الأربعاء، 26 يوليو 2023

ترجمة البروفيسور Jonas Elbousty لقصتي القصيرة "الوردة الحمراء" إلى الإنجليزية في العدد الجديد من Sekka Magazine








القصة باللغة العربية:

الوردة الحمراء

“حينما تذبل الوردة الحمراء في يد هذا الولد الصغير سيكون بمقدوري حينئذ الذهاب إلى العجوز مارجريت التي تنتظرني في دكانها القديم لكي تحكي لي حكايتها الحزينة مع الوردة الحمراء”.

اكتمل انعزاله بخطوات تدريجية خلال السنوات الثلاث الأخيرة. في البداية حذف جميع صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد ذلك بفترة وجيزة نزع شريحة الاتصال من هاتفه الخلوي، ثم أصبح لا يخرج من بيته إلا نادرًا، متفاديًا الأماكن التي يُحتمل فيها أن يصادف أصدقاءه، وفي النهاية توقف تمامًا عن مغادرة المنزل واستقبال أي احد ممن كان يعرفهم في الماضي.

كان قد اقترب من عمر الخمسين، ويعيش مع زوجته وابنته، وعلى مدار حياته كزوج وأب؛ أمضى كثيرًا من الوقت في حجرته المغلقة التي لا تحتوي على أكثر من سرير صغير، وطاولة طعام، ومقعد خشبي، وكومودينو تعلوه أباجورة بجوار السرير. كان قليل الكلام، يتحدث دائمًا كأنه يحاول الاختباء من اللغة، وبعد أن امتنع عن الخروج من البيت؛ لم يعد يتكلم مع أسرته أو يغادر حجرته إلا للضرورة القصوى. أصبحت هذه الحجرة أشبه بجُحرٍ خافت الإضاءة، يسكنه فأر عجوز صامت.

ذات يوم طرقت زوجته باب حجرته – كما عوّدها هي وابنته منذ أصبح لا يغادر المنزل – طلبًا لشيء روتيني. ربما أرادت سؤاله إن كان راغبًا في أن تُحضر له وجبة الغذاء الآن، أو ربما أرادت أن تطمئن عليه فحسب. سمح لها بالدخول فوجدته جالسًا على السرير، مسندًا ظهره إلى الوسادة المنتصبة، وعاقدًا ذراعيه فوق صدره، ويحدق بعينين شاردتين نحو الحائط المقابل. نظرت زوجته إلى حيث يتطلع؛ فوجدت رسمًا لولد صغير يمسك بوردة حمراء. لم يكن رسمًا متقنًا؛ إذ كان مفتقرًا لهذه المهارة، ومع ذلك كان يسهل التعرّف على ما رسمه بوضوح. كان في بساطته وعدم دقته أقرب لما يخطه الأطفال في كراساتهم المدرسية. لكن بالرغم من هذا؛ كان في ذلك الرسم شيء مخيف بصورة غامضة بالنسبة لزوجته. ربما لأن زوجها – بكل ما صار إليه في السنوات الأخيرة – هو من رسمه، وربما لأن الولد الصغير الذي يمسك بوردة حمراء كان مرسومًا على الحائط.

حينما سألته بصوت خفيض ومرتبك عن هذا الرسم، التفت إليها بهدوء يبطن ارتعاشًا خفيفًا ثم تجعّد وجهه بابتسامة ضئيلة وباهتة، ضاعفت من شرود نظرته وهو يقول لها فيما يشبه الهمس المنهك:

“حينما تذبل الوردة الحمراء في يد هذا الولد الصغير سيكون بمقدوري حينئذ الذهاب إلى العجوز مارجريت التي تنتظرني في دكانها القديم لكي تحكي لي حكايتها الحزينة مع الوردة الحمراء”.

