الثلاثاء، 29 مايو 2018

امتداد السماء فوق شارع البحر


ذهبت إلى مدرستي الابتدائية ومعي نسخ من روايتي "إثر حادث أليم" تكفي كل زملائي في الفصل وكذلك المعلمات .. وجدتهم يجلسون في أماكنهم بوجوههم وأجسادهم الصغيرة، ويرتدون المرايل البيچ، ويضعون حقائبهم عند أقدامهم .. فرحوا بمجيئي رغم جسدي الكبير، والشعيرات البيضاء في رأسي وذقني، ونوايا التجاعيد والتشققات في وجهي .. وزعت عليهم النسخ ثم جلست في مكاني المعتاد داخل الدكة الأولى كي أشاهد انطباعاتهم وهم يتصفحون الرواية .. شعرت بالسعادة لأن الابتسامة الممتنة لم تغب عن ملامحهم مع استمرارهم في القراءة .. بعد قليل خرجت من الفصل متوجهًا إلى حجرة المعلمات كي أعطيهن نسخهن .. استقبلنني بحفاوة بالغة، وبدأت كل واحدة منهن على الفور في تصفح الرواية وعلى وجهها نفس الابتسامة التي كانت لدى زملائي .. تركت حجرة المعلمات عائدًا إلى الفصل، ولكنني لم أدخل من الباب بل قررت التوقف وراء أحد الشبابيك ومراقبة زملائي دون أن يشعروا بي .. من مكاني المتواري رأيت كل ولد وبنت يقطع صفحات من النسخة التي بين يديه ليكرمشها ويلقي بها أسفل قدميه ثم يواصل القراءة فتتحوّل ابتسامته إلى ضحكات متصاعدة .. حينما رن جرس الانصراف؛ وضع كل منهم الرواية في حقيبته ثم بدأوا يخرجون من الفصل .. مروا من أمامي برفقة المعلمات اللاتي كن يضحكن أيضًا داخل الردهة المؤدية إلى السلالم دون أن يلتفتوا لي بينما ظلت ضحكاتهم التي يتخللها التهامس تتمادى في قوتها .. دخلت الفصل الخالي ورحت ألتقط الصفحات المنتزعة من الرواية والملقاة تحت الدكك لأعيد فردها .. اكتشفت أن كل واحد وواحدة منهم قد قطع الصفحات التي ذُكر فيها اسمه أو تحدثت عنه أو حتى أشارت إليه بشكل عابر أو غير مباشر .. توجهت إلى الحجرة المعلمات الخالية فوجدت الصفحات التي تخص كل واحدة منهن مكرمشة وملقاة على الأرض .. كان الأمر مؤلمًا فقررت الخروج من المدرسة وأصوات ضحكاتهم تمرح في رأسي، ونظراتهم التي لم تلتفت لي تجتاح عينيّ .. عدت إلى البيت .. كان أبي وأمي وأشقائي وجدتي في انتظاري، وجميعهم يحملون نسخًا من الرواية متقلصة لأحجام متفاوتة، وبين أقدامهم تتكوّم الصفحات المكرمشة التي تم انتزاعها .. كانوا يقرأون ويضحكون ولم يوجهوا عيونهم نحوي وأنا أقف أمامهم قبل أن أتحرك بتردد نحو الشرفة .. وجدت الجالسين أمام المحلات وعلى ناصية الحارة وأمام المقهى، وكذلك العابرين والواقفين في البلكونات كل منهم يحمل نسخة من الرواية، ويقطع صفحات منها ليكرمشها ويلقيها فوق أرض الشارع ثم يواصل القراءة ويضحك دون أن يرفع أي منهم رأسه تجاهي.
أصبح الأمر مؤلمًا أكثر، ولا يمكن تحمّله .. قلت في نفسي أن هذا لم يعد بيتي، وأن عليّ تركه الآن .. خرجت قاصدًا المنزل الذي أعيش فيه مع طفلتي وزوجتي .. قررت بمجرد وصولي أن أغلق على نفسي باب حجرتي، وأن أقرأ قليلا في الرواية من نسختي الخاصة كما تعوّدت .. بعد مرور وقت طويل فتحت طفلتي باب الحجرة ونظرت لي .. لم يكن بين يديّ سوى غلاف الرواية فقط في حين ظلت تتأمل مشدوهة الأعداد الهائلة من الطائرات الورقية الصغيرة التي صنعتها من أجلها.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 28 مايو 2018

الأحد، 27 مايو 2018

عن "هل تؤمن بالأشباح؟"

يختار بعض الكتّاب عدم الوقوف مع تجربة الكتابة عند حدّ معلوم والذهاب إلى أقصى ما تمكّنهم معارفهم وتدعوهم مواهبهم للذهاب إليه وهم يعدّون عدّة صيدهم، كل مرّة، لخوض غمار ما هو خفي في الأدب وغير معلوم، وذلك ما تجلّى مع تجربة الكاتب الصديق ممدوح رزق في كتابه (هل تؤمن بالأشباح؟) حيث لا تكون الكتابة أقل من مغامرة مسكونة بالجمال، محفوفة بالحلم والأمل. يختار ممدوح، كاتب القصة القصيرة، أن يمضي بالمغامرة القصصية إلى تخومها الأبعد وهو يقدّم قراءاته لنصوص مختارة من كلاسيكيات القصة القصيرة ـ ما أصعبها من مهمة وما أبعده من رجاء! ـ وهو يسير على طريق سبقه في السير عليه الكثير من نقاد الأدب وأساتذته والقصاصين أيضاً، وهنا يكمن وجه المهمة الأصعب، فتجربة ممدوح في إستعادة أشباح أساطين القصة القصيرة وأساتذتها الكبار بحاجة للبرهنة على جدّتها وضرورتها طالما أنها سُبقت بتجارب يصعب عدُّها في مختلف اللغات، الجدّة والضرورة هما إختبارا الكتاب وهو ينتقي الفرائد من كلاسيكيات القصة العالمية، فإذا كان ثمة إتفاق على جودة القصص التي أدخلتها في حيز الكلاسيكية والاطمئنان الى مهارة كتّابها لم يبق أمامنا غير الذهاب إلى جوهر المغامرة الكتابية لممدوح التي أكّدت من جديد أن لا سبيل لمعرفة القصة القصيرة إلا بمحاورة نماذجها الفريدة، حيث تكون المحاورة مغامرة في المعرفة والجمال.
د. لؤي حمزة عباس
10 يونيو 2017

الثلاثاء، 22 مايو 2018

مصيدة المصادفات المتواطئة

ما هي العلاقة المحتملة التي يمكن أن تربط بين هذه القصص:
أحد الرعاة بالمغرب يشتري بندقية من راعٍ آخر مسن ويعطيها لولديه كي يقتلا بها الثعالب التي تهدد أغنامهم .. سائحة أمريكية تصاب بطلقة أثناء مرور الحافلة التي تستقلها برفقة زوجها وسياح آخرين .. فتاة يابانية صماء تعذبها بلادة الآخرين وتجاهلهم لمشاعرها الأمر الذي يدفعها لتسوّل الحب .. مربية مكسيكية ترعى طفلين أمريكيين تضطرها الظروف لاصطحابهما معها إلى المكسيك لحضور زفاف ابنها لكنها تتعرض لصدام مع حرس الحدود الأمريكيين عند عودتها؟.
هل يمكن تحديد العلاقة حقا في أن الذي أهدى البندقية للراعي المسن هو والد الفتاة اليابانية بعد أن عمل كمرافق له في رحلة صيد، وأن الطفلين اللذين كانت المربية المكسيكية ترعاهما هما طفلا السائحين الأمريكيين اللذين كانا يستقلان الحافلة أثناء رحلتهما داخل المغرب، وأن الطلقة التي أصابت الزوجة أطلقها أحد ولدي الراعي المغربي حينما قررا اختبار المدى الذي يمكن أن تصل إليه طلقات البندقية؟.

