السبل؛ هذا الاستمناء المفرط كأنه مضاجعة الضراط "الشخصي" للسراب "العام" الذي يقدم نفسه كحقيقة غير قابلة للشك .. للكذب المكوّن لكل موجود بوصفه حكمة .. للخيانة الكامنة في كل حضور حسي باعتبارها وعدًا بالإشباع .. كأنه يطهّر أشياء العالم مما أرغمت أن تكونه .. كأنه يفنيها ثم يبعثها من جديد مجرّدة من الأوهام بواسطة الشيء الوحيد محل ثقته أي يده .. ألا يترك هذا الشاب شيئًا إلا وجعله موضوعًا للاستمناء ـ حتى الطبيب النفسي ـ فهذا نوع من التماهي مع الجنون الخاص "العادل"، كمجابهة لمحاولات تدجينه داخل التمثلات القاتلة لأب مطلق، رمزي، أكثر ربوبية من أبيه الواقعي، يهدده بالخصاء، كما يليق بذهان كوني .. إن هذا الشاب بطريقة ما هو ذكر السحلية الذي يعمل محللا نفسيًا في قصة "Lazer":
"لقد توصل بمعيّة المحلل النفسي، الذي كان لاكانيًا هو الآخر، إلى أن يتذكر أنه لما كان طفلا، في أسبوعه الثالث، شهد حادثة عنيفة تتمثل في انطباق باب غرفة استحمام، بسبب نسمة قوية، على إصبع ولد صغير كان يقف متلصصًا مستندًا بيده إلى شق الباب الموارب".
ثم نقرأ في القصة ذاتها:
"رجح المحلل النفسي أن ما كان يشاهده الولد الصغير وقتها قبل أن ينطبق الباب على إصبعه، كان أمه واقفة في البانيو تغتسل عارية. كان يعتقد كذلك أن مفاجأة اكتشاف الولد الصغير أن والدته لا تملك قضيبًا مثله، تزامنت مع انطباق الباب على إصبعه. ليعيش لحظة بتر إصبعه، بمقتضى ذلك، كعقوبة أو ضرب من الخصاء الناتج عن شغفه الزائد وتلصصه الآثم.
(وأين هو الأب في كل هذا؟) أذكر أني هتفت بليزر متهكمًا، وهو يبلغ هذا المستوى من التحليل. (الأب هو الباب)، كان قد أجاب، مستطردًا: أنت تعلم أن بابا وباب يعنيان تقريبًا نفس الشيء. الباب هو الحد: القانون والممنوع، أي كل ما يمثله الأب).
في مقال سابق لي بعنوان "تحطيم المرآة" عن قصة "الأفعى" لـ "جون شتاينبك" كتبت هذه السطور:
"لم يعد هناك مجال للحيل الدفاعية بعد التهام الثعبان للفأر وهو ما جعل (شتاينبك) يكشف بواسطة (فيلييس) عن صلة (رموز الجنس السيكولوجية) بالطقس الشبقي الذي تم بينه وبين المرأة .. سيتطور هذا الانهيار للحيل الدفاعية مع بحث الطبيب عن المرأة مما سيعيدنا إلى كافة المحاولات التي أراد (فيليبس) أن يتحاشى من خلالها (المضاجعة) التي حدثت لتتجلى حقيقة هذه المحاولات بوضوح كوسائل فاشلة للهروب من رغبة الطبيب في المرأة .. من تواطؤه مع شهوتها، ومن استمتاعه بالخضوع لأوامرها الشبقية .. هذا ما جعله يبحث عنها ـ كنتيجة مناقضة (ظاهرياً) لنفوره منها ـ بعد أن اختفت بانتهاء الحلم العصابي .. هذا الاختفاء النهائي هو تمثيل للانفصال الحتمي بين الابن (الطبيب فيليبس) عن أمه (المرأة صاحبة الثعبان الذكر) الذي يرفضه الابن؛ إذ يحاول استرداد ذاته من (مرحلة المرآة) بحسب (جاك لاكان) أي مقاومة إدراك أنه موضوع مستقل عن أمه، ومجابهة العبور من (الخيالي) إلى (الرمزي) حيث التعرف على الفراغ في الآخر".
