الثلاثاء، 29 نوفمبر 2022

حصة لغة

أعزائي آباء اللغة العربية الغاضبين من “قام” و”تم”، ويوثقون طوال الوقت اعتراضاتهم الاستنكارية على استخدامهما  …

كان يمكنني ببساطة إخباركم بأن غضبكم قائم على قصور تقليدي في الفهم، وغفلة معتادة عن الإدراك، مثبتًا ذلك بالشرح النظري الوافي، ولكنني فضلت أن أعطيكم درسًا عمليًا في الأسلوب، مستعينًا بحياتي الشخصية، لكي يعرف كل منكم “حقيقة” ما يجهله …

أعيش وحدي منذ أعوام طويلة، وفي الشقة المجاورة لي يسكن رجل تجاوز الستين وزوجته الأصغر سنًا بقليل. لجاري وزوجته ثلاثة أبناء (بنتان وولد)، وسبعة أحفاد (أربعة أولاد وثلاث بنات) كما أن لهما أقارب كثيرون. طوال سنوات وجودنا في العمارة لم أتبادل مع جاري حديثًا يتجاوز التحيات الروتينية المقتضبة إذا ما تصادفنا على السلالم، أو رأى كل منا الآخر داخل الردهة القصيرة الفاصلة بين بابي شقتينا. ومع ذلك عرفت عنه كل شيء تقريبًا بواسطة استراقي السمع لحياته مع زوجته على مدار الأعوام الماضية، وبالتلصص أيضًا على العبارات المتطايرة عبر الشبابيك المفتوحة أثناء زيارات أبنائه وأحفاده وأقاربه له.

لكنني (أقوم) بمخاطبته كل يوم. أجلس وراء الجدار المنتصب بيننا، وبصوت أعلم أنه يستحيل الوصول إليه؛ استفسر منه عن صحته كمريض بالسكر، وعن أحوال ابنته الصغرى دائمة الشجار مع زوجها، وأسأله عن انطباعاته حول الجرائم التي تقع في المدينة، أو الإبادات المتلاحقة لمعالمها الأثرية. أثناء مبارايات الفريق الذي علمت أنه يشجعه مثلي، ولا تفوته متابعة لقاءاته،؛ أحرّك التليفزيون ليواجه الكرسي الملتصق بالجدار، كأننا نشاهد المباراة معًا، وأشير إلى الشاشة طالبًا منه بفرح وغضب وغيظ أن يتأمل جمال هدف، أو سوء تمريرة، أو إهدار لاعب لفرصة سهلة. لا أجد حرجًا في إطلاق الشتائم البذيئة تجاه حكم المباراة؛ إذ أن كلماتها تنفلت من لسان جاري أيضًا ـ وإن كانت بصورة أخف ـ للسبب نفسه. أفضفض له عن ذكرياتي، وأتناقش معه حول الأفلام والمسلسلات والأغاني الكلاسيكية، وأحيانًا ألقي عليه النكات، وأتخيل ردوده وضحكاته وشروده الصامت وسط الكلام.

لماذا كتبت (أقوم بمخاطبته) بدلًا من (أخاطبه)؟ لأنني لا أفعل ذلك بشكل مباشر محكومًا بالثقة. المخاطبة هنا باطنها التردد، الارتباك، الوعي التائه بأنها لا تحدث بطريقة طبيعية. استعمال (أقوم) في المثال ـ حيث يحضر هذا الفعل مستترًا بالتبعية قبل كل أداء لاحق أو ناجم عن “القيام بالمخاطبة”: الاستفسار .. السؤال .. المطالبة .. الفضفضة .. النقاش .. الإلقاء ـ هذا الاستعمال محاولة خفية لتأجيل النطق لفعل (أخاطب) بما ينطوي عليه من حسم. مراوغة اليقين الكامن في (المخاطبة) عندما يتطلب ذلك.