من الممكن أن تكون هذه هي العلاقة بالفعل باعتبار أنه يمكننا تحديد الأسباب المنطقية التي تربط بين الأحداث ورصد المبررات الكامنة في كل قصة التي تسمح لقصة أخرى أن تخلق على أساسها .. لكننا نحتاج للاكتفاء بالعلاقة السببية المباشرة حينما نكون إزاء مجموعة من الشخصيات والأحداث التي تتفاعل لإنتاج قصة .. ماذا لو كان هذا التفاعل يتم بين قصص؟ .. حكايات تنتج قدرا أو مصيرا مشتركا؟ .. هنا الأسباب المنطقية لا تعد أسبابًا في حد ذاتها بقدر ما هي حيل سحرية غامضة ومرعبة .. الأسباب هنا تواطؤ خارق من المهارات الإعجازية للغيب .. الأسباب المنطقية التي تربط بين القصص ليست أسبابًا بقدر ما هي مفاجآت سيئة.
لكل قصة في فيلم (بابل) استقلاليتها وحبكتها الدرامية الخاصة وأيضا النهاية التي تفصلها عن النهايات الأخرى: الشرطة المغربية التي تعاملت مع حادث إطلاق النار باعتباره عملا إرهابيا تطارد الراعي وابنيه وتقتل الولد الأكبر .. السائحة الأمريكية (كيت بلانشيه) تعالج في قرية غاية في البؤس والفقر على يد طبيب بيطري قام بخياطة جرحها دون مخدر حتى نجح زوجها (براد بيت) في الحصول على مساعدة السفارة الأمريكية لنقلها إلى المستشفى .. الفتاة اليابانية الصماء يمنحها للحظات ضابط ياباني شاب التعاطف والاحتواء أثناء عمله المكلف به للتوصل إلى علاقة والدها بالبندقية التي استخدمت في الحادث .. المربية المكسيكية تجبرها السلطات على الرحيل من الولايات المتحدة الأمريكية بعد اكتشاف إقامتها غير الشرعية لسنوات طويلة.
مخرج الفيلم (إليخاندرو غونزاليس) يخبرنا إذن أنه مهما كانت قصتك مستقلة وتمتلك حبكتها الدرامية الخاصة ولها نهايتها المنفصلة عن النهايات الأخرى فهي تنتمي دائما إلى نفس القدر وتصل إلى نفس المصير .. أنت في جميع الأحوال غريب عن المكان وعن البشر وعن نفسك .. أنت دائما مرفوض على مستوى اللغة والثقافة والوعي .. عاجز عن التواصل، ويُساء فهمك مثلما تسيء فهم الآخرين .. لا يوجد أحد ولا يوجد شيء يضمن لك المساعدة أو الحماية من الأحكام المخبوءة التي اتخذت ضدك .. أنت أحد المحاصرين داخل أسطورة (بابل) الكونية التي تعيش حية في روحك .. أسطورة العهد القديم التي تحكي عن الرب الذي بلبل ألسنة البشر حينما كانوا شعبا واحدا يتكلم بلسان واحد، وقرروا تشييد برج يصل بهم إلى السماء فأصبحوا غير قادرين بعد هذه البلبلة على فهم بعضهم البعض، ومن ثم فقدوا القدرة على إكمال البرج .. إذن الجميع ليسوا إلا غرباء .. الغربة هي القوة الغليظة الخانقة التي تحرك حياتك بعنف داخل مسارات الوجود المعقدة دون أن تترك أي فرصة للهرب لأن القرار ببساطة ليس في يدك .. ليست الغربة فحسب .. أيضا العبث المراوغ، المبرمج بخبث على الأذى الوحشي والذي يجعل أي فعل في أي مكان من أي أحد مهما كان عاديا وعابرا وضئيلا للغاية يحدد ويقرر الحياة والموت لبشر آخرين في مكان بعيد آخر .. في (بابل) لا توجد أسباب ونتائج في حضورها التقليدي المباشر .. هنا أي سبب يصلح لأي نتيجة بل، وفي حقيقة الأمر فإن كافة الأسباب هي نتائج بالأساس، وكذلك النتائج هي أسباب لنتائج أخرى.

فيلم (بابل) أقرب لحزمة تساؤلات مشحونة بطاقات متجددة تريد أن تصل لأبعد مدى ممكن داخل العتمة الأزلية المحكمة وراء كل الإجابات والحلول، والتي أراد مخرج الفيلم تحويلها لحقل تجريبي كي يختبرها من خلال أرقه الخاص : الولد (يوسف) الذي أصابت رصاصته الطائشة السائحة الأمريكية يمارس العادة السرية وهو الذي تعوّد على مشاهدة أخته (زهرة) تتعرى من أجله .. الفتاة اليابانية الصماء تخبر الضابط الشاب أن أمها انتحرت بالقفز من النافذة ثم يعرف من والدها أن الأم لم تنتحر بهذه الطريقة وإنما أطلقت النار على رأسها وحينما يصعد الأب إلى البيت يجد ابنته تقف عارية في الشرفة فتبكي في حضنه بعد أن بدا وكأنها كانت تفكر في إلقاء نفسها .. المربية المكسيكية تقابل في حفل زفاف ابنها حبيبها القديم بعد وفاة زوجته وتعيش معه لحظات حميمية مختلسة .. حسنا .. لماذا لا يطلق الولد المغربي رصاصة إذن؟ .. لماذا لا تفكر الفتاة اليابانية الصماء في الانتحار؟ .. لماذا لا تتحسر المربية المكسيكية على زمن لن يرجع للوراء ثانية لتحصل على ما لم تستطع تحقيقه وقد أصبحت عجوزا الآن؟ .. كان يجب أن يحدث كل هذا لأننا جميعا عالقون ببراعة في مصيدة عنكبوتية من الكبت والحرمان تربط بين آلامنا كافة، وبالتالي فإن مخرج الفيلم يضع إشكالية (المسئولية) في نطاق التشريح والمحاكمة بناءً على وقوعنا في هذه المصيدة ؛ فما معنى المسئولية الفردية طالما أن (الفردية) هنا يشكلها ويموضعها ويتحكم في قدرها ومصيرها (أفراد) آخرون، وأحداث أخرى، وأزمنة أخرى لا تخص من يخضع لها وتؤثر في وجوده كليًا.
في أحد مشاهد الفيلم ترقص الفتاة اليابانية الصماء بفرح في صالة ديسكو بصحبة صديقاتها ثم تشاهد الشاب الذي كانت تتمنى لو أحبها وهو يرقص ويقبّل فتاة أخرى .. هنا كتم مخرج الفيلم جميع الأصوات: الإيقاعات الصاخبة وصياح الراقصين وضحكاتهم العالية .. تحوّل الفيلم في تلك اللحظات إلى مشاهد صامتة متوالية لوجه الفتاة اليابانية الصماء وهي تتأمل بمرارة ويأس الشاب والفتاة مع ومضات خاطفة لأضواء الصالة الأشبه بصفعات برق قوية وعنيفة انتهت بخروج الفتاة اليابانية من المكان .. كتم الصوت في هذه اللحظات يهدف بالأساس لتحويلك من مجرد متفرج يشاهد تعاسة هذه الفتاة إلى أن تكون أنت الفتاة نفسها .. أن تصبح أصمًا ومجروحًا فجأة مثلها .. أن تكون الدنيا ساكتة من حولك كقبر بارد وأنت مجبر على إبقاء عينيك مفتوحتين لتتطلع إلى أشياء العالم وهي تتراقص وتومض كأشباح براقة سعيدة ومحتفلة بهزيمتك وليس في وسعك أن تتكلم أوتقول أي شيء .. هذه الطريقة تذكرني بالمخرج البلجيكي (جاكو فان دورميل) حينما استخدمها بنفس المهارة في فيلمه الساحر (اليوم الثامن) بأن جعل (جورج) صديقه (هاري) يستلقي بجواره على العشب ويغمض عينيه مثله لمدة دقيقة واحدة من الصمت، ويخبره أنه حين يتخيل نفسه يحتضن شجرة سيصبح شجرة، وحين يفكر في نحلة سيصبح نحلة، وحين يفكر في أحبابه حتى الموتى منهم سيجدهم جالسين معه ويطبطبون عليه .. كانت دقيقة الصمت كاملة فعلا من زمن الفيلم ومن زمن المشاهد الذي أصبح هكذا هو الصديق الثالث الذي يشاركهما الاستلقاء على العشب وإغماض العينين والتخيل.

الأحد، 20 مايو 2018

سرير


صنعني أحد النجارين بـ (سيدي عبد القادر) في الخمسينيات، واحتفلت عليه بتحويل ابنة الخياطة خريجة معهد المعلمات إلى امرأة .. ظللت تضاجعها فوقي عشرات السنوات، وكنت تتمدد عليّ محدقا في السقف لفترات طويلة وأحيانا تبكي .. تحوّلت إلى فراش طفل صغير يقضي حاجته على نفسه طوال أعوام الزهايمر التي أنهاها الموت.
تمدد عليّ اليوم وبعد ثمانية سنوات من غيابك شخص لا يعرفك .. ابنك أيضا لم يعرفه سوى اليوم .. شخص طلب أمام الكاميرا من البنت التي سيبدو أنه كان نائما معها فوقي أن تغني له أغنية قديمة قبل أن ترحل .. ابنك لم يكن يعلم وهو يكتب القصة ويعد السيناريو أنه سينام عليّ .. كانت رغبة المخرج الذي لا يعرفك أيضا .. هذا الرجل كان عليه أن يكون واحدا من البشر الذين يعيشون ويموتون داخل ابنك، وكان على البنت أن تكون الجارة التي تركت في نهاية طفولتها بيتك هذا، وكانت تغني فوق سلالمه تلك الأغنية بينما الطفل الذي قابلها صدفة بعد عشرين سنة تعوّد مراقبتها دون أن تشعر.
بعد الانتهاء من تصوير (إخفاء العالم)* رحل الجميع .. ربما كان الإجهاد مجرد عذر لعدم رجوع ابنك إلى بيته وتحقيق رغبته في أن ينام مكانك تلك الليلة .. آلمتني تقلبات أرقه طوال الليل فظللت أتوجع بقوة مسموعة لكنني هدأت تماما حينما بدأ يمارس العادة السرية وهو يفكر في الجارة الحقيقية التي لم يضاجعها أبدا، وفي الممثلة التي أدت دورها والتي لا يظن أنه سيتمكن ذات يوم من الوصول لجسمها في الواقع .. عرف ابنك إلى أي مدى صرت عجوزا، وإلى أي مدى نجحت شيخوختي في جعل الحياة عبئا قاسيا عليّ .. لكنه بعد أيام وبينما كان يشاهد الفيلم أدرك أنني خدعتكم جميعا .. النجار وأنت وزوجتك وابنك والممثل .. رآني في الفيلم أكتم ضحكاتي بشغف طفل يراقب من مخبأه السري حيلة دبرها لكبار غافلين .. الحقيقة أنه رآني ميتا أكثر مما كان يتوقع.
من مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" ـ سلسلة حروف / الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014
*
إخفاء العالم: قصة من مجموعتي (قبل القيامة بقليل) الصادرة في 2011 عن دار عرب، وتم تحويلها لفيلم روائي قصير في 2012، إخراج: محمد صبري.