نحن ندعي التلصص كأنما هناك ما يمكن رؤيته خلسة على الأقل .. كأنما هناك أم فقدت شيئًا ما ينبغي تعويضه من خلال أجسادنا .. ومع ذلك يُغلق الباب على ما هو أكبر من أصابعنا .. لكن أي باب؟ أو بالأحرى أي "بابا"؟ .. ثمة خصاء استباقي تم بالفعل، أما الجنون / الاستمناء فهو المقاومة التي تلتهم نفسها ذلك لأن ما تقاومه هو الذي شكّلها من الأساس .. التي في سبيل فنائها تتعمد أن ترتكب كل ما تستطيعه من الجنون والذي قد يكون المتعة الساخرة من "الباب" المغلق فوق أريكة المحلل النفسي، أو بالإخصاء الخيالي لفكرة الإخصاء ذاتها عند كتابة مجموعة من الشذرات الشتائية التي تقامر على كتابة نص ديستوفيسكي في أقل من صفحة أو صفحتين بهذه الروعة كما حدث في "أخبار الرازي".
أنطولوجيا السرد العربي ـ 6 يونيو 2018

الثلاثاء، 5 يونيو 2018

الخوف من التماثل والنسيان


في البداية لا توجد قصة داخل المجموعة بهذا العنوان، كما أن الشخصية المحورية عبر القصص تكاد تكون واحدة، وهنا رصد وتصوير لتفكك العلاقات الإنسانية وغرابتها وعدم جدواها. من خلال مفهوم الصورة وعمليات التصوير وما يرتبط بالصور من أخيلة وهلاوس موجودة بكثرة في هذه المجموعة مع غياب واضح للحوار بين الشخصيات.
فكرة الصور وشبحيتها وحضورها وحضور الشخصيات المرتبط بها حتى بعد موتها موجودة بقوة أيضًا في القصص بالتجاور مع تقنيات السينما من المونتاج / القطع والتركيب والفلاش باك والتراكب والتداخل وغيرها وتيار الوعي والزووم.
التركيز على تكرار الأحداث وخبرات الحياة
فكرة المكان وسطوته على الإنسان وكذلك الزمان وسطوته على الإنسان موجود بشكل واضح في قصص قصيرة "في الأربعين هناك شعور مهيمن بالخوف بل والرعب بمرور الزمن بالدخول في العام الأربعين، وكيف مر الزمن من الثلاثين إلى الأربعين بهذه السرعة، وهو يخاطب روح أمه وأبيه، يحدثهما عن الزمن، عن شعوره باليأس والهزيمة في غرفته الصغيرة وشعوره بأنه قد يتحول تدريجيًا كي يصبح مثل أبيه، وذلك الأب الذي كان يعيش في خوف وشعور مضنٍ بالمهانة، وكان ابنه الصغير الراوي في طفولته يتأمل نظرات أبيه المتوسلة، وملامحه الخائفة وصوته الخفيض المرتعش ولا يجد في رصيده المحدود لدى العالم ما يصلح لإنقاذه، ولو مجرد كلمة مواسية فيبقى صامتًا. كان الأب ينادي ابنه ويبكي بحرقة صامتًا والابن يربت على ظهره. يبحث في الغرفة وبين أشباحها عن سر عذاب أبيه فلا يجد.
يمر الزمن ويجد الابن أنه على وشك أن يدخل في الطقس نفسه ولكن مع ابنته الصغيرة، كان الأب في حاجة ماسة إلى الحنان والاحتضان ولو من طفله الصغير وكذلك أصبح شأن ذلك الطفل بعد أصبح رجلًا، صار مثل أبيه يواجه العالم وحيدًا إلا من عطف ضيق وحنان عابر يأتيه من لمسات ابنته.
كانت هناك حاجة ماسة إلى آخر حميم لديهما هو وأبيه ونوع أيضًا من الخوف المهيمن من الموت الوشيك وذلك بعد أن أدركا أن الحياة بالنسبة إليهما لم تكن سوى رحلة لفقدان الأحلام وتبددها وليس لتحقيقها أو لإيجادها أو تحققها.