عادت زوجته لسؤاله بصوت أكثر ارتباكًا كأنه توسل متنكر عن ما يقصده بهذه الكلمات؛ فطلب منها أن تجلس لكي يروي لها الذكرى التي تفسر الأمر:

“ربما كنت في العاشرة وقتها، حينما كانت مارجريت العجوز اليونانية بائعة الزهور جالسة كعادتها في عصر أحد الأيام أمام دكانها الصغير، ورأتني عائدًا وحدي من الحديقة المطلة على النيل. الملاذ الفردوسي الذي اعتدت أن ألعب أنا ورفاقي في ذلك الوقت بين أشجاره ونباتاته الكثيفة، وفوق عشبه الناعم. كنت غاضبًا وحزينًا ولا أتذكر السبب. لكن على أي حال لن يخرج الأمر عن سخرية تقليدية من أحد الرفاق تجاهي، أو عن هزيمة كلامية معتادة فشلت في تعويضها، أو عن شعور مفاجئ – دائم التكرار – بخيبة أمل مبهمة، لا تشترط وقوع حدث سيّئ بالحكم النمطي لكي تتسلط مهانتها على نفسي. فوجئت أثناء عبوري أمام دكان الزهور بمارجريت تتطلع إلى وجهي بقوة، ثم تقلّد بملامحها العجوز وبشكل مُداعِب ذلك التجهم الذي كان يُثقل وجهي الصغير حينئذ، ولم يكن بوسعي رؤيته طبعًا. كان وجه مارجريت في هذه اللحظة العابرة والمباغتة هو المرآة المضحكة، المواسية لملامحي التي تقبض عليها التعاسة.

أشارت لي بيدها النحيلة كي أقترب منها، وحينما توجهت خطواتي المترددة إليها سألتني بصوت رقيق وابتسامة حنونة عما يحزنني. كانت لغة استفهامها سليمة كليًا، تخلو حروفها من أي كسر، وإن كان يشوبها ذلك الثقل المألوف الخافت في ألسنة الأجانب عندما يتحدثون العربية . شعرت أمام سؤال مارجريت أنني أكتشف وجودها للمرة الأولى. بالرغم من كل مرات عبوري التي لا حصر لها أمام دكانها الصغير، ذهابًا إلى الحديقة وعودة منها. كأن هذا الدكان القديم لم يتجسد في شارع البحر سوى الآن، وكأن مارجريت لم تكن تجلس أمامه كل يوم. العجوز التي هاجرت عائلتها من اليونان إلى مصر قبل عقود طويلة، وتعيش وحدها في بيت عتيق وراء الدكان بعد موت زوجها اليوناني صاحب المخبز في السكة الجديدة الذي لم تنجب منه.

لم أقدر أن أجيب على سؤال مارجريت. لم يكن باستطاعتي محاولة الإجابة على سؤالها. لكن في الوقت نفسه ما كان الصمت ردًا مهذبًا؛ فابتسمت مرتبكًا وأنا أخبرها بأنني لست حزينًا من شيء. بالطبع كانت مارجريت تعرف أنني أكذب، وبدلًا من أن تلح عليّ بالسؤال مجددًا فوجئت بها تستفسر مني عن نوع الزهور التي أحبها. خطر في ذهني على الفور الورد البلدي الأحمر. رمز الاحتفال بجمال الحياة الذي كان يستقبلني أنا وأمي وشقيقتي في أفراح الأقارب والمعارف، ويلوّح لبصري بالأمل من الضفة الأخرى للنيل عند خروجي من الجامع مع أبي. أخبرت مارجريت بحميمية حذرة أنني أحب هذا الورد؛ فطلبت مني الدخول معها إلى الدكان. اختارت وردة حمراء كبيرة، متوهجة بإشراق ناعم وأعطتها لي. قالت إنها أيضًا تحب هذا الورد، بالرغم من أن هناك حكاية قديمة حزينة لها مع الوردة الحمراء، ليس ملائمًا أن تخبرني بها الآن حتى لا تزيد من همّي الذي لا تعرفه، ولكنني إن جئتها غدًا في الدكان فسوف تحكيها لي.