السبت، 19 مايو 2018

إثر حادث أليم: فن التشريح السردي


لا يقف جوهر الحكي عند التقاط أشتات الصور المتراكمة المنسية التي نمر عليها صباح مساء..تلك لعبة محفوظة ومحفورة في وعي كتاب الجيل..وهي أيضا خطرة كونها تعزف علي كثير من تجليات النقد القديم والمستورد إلينا في صورة مشوهة مهلهلة...اكتب بغير المفهوم عن المفهوم او اكتب المفهوم عن غير المفهوم..واحفر في أخاديد النص واجعله ممطوطا بلاستيكيا ...حالة يعاني منها كتاب الجيل من المبدعين وحالة إسراف كلامي وبني خطابية يتقنها جيل النقاد غير المتذوق...في ندوة احتفالنا بصدور رواية (إثر حادث أليم) للمبدع المتمرس ممدوح رزق..وإنما جاء تمرسه من واقع ذوقي ونقدي... ذوق كونه يتقن حيوية الحرف وحركة الكلمة ونقدي كونه أيضا يكتب نقدا منهجيا مغاليا في تنظيره الغربي وفي ذلك عتب...استشرت في حالتنا الاحتفالية ناقدنا والمبدع الكبير سيد الوكيل ما رأيك في نقد المبدعين.. فقال هو في صفاء عسل النحل لو صح...وإنما يتأتي نقده من ذائقة إبداعية خاصة...قلت ولو كان المبدع ناقدا، قال أشد جلدا علي نفسه من غيره.. قلت ولو كان الناقد مبدعا، قال يخاف أن يكتب شيئا وعلي ذلك قل عدد النقاد المبدعين وكثر عدد المبدعين النقاد...وفي سمات خطاب ممدوح رزق ينبغي النظر باحتراز إلي كونه مبدعا قبل كونه ناقدا..وعلي ذلك سيتحمل منا أن نقول له وفيه، وإنما المسكوت عنه في نصه الروائي غير موجود وعلي حد احتفاء فوكو بالمسكوت يكون الكاتب قد هضم جملة من التقنيات الفنية الديناميكية بحق...طريقة سردية وخطاب تراكمي بنّاء.. يعزف علي بنية الاستقصاء الفني الحاضرة...بجرب التخطيط ثم فن التحبير ثم التلوين ثم الذهاب الي منطق التشريح الذي بدأت به القراءة..تبدو الشخصيات ابنة الموقف، وتبدو أوصافها كأنها لبست أوصافها بدقة لتناسب ظرف حياتها...وفكرة المسكوت عنه بما يعني سفور النص جاءت من رغبة ملحة لاكتشاف الذات...ماذا يعني أن تكون طفلا تمرح بهاجس ذكريات سقط أغلبها وتعيش في حالة من التهويمات البسيطة الملتقطة في شفرات خاصة تأتي إليك وسط ذكريات الأم التي تحاول جاهدًا الآن يا الأربعين أن تستطلع ولو مشهدًا واحدًا مكتمل الدلالات عن أثر الأم التي علمتك أول درس في حياتك...يكفيك ما في يدك ولا تتطلع الي مافي يد غيرك...حتي لو كانت أمك بسيف الحياء...لا يأتي خطاب ممدوح رزق مباشرًا ممجوجًا لكنه يأتي شفيفًا حييًا عندما يخبرنا بأن جوهر حياتنا يبنيه الحب.. الحب فقط الذي نتعلمه من عيون الأشياء ...إنه يقرأ حركة الأشياء وخطابها ويستعيد مرويات غدت تراثبة في صورة نقول حية لحياة عمود الإضاءة السارح المراقب. .إثر حادث أليم هو فن التذكر الحاد الكاسر في جرأة لنمطية النوع الأدبي ومحاولة التعليب الماكرة...إنه التجريب الواعي المفرط في البوح.. المؤمن بصدق التذكر الرافض لكونها مذكرات...ومن ثم يصرح في جرأة أيضا بأنه فن رواية..عبر سبع مسودات قابلة للمحو لا الإثبات.. هي حالات من التذكر الذي يقنعنا السارد بصدقها وفي الوقت ذاته يقنعنا بعدم يقينها.. تلك لعبة من المراوحة المقلقة... فعل القلق الذي سيطر كاملا علي الذات السارة...يلتقط في عجالة مشاهد من أفلام فترة الثمانينيات بغية التوثيق والتسجيل ثم يبطل فعله بتضمين ما هو أهم حيث الإعلانات والمباريات واللقاءات وأهم الاغنيات واللقاءات السياسية وحركة الشارع واللوحات... تبدو الذات الساردة متشرذمة كتشرذم أبناء جيل الثمانينيات الذين أكلتهم الدنيا ثقافيا وفنيا وسياسيا...حالة من الأسف والقلق وسؤال حائر يلوح لماذا تطغي الأجيال علي بعضها ولماذا لا يتزحزح أحد من مكانه أو حتي يفسح طريقا لغيره..ممدوح رزق لأجل هذا اتبع جملة من الإجراءات الموظفة بدقة منها رغبته المستمرة في اتساع أفق الدلالات المقدمة بالرغم من غلبة البناء التجسيدي الممثل مع حالة القصدية المتعمدة في إسراف من بنية العنوان: (إثر حادث أليم ـ رواية).إلي نهاية الرواية. كذلك حالة القصدية في فعل البوح. هذا الغرض يؤكده النوع الأدبي أو الجنس الأدبي الواضح بمعنى إشمالي حيث يمكن تسمية الرواية بالسيرية .. أي إنها سيرة ذاتية يمليها البوح... لكنها مفعمة بطائفة كبري من آليات التخييل لكنني لا أستطيع أن أسميها تخييلا واقعيا ـ إنها واقعية بالفعل.ولا أستطيع أن أسميها تخييلا ذاتيا ـ إنها ذاتية بالفعل.و لا أستطيع أن أسميها تخييلا بصريا إنها رواية بصرية شاملة بالفعل.ولا أستطيع أن أسميها تخييلا جماليا.. إنها راصدة لحي ميت حدر بالفعل ‘ ولو اتفقنا على اعتبار أنها رواية سيرية فأمامي فعل البوح الذي يعتبر شرطًا أساسيًا في كتابة السير الذاتية .. لماذا نكتب السيرة الذاتية .. قد تبتعد المذكرات عن هذه الحالة قليلا حيث التوثيق التاريخي الأمين باعتباره شهادات .. فعل البوح واضح وبكثرة عبر تقاطعات المشاهد السردية. وحول فعل التجريب المتعمد تلوح لنا عبر اللوحات السردية حالة غموض والتباس أخرى ‘ هذا الالتباس المقدم بين حضور ووقوع فعل التذكر (الأب أم الابن) .. يحاول الكاتب أن يقنعنا بأنه يكتب مذكرات أمليت عليه من والده، ومع كون الكاتب من مواليد 1977 يكون عمره أربعين سنة .. وبافتراض أن الوالد أملى عليه طفولته (أي طفولة الوالد) وهذا لن يكون البتة .. إذن الكاتب يكتب طفولته هو لا طفولة الوالد التي تبعد عن فترة الثمانينيات. إن لغز كاتب المسرح وحكاية أجاثا كريستي سنة 1984 تعني أن عمر السارد وقتها كان سبع سنوات .. وأعتقد أنها السنة الأولى التي بدأ منها الكاتب فعل التذكر .. السنة السابعة من عمره .. والظن أنه يقول لا يريد أن أتذكر .. مثلما مرت سبع سنوات من عمري بلا تذكر وكذلك السنوات الأخرى وإن انطوت على أفعال الحكي الآتية التي قسمها أيضًا لسبع مسودات لتعادل المخفي من عالم التذكر عنده حيث السنوات السبع من عمره الأول. الشاهد أيضًا أن السنوات السبع مثلت حال الجميع بالكامل مع التركيز على السينما باعتبارها مرآة كاشفة وبعض المشاهد الموصوفة مع ندرة في الحديث عن الشأن السياسي وظني أن الكاتب يراها فترة موت سياسي .. أو ربما هذا هو ما يهم الطفل .. أن يكتب عالمه الخاص .. من فعل القصدية أيضا ما تمثله المقطوعات الشعرية أو جملة القصائد المبثوثة داخل الرواية. من الاستشهاد ببيلي كولينز حتى قصائده نفسه. (ص4) قصائد حول بلوغ العاشرة. ـ المسودة الأولى (قصيدة) مكتوبة عن الجرح (للبالغين فقط). ـ المسودة الرابعة (بأمل أن تغفر لنا الرمال المتحركة هذه الضوضاء الخفيفة). ـ المسودة الخامسة (الحبل السُري). والظن أن هذه القصائد تتمثل داخل الوعي وانفتاحه عند الشاعر بما يعني أيضًا فكرة القصدية التي أردت تأكيدها.و فعل القصدية أيضًا تمثله اللوحات البانورامية، الكاشفة في نهاية كل مسودة والمعبرة عن (إعلانات الأفلام والمنتجات .. أشهر الأغنيات والأفلام الأجنبية .. ماركات السيارات .. أفلام الكارتون .. أهم المقطوعات الموسيقية .. الروايات والقصص .. الأحداث .. الأزياء .. الشعراء: فؤاد حداد وسيد مكاوي) وفي الظن أن الفنون ونجاحة الفنون الشعبية هي الكاشفة بحق عن حركة المجتمع. هناك أيضا حالة الاستبطان المتبعة في تحري سلوك الشخصيات .. وهي ليست حالة تنماز بها الرواية .. هي حالة كتابة .. منهج حكي .. أو هكذا يكتب ممدوح رزق .. الاستغراق الكامل في فعل المحاججة النفسية بينه وبين الشخصيات وهذا لا ينفي تنوعه. خذ مثلا لهذا الرأي من خلال الوقوف ما يلي:(جسد باتجاه نافذة مغلقة ـ بعد كل إغماءة ناقصة ـ انفلات مصاحب لأشياء بعيدة ـ النمو بطريقة طبيعية). والسابق بالتأكيد يجعلنا نعيد قراءة العناوين في مجمل الأعمال .. لكن بما أن العنوان (إثر حادث أليم) قصدي فهو أصلا بنية غير مكتملة .. هناك ما ينقص سواء على مستوى الابتداء أو الإخبار...إما أن يكون المبتدأ مخبأ بقصد (محذوف) تفصيلات محذوفة، أو البنية الإخبارية ناقصة .. هذا معناه محاولة لجذب انتباه المتلقي وفتح آلية اندهاشية جذابة في العنونة .. ـ إثر حادث أليم ؟! ... ماذا؟ـ السيء في الأمر؟! ... ماذا؟ـ بعد صراع طويل مع المرض؟! ... ماذا؟. أخيرًا... كسر أفق التوقع من خلال الاعتماد على البنية والحدث...والحق هناك جملة من الروايات تستطيع أن تتوقع سلوك البطل وتحول الحدث .. ربما أغلب الروايات قديمًا لكن المدهش حقا أن ممدوح رزق يكسر أفق توقع المتلقي .. هو يتذكر كي لا يتذكر .. أي ما يكتبه .. ليس فيه ما يدعو للتوقع .. محاولات هائمة. هناك أيضا بنية المفارقات غير اللغوية .. سلوك الطفولة بكل جماله، وهناك فعل المراوغة الأسلوبية والتي ظهرت في البدايات والنهايات، ومع أن الحكي أو السارد طفل، لكنه يراوغ في سلوك الكبار. من ذلك ص59 (التعامل مع البلطجي .. هذا الهاجس والخطر الذي يتمثل لنا دائما ..) كيف يقع مع الطفل .. (كان الارتباك ستارا لذلك الحائط الصلب الذي اصطدمت به غفلتي على نحو مفاجئ بعدما رأيت في الحياة من بإمكانه أن يخاطر بالابتعاد عن الباب الذي أقف عنده منذ زمن دون أن أنجح في عبوره .. لم تكن عندي مشكلة في التغاضي حالا عن كافة العوائق المنطقية) (ص60 ـ 107 ـ 109 ... إلخ). وهناك فعل التوليد العباري المائل للتجسيد: فمن سمات النص السردي عند ممدوح رزق البدء بالإجمال ثم الجري وراء التوليد العباري المجسّد من خلال البنية اللغوية الأولى .. يمارس ما يسمى بفعل التوليد العباري المجسّد، وهذه الحالة الأسلوبية تستدعي جملة من الأشياء: المعاينة أو المشاهدة الحقيقية للشيء. التركيز على التفصيلات غير الواضحة. القدرة على التقاط المتناقض في السلوك أو البيئة. الصبر للإبداع حتى النضوج. ولعل هذا الأمر يمثله هذا الوصف أفضل تمثيل ص (13) (مريلة. (تيل) (لونها بيج) (ذات جيبين واسعين مكوية مفرودة ـ تغلق بأزرار خلفية ـ لها حزام يمر عبر فتحتين كل منها في جانب، ثم يربط من الظهر..). وكذلك (وصف الكرافتة) (كبيرة ـ ثقيلة ـ منسوجة من الصوف السميك المضلع، كان احمرارها غامقًا .. لها أستك .. رفيع .. من النوع الذي يستخدم في الكلوتات). هذه الآلية ليست موجودة في الشيء المادي فقط .. هناك أمثلة على التوغل المهندم في نفوس الشخصيات عبر هذه الآلية الجذابة الساحرة: هناك أيضا حسن الإصغاء للعوالم المهمشة..‘وهي العوالم التي تحدث الفارق دائما .. التاريخ يقول ذلك وكل الثوريات يقودها المهمشون ومن ثم كان الالتفات الآن للدراسات الثقافية التي تهتم في أساسها بالبحث في هذه العوالم وأزماتها وكيف تصوّر الأزمات ونوع خطابها وما تفكر فيه وكيفية الاستحواذ عليها عبر ما يسمى ببلاغة الجمهور وسلوك السلطة ولعل ميشيل فوكو من أوائل الذين التفتوا إلى ذلك .. هذا العالم المهمش بدا واضحا عند ممدوح رزق: عامل الفرن الذي يجلس طيلة الليل ولا يبيع الفينو إلا بهواه وبخاصة من يهوون حرفة الصيد مثله ص 14.. من سمات التجريب في الرواية عند ممدوح رزق: ـ تراجع صوت الأيديولوجيا في النص ـ تراجع حركة التاريخ في النص ـ صعود صوت الذات والفرد والوعي ـ الوعي بالبناء الاستيطيقي (الجمالي) للشكل الروائي - الوعي بحركة السرد - اعتمد السارد الذي يحكي في إطار صيغ كبرى أحداثا ووقائع - ابتعد كثيرًا عن أقوال الشخصيات أو عرض الأقوال، واعتمد السارد أيضًا إلى جانب الحكي الخطاب كآلية حاملة للتنوع.
د. حمدي النورج
جريدة (أخبار الأدب) ـ 20 مايو 2018