هكذا يدخل الأب في رحلة مخيفة من النسيان ويدخل الابن في نفس الرحلة ولكن من أجل مواجهة الموت من خلال التذكر، ويتوالى المونولوج الداخلي بين الأب وابنه بعد أن صار أبًا هو الآخر. إحساس مهيمن بغرابة الذات، وغرابة الحياة، وغرابة الشوارع، وصمت كل شيء كما هو لكنه أيضًا وفي الوقت نفسه ليس كما كان أبدًا.
هذا على الرغم من أن العالم قد صار غير العالم، والناس صاروا غير الناس، وأصبح لدينا واقع افتراضي وفيس بوك وكتب إلكترونية وإنترنت، لكن ذلك كله قد عمل أيضًا على تأكيد تلك الوحدة الحقيقية وهذه العزلة الافتراضية، وهذا الثبات الوجودي ومثلما كان الناس يتجاهلون تحيات الأب لهم أو ابتسامته في وجوههم، فكذلك صار حال ابنه، لا يلقى سوى تحيات افتراضية ولايكات غير مؤكدة وكومنتات عابرة توحي بأنها صادقة ولكنها ليست كذلك أبدًا.
هكذا وجد السارد نفسه في النهاية وحيدًا في وهدة الصمت إلى حافة موت يحيط بكل شيء، وصار يجلس في غرفته وراء باب مغلق، وصار ينظر من الشرفة يشاهد الناس، يتأمل الماضي وينظر إلى الغيوم ويستمع إلى الأغاني القديمة، يكتب هذه القصة ويفكر في الموت، يضحك على نحو هستيري دون توقف لأي سبب وبدون سبب، فقد كان كل ما حدث لأبيه وله قد وقع أيضًا دون سبب ودون مبرر أو منطق معقول أو حتى لا معقول.
العزلة الزمانية والمكانية
في قصة "الكراهية المطلقة" نجد الشخص نفسه وهو هنا يحب أغاني المطربة الفرنسية الشهيرة "ميراي ماتيو" يشعر بالاحتياج إلى الإحساس بذلك التباين في الانفعالات الموجودة في نبراتها، وهو أيضًا في الأربعين، وحيدًا وراء باب مغلق يشعر بالعزلة الزمانية والمكانية، يفكر في الموت، لا أصدقاء، متزوج وله ابنة، لكنه يقول أنه كان يريدهما ألا تجيئا إلى هذا العالم، فالعالم جدير بالكراهية المطلقة. يغفو ويرى حلمًا يري فيه أنه موجود هو وزوجته في مدينة غريبة، لكنها ليست عدائية. يمر عبر محطة السكة الحديد، وميدان ومقر لثقافة الطفل، ووصف لذلك المكان كما كان عليه في الماضي (ص19). ثم ينتبه إلى أن زوجته تضحك مع الرجل الجالس وراء شباك التذاكر. العلاقة بينهما تبدو جامدة مفعمة بالتحدي المتبادل والتربص، الأماكن تتحول، حديقة قصر الثقافة أصبحت مساحة واسعة ممتدة بلا نهاية تحت سماء سوداء، الطبيعة أيضًا عدائية مشاكسة ومتحدية.
البيوت غارقة في العتمة والغموض، وهي جميعها قديمة، متفاوتة الارتفاع وذات تصميمات مختلفة، وتعلو الدكاكين والأكشاك الكثيرة والمتلاحمة من الجانبين بينما تنتشر الإضاءة البيضاء والصفراء بكثافة من المصابيح النيون والتنجستنين العتيقة الساطعة (ص21)، الإضاءة وأشكال المصابيح وعلاقات النور والظل تلعب دورها المهم في قصص ممدوح رزق على نحو ملحوظ.
بعد أن يرى ذلك المشهد الغريب، بعد أن يصف المكان والشارع والبيوت والسلالم وقصر الثقافة في أحواله المتبدلة ما بين جمال وجلال وأمن ووحشة، تكون تلك الزوجة موجودة وغير موجودة، ويكون العالم موجود وغير موجود، فالعالم لدى شخصيات ممدوح رزق أشبه بوهم، بل وهم فعلًا، أو بالأحرى، هو كابوس مخيف، هكذا يزداد لديه دائمًا الانشغال بالمكان وتفاصيله من البشر وعلاقاتهم وتكون هذه الحالة من الغياب عن الوعي من خلال الحلم أو الشرود أو التهويم أو أحلام اليقظة أو حتى التذكر المفرط وسيلة لإبعاد الزمن من التفكير في البشر وأحوالهم وعلاقاتهم وكذلك في تلك الكراهية المطلقة التي تسود العالم.
