السبت، 9 يونيو 2018

backspace


كأنها آخر ما تبقى من دماء ظلت تفقدها ببطء طوال أكثر من خمسين سنة .. ربما لم تكن دماءً حقًا بقدر ما كان الفراغ البارد الذي خلّفه الانسحاب التدريجي لهذه الدماء، وترك لديها فقط القدرة على النظر في عينيّ لتسأل: "هنعمل إيه دلوقت؟...".
سؤال غريب بين اثنين فقدا أخاهما الثالث منذ لحظات، وأصبحا وحدهما آخر ما تبقى من أسرة مات معظمها تباعًا.. ليس للسؤال علاقة بتوسل طبيعي أن هذا الأخ ربما لم يمت حقًا، أو بأنه يمكن التوصل لعزاء ما يخفف قليلا من قسوة موته، أو حتى بإمكانية العثور عليه ثانية داخل حلم أو ذكرى أو جلسة تحضير أرواح .. كان للسؤال علاقة أكثر باسترداده فعليًا من الموت؛ لهذا كانت الصيغة الأنسب لسؤال أختي: "كيف نعيده ليعيش كما كان؟" .. شيء ما جعل سؤالها يخرج من بين شفتيها المرتعشتين متنكرًا بتلك الصورة التي ليس بوسع أي إله مهما فعل التكفير عن إثم وجودها .. شيء يشبه طفلا لا يتوقف على الاستمناء أثناء تجوّله داخل فراغ بارد، خلّفه انسحاب تدريجي لدماء أكثر من خمسين سنة.
أين الغرابة؟! .. ماذا لوعرفتِ بأنني حينما هربت من عينيكِ ونظرت لأسفل حابسًا دموعي بأقصى ما لدي من خوف كان أشد ما يؤلمني هو الريموت كنترول الذي كان يقلّب به أخونا قنوات التليفزيون .. حيث كان يظن باطمئنان ما أنه يرى شيئًا .. الريموت الذي سيظل على مكتبه منتظرًا يد أخرى، بينما التليفزيون المطفئ سيظل مطفئًا.
يصبح الميت جميلا بقدر مساعدة حياته لنا على كراهيته، أو على الأقل على تثبيت حياد مبرر يعزل زوايا أخرى يمكن لأذهاننا عن طريقها اتخاذ مواقف مغايرة لصلاتنا بعالمه الخاص .. يصبح الميت جميلا بقدر قدرتنا على إخصاء أهميته، والتحصن بأسباب مقنعة وحاسمة لكونه بلا فائدة .. ذلك الفخ الذي يشبه كل فخ .. ليست هناك ثغرة في مكان ما يمكن بواسطتها التحرر من سلطة الغموض .. ربما أكثر الأشياء عريًا وأكثر المواقف وضوحًا وأكثر الكلمات صراحة هي التي تدفعني للإيمان بذلك .. العري والوضوح والصراحة مجرد ظنون قاتلة لا تفارق جسدي .. أفكار ومشاعر عن تدبير مجهول لا أعرف عنه أكثر من أن جسدي ليس إلا خدعة شأن الحجرات والكتب والأضواء واللوحات والصور والأحلام والذكريات .. الغموض عندي لا يميز بين خبرات البشر كافة، الذين تركوا موتهم مستريحًا في حلقي .. أتخيل أحيانًا لدرجة الانغماس التام أن أستقبل أنا وأختي مكالمة تليفونية من أخي ليخبرنا بأن من مات هو شخص آخر .. نسخة مطابقة له حلّت مكانه في ذلك اليوم، وهي من عاشت لحظة الموت وتم دفنها في صباح اليوم التالي .. أتخيل أخي يقول لنا وهو عاجز عن السيطرة على ضحكاته أنه سيشرح ويفسر حينما نلتقي تفاصيل العثور على هذا البديل، والأسباب التي دفعته للاختفاء .. يقف تخيلي عند هذا الحد .. لا تهمني التفاصيل والأسباب على الأقل الآن .. لا يعنيني سوى أنه لا يزال حيًا .. لكن من هو هذا البديل؟! .. كيف يكون نسخة مطابقة لأخي؟! .. لماذا حلّ مكانه في ذلك اليوم تحديدًا؟! .. كيف عاش لحظة الموت؟! .. كيف عاش الحياة التي لم أمر خلالها، ولكن يكفي أن أعرف بأنه دُفن في صباح التالي كي يتملكني هوس عنيف لاسترداده من الموت؟!.
لا شيء يضيع .. تاريخ المشاهد الضبابية وتجارب التأرجح بين الحواف المعتمة للميت حيث كان يدعي مضطرًا القدرة على الوقوف فوق أراض صلبة أو الطيران متخيلا أجنحة ممكنة .. كل التصورات المتشابكة التي تخترقني كجثث تنتظر إعادة تشغيلها بيقين ما ستظل تشارك في اللمس والنظر وفي أصوات لا أسمع سوى بدائل وقحة لرغبتها في الانفلات .. ستظل قرارت ودوفعًا لا أمتلكها وإنما أتظاهر ـ شأن الجميع ـ بأنني مصدرها، وأنه ليس لها أي علاقة بالمصائد اللحظية المتراكمة التي لا تشبع من متعة امتطاء الأرواح المعمية بتصديق المعنى.
شهر كامل يا أخي ولم تدخن سيجارة واحدة .. لابد أنك "خرمان" جدًا الآن .. العقلاء المغفلون سيرفضون الاعتراف بذلك .. سيدّعون كذبًا بأنك في حاجة للدعاء .. "دعاء" هي اسم الشهرة لأمهاتهم .. يجدر بهم معالجة قلوبهم التي أنهكها الفزع بعيدًا عنك .. يلزمك فقط سيجارة، ولست في حاجة لمساعدة من أي نوع كي أفهم هذا .. موتك أعطاني الثقة في انعدام حيلتي أكثر من أي وقت مضى.
موت الآخرين هو تأكيد متجدد على أن الماضي سيظل مقيمًا في أمعاء اللعبة المبهمة للتصورات المتشابكة، وأنني كدفاع تقليدي عن النفس ينبغي أن أرفض الموت كحقيقة، والموافقة على تفسيراته المتوهمة أحيانًا كي أُبقي على حياتي .. كي يظل الغموض القادم من أبعد نقطة زمنية خالدًا رغمًا عني.
21 / 3 / 2013
اللوحة: Death in the Sickroom, 1895 by Edvard Munch