الاثنين، 14 مايو 2018

تدوينات القراءة: كيف يبرر الخطاب نفسه؟ (5)


غالبًا ما يتم توجيه الملاحظة في الدفاع عن حرية الكاتب أمام "العقاب الأخلاقي" للقرّاء بأن ثمة عماءً شائعًا يهيمن على وعي القارئ الذي لا يدرك عن "ألف ليلة وليلة" سوى نسخة "طاهر أبو فاشا" أو طبعتي دار الهلال ودار المعارف، ولا تتجاوز معرفته بالتراث العربي أكثر من الحكايات الانتقائية المسالمة ذات النزوع الديني، ولم يكتشف بعد ما كتبه الجاحظ والنفري والسيوطي وابن حزم وغيرهم .. لكن منذ متى كانت المعرفة ضامنًا حتميًا لتغيير الوعي أو لتبديل المواقف! .
إن القارئ الباحث والمتعمّق في هذا الجانب غير المسكوت عنه بالتأكيد في التراث العربي ـ وبصرف النظر مؤقتًا عن مسالمتها من عدمها ـ على استعداد لتطوير آلياته العقابية ضد ما يسميه بالإباحية في الكتابة العربية الحديثة، ذلك لأن المسألة تتعلق بالقارئ نفسه ـ وهو ما أشرت إليه في مقالي السابق ـ قبل أن ترتبط بما سينبغي عليه استعماله من أجل الدفاع عن ظلامه الذاتي في مواجهة ما هو أكبر من نص "فاحش" .. هذا ما يجعل الأثر الناجم عن استغلال القارئ لـ "السراب المتناثر الذي يُطلق عليه (الفضيلة)" ـ كما ذكرت من قبل ـ أكثر مراوغة من العناصر الغامضة نفسها التي تم توظيفها .. تتحوّل الأوهام الأخلاقية كصيرورة إلى افتراضات مبهمة، ومتغيرة عما سمحت به السلطة، وأعطت حق التعبير عنه لشخص دون الآخر، ولفئة دون الأخرى، وعما شكّل طبيعة خطابها، أي الانحيازات التعتيمية للغة هذا الخطاب، التي تقول وتحجب، تبيح وتحظر، تثبّت أنماطًا وتطمس شروخها .. هكذا نحن لا نتحدث عن "أخلاق" من أي نوع، ولا عن جماليات أدبية بل عن انتهاز متبادل، غير محكوم بين القارئ والسلطة ينتج دومًا ما لم يكن يبدو متضمنًا فيه منذ البداية.
في مواجهة الغموض وعدم التماسك البنائي و"البذاءة" تتبنى تدوينات القراءة خطاب السلطة (العنف الرمزي الذي يتجاوز التحديدات الاجتماعية والثقافية)، وتعيد إنتاجه، أي تمتلك طبيعة هذا الخطاب؛ فتتحدث بما تقوله هذه السلطة، وتمتنع عما لا ينطق به الذين لديهم مشروعية تأكيدها، وتحتمي بمحاذيرها التي لها قوة القانون.
أتذكر أنه بعد أن نشرت مقالا نقديًا عن إحدى المجموعات القصصية، والذي يحلل علاقاتها الأوديبية، والاستعمال الرمزي للجسد داخل أحلامها المسرودة كيقظة متخيلة، ويفتح فضاءات التأويل بخلق خيوط ملهمة لإعادة كتابة قصصها عبر استخدام المجاز الأبوي المتخطي لامتلاك القضيب، والتصوّر النرجسي، والكبت الأساسي، ومرحلة المرآة عند "جاك لاكان"، وعقدة الخصاء، والعلامات الفرويدية؛ بعد نشر هذا المقال كان أمام أحد مراجعي الكتب ثلاثة طرق: الأول أن يفكر في التحليلات التي قدمها المقال، وأن يحاول الاطلاع على مصادر للمعلومات الواردة فيه ويفهمها ويربط بين إحالاتها المختلفة، وأن يكتشف في ضوء ذلك العلاقات التي شكّلها المقال داخل القصص وفيما بينها، والتي تتجاوز الفرضيات المباشرة للتحليل النفسي .. الثاني أن يريح دماغه، وألا يحاول أن يفعل شيئَا مما سبق، وأن يكتب فقط مراجعته الخاصة عن المجموعة .. الثالث ألا يحاول أن يفعل شيئًا مما سبق، وأن يكتب مراجعته الخاصة عن المجموعة متضمنة إشارة إلى أنها ـ أي المجموعة ـ لا تحتاج لهذه التحليلات والتأويلات والتفسيرات! :) .. اختار مراجع الكتب الطريق الثالث ذلك لأنه تعرّض بواسطة هذا المقال ـ الذي لم يستبعد "للمفارقة" أي قراءات أخرى بدعوى أن المجموعة ليست في احتياج إليها ـ تعرّض لاعتداء يشبه الغموض وعدم التماسك البنائي و"البذاءة"، وكان عليه أن يتصرّف كما يفعل المدوّن الذي يعجز عن القيام بشيء ما .. كان عليه مثلما يدافع الآخرون عن أنفسهم باستخدام الوضوح وتماسك البنية و"الأخلاق" أن يحاول حماية نفسه بتقمّص خطاب السلطة الذي حينما يتحدث من خلاله فإن عليه ـ بادعاء مضحك وبائس لعدم الحاجة ـ ألا يتكلم كحقيقة مطلقة فحسب بل أن يسعى أيضًا للتعتيم على ما لم يقدر على التحدث عنه.
موقع (الكتابة) ـ 13 مايو 2018