“أخاطب” جاري إذن يختلف تمامًا عن “أقوم بمخاطبته”، وسيصبح الفرق أكثر سطوعًا حينما تعرفون أنني أقوم بهذا على الرغم من أن جاري ميت منذ ما يزيد عن عشر سنوات. مات ذات ظهيرة غائمة، وبينما كان مشتري الأشياء القديمة يمر في الشارع كعادته اليومية، مناديًا بالميكرفون من فوق عربته الخشبية التي يجرها حمار هزيل منهك؛ خرجت جثة جاري من بوابة العمارة لتتلقفها سيارة الإسعاف، حيث (تم) توديعه وهي تتحرك مبتعدة به نحو المقابر. (تم توديعه) ولم (نودّعه). (تم) يعني هنا إنهاءً ماكرًا للأمر. تحققًا شكليًا مخادعًا، يدّعي الاستقرار، ولكنه يضمر غيابًا غامضًا للاكتمال. (تم توديعه) يفيد بأن (وداع) جاري حدث بصلابة زائفة؛ ذلك لأني وكل المطلين من شرفاتهم والواقفين في الشارع لحظة ابتعاد سيارة الإسعاف كنا نعرف أن جاري قد عاش وحيدًا.

الأربعاء، 23 نوفمبر 2022

“دون كورليوني” الكوني

داخل هذه الصورة التي التُقطت في بداية التسعينيات يوجد شخص توفي عام 2022 .. ليس ذلك الذي أراد أن يكون الصديق المقرّب لكل فرد داخل الصورة ولم ينجح في هذا .. الذي فشل في أن يكون القائد لهذه الجماعة من الأصدقاء .. الذي استعمل محاولات التقرّب والخضوع لأقرانه كي يتخطى سلطة الصداقة فظل عالقًا في هامشها الغائم .. شخص آخر هو الذي مات .. عرفت ذلك حين قررت بعد ثلاثين سنة من التقاط الصورة أن أبحث على فيسبوك عن أولئك الذين شاركوني تلك اللحظة القديمة من عُمر الصبا .. عرفت ذلك حين قررت أن أبحث عنهم متوقعًا دون سبب واضح أنني سأعثر على أحدهم ميتًا .. بالرغم من أنه لم يكن لدي علم بأي شيء عن أفراد تلك الرفقة وما صارت إليه حياة كل منهم طوال هذه السنوات .. لكنني أعرف ما يكفي عن الموت .. كنت أبحث عنهم مترجيًا أن يخيب توقعي .. مجرد التيقن من أنهم مازالوا جميعًا على قيد الحياة كان يُبقي ـ ولو بنوع من الفانتازيا الاستدراكية الخرقاء ـ على إمكانية وصول شهوة الاستحواذ والتدمير المبكرة إلى الأورجازم المستحيل .. حتى لو توقفت عن التواصل مع كل الذين يتزاحمون تحت لافتة “الصداقة” منذ أعوام طويلة .. حتى لو كان مستبعدًا تمامًا أن تعاود مد طرف خيط كلامي مقطوع تجاه أي من الأشباح التي تحيط بك في ذلك الكادر .. لكن الموت مبرمج على توطيد بصمته الذهنية عبر فناء جسد واقعي .. العفوية التي لابد أن تبدو مقصودة في روحك المرتعدة ولكنها هذيانية في حقيقتها .. بصمة لا تستهدف سوى تذكيرك مجددًا بأن حياتك مجرد فوات أوان لما لا يمكن القبض عليه أو إدراكه .. في المقابل ثمة لحظة قادمة محتملة قد يمكنك خلالها أن “تكتب” بضعة كلمات سرابية أخرى مما تعتبرها وصية ضمنية مفتتة .. “دون كورليوني” الكوني والعرض الذي لا يمكنك رفضه.

من كتاب “وهم الحضور” / مذكرات الكادر الضال

يصدر قريبًا

 

الأحد، 13 نوفمبر 2022

الرجل اللامرئي: موسيقى الاختفاء

تشتبك رواية "الرجل اللامرئي" للكاتب الأمريكي رالف أليسون مع مفهوم "العزلة" باعتبارها جدلًا فلسفيًا أو معضلة ذهنية لا يمكن ضبط حدودها اللغوية، وليس بوصفها يقينًا وجوديًا أو تجسيدًا مستقرًا لموقف حاسم من العالم. هذا الاشتباك في الرواية الصادرة عن دار المدى بترجمة أسامة منزلجي يتحوّل إلى محاكمة تأملية لإشكاليات الهوية والآخر، والإرغام على البقاء كتحايل على الطمس، ومنازعة الانتماء.

"وكوني غير مرئي لا يعود بالضبط إلى حادث كيميائي حيوي وقع لبشرتي. إن هذا النوع من الاختفاء الذي أشير إليه يحدث بسبب حَوَلٍ من نوع معين يحدث لعيون الناس الذين أتصل بهم. إنها مسألة تتعلق بتكوين عيونهم الداخلية، تلك العيون التي ينظرون بها من خلال عيونهم المادية إلى الواقع".

إن الحفرة ليست ملاذًا تعويضيًا أو حماية آمنة من "الإخفاء"، وإنما صراعًا مع الانعزال نفسه؛ حيث أن المخبأ أرق ذاتي، يسبق المكان الذي يمثله ويتجاوز تدابيره المغلقة على أشباحها. حفرة الراوي هي تاريخ المسافة الاستفهامية التي حاولت بصيرته أن تتخذها طوال حياته كفاصل بين "الوعي" و"القهر"، بين "اكتشاف الذات" و"التمييز" الذي جعل جسده "لا مرئيًا".

"إن حفرتي دافئة ويغمرها الضوء. نعم، مغمور بالضوء. إنني أشك في وجود بقعة أسطع ضياءً في نيويورك كلها من حفرتي هذه، ولا أستثني من ذلك برودواي. أو مبنى الإمباير ستيت في ليلة حالمة للمصوّر".

تتخطى "العزلة" دائمًا ما تحيل إليه من معان وتساؤلات، وبذلك تتغيّر باستمرار صورة "الأنا" في كفاحها للعثور على احتمالاتها المجهولة، ومراوغة هيمنتها في نفس الوقت، مثلما تتغيّر صورة المعرَّف بالاختلاف، المتسلّط والمهدِد والقاتل. "الأنا" إذن هي أشلاء غامضة لطيفٍ متعذّر، لا تكسبه بديهيات "العنصرية" حقيقة مُحصِّنة "مخلِّصة من الحياة والموت". ظل مفتت، كسراب عقلي من الإكراهات الكابوسية، وفي المقابل يدعي الحضور في هيئة بشرية متماسكة، بينما تطارده فردية ملغزة، وجذور "جماعة" عليه أن ينقذ "كينونتها" الغائمة.

"يعود الأمر إلى زمن ماض بعيد، يقارب العشرين عامًا. لطالما كنت أبحث طوال حياتي عن شيء ما، وأينما ذهبت يحاول أحدهم أن يشرح لي ما هو. وكنت أقبل أجوبتهم أيضًا، وعلى الرغم من أنها كانت في الغالب متناقضة بل وتناقض نفسها. كنت ساذجًا. كنت أبحث عن ذاتي وأطرح على كل شخص، ما عدا نفسي، أسئلة لا يمكن لأحد، غيري، أن يعرف إجاباتها. وقد استغرق مني وقتًا طويلًا والكثير من الإحباط المؤلم لتوقعاتي التوصّل إلى الإدراك الذي يبدو أن كل شخص آخر يعرفه بالفطرة: أنني لست إلا نفسي. ولكن كان عليّ أولًا أن أكتشف أنني رجل غير مرئي".

هل تتطلب "رؤيتك" لنفسك أن تكون "مرئيًا" للآخرين؟ ما الذي تعنيه الرؤية هنا وكما يستخدمها الراوي في خطابه كدافع أساسي للبقاء في "مأوى" تحت الأرض؟ أي رؤية يمنحها لك ذلك الانطواء شديد الإضاءة داخل قبو؟ أعتقد أنه من السهل خلق صلة بين حاجة رجل "أسود" إلى أن يكون مرئيًا واستعماله كل هذه الوفرة من المصابيح، لكن بما أن ذلك العجز عن الرؤية لدى المحيطين بالراوي ناجم عن "تكوين عيونهم الداخلية"؛ فإن الأمر يتعلق إذن بإضاءة  ما يختفي وراء تلك البشرة السوداء غير المرئية.