ويجمع هذا المشهد تلك التحولات التي مر بها السارد هنا، ما بين شعور بحالة ما من الفقدان للشعور بالواقع الحقيقيDerealization، بتكويناته الطبيعية الخاصة بالمكان وكذلك بأبعاده المتعلقة بوجود البشر والأشياء وكذلك وجود حالة من فقدان الشعور بالذات أو الشخصية وهي التي تسمى Depersonalization، وحالات ترتبط بشعور خاص أيضًا بأن الواقع لم يعد كما كان، بل أصبح كما لو هو الواقع، لكنه ليس كذلك. حالات قد توجد أيضًا في تلك الاضطرابات الخاصة بالفصام أو شبه الفصام والشخصيات الموجودة في قصص كثيرة هي شخصيات على مشارف الفصام، وبخاصة ذلك النوع المسمى فصام الشعور بالملاحقة والاضطهاد.
حالات من فقدان اليقين
هكذا يستمر السارد هنا في التخيل لوجود بشر غير موجودين، وكذلك لأشياء وأماكن ومواعيد لم تكن موجودة بالفعل في الواقع وتستمر لديه حالات فقدان اليقين. يمشي وسط زحام متخيل ويشعر أنه يمشي وسطه دون معاناة، بل على العكس من ذك يشعر أن خطواته أقرب إلى ذلك النوع الخاص من الخفة المنتشية الذي ينجم عن السير داخل نطاق مألوف وحميمي... "لا أرى الناس من حولي رغم تأكدي من أنني أشاهدهم جيدًا، مثلما لا أرى البيوت والأضواء التي أنظر إليها بشغف، ولا أسمع الأصوات الصاخبة التي أحس باندفاعها المتواصل في أذنيّ .. كل شيء مطمئن كأنما أعيدت ولادتي بأمان كامل .. لكن هاجسًا مقلقًا ينبعث في نفسي مع اقترابي من المقهى".
في المقهى يرصد حالات الضوء القوي، مصابيح النيون النظيفة المنتشرة فوق الحوائط البيضاء، يتجنب المرايا، يرى ثلاثة أصدقاء تقريبًا "كما ينبغي أن أسميهم، ينتمون إلى مراحل مختلفة من حياتي ويفترض أن كلّا منهم يجهل الآخر، ولكنهم اتفقوا بشكل مبهم على أن يتقابلوا في هذا المقهى، وأن يتحدثوا معي".
هكذا تتجسد في هذا المشهد آليات التكثيف والتفكيك والإزاحة في الحلم، حيث يجتمع أصدقاء ينتمون إلى مراحل مختلفة في حياة السارد ولم يسبق لأي منهم أن التقى بالآخر في ذلك المقهى الحلمي، كي يتحدثوا معه.
وهناك في هذه القصة، وفي غيرها إحساس ما بوجود سر خفي يعرفه الآخر ولا يعرفه السارد، مع وجود إنكار! حالة اضطهاد، فهم يعرفون شيئًا عنه، وهو شيء غير سار، لكنهم لا يبوحون به له، بل يتحدثون عنه خفية في غيابه، أما إذا حضر فيصمتون، وقد كانوا هنا يعرفون بالأمر الذي جاء إليهم من أجله، لكنهم كما سبق لهم أن اتفقوا بشكل مبهم على اللقاء في المقهى، فقد اكتفوا بالتلميحات المتبادلة والكلمات الفارغة. "هكذا كان من الحتمي أن نتفق على لقاء آخر في نفس المكان وفي مثل هذا الوقت".
هكذا تستمر مشاهد القصة التي هي أقرب إلى المشاهد السينمائية أو المسرحية السيريالية، مع إيحاء بأن العالم كله أشبه بحدث يشاهد بشاشات التليفزيون، وأن هذا الحدث مهما كانت خطورته، فهو جدير بالمشاهدة والتسلية وذلك لأن هذه الأحداث لا تقع لنا، بل لآخرين وعلى مسافة منا، ومن ثم لن يحدث ضرر لنا، بل نحن في أمان ما دمنا نشاهد عن بعد، ما دمنا لم نعرف السر، ما دمنا لا نعيش خبرات حياة لا داخل الأسرة ولا خارجها، إنها مجرد خبرة بديلة آمنة وقد تكون ممتعة أيًا كانت جسامتها.
قصة "قطعة اليوسفي" فيها خصائص المشاهد السينمائية البطيئة السريعة من حيث الوصف لتفاصيل التفاصيل والعرض لتأويل التأويل، وجهات النظر المختلفة المتعلقة بقطعة يوسفي تقع على الأرض ويحاول الزوج التقاطها كي يأكلها، وفي نفس اللحظة تدخل زوجته إلى المشهد ويتواصل الحوار معها وكذلك عمليات التذكر لحياتها، كما تحضر الشكوك وسوء الظن والأشياء الخفية الغامضة السرية الموجودة، لكنها غير مرئية وغير مدركة، وتتوالى المشاهد الكابوسية العنيفة وتتداخل ما بين ما هو موجود خارج شاشة التليفزيون (طفلته التي ترسم مثلًا) وما هو داخل هذه المشاهد مع عمليات قطع ومونتاج وتداخل زوايا إلى خلفيات من أصوات الأغاني وصور الأفلام.
في قصة "ليلة حب" يستمر العنف، والتجسيد للأزمنة المختلفة المتداخلة، فالمرأة التي اشترت شريط أغنية "ليلة حب" لأم كلثوم والتي تتواصل مع ابنتها خارج المدينة عن طريق "سكايب" تجسد لنا عالمًا مازال يتمسك بالقديم والحلم (شريط أم كلثوم) على الرغم من استخدامه لوسائط وميديا حديثة، ومن تداخل هذين العالمين والمقارنة بينهما والرصد لمتغيرات كثيرة موجودة في الواقع، تحرق نفسها هي وزوجها النائم بعد انتهائها من سماع الأغنية في إشارة إلى الجحيم الخاص بوجود عالمين وزمنين غير متجانسين في وقت واحد، وهكذا فإن فقدان الشغف والموت والقسوة واليأس والعبث أمور موجودة في قصص هذه المجموعة بشكل عام.
في "تجهيز الخروج"، و"الفريند ليست" غيرهما وصورة الأب الموجودة لدى كافكا وسيرته الذاتية موجودة هنا أيضًا، الأب ضخم الجسد كأنه إله، بينما الطفل يشعر بأنه صغير أمامه، ضائع، منسحق، بلا هدف، صورة الأب القاسي الغريب المخيف غير المفهوم هذه موجودة في قصة "زرقاء في النهار، سوداء في الليل".
لا توجد حقيقة
في قصة "ورشة الكتابة" أمر آخر فحواه أن الحياة أكثر خصوبة وثراء ودلالة ومعنى بالنسبة للكتّاب من كل ما قد يتعلمونه أو يعرفونه خلال ورش تعليم الكتابة، وأن كل ما قد يتعلمونه حول بداية النص ونهايته وأنواع الرواة .. بناء الشخصيات والمشاهد .. تطوير الحوار .. اللعب بالحبكة .. نسج المفارقة واستخدام عناصر الزمان والمكان ... إلخ، هو أمر سوف يسقط بسهولة أمام مشهد رجل صامت أقدم عليه السارد وقد كان يجلس فوق عتبة شقة كانت أبوابها مفتوحة على مصراعيها في الطابق الثالث بجوار السلالم، كان الرجل ينظر إلى المتدربين الذين جلسوا على مقاعد أمامه بوجه فارغ من التعبيرات واستمر المشهد هكذا لفترة، ظل خلالها ذلك الرجل ينظر إليهم بملامح خالية من الانطباعات، ثم فجأة مع مرور الوقت والزمن وتغير حالة ضوء العصر الذي انسحب تدريجيًا ومع ذلك الصمت المطلق وغرابة الموقف، نهض الرجل الخمسيني من على كرسيه بهدوء ثم بوجه فارغ من التعبيرات تقدم نحو الطلاب وهو يمد يده نحوهم بغرض المصافحة، فانتفضوا في فزع وهربوا من أمامه وأسرعوا داخل الشقة وهم يتعثرون ببعضهم وبالكراسي، اندفعوا داخل الشقة المقابلة لشقة الرجل وأغلقوا بابها وحاولوا العثور على مفاتيح الإضاءة فلم يجدوا أيًا منها، بل اختفى الشباك الألوميتال الخاص بها، تحولت الغرفة إلى مكان مصمت خانق بلا فتحات أو أضواء أو جدران بينما كان الرجل يدق بيده على الباب وكانوا هم في رعب شديد، وما تريد هذه القصة أن تقوله هو أن الواقع أغرب من كل درس وأن التجربة أعمق من كل النصائح والتعليمات، وأن ما قد نظنه عاديًا ومألوفًا قد يكون شديد الغرابة، والقدرة على الإثارة والإحداث للخوف والوحشة والفقدان لليقين.
في قصة "الانفجار العظيم" يقرر رجل أن يلتقط صورًا فوتوغرافية لكل شيء في بيته، الحوائط والكراسي وسرير نومه، والأبواب والنوافذ والستائر والسقوف ... إلخ.
كانت تلك صور عادية لأشياء عادية كما كان يقول عنها "مجرد حائط، مجرد سرير، مجرد كرسي أنتريه لونه نبيتي ... إلخ" لكن هذه الصور العادية تتحول شيئًا فشيئًا لتكون صورًا وحالات غير عادية، تتحول مشاهد تحكي حياة البشر والأشياء والعلاقات التي كانت بينهم عبر الزمن، هكذا أصبح هذا الرجل، وعبر الزمن يعيش داخل صور البيت وليس البيت نفسه، صارت للصور حياتها الخاصة، ومن داخلها بدأت تظهر خيالات غائمة تمامًا ما تلبث أن تفقد بهتانها تدريجيًا، وتتضح ملامحها، وتبدأ في الظهور داخل الكادرات.
هكذا حضر البشر أولًا من خلال صور شبحية، ثم من خلال صور حقيقية لرجال ونساء وأطفال وكهول وحيوانات وطيور زينة وغيرها، صارت لهم حياتهم، يأكلون ويتكلمون ويشربون ويتشاجرون ... إلخ.
صاروا يقومون بكل ما يمكن أن يقوم به البشر عبر حياتهم، بل صاروا أيضًا يتحركون بين الصور وبين الكادرات، يظهرون ويختفون، يولدون ويموتون، ويتوالى رصد التحولات التي تطرأ على حالات البشر والكائنات الحية الأخرى وكذلك على عالم الصور ما بين صور شبحية غامضة وصور فوتوغرافية واضحة وصور متحركة وخيالات وأحلام وصور من عالم الفيس بوك. فأين الحقيقة، لا توجد حقيقة.
الصور أكثر بقاءً من البشر، يقول فالتر بنيامين:"الصور تدل على حضور الموت في الحياة، وبعد الحياة تدل على حدوث المستحيل، وذلك لأنها تبقى بعد أصحابها، والحياة صور ووهم وخيال" كما يقول شكسبير وابن عربي وسترندبرج.
يظل الإنسان الذي التقط كل تلك الصور وحيدًا في النهاية، حتى بيته، ربما سيحرق بيته وتحترق صوره واقتباساته من عالم شكسبير، ربما يموت أصدقاؤه، لكن تبقى الصور، تبقى مثلما تبقى تلك الصور الغريبة لأصدقائنا بعد موتهم على صفحاتهم في عالم الفيسبوك، ذلك العالم الموحش الغريب.