الجمعة، 11 مايو 2018

النفق


يجلس عامل النظافة العجوز على الأرض بجوار مقشته القديمة داخل نفق المحطة حيث تصل القطارات وتغادر فوق رأسه .. يرتشف من كوب الشاي الذي في يده ويردد مع "فاطمة عيد" التي ينبعث صوتها من المسجّل الصغير في يده الأخرى: "ع الزراعية أنا رحت أقابل حبيبي" .. يعبر المسافرون أمامه وينظرون إليه فيبعد عينيه عن عيونهم .. عدا رجل واحد فقط .. رجل في منتصف العمر حينما مر أمامه ونظر إليه لم يحرّك وجهه إلى الناحية الأخرى .. كان في ملامح هذا الرجل شيئًا ما جعل عامل النظافة العجوز يريده أن يرى تلك الدموع الخافتة في عينيه، التي ترتجف دائمًا مع دوي القطارات.

الأربعاء، 9 مايو 2018

الديكاميرون ودلتا فينوس


لي صديق كاتب قصص قصيرة اسمه (ممدوح رزق)، حينما أخبرته بالأمر أعد لي هدية فرحت بها كثيراً يا دكتور .. كانت عبارة عن مزاوجة بين القصة الأولى في اليوم السابع من (الديكاميرون) لـ (جيوفاني بوكاشيو)، وقصة (المدرسة الداخلية) لـ (أناييس نن) من مجموعة (دلتا فينوس):
(كان هناك في فلورنسا، في حي سان برانكاسيو، روائي شاب ميت .. كان جميلاً في صباه؛ شعره أشقر، وله عينا، وبشرة بنت أنثى .. في المدينة التي تسودها تقاليد الكاثوليكية القاسية أُرسل إلى مدرسة داخلية يديرها الجزويت، الذين يتبعون نمط الحياة المتقشفة حسب نظام القرون الوسطى .. فالأولاد ينامون على أسرّة خشبية بلا فراش، ويستيقظون صباحاً، ويحضرون الصلاة من غير إفطار، ويدلون باعترافاتهم يومياً، وهم دائماً تحت مراقبة عيون حريصة تتجسس عليهم .. لقد كان الجو خشناً، ومكبوتاً، وهناك يأكل القسس وجباتهم كلٌ على حدة، وتحيط بهم دوائر من القداسة المباركة، ولهم أسلوب لا تخطئه العين في إلقاء الكلام، وصنع الإشارات، والحركات.
أصبح الروائي الشاب الميت مرتلاً أول في كورال كنيسة سانتا ماريا الجديدة، وكان هذا المنصب يفرض عليه تقديم بعض الصدقات والهبات للرهبان، فيهدي إلى أحدهم سروالاً داخلياً، ولآخر عباءة، ولغيره كتفية؛ فكانوا يشكرونه على ذلك بتعليمه أدعية، وتراتيل مفيدة، ويقدمون له (أبانا الذي في السماء) باللهجة العامية، و(أغنية القديس أليجو)، و(حسرة القديس برناردو)، و(تسابيح القديسة ماتيلدا)، وحماقات كثيرة أخرى مشابهة، يحفظها هو بتقدير كبير، ويكررها بورع من أجل خلاص روحه.
كان الروائي الشاب الميت يتذكر دائماً أحد قساوسة المدرسة الداخلية .. كان داكن البشرة، ويجري في عروقه دم هندي، أما وجهه فهو وجه سنطور، أذنان كبيرتان بالمقارنة مع حجم رأسه، وفمه واسع بشفتين مفترتين، ودائماً يسيل لعابه منه، شعره غزير، وله رائحة بهيمة، وتحت ردائه البني الطويل كما لاحظ الأولاد يوجد غالباً نتوء لم يكن الصغار يتمكنون من تفسيره، ولكنه مدعاة لسخرية الناضجين الذين كانوا يسخرون منه من خلف ظهره، وكان هذا النتوء يبرز فجأة في أية ساعة حين يكون الدرس قراءة من دون كيشوت، أو رابليه، أو أحياناً إذا كان يراقب الأولاد، ويتأملهم بشكل مجرد، وبالأخص كان يراقبه، ويتأمله هو .. كان يحب الانفراد بالروائي الشاب الميت ليعرض عليه ما لديه من كتب في مكتبته الخاصة، ومن بينها مؤلفات تضم صوراً لفخاريات من حضارة الأنكا، وغالباً عليها نقوش لرجال يقفون قبالة بعضهم بعضاً، وكان الصبي يسأل أسئلة يجيب عليها القس العجوز بغموض، وفي أحيان أخرى تبدو الصور، والرسوم بمنتهى الوضوح، وفيها عضو طويل يبرز من وسط أحد الرجال ليخترق قرينه من الخلف.
كان الروائي الشاب الميت متزوجاً من شاعرة قصيدة نثر، لم تكن جذابة، ولا جميلة تُدعى السيدة نون، هي ابنة مانوشيو دي لاكوكليا .. امرأة حكيمة، ومتبصرة، تعرف سذاجة زوجها، وقد أُغرمت يوماً بكاتب قصص قصيرة، وهو شاب وسيم، ومفعم بالحيوية، وأحبها هو بدوره .. بمساعدة خادمة لها، رتبت السيدة نون أمر مجيء كاتب القصص القصيرة لتبادل الحديث معها في بيت ريفي جميل يملكه زوجها في كاماراتا، وتقضي الصيف فيه .. كان زوجها الروائي الشاب الميت يأتي في بعض الأحيان لزيارتها، ويبقى هناك لتناول العشاء، والنوم مع زوجته؛ لكن زياراته تلك لم تكن كثيرة .. في مساء أحد الأيام ذهب كاتب القصص القصيرة إلى هناك، ولأن الروائي الشاب الميت لم يأت في تلك الليلة، فقد ظل لتناول العشاء مع السيدة نون، وأمضى الليل بين ذراعيها، وقد علّمته المرأة ستة من تراتيل زوجها، وقررا تكرار تلك اللقاءات الليلية، واتفقا معاً على أن يمر كل يوم، وهو عائد من أرض له قريبة، فينظر إلى دالية كرمة قريبة من البيت، حيث يجد جمجمة حمار معلقة على غصن من الدالية، فإذا كان وجه الجمجمة باتجاه فلورنسا، يكون الطريق آمناً، ويمكنه المجيء إلى البيت في تلك الليلة؛ وإذا لم يجد الباب مفتوحاً، يطرقه ثلاث مرات، فتفتحه له .. أما إذا رأى وجه الجمجمة باتجاه فيسولي، فعليه عدم المجيء لأن زوجها الروائي الشاب الميت يكون موجوداً هناك.
كان الروائي الشاب الميت يسترجع أيضاً جلسات الاعتراف بمدرسته الداخلية:
كان القس يغمر الصبيان بالأسئلة، وكلما بدا أنهم أبرياء، ألح عليهم بأسئلته في الظلام المخيم على مقصورة الاعتراف الصغيرة، والضيقة، ولم يكن بوسع الأولاد الراكعين أن يشاهدوا القس الجالس في الداخل .. كان صوته الهامس يأتي من خلال نافذة يغطيها الشباك، ويسأل: "هل تنتابك خيالات عاطفية على الإطلاق! .. هل تفكر بالنساء؟ .. هل حاولت أن تتخيل امرأة عارية؟ .. كيف تتصرف ليلاً، وأنت تستلقي في سريرك؟ .. هل تلهو بأعضائك التناسلية؟ .. هل تحب جسمك؟ .. ماذا تصنع صباحاً حينما تنهض؟ .. هل تشعر بالانتصاب؟ .. هل تحاول استراق النظر من صبيان آخرين، وهم يبدلون ثيابهم؟، أو وهم يغتسلون في الحمام؟ ".
الصبي الذي لا يعرف شيئاً عن ذلك سوف يفهم سريعاً ماذا يجب عليه أن يقول، ويشعر بالعذاب من جراء الأسئلة، والصبي الذي لديه فكرة عن الموضوع يشعر بالمتعة خلال الإدلاء باعترافاته عن نوازعه، وأحلامه بالتفصيل.
كان يوجد صبي يحلم كل ليلة، ولم يكن يعرف كيف هو شكل المرأة، ومما هي مصنوعة، ولكنه شاهد الهنود يمارسون الحب مع فيكونا، التي تشبه غزالة رقيقة، وحلم بممارسة الحب مع الفيكونات، وكان يستيقظ، وهو مبلل بنطافه كل صباح، وكان القس العجوز يشجعه على الادلاء باعترافاته هذه .. يصغي له بصبر لا ينفذ، ويفرض عليه عقوبات غريبة .. كان يطلب من الصبي الذي يستمني باستمرار أن يذهب للمصلى في الدير برفقته حينما يكون مهجوراً، ويغمر عضوه في الماء المقدس، وهكذا يتطهّر، ويصبح نقياً بلا شوائب .. مثل هذه الطقوس كانت تجري في الليل بسرية بالغة.
كان هناك غيره صبي شرس له محيا أمير مغربي صغير، ووجه أسود، وقسمات نبيلة راقية، وشجاعة الأباطرة، وجسم متناسق التكوين، وبض حتى أن عضلاته، وعظامه لا تبرز فيه .. إنه ناعم، ومتناسق كأنه تمثال.