عدت إلى بيتي سعيدًا بالوردة الحمراء، ورحت أعتني بها كما يليق بتعويذة ثمينة. أصبحت كائنًا بالغ الأهمية في حياتي التي لا تحوي أشياءً مهمة كثيرة. لكن هذا التعلّق الصلب بالوردة الحمراء جعل حكاية مارجريت الحزينة منسية بداخلي. لم أعد أتذكر أنها تنتظرني في دكانها القديم لكي تخبرني بتلك الحكاية. رعايتي المفتونة بالوردة الحمراء هي ما استحوذ على نفسي بصورة كاملة. لدرجة أنني في اليوم التالي للقائي بمارجريت، وخلال الأيام اللاحقة؛ ظللت أمر عليها وهي جالسة أمام دكانها في طريقي إلى الحديقة للعب مع رفاقي وعند رجوعي منها دون أن أفكر في الانعطاف نحوها أو حتى في الإشارة لها بتحية عابرة. عادت مارجريت ودكانها كأنهما غير موجودين في العالم بالنسبة لي.

بدأت الوردة الحمراء تذبل تدريجيًا بعد فترة إلى أن ماتت. تفتتت وداعتها الزاهية إلى أشلاء خامدة، خشنة، وهشة، متطايرة حول غيابها. لكنني ظللت أسيرًا لذكراها، مستغرقًا في اللحظات القليلة التي عاشتها في كنف انطوائي. ومع ذلك لم يذكّرني موت الوردة الحمراء بموعدي مع مارجريت. منعني الانغماس في الماضي الذي اختلسناه سويًا من الذهاب إلى دكان الزهور ومعرفة الحكاية الحزينة لصاحبته اليونانية العجوز مع الوردة الحمراء. ثم بمرور الوقت تملّكني اليقين بأن هذه الوردة لم تمت حقًا. أن لديها حياة أخرى في أعماقي، وأن شرط بقائها على قيد هذه الحياة هو استمراري في تذكرها. ألا أتوقف أبدًا عن استعادة الأحلام الحريرية التي نسجت خيوطها حول رفقتنا المنكمشة.

مرت سنوات طويلة جدًا، انتهت بي إلى أن أعيش الثواني الباقية من عمري مختبئًا، بلا أحد أو شيء. وحينما أصبحت هكذا على نحو خاطف تذكرت مارجريت. تذكرت موعدي معها بعد كل هذه المدة الكبيرة، وأدركت أنني لابد أن أذهب إليها لأسمع حكايتها الحزينة التي كان يجب أن تخبرني بها في اليوم التالي للقائنا الوحيد. لكنني أشعر أن الوردة الحمراء التي مازالت تعيش في أعماقي تمنعني من ذلك. يقف وجودها المتجذّر في باطني حائلًا بيني وبين تحقيق هذه الرغبة. لذا وجدت نفسي أرسم على الحائط هذا الولد الصغير الذي كنته، وفي يده الوردة الحمراء التي ظلت نابضة داخله بعد موتها الجسدي منذ زمن بعيد. لم يعد بوسعي سوى أن أبقى في انتظار ذبول هذه الوردة حتى أتمكن من الذهاب إلى مارجريت”.     

كانت زوجته قد استسلمت لانعزاله التدريجي بعدما أيقنت أنها لن تستطيع هي أو ابنتهما منع ذلك. لكن ما قاله الآن كان كابوسًا مفاجئًا يفوق قدرتها على التحمّل. قالت له وهي على وشك البكاء: “أنت لم تخبرني بأي شيء من هذا طوال حياتنا معًا. أنا أعرف دكان الزهور الذي تتحدث عنه. مارجريت ماتت منذ وقت طويل، والدكان لم يعد له أثر. أنت تعرف ذلك جيدًا”.

لم يرد على زوجته مكتفيًا بنظرة ساهمة، محتقنة برفض محسوم لما تفوهت به، قبل أن يعاود التحديق في الحائط. عادت تقول له بصوت مختنق والدموع تطفو بكثافة من عينيها: “حسنًا. حاول أن تتذكر إذا كنت لا تستطيع حقًا مغادرة هذه الحجرة اللعينة والذهاب إلى هناك. حاول أن تتذكر؛ ألم تمر في شارع البحر مئات بل حتى آلاف المرات طوال السنوات الماضية؟ ألم تشاهد البناية الكبيرة التي شُيّدت موضع دكان مارجريت؟ ألم تبصرها وهي ترتفع حتى اكتمل بناؤها، ثم سكنت شققها، وافتُتحت محلاتها، وأصبحت هي الأخرى بناية قديمة؟”.

أجابها بحدة ذاهلة كأنما يضع ختامًا استنكاريًا لهذا الجدل: “هذا غير صحيح. أعرف أن مارجريت لا تزال حية، وأن الدكان لا يزال في مكانه. حتى آخر لحظة قبل امتناعي عن الخروج من البيت؛ كنت أراها عند مروري من شارع البحر جالسة كعادتها. بشعرها البُني القصير الناعم الذي يخالطه الشيب، بحاجبيها الرفيعين، بالنظرة النافذة لعينيها الخضراوين، بوجهها الأبيض الطفولي، المتوّرد دون مكياج، بالتجاعيد الخفيفة الذائبة في رقة ملامحها، بجسدها النحيف الذي يغطيه ثوب قطني طويل، مشجّر دائمًا، وبحزام معقود وراء ظهرها، كأنه أقرب لرداء منزلي، بطلاء الأظافر الزهري في يديها وقدميها المكشوفتين من حذائها الجلدي الأسود. مارجريت لا تزال في انتظاري حتي تخبرني بحكايتها الحزينة مع الوردة الحمراء. أنا متأكد من هذا”.

غادرت زوجته الحجرة في صمت، وقد قررت وهي تغلق بابها عليه أن تتصل بكل من يُحتمل أن يقدم لها يد المساعدة: أقارب زوجها الذين كان يربطه بهم قدر من الود، أصدقاؤه الذين كانوا مقربين “شكليًا” له. أخبرتهم جميعًا بما حدث وطلبت منهم الحضور. حينما تواجدوا في حجرته مع زوجته وابنته، وبعد أن ظلوا يتطلعون إليه بنظرات الشفقة والرجاء، وقبل أن يتكلموا معه في أي شيء؛ قال لهم وهو مازال جالسًا على سريره ويحدق إلى الرسم على الحائط:

“لا عليكم. أنا أعلم تمامًا أن مارجريت ماتت منذ زمن طويل، وأن الدكان القديم قد هُدم بالفعل. لكن هذا الرسم هو آخر ما يمكنني فعله انتقامًا من الوردة الحمراء التي تحتم عليّ انتظار ذبولها. الوردة الحمراء التي حينما منعتني من معرفة الحكاية الحزينة لمارجريت فإنها قتلتني في تلك اللحظة البعيدة. أنهت حياتي وقتئذ، ولم يعد لي وجود، مهما توهمتم عكس ذلك. صدقوني، أنتم تنظرون الآن إلى لا شيء. من يوجد فقط هو ذلك الولد الصغير المرسوم على الحائط”.

الأربعاء، 19 يوليو 2023

نملة نشطة

كنت أعيش منذ طفولتي على اختلاس العيون الشاردة، الأفواه المكتومة، والملامح الواجمة .. مثل نملة نشطة؛ أخزّن مؤنة سرية من الوجوه في مخبأ غامض داخل نفسي انتظارًا لشتاء لم يُحدَد موعده .. حينما بدأت كتابة القصة القصيرة أدركت أن ما جمعته من عيون وأفواه وملامح سيشكّل وجوهًا أخرى، غائمة، لا يمكن لمسها، ربما الوجوه المحتملة والمتناثرة وراء ما كنت أختلسه، وأن هذا التحوّل لا يرجع إلى العيون والأفواه والملامح في حد ذاتها، وإنما إلى المخبأ الغامض الذي احتفظت بها داخله .. أدركت أن الشتاء ليس زمنًا معيّنًا، وإنما مطاردة لغيابه، ملاحقة سيزيفية تراوغ أي وعد بالوصول إليه .. كانت الوجوه تلتهم نفسي، وهذا ما أبقاني منذ اللحظة الأولى أعيش بجوع وشراهة شبح نملة نشطة.

الأحد، 16 يوليو 2023

جوناس البستي يترجم “حكايات طنجة” إلى الإنجليزية

عن جامعة ييل برس بالولايات المتحدة الأمريكية صدرت الأعمال القصصية الكاملة للكاتب المغربي “محمد شكري” بعنوان “حكايات طنجة”، ترجمها إلى الإنجليزية البروفيسور جوناس البستي وبتقديم الباحث روجر آلن الحاصل على الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة أكسفورد.