"مدحني أنصع الرجال بياضًا في البلدة. كانوا يعتبرونني مثالًا للسلوك المرغوب ـ تمامًا كما كان جدي. وما حيّرني هو أن العجوز اعتبر ذلك خيانة. وعندما كنت أتلقى مديحًا على سلوكي أشعر بالذنب بأنني بصورة ما أقوم بعمل هو في الحقيقة ضد رغبات البيض من الناس، وبأنهم لو فهموا الأمر لرغبوا في العكس، وبأنني يجب أن أكون نكدًا وخسيسًا، بأن ذلك سيكون ما يريدون حقًا".

يتعلق الأمر بإقناع نفسك عبر استعارة حسية ـ ربما كشرط لتأكيد ذلك عند الآخرين ـ بأن ثمة جوهرًا يمكن ملامسته بنوع من الفهم، بشيء من الإدراك للماضي الذي نشأ عنه هذا الجوهر. ومع ذلك؛ هل تريد حقًا أن يساهم هذا الفهم في أن تصبح "مرئيًا" ككل شيء آخر يتسم بنفس الصفات التي تتيح له أن يكون مجسّدًا في الأبصار، أم أنه يتحتم عليك أيضًا الانفلات من "المشابهة" التي ستؤكد ظهورك في العالم الواقعي؟ هل يمكن أن يكون الإدراك توطيدًا لضرورة "الحفرة"؟ بمعنى آخر؛ هل يمكن هكذا الحدس بما تقصده مقولة الراوي بأنه لم يصبح حيًا إلا أن اكتشف أنه غير مرئي؟

"لقد مر وقت طويل جدًا وها أنا أتساءل وأنا غير مرئي إن كان هذا قد وقع فعلًا. ثم أرى بعين عقلي التمثال البرونزي لمؤسس الجامعة، رمز الأب البارد، بيديه الممدودتين بإيماء رفع الخِمار الذي يرفرف بتضاعيفه المعدنية القاسية، عن وجه عبد راكع بوضعية تحبس الأنفاس؛ وأنا واقف مرتبك، غير قادر على التيقن إن كان الخِمار قد رُفع حقًا، أو أُرخي بتصميم أكبر على الوجه؛ ما إذا كنت أشهد رؤيا أم أنه عمى أكثر إمعانًا".

إن خطوات الراوي نحو قبوه يحكمها ذلك الوعي الملتبس بأن "لا مرئيته" تأكيد على اختفاء مرعب لمن لا يمكنهم رؤيته. أن عليه بالضرورة امتلاك القدرة على رؤيتهم حتى يستطيعون رؤيته. لكن ذلك لا يعني أنها عملية خاضعة للنجاح والفشل بما أننا نتحدث عن "إضاءة" غيبية بطريقة ما، وإنما يعني أنها ممارسة "جمالية"، تفكك زيف "الجمال" التقليدي والشائع، وتتخطى ـ بالسخرية اللازمة ـ عبودية السعي والبلوغ حتى مع كامل الانغماس في متاهاتها. تعني صياغة اللعنة كوسيلة وحيدة للحياة، يقودها الإيمان بأن الحرية وهم مبتذل، دون توقف عن مطاردته ولو من داخل "مأوى" الخيال.

"أنا رجل غير مرئي وهذا ما جعلني في حفرة ـ أو بيّن لي الحفرة التي كنت فيها، إذا شئت ـ وقد قبلت هذه الحقيقة على مضض. أي شيء آخر كان في استطاعتي أن أفعل؟ فما إن يتعوّد المرء على أمر، حتى يصبح الواقع حتميًا كضربة هراوة، وأنا تلقيت ضربة أنزلتني إلى القبو قبل أن أتمكن من فهم الفكرة".

لا يُشرّح الراوي عماء الآخرين أو عمائه الشخصي وإنما "العماء" ذاته كمطلق، كحضور ميتافيزيقي يستعمل "الأبيض والأسود" لمضاعفة نشوته. لذا كان منطقيًا أن تكون الموسيقى أداة هذا التشريح. مصدر "إضاءة" الباطن، كما تفعل المصابيح الساطعة مع الشكل. يود الراوي أن يسمع خمسة تسجيلات للوي أرمسترونج وهو يعزف ويغني "ماذا جنيت حتى أصبح أسود وحزينًا؟" في وقت واحد. هذه المضاعفة ليست ناجمة عن الوعي المبهم بالتراكم غير المهادِن للعماء فحسب، وإنما بمضاعفة نشوة العماء نفسه. يختلس الراوي نشوته المضادة من تسجيلات لوي أرمسترونج. يؤدي ما يقوم به أرمسترونج تمامًا "يجعل من كونه غير مرئي قصيدة شعرية". ولهذا تتحوّل الموسيقى إلى مكان، مأوى، حفرة شديدة الإضاءة، ويتحوّل الاختفاء إلى تكنيك فني، هوية مناقضة، أصل تهكمي للوجود.

"عندما يكون المرء غير مرئي يرى مسائل كالخير والشر، والصدق والخداع، ذات قوام غير مستق وتجعله يخلط بينها، اعتمادًا على الشخص الذي يتصادف أن يكون في تلك اللحظة ينظر من خلاله".

هل يمكن تشريح "العماء" دون التفكير في كونك تتقمص اختفاءً يتعدّى اختفاءك الخاص؟ الاختفاء الذي هو المصدر الممازِح للظلام وسره. الذي يقع داخل وخارج الحُفر جميعها؛ حيث كل جسد وكل فراغ مخبأ له. إن الراوي حينما يفكر في أن الحياة التي تُرى من حفرة الفردية عبث فإنه يخاطب فرديته أو أحكامها بصورة أدق بعدم الثقة. ذلك لأن ما تقرره هذه الفردية من دلائل وبراهين على الظهور والاختفاء، كما الخير والشر، الجمال والقبح؛ لابد أن تكون دائمًا محل تقويض. ما أعرفه فقط هو أنني أساير باختفائي، بالانتباه أو الإفاقة على هذا الاختفاء، غائبًا أشمل وأكثر سطوة؛ حيث لا يعدو جسدي ـ كسائر الأشياء ـ سوى بصمات على لا مرئيته. ما أعرفه هو أنني غاضب، كل تعبير فاسد عن الحب يدل على غضبي أكثر مما تثبته الكراهية المعلنة، لأنه ـ ببساطة ـ كل تعبير عن قبول "الإنسانية" هو كشف عن الألم يفوق أي صرخات أخرى، وبما يسمح به فقط الإذعان لشروط اللغة في تلك اللحظة؛ لذا فإن الأثر الذي أتركه من داخل عزلتي كمجابهة لآثار الآخرين التي شكّلت ملامحي لا يمكنه الاختفاء حتى بعد الموت.

"أكاد أسمعك تقول (آه، إذن كان الأمر كله توليفة لإثارة ضجرنا بثرثرته العفنة. إن كل ما أراد منا هو أن نُصغي إلى هذيانه!). لكن هذا صحيح فقط جزئيًا: فبما أنني غير مرئي وبلا جوهر، مجرد صوت بلا جسد، فأي شيء آخر كان في وسعي أن أفعل؟ أي شيء غير أن أحاول أن أحكي لك ما كان يحدث فعلًا عندما كانت عيناك تنظران من خلالي؟ وهذا بالذات ما يُخيفني: من يعلم غير أنني إنما أتكلم بالنيابة عنك، بنبرة منخفضة؟".

حينما أقارن رواية "الرجل اللامرئي" برواية "لون الماء" والتي تتجاوز كونها مجرد سيرة ذاتية للكاتب والمؤلف الموسيقي وعازف السكسفون "جيمز ماكبرايد" في عصر القوة السوداء ومالكولم اكس ومارتن لوثر كينج وأجواء التوتر بين البيض والسود؛ فإنني أفكر في أنه مع اختلاف الموقع السردي الذي تتم مراجعة "تاريخ رجل أسود" من داخله؛ لا تكتسب الوقائع والأشياء ذاكرتها إلا لحظة الكتابة، أي عند رصد كونها "فرضيات" لا معرفة. أفكر في أنه دائمًا ثمة اختفاء، حفرة، استعمال بصمات الغياب المطلق في ترك أثر على أن جسدًا "لا مرئيًا" قد مر في لحظة ما؛ فقط حين تقرر أن عليك توثيق ذلك.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 12 نوفمبر 2022