تمرد هذا الصبي على عادة ارتداء ثوب النوم، واعتاد على النوم عارياً فالبيجامة تخنقه، تكبّل حركاته، غير أنه يرتديها كل ليلة مثل سواه من الصبيان، ثم سراً ينتزعها، وهو راقد تحت الملاءات، والأغطية، ثم يغط بالنوم.
في كل ليلة يقوم الجزويتي العجوز بجولات تفتيش ليتأكد أن الأولاد لا يزورون أقرانهم في السرير، ولا يستمنون، ولا يتبادلون الكلام في الظلام مع المجاورين لهم، وعندما يصل لسرير الصبي غير المستقيم، يرفع الغطاء بتؤدة، وحذر، ويلقي نظرة على جسمه العاري، ولو استيقظ الولد يؤنبه قائلاً: "حضرت لأتأكد أنك تنام من غير بيجامة مجدداً!"، ولو أن الصبي لم يستيقظ يأخذ منه نظرة مستقرة طويلة يتأمل بها جسمه الشاب الراقد.
يتذكر الروائي الشاب الميت في إحدى المرات خلال درس التشريح حينما كان جالساً يستمع، ويرنو بينما الجزويتي العجوز يقف على منصة التدريس، وكان البروز تحت ثوبه الكهنوتي واضحاً للعيان لكل ناظر.
سأله الجزويتي العجوز: "كم عدد العظام في جسم الإنسان؟"
رد الروائي الشاب الميت بميوعة، وقال: "مائتان، وثمانية"
جاء صوت صبي آخر من نهاية الصف قائلاً: "ولكن لدى الأب دوبو مائتان، وتسعة! "
التقى كاتب القصص القصيرة، والسيدة نون مرات كثيرة، وفي أحد الأيام، وكان مفروضاً أن يأتي كاتب القصص القصيرة للعشاء مع السيدة نون، فأعدت له عشاء فاخراً بشواء ديكين سمينين، ولكن .. حدث أن حضر الروائي الشاب الميت في وقت متأخر، فتضايقت السيدة نون كثيراً من مجيئه، وخبأت الطعام الفاخر في شرشف أبيض، وتناولت معه قليلاً من اللحم المملح، والمقدد، ثم أمرت الخادمة بأن تحمل الديكين المشويين، وكمية من البيض الطازج، والنبيذ الفاخر إلى مكان في الحديقة حيث يمكن لعشيقها الدخول دون المرور بالبيت، وحيث اعتادت أن تتناول العشاء معه في بعض الأحيان، وطلبت من الخادمة أن تضع ذلك كله عند أصل شجرة دراق بجوار مرج صغير، وكان استياؤها شديداً حتى إنها نسيت أن توصي الخادمة بأن تنتظر إلى أن يحضر كاتب القصص القصيرة، وتخبره بمجيء الروائي الشاب الميت المفاجيء، وبأن يأخذ تلك الأشياء من الحديقة.
بعد أن أوى الزوجان إلى فراشهما، قرر الروائي الشاب الميت بفرح أن يحكي مجدداً للسيدة نون أنه ذهب مع أولاد المدرسة الداخلية برحلة إلى الطبيعة، وضل الطريق منهم عشر أولاد، ومن ضمنهم هو .. وجدوا أنفسهم في غابة، بعيداً عن الأساتذة، وبقية الزملاء في المدرسة، وجلسوا ليأخذوا قسطاً من الراحة، ثم قرروا اتخاذ مبادرة يكسرون فيها الروتين .. بدأوا بالتهام التوت، ولكن كيف بدأ ذلك، لا أحد يعلم بالضبط .. بعد فترة قليلة أُلقي الروائي الشاب الميت على بساط الأعشاب، وتم تجريده من ثيابه، وأُلقي على بطنه، وجلس فوقه الأولاد التسع الآخرون، واغتصبوه كما لو أنه عاهرة، وفعلوا ذلك بقسوة، وقد اخترقه الصبيان الخبيرون بما يفعلون من الخلف لإشباع رغباتهم، بينما الأقل خبرة لجأوا لحك سيقانهم مع ساقي الصبي، الذي له بشرة حساسة مثل امرأة، ثم بصقوا على أيديهم، وحكّوا أعضاءهم باللعاب .. كان الروائي الشاب الميت يصرخ، ويرفس ويبكي، ولكنهم تكاتفوا جميعاً لتقييده، والاعتداء عليه حتى النهاية.
حضر كاتب القصص القصيرة، وطرق الباب برفق، وكان قريباً من غرفة نوم الزوجين، فسمع الروائي الشاب الميت الطرق بوضوح، وسمعته كذلك زوجته، ولكنها تظاهرت بالنوم كي لا توقظ شكوك زوجها، وبعد قليل، طرق كاتب القصص القصيرة الباب مرة أخرى، فنبّه الروائي الشاب الميت زوجته، وقال لها:
ـ أتسمعين يا نون؟ .. هناك من يطرق الباب ...
وكانت المرأة تسمع خيراً منه، ولكنها تظاهرت بأنها تستيقظ من نومها، وقالت له:
ـ ماذا تقول؟ ...
فكرر الروائي الشاب الميت:
ـ أقول إن هناك طرقاً على الباب.
ـ طرق على الباب؟ .. آي يا أيها الروائي الشاب الميت! أتعرف ما هذا؟ .. إنه شبح أخافني كثيراً في الليلة الماضية، حتى إنني غطيت رأسي، ولم أتجرّأ على رفع الغطاء عنه حتى الصباح.
عندئذ قال الروائي الشاب الميت:
ـ لا تخافي يا امرأة، فعندما أوينا إلى الفراش، وبعد أن حكيت لكِ ما جرى لي في المدرسة الداخلية، تلوت دعاء (تي لوشيس)، و(إنتريمراتا)، وصلوات أخرى؛ كما أنني رسمت إشارة الصليب على الفراش باسم الأب، والابن، والروح القدس؛ فلا يمكن لشبح، مهما كانت سطوته، أن يُلحق بنا الأذى.
ولخشية السيدة نون من أن تخامر كاتب القصص القصيرة الشكوك، وتذهب به الظنون مذهباً آخر، قررت أن تنهض، وتنبهه إلى أن زوجها موجود معها في الداخل، فقالت للروائي الشاب الميت:
ـ ما تقوله كلام حسن، ولكنني لن أشعر بالطمأنينة إلى أن نطرد هذا الشبح معاً، لاسيما أنك موجود هنا الآن.
قال الروائي الشاب الميت:
ـ وكيف تريدين طرده؟ ...
فقالت المرأة:
ـ انظر يا عزيزي الروائي الشاب الميت، عندما ذهبتُ أول أمس إلى فيسولي، علمتني متدينة ورعة دعاء بالغ القداسة، وقالت لي إنها جربته مرات عديدة قبل أن تدخل سلك الرهبنة، وقد أفادها على الدوام، ولكن الله يعلم أنني لم أتجرأ قط على تجريب هذا الدعاء، وأنا وحيدة، وبما أنك الآن معي، فإنني أريد أن نذهب معاً لطرد الشبح بهذا الدعاء.
وافق الروائي الشاب الميت على طلبها، ونهضا معاً، ونزلا إلى الباب؛ وهناك قالت السيدة نون:
ـ عليك أن تبصق عندما أطلب منك ذلك.
وبدأت المرأة بالدعاء قائلة:
ـ أيها الشبح، الشبح، يا من أتيت منتصب الذيل، ستُصرف الليلة، وأنت منتصب الذيل؛ فاذهب إلى البستان، عند أصل شجرة الدراق الضخمة، وستجد هناك شحماً مطبوخاً، ومئة بعرة من روث دجاجاتي؛ فخذها، وتلذذ بأكلها, وانصرف بسرعة، ولا تُسبب الأذى لي، ولزوجي الروائي الشاب الميت.
وما إن انتهت من قولها هذا حتى أمرت زوجها:
ـ ابصق الآن أيها الروائي الشاب الميت!
بصق الروائي الشاب الميت، وكان كاتب القصص القصيرة يسمع من الخارج، فتلاشت غيرته، وأوشك على الانفجار بالضحك، لكنه قال بصوت خافت، حين بصق الروائي الشاب الميت:
ـ فلتبصق على العفاريت!
وبعد أن عزّمت السيدة نون على الشبح ثلاث مرات بهذه الطريقة، رجعت إلى الفراش مع زوجها، أما كاتب القصص القصيرة الذي كان يأمل بأن يتناول العشاء معها، فأدرك ما الذي تعنيه كلمات الدعاء .. فقد ذهب إلى حيث شجرة الدراق في البستان، ووجد هناك الديكين المشويين، والنبيذ، والبيض، فحمل كل ذلك إلى بيته، وتعشّى على خير ما يرام، وصار كلما التقى بالسيدة نون بعد ذلك، يضحك، وإياها مقهقهين من ذلك الدعاء السحري).
جزء من رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" ـ دار "الحضارة" 2014

الاثنين، 7 مايو 2018

تدوينات القراءة: كيف يبرر الخطاب نفسه؟ (4)


في أحد المقالات التي كُتبت تضامنًا مع الكاتب "أحمد ناجي" في قضية "استخدام الحياة" استشهدت كاتبة المقال بأسباب الصدمة عند "ميشال ريفاتير": "التقليد الساخر .. توسيع الحدود أو تضخيمها .. صناعة خلل داخل السرد والذي يجعل أكثر المفردات عادية تشبه النتوءات وتورط القارئ في لعبة التبديل والإحلال".
مشكلة هذا التصوّر أنه يفترض وجود حقيقيتين استباقيتين، سيكون تصديقهما بالضرورة أمرًا هزليًا؛ الأولى: أن ثمة أشكالًا محددة للتقليد الساخر، أساليب عامة لتوسيع الحدود أو تضخيمها، أو لصناعة الخلل داخل السرد أشبه بالقاموس المحيط، أو دليل الإرشاد لكيفية الصدم .. الثانية: أن جميع القرّاء ـ باختلافاتهم ـ الذين يشعرون بالصدمة يقومون برصد وموضعة التقليد الساخر وفصله عما عداه بنفس الطريقة، أن لديهم المعيار الثابت الذي يقيسون به "توسيع الحدود وتضخيمها"، أو أن تأويل "الخلل داخل السرد" يتخذ نسقًا واحدًا لدى كل قارئ، وبالتالي فإن "النتوءات" ستظهر للجميع بالصورة ذاتها، وتتطابق لعبة التبديل والإحلال بين القراء كافة.
لكن التحرر من هذه التحديدات الشائعة عند البنيويين سيتيح لنا النظر إلى هذا النوع من المعرفة باعتباره وهمًا لدى الكاتب نفسه قبل أن يكون لدى قارئه؛ فالكاتب حتى لو كان يمتلك يقينيات شخصية تجاه عمله حول السخرية أو المبالغة أو الانتهاك فإنها تظل خاضعة للتغيّر طوال الوقت، أي أنها أقرب إلى الهواجس غير المنضبطة، فضلًا عن كونها قابلة للتبدد خارج مخيلته حينما تتحوّل إلى خطاب جمالي في وعي الآخر .. نفس الأمر فيما يتعلق بما يُسمى "القارئ"؛ فليس هناك ذلك "القانون" العام الذي بمقتضاه ووفقًا لشروطه الجامدة يحكم الجميع على نفس النص بأنه "ساخر"، أو يفكرون في "مبالغاته" بكيفية جماعية موحدة، أو يحكمون على ما يعتبرونه "انتهاكًا" في مضمونه من خلال أنماط وظواهر معينة.
كل هذه "الإلزامات" الحاضرة في فرضية "ريفاتير" ستتهاوى أمام ذلك الكاتب الذي لم يفكر على الإطلاق في "تصنيف" ما قام به أثناء كتابة النص بوصفه تقليدًا ساخرًا، أو أنه وسّع حدودًا أو ضخّمها، أو أنه صنع خللًا ما داخل السرد؛ ومع ذلك شعر قارئ ما بـ "الصدمة" التي تحدث عنها "ميشال ريفاتير" .. لماذا؟ .. لأن أي قارئ يمكنه أن يشعر بهذه "الصدمة" دون توقع من أحد وبطريقة تختلف عن قارئ آخر ..  دون أفكار مسبقة حول ماهية "الصدمة" وأسبابها .. دون أن يتفق الجميع ـ سواء الذين أصابتهم "الصدمة" أو لا ـ على أن هذا النص يحمل تقليدًا ساخرًا أو توسيعًا للحدود ...إلخ .. تكمن المشكلة في الاعتقاد التقليدي بأن "قارئ" النص هو "القراء"، وأن "صدمة" القراءة هي "الصدمة" التي تبدأ مع الجميع نفس البداية، وتتحرك في نفس المسار، وتنتج في النهاية نفس التأثير.
من يستطيع استبعاد أن يأتي لفظ "خادش للحياء" في إطار يمكن لجماعة بشرية قد تتضمن "ريفاتير" نفسه أن تحكم عليه بأنه لا ينطوي على سخرية أو مبالغة أو انتهاك، ومع ذلك يتسبب في هذه "الصدمة"؟ .. من يستطيع استبعاد أن يكون لهذا اللفظ نفس التأثير حينما يأتي ـ وهو ما يحدث بالفعل ـ في سياق برنامج تليفزيوني أو مكالمة تليفونية في برنامج إذاعي مثلا؟ .. من يستطيع استبعاد وجود احتمال بأن هذا اللفظ لن يظل صادمًا داخل جميع السياقات "خارج الشارع" كما يُشار دائمًا، أو أن النتائج العدائية لكونه صادمًا ستظل مضمونة، أو أنه من الممكن تجاهل وجود هذا اللفظ لدوافع لا علاقة لها بالسياق نفسه؟.
إن قارئ النص "المصدوم"، صاحب رد الفعل العدائي سواء ذلك الذي يقدّم بلاغات أمنية، أو الذي يكتب مراجعات عقابية ضد العمل الأدبي وكاتبه قد يكون هو نفسه ذلك الشخص الذي قضى مراهقته كلها في ممارسة العادة السرية وهو يقرأ روايات ألبرتو مورافيا، وخليل حنا تادرس، ونبيل خالد بامتنان مماثل لما كان يشعر به تجاه مجلات "الشبكة"، و"الموعد"، و"طبيبك الخاص" .. ربما يكون نفس الشخص الذي لا يزال يؤمن بأنه كان يرتكب سلوكًا آثمًا اضطراريًا، وأن هذه الكتب التي كان يشتريها ويتداولها مع زملائه وأصدقائه في المدرسة وخارجها هي روايات "غير أخلاقية" تقدم "متعة محرمة" في مقابل "الأعمال الراقية" المنتمية إلى "الأدب الحقيقي"، والتي كتبها أدباء مشهورون يجب أن يكونوا محل ثقتنا كما علمتنا الدولة عبر أذرعها ومؤسساتها وأشباحها الدينية .. الذين لابد أن تختلف ما تتضمنه أعمالهم من عواطف جنسية عن ما تمتلئ به الروايات البذيئة الأخرى من إباحية .. هذا القارئ قد يتحتم عليه لأسباب مراوغة تتعلق بتاريخه الشخصي أو بعلاقته الملتبسة بالفضاء العام أن يتطهر علنًا من فكرة "الذنب" نفسها ـ حتى لو لم يكن يشعر أنه مذنب حقًا ـ وليس من مجرد ارتكابه، أي التطهر ـ ولو شكليًا ـ من تلك الطبيعة المطلقة التي تتجاوز حدوده الذاتية، وتشمله بما أنه جزء بديهي منها .. قد يتحتم عليه أن يُلبي ـ حتى كأداء روتيني مجرّد ـ هذا الإغراء الذي يطالبه طوال الوقت باستغلال الفرص المتاحة ـ خصوصًا لو ارتبط الأمر بمجرد كتابة أدبية أو فيلم سينمائي لن يكون لتجريم أي منهما ثمنًا ينبغي دفعه ـ لإثبات قدرته ـ أمام نفسه أولًا وخارج أي نظام أخلاقي مخادع ـ على المساهمة في تثبيت ما يُعتقد أنها "الحقيقة الأخلاقية" للبشرية كلها ـ ولو لم يكن يصدقها ـ وبالضرورة تمثل جزئيًا السلطة المثالية المفترضة للمجتمع التي تضمن استمراره كسفّاح نرجسي .. قد يتحتم على هذا القارئ ـ حينما يجدر به هذا ـ أن يضلل ويتجاوز ويحاول معالجة جميع ازدواجياته حول المتعة والتحريم، وما يُسمى بالخير والشر، وأن "يقيّم" كل ما كان سببًا في "سعادته المختلسة السيئة" بتبرّؤ حاسم، وإدانة قاطعة لما ليس "أدبًا" من حيث كونه ـ ببساطة ـ ليس "مؤدبًا" سواء كان مؤمنًا بهذا القرار أم لا، أو يحتاج لتقديمه كقربان، أو يُساير به هيمنة يسعى لإعادة اكتشاف وتجديد اندماجه الجسدي بقهرها تفاديًا للشعور بالغربة الذي يمكن أن يصيبه خارجها.
هذا القارئ وهو يقوم بذلك سيختلف داخل التشابهات الواضحة عن قارئ آخر؛ إذ أنه في استجابته خلال لحظات محددة، غير متوقعة، ومتخمة بالتناقضات، لتلك المطالبة الخبيثة الدائمة بالمواجهة مع "لغة الشارع التي يجب أن تظل في الشارع"؛ في استجابته هذه تكمن خصوصية منفصلة عن الآخرين الذين يقومون بالأمر ذاته، وربما يمكن ملامستها بصورة أقوى ـ لا إدراكها على نحو تام ـ مع زيادة مساحة التورط في هذا النوع من العلاقات التبادلية بين القارئ والسلطة التي يكافح لتوطيدها ولو رغمًا عنه، وبصرف النظر عن استمتاعه الشخصي بما هو محل إدانته، أو عن تاريخ هذا الاستمتاع بما هو مدفوع لمعاقبته .. هكذا يصبح "التقييم" بتمثلاته العدائية المتعددة هو شكل أو تواصل للاستمناء القديم.
"إن طريقة تناول مقدّم البلاغ لـ (عمل أدبي)، والتي دفعته لتقديم بلاغ يحمل هذه الصيغة ضد كاتبه هي نوع من الاستراتيجيات التأويلية التي تستعمل النص الأدبي كفضاء سوسيولوجي مضمون للتخلص من الإثم الذاتي، وكتعويض سهل عن خسائر الضمير. هذا الاستخدام ليس رد فعل أخلاقي ينطلق بشكل أساسي من عقيدة شخصية، بل رغبة لا واعية في إعادة إنتاج ثقافي لما يمكن تسميته بـ (المفاهيم السائدة للفضيلة).
في هذا النمط المهيمن من المقاربات يوظف القارئ جسده شبقيًا كمستثمر سادي يستغل الضعف الاجتماعي للنص ـ أي لا أخلاقيته المعادية لما يُنظر إليه كنظام محسوم من القيم البديهية العامة ـ هذا الاستغلال يتولى تثبيت جسد القارىء كعنصر ممارس ينتمي إلى التقاليد التي تكوّن ما يتم اعتباره السلطة الأخلاقية للمجتمع، وليس مجرد تابع أو خاضع لها (عقاب الكاتب بواسطة التعذيب اللفظي كجزاء منطقي يتلائم مع انحرافه السلوكي في الكتابة .. تقويمه وضبط أفعاله بما يتوافق مع “المبادئ السائدة” عن طريق دمج التعذيب اللفظي بمحاولة إجباره على كتابة راضخة لهذه “الأسس الأخلاقية”.. التحريض ضده أي تحذير القراء الآخرين من قراءة أعماله، وتوسيع مجال العقاب ليشمل القراء والنقاد المحتفين بكتاباته، وقد يصل الأمر إلى الملاحقة القانونية .. مراقبته أي تتبع وجود نصوصه داخل الأماكن التي يمكن من خلالها توجيه العقاب والضبط والتحريض ضده على شبكة الإنترنت مثلًا، وتحديدًا مواقع القراءة، وصفحات التواصل الاجتماعي).. هذا التوظيف السادي هو بكيفية أكثر جذرية توطيد مازوخي لعلاقة جسد القارئ (الذي فاز بكبت جديد عندما تصدى ليقمع كتابة انتهاكية) مع ما يعد بالنسبة له السلطة الأخلاقية للمجتمع، بعد أن ساهم في حمايتها بتقديم جسده قربانًا مُروَّضًا لهذه السلطة (أي متخلص من دنس قرائي، ومُكفِّر عن خطاياه السابقة بمحاربة خطيئة لم يرتكبها)".
كانت هذه السطور من مقالي عن قضية "استخدام الحياة"، وهي ـ بالعودة للاستشهاد السابق بميشال ريفاتير ـ لا تربط ما يُسمى بـ "الفضيحة اللغوية" بالأخلاق ولا بالتقليد الساخر، وإنما بالاستعمال الشخصي لهذا السراب المتناثر الذي يُطلق عليه "الفضيلة"، والذي يختلف عن استعمال آخر، خارج أي حسابات صلبة لما يُعتقد أنها قيّم إنسانية عامة في مكان ووقت ما، أو ما يتصوّر أنها قيّم جمالية هي المسؤولة بشكل كلي عن إحداث الصدمة مثل "التقليد الساخر" أو ما شابه .. هي تربط ما يُسمى بـ "الفضيحة اللغوية" بفكرة الذات في لحظة معينة، ونتيجة عوامل متشابكة، دائمة التنكر، عن هذه الظنون الغائمة العابرة للزمن، أو الوهم الخارق تجاه كلمة "الأخلاق"، التي لا توجد بالطبع داخل القارئ، ولا داخل المجتمع ـ شأن أي ميتافيزيقا ـ كحقيقة، وإنما كاعتقاد ملغز، كتصوّر متبدّل يمكن استغلاله لا شعوريًا باعتباره "مُسمى" لشيء غير موجود .. استعمال ادعاءاته المختلفة، حيّله، ومكائده، ومجازاته المتباينة لسد دين سابق من الذات نحو نفسها بصرف النظر عما يمكن أن يعنيه "تحرر" مجتمع ما أو تزمته .. لذلك فما يسميه ريفاتير بـ "الفضيحة اللغوية" لا يكون صادمًا بسبب الذوق العام أو حتى النص، وإنما لأن هذا الاستعمال اللاواعي السابق الذي أشرت إليه غير مشروط بشيء خارجه .. لا ينتظر "أخلاق المجتمع" كما أطلق عليها "ريفاتير" ولا ينتظر الكتابة نفسها، وإنما يستطيع أن "يستغل" لدوافعه الخاصة، أيًا من الخامات السهلة بدون اعتبار أين توجد ومتى .. يظل هذا الاستعمال ممكنًا دائمًا، لأنه لا يرجع إلى قواعد تتغير باختلاف العصور، بل إلى ضرورة لـ "أداء" عفوي تندرج أي محاولة للإمساك ببداية خيوطه كجزء من أوهامه.
لو افترضنا أن ثمة قارئًا "الآن" قد شعر بالصدمة وهو يقرأ أعمال فلوبير أو موباسان أو ميللر أو لورنس، والذين واجهت أعمالهم في الماضي صراعات شتى كالمحاكمة أو المصادرة أو الملاحقة الجماعية؛ فهذا لأن شيئًا ما يتعلق بالقارئ نفسه ـ قد يكون أبويًا أو محارميًا أو إخصائيًا "مثلًا ودونما احتكار للمبررات" ـ وليس بهذه الأعمال نفسها، ولا بمدى تحرر مجتمعه يجبره على توظيفها "الآن" لصالحه بهذه الطريقة .. على تمريرها تلقائيًا داخل عماء طوباوي تحكمه "مفردات": أخلاق .. إساءة .. عقيدة .. آداب عامة .. فضيلة .. بذاءة .. خدش حياء ... إلخ .. لأن شيئًا ما يتعلق بهذا القارئ ـ الذي قد يتجاهل أعمالًا أخرى يراها ميشال ريفاتير تحمل "توسيعًا أو تضخيمًا للحدود، أو صنعت خللًا في السرد" ـ  يجبره على العمل للحصول على انتصار ما بواسطة تقمصه لإبهام مطلق بالضبط مثلما فعل قارئ آخر لهذه الأعمال في الماضي، والذي ربما ساهم فيما واجهته من صراعات، ولكن بحيثيات قد تكون مختلفة.
موقع (الكتابة) ـ 6 مايو 2018

الجمعة، 4 مايو 2018

قناع أبي

"ما لم يسجله دكتافون أجاثا كريستي"
قبل موته أعطاني أبي قناعًا .. بعد فترة قررت استغلال التشابه الذي تأكدت منه بين جميع الأقنعة .. ادعيت فقداني لهذا القناع، وأصبحت أستعير أقنعة أصدقائي كي أواصل الحياة .. كنت كلما أخذت قناع أحدهم لا أرتديه، وإنما أعود به إلى بيتي وأتركه هناك ثم أرتدي قناعي الذي ادعيت ضياعه وأخرج إلى الشوارع .. بعد انقضاء وقت كاف لأن يدرك الناس وجود القناع على وجهي أقوم بنزعه خلسة فيعود وحده إلى البيت بعد أن درّبته جيدًا على ذلك ثم أبدأ بوجه عارٍ ومضطرب في سؤال الناس عنه فينكرون رؤيته .. يؤمنون بأن مجهولًا قد نجح في خطف القناع من على وجهي والاختفاء في لمح البصر كما سأقرر أنا بأسف ويأس، وسيتيقن كل صديق استعرت قناعه من روايتي حينما يعود للاستفسار من الناس الذين سيؤكدون له أنني كنت أحمل قناعًا بالفعل ثم أصبح وجهي مجردًا منه فجأة، وبالطبع لن يدركوا أبدًا أن هذا القناع كان ذلك الذي أعطاه أبي لي، وليس الخاص بصديقي الذي ستصله رسالة فدية .. أطلب من كل واحد مقابل استعادة قناعه أن يكتب سرًا شخصيًا من حياته لا يعرفه أحد، وأن يكون هذا السر مُشبعًا لي حتى لو كان مُختلقًا؛ فسواء كانت الأسرار صادقة أو كاذبة فإنها تمثل وجوهًا لحقيقة الشخص الذي نجمت عنه .. أطلب منه أن يترك السر المكتوب في مكان ما، وإذا كان السر مُرضيًا لي بالفعل أعيد إليه القناع دون أن يكتشف شيئًا، وإذا لم يكن كذلك، أرسل إليه بطلب فدية جديد حتى أحصل على السر الملائم.
امتلأت المدينة بأسرار أصدقائي التي جعلتها متاحة للجميع، ولم يشك أحد منهم أبدًا ـ رغم التكرار المنضبط للحيلة ـ في أنني أقف وراء كل ما يحدث؛ فهم يعتقدون أنني أكثر غباءًا وجُبنًا من التفكير في ذلك .. استمر أصدقائي في إعارة أقنعتهم لي، وتحوّلت دهشتي من عدم ارتيابهم إلى عجز عن التصديق ثم إلى الغضب الذي ظل يتصاعد حتى وصل إلى ذروة مخيفة قررت معها أن أعلن عن نفسي، وعن القناع الذي أعطاه لي أبي ولم أفقده، وعن وقوفي وراء خطف الأقنعة المتكرر، ورسائل طلب الفدية، وفضح الأسرار .. مع ذلك لم يصدقني أحد، ولم يعترفوا بأن القناع الذي ادعيت فقدانه هو الذي أعطاه لي أبي ذلك لأنه يشبه جميع الأقنعة الأخرى بل واستمروا دون انقطاع في إعارة أقنعتهم لي، والاستجابة لكتابة الأسرار الشخصية وتركها من أجلي كأنهم يمنحونها لشخص آخر رغم رؤية أسرارهم تلك وهي بحوذتي، وعندما ازدادت محاولاتي للتأكيد على الحقيقة تمادوا في السخرية من غضبي، وأصبحوا يحاصرونني بالضحكات التي تتراكم يومًا بعد آخر، ومازلت أستطيع تمييز ضحكة أبي القوية من بينهم.
اللوحة لـ "رينيه ماغريت".