قصة ميمي الأبيض تجسيد أيضًا لهيمنة الصور والتخيلات حيث "الأبلاسير" الذي يقوم بإرشاد مرتادي السينما إلى مقاعدهم قد فقد معنى وجوده، تجسد تلك الذات المختفية وراء الصور، الذات التي تكتفي بأن ترى العالم دون أن يراها العالم، أن تستحضر العالم دون أن يستحضرها، أن تكون ذاتًا لا موضوعًا للرؤية والمشاهدة، لكنها هنا ذات مختفية غائبة مستترة خفية متنحية، ذات تكتفي بأن تعيش في عالم الظلام والأشباح، عندما هدمت السينما التي كان يعمل فيها ولم يجد عملًا كان يقف أمام الفضاءات الخالية ويتخيل وجود سينما فيما سيرشد بداخلها الناس إلى المقاعد، ثم انتهى به الأمر يرتدي قناعًا ويمسك مصباحًا أثناء النهار مثل ديوجين يحركه بين أقدام الناس ويوجههم في اتجاهات بعيدة إلى أماكن تتعلق بالعبث والخواء، إلى أماكن لا يمكن أن يصل إليها أحد.هكذا يستمر الحكي الجميل ويتواصل عبر هذه المجموعة المميزة.
د. شاكر عبد الحميد
مجلة "عالم الكتاب" ـ أكتوبر 2017

السبت، 2 يونيو 2018

تقتلني بنعومة


منذ عشرة شهور وثلاثة أيام وساعتين قابلت فتاة تمنيت أن تبدأ معي قصة حب .. أن نخلق دعابة جديدة يكون لها أثر خاص حينما تعيش وتنتهي بالغموض نفسه الذي للميلاد والحياة والموت .. وجدت في هذه البنت أشياءً كنت أعرف أنها ستمنحني السعادة، أي أنها ستعذبني أكثر مما تفعل أشياء أخرى .. لكنني اعتبرت نفسي بالعفوية المعتادة أبعد ما أكون عن الشخص الذي يمكن لهذه البنت أن تحلم بمشاركته اللعب داخل القبو القديم، ولأسباب تتجاوز عمرها الذي يصغرني بعشرين عامًا، أو أنني متزوج وأب لطفلة .. تحاشيًا لخسارة بقائها داخل مساحة القرب الوعرة التي تضمنا كان صمتي بديهيًا في انتظار معجزة تتم دون مجازفة لا أقدر مطلقًا على ارتكابها، حتى أنني تراجعت قبل كتابة هذه القصة عن استخدام ضمير المخاطب كي لا يمارس هذا الضمير سحرًا خفيًا ويمنحها يقينًا قاطعًا بأنني أوجّه كلماتي إليها تحديدًا .. بدأت قصة الحب وحدي منذ التقيتها للمرة الأولى، وإذا لم تحدث المعجزة سأنهيها وحدي أيضًا أو بالأحرى سأمنحها بداية جديدة بدوني؛ ذلك لأنني قررت أن أوصي لهذه البنت باللابتوب الخاص بي؛ ليس من أجل أن تقرأ بعد موتي ما كتبته عن روحها التي تجعلني مرتابًا من يقظتي، وعن ابتسامتها التي تقتلني بنعومة كما غنّى "سيناترا" ذات يوم، وعن صوتها الأكثر رقة مما سمعته في حياتي، والذي يبدد كآبتي الثقيلة كطفل يسترد شتاءه البدائي فجأة، وعن جنوني بعينيها الذي يدفعني لمقاومة التحدث معها أو النظر إليها، وعن تخيلاتي لوجودها معي التي لا يهمد تدفقها، وعن قصصها القصيرة، وعن صورها التي احتفظ بها فحسب؛ وإنما أيضًا لأنها هي فقط التي أريد لأصابعها أن تستعمل نفس أزرار الحروف التي تحمل بصمات أصابعي كي تُكمل جميع الكتابات التي لم يسمح لي الزمن بإتمامها، وأن تنشرها، وأن تتصرف في أسراري كما تشاء .. سواءً فعلت ذلك أم لا؛ فإن القصة ستكون مكتملة هكذا بالنسبة لي، أما عن كيف ستعرف بأمر الوصية فإنني كلفت الشخص الأكثر جدارة بتنفيذها وهو "ممدوح رزق"؛ الرجل الذي يعشق زوجته وطفلته أكثر من أي أحد آخر في العالم، لذا فهو يعرف تمامًا ما الذي تعنيه قصة حب كهذه، فضلًا عن أنه الإنسان الوحيد الذي عندي ضمان لا يقبل الشك بأنه لن يموت قبلي.