تأتي أهمية هذه الترجمة في قدرتها على تحفيز الأسرار اللغوية لمدينة طنجة كما لاحقها واكتشفها محمد شكري وحفر بصمته الكتابية الوحشية في صدوعها وأغوارها بحيث أصبح لهذه المدينة تاريخًا سرديًا خاصًا منفلتًا عن الأطر التقليدية المروّضة.      

تتنقل ترجمة جوناس البستي بين الأماكن والتفاصيل والأحداث الجامحة التي كوّن محمد شكري بواسطتها سيرته المتمردة في قلب طنجة؛ فنتأمل مثلًا الغريزة الانتقامية مجسدة في الطيش المنبوذ للآخر “ميمون” كما في قصة “العنف على الشاطئ” حيث يخلق محمد شكري تلازمًا أدائيًا لإكراهات الظلام الباطني للراوي مع الاندفاعات الانتهاكية الهوجاء للمتشرد الغاضب بما يعادل استبصارًا للتوحد بين النقمة السرية التي تقاوم أو توشك أن تكون اجتياحًا معلنًا، والثأر الذي تحوّل بالفعل إلى غنيمة عارية ومراوِغة لحصار الأجساد الضالة.

يحيلنا الكتاب كذلك إلى النبش عن أشلاء الخلاص المتناثرة، المدفونة في الإهمال كما في قصة “الشبكة” كأنها حطام الرجاءات والأحلام يلتقطها الطفل من النسيان لينشئ بوعودها البالية والغامضة وهمًا مخيِبًا طازجًا، يتسق مع خطواته التنقيبية المبكرة حيث يمكن ملامسة العالم في إبهامه المحصن بواسطة سمكة بلاستيكية جميلة تٌلقى لقطة ناعسة قرب البحر.

نراجع أيضًا مفهوم الأمومة من خلال صفقة لا تكتمل لشراء مولود ذكر جميل في قصة “أمومة”؛ فالمراقبة تتجاوز البُعد الأخلاقي المباشر لتمتد في مسارات متعددة بين البائع والوسيط والمشتري بما أن الخيال يُشكل هويات الأطراف المتشابكة مثلما ينسج أسرارهم وعلاقاتهم، ويبقى “الطفل” نفسه واقعيًا ورمزيًا وبكل الاستفهامات القدرية لوجوده طيفًا محرضًا لذلك الخيال.

تقودنا “حكايات طنجة” كذلك إلى مسيرة الأطفال التضامنية مع الطيور والحيوانات في قصة “الأطفال ليسوا دائمًا حمقى” أو حينما “يبدو للعالم معنى آخر” من خلال لافتة فارغة وورقة بيضاء وخطبة صامتة ثم إطلاق الطيور وتسريح الحيوانات، كأنه كفاح طفولي لاسترداد حرية أكثر شمولًا من حيواتهم ذاتها تتحاشى المزيد من الكلمات التي طالما استُعملت في القمع. 

جثث يتطوح عنفها الشهواني بين القيء والدماء والصديد والدموع، كأنها مدينة “الداخل” التي شُيدت في باطن الذات قبل ولادتها وتمثل الأصل النقي المحتجب في صورة “الخارج” القابضة على مناطحات الموتى في قصة “القيء” حيث الموت لا يعني الصمت الذي يقترن بحدوثه فحسب وإنما انتظاره المحكوم بلهاث الرغبة في تفتيت “الجمال”.

مرارة ديستوبية يائسة في قصة “أشجار صلعاء” حيث المقارنة والتماثل بين الجثث والأشجار في ما بعد “الإبادة” أو ما نتج عن التدمير والاحتراق؛ إذ ثمة شاهد يرى الماضي كنبوءة واحتضاره كحتمية تسبق التاريخ وصراخه الواهن كدماء متلاشية تذكيرًا بالفناء المتنكر في صورة حياة.

تأريخ لإغواء الجمال في وحشيته المتجذرة داخل عمق المسارات المكانية ولطشات الخيال كما في قصة “مجنون الورد” حيث يلهث الذهن والشعور في مطاردة مستحيلة لفهم “الاغتراب” دون أمل سوى في تقويض الأمان حتى اللحظة الأخيرة كأن تمزيق أقنعته بمثابة نجاة مضادة.

الدكتور جوناس البستي حاصل على الدكتوراه من جامعة كولومبيا بنيويورك، وأستاذ جامعي في قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى – جامعة ييل، نيوهيفين – أميركا، وهو الذي شغل منصب مدير الدراسات الجامعية قسم لغات وحضارات الشرق لمدة سبع سنوات، والآن في منصب مدير الدراسات الجامعية في قسم الشرق الأوسط، وقام بالتدريس في جامعات عدة. تركز اهتماماته البحثية على نظريات الأدب وإشكالية الترجمة الأدبية، والتاريخ الثقافي، وصورة العرب في الروايات الأدبية والإعلامية الأميركية، أدب المهجر، الشعر العربي المعاصر، وحياة وأعمال محمد شكري.

عمل الدكتور جوناس البستي على نطاق واسع مع Defense Language Institute ومنظمات أخرى لتقديم خدمات التدريب والاختبار، وهو مؤلف كتاب “الإعلام العربي: الخطاب الصحفي لطلاب اللغة العربية المتقدمين”، ومؤلف مشارك في كتاب “القارئ الأدبي العربي المتقدم”، ومؤلف مشارك أيضًا لكتاب “الحيوية والديناميكية: الحوارات البينية للغة والسياسة والدين في التقاليد الأدبية المغربية”، وقد صدر مؤخرًا كتابه “أصوات معاصرة”، قصص من العالم العربي، عن جامعة جورج تاون برس في واشنطن لطلاب الدراسات العليا، قسم اللغة العربية.

موقع "الكتابة" ـ 8 يوليو 2023

السبت، 8 يوليو 2023

تحكيم مسابقة القصة القصيرة


 

"هفوات صغيرة لمغيّر العالم": قصص الغرائبية الواقعية والواقع الغريب

تقترح قصص الكاتب المصري ممدوح رزق "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" فضاء مختلفًا يعيد رؤية "الحدث القصصي" في جزئياته الأصغر والأقل مدعاة للانتباه عادة، وهي تفعل ذلك بروح فيها كثير من القلق والتوتر والألم نستعيد معه شيئًا كثيرًا من عوالم كافكا الغرائبية والفذة في الوقت ذاته، وهي استعادة أعلن عنها الكاتب منذ البداية في احتفائه بقول للكاتب التشيكي الذي وضعه كافتتاحية لقصصه.

ممدوح رزق يتجوَل في جزئيات الحدث القصصي الصغيرة، وبالذات تلك التي تبدو "أليفة"، عادية، أو لنقل قليلة الأهمية قد لا تستحق التفاتة الكاتب أو اهتمامه، لكنها مع ذلك تأخذ عنده بعدًا تأمليًا، إذ يزجها الكاتب في حمأة حضور يشي بحقيقة "أخرى" لها.
هي رؤية قصصية تستعيد الهاجس، بما هو اكتشاف للمتواري وإحضاره بكامل معانيه ومغازيه بل واحتمالاته، وهو ما يجعل القصة في حالة كهذه وقائع "تناوش" الفانتازيا، لكنها لا تنتمي لها، وتقارب السوداوية من دون أن تكتسي بها. هي حالة أبرز ما فيها أنها تبحث أولًا وثانيًا وعاشرًا عن الفنية بمعناها العميق، المترع بالرغبة الجامحة في جذب القارئ إلى محاولة اكتشاف ما وراء العادي وغير المثير. هي قصص الحرائق الصغيرة التي تندلع من التفاتة هنا، أو لحظة صمت هناك، وهي كلها جزئيات تشكل بهدوء، و"من دون قصد"، قصصًا قصيرة تنطلق من واقع اجتماعي، لكنها لا تستسلم للنظر العادي، أو المألوف، الذي يقر للواقع بحقيقة صورته كما تبدو للنظر العابر، ولكنها تذهب ـ بدلًا من ذلك ـ نحو إلى الما وراء، الذي هو في هذه الحالة يعتمد "الهاجس" كدليل "أكيد" لا يهتم بأن يكون حقيقيًا قدر اهتمامه بأن يشكل باعثًا جديًا لفكرة "التنقيب" عن صلة قرابة مع القلق مرة، والخوف مرة ثانية، ولكن مع العميق في المرات كلها.
بهذا المعني، تحمل قصص "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" إشاراتها إلى العلاقة بين غرائبية العالم وبين الإبداع، وهي علاقة تتحقق من خلال زج الإبداع في أتون مثقلة بالمعاني الأعمق للأشياء الظاهرة، خصوصًا المتصلة بحياتنا اليومية، والتي نعيشهان أو نمر فيها من دون أن تدعونا إلى ملاحظة ما تحمله من تفاصيل تنتج تفاصيل جديدة يمكن تأويلها عشرات المرات من دون أن تستنفد ذاتها، لأنها تحمل ما يمنحها القدرة على استنطاق المخيلة. هي قصص معاصرة، بل إنها تتناول الحياة اليومية الراهنة، وهي بذلك تعكس رغبة الكاتب في استكشاف ما تنطوي عليه حياتنا "العادية" من مفارقات، وكأنه يقول لنا إن ما يبدو لنا عاديًا وبسيطًا إنما يخبىء في "صورته الأخرى" صورًا تثير فزعنا.




هي كتابة تلامس الحدث المعاش من حدقة تجتهد كي ترى صوره الأخرى، وهذه المقاربة الفانتازية، إذ تحاور المخيلة القصصية وتستنطقها، تحتفل في الوقت ذاته بالوشائج التي تربط الفردية الإنسانية بالعوالم التي تحيط بها، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الميزة الأهم لقصص هذه المجموعة هي أنها نجحت في الخروج على تقليدية القصة القصيرة العربية. أعني رتابة موضوعاتها، ورتابة أساليبها السردية. القصة القصيرة عمومًا تختار الانحياز لواقعية تتبع السرد العادي "المنطقي"، وتعد ذلك ذروة تفاعلها مع الواقع، في حين اختارت قصص "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" أفقًا مختلفًا يقوم على تركيبية تعودها القارئ في حالات نادرة، وهي تقع عمومًا في الرواية بشمولية سرديتها واكتمال حضور أبطالها وشخصياتها، مع ذلك نجح ممدوح رزق في استحضار تلك المناخات الغرائبية وما فيها من مفارقات إلى فن القصة القصيرة. إنها حكايات تمتلك تشويقها وحدتها الطالعة من مزيج الواقع والمخيلة، والقارئ لا يعثر خلال قراءتها على "خروج عن النص"، لأن "النص" فيها هو لوحات مرسومة تتناسل عن رؤى حية تأخذ حيويتها من استقصاء حميم للهاجس والفكرة، ولأنها كتابة تؤمن بأهمية الشكل الفني باعتباره بنيانًا سرديًا له سطوته في اجتذاب جماليات فنية تمنح الفكر الواقعي ذاته إطاراته الجميلة.
ممدوح رزق في قصص "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" كاتب يجتهد في مقاربة أفق جديد، فني وحار لفن تعودنا أن يتكىء على التبسيط، فنجح في رسم لوحات قصصية عن الحياة اليومية بلغة مختلفة، وصور مختلفة أيضًا.

راسم المدهون

ضفة ثالثة

5 يوليه 2023

إيروسية الصمت عند وديع سعادة | ممدوح رزق

يبدأ وديع سعادة قصيدته “الصمت” بالرجوع إلى “صمت نيتشه” في سنواته الأخيرة مُتسائلًا عن دافعه، ومُقرِنًا بينه و”الانعزال”.. تكتسب احتمالات الإجابة الصيغة الاستفهامية أيضًا، حيث الصمت سؤال غير محدود، يسبق محاولات التوصل لمبرره.. لا يُفرّق وديع سعادة مبدئيًا بين الصمت و”الكلام” إلا في “الكيفية”.. “هل أراد أن يقول إن الصمت هو أعلى درجات الكلام؟”.. الصامت يتكلم إذن، ولكن بواسطة عدم “التفوّه” بالكلمات.. بعدم التخاطب أو بالتعبير الأفصح عن لا جدواه كما تتضمن القصيدة.. لكن وديع سعادة في تساؤله حول الصمت كنفي لإمكانية التواصل بين الذات والآخر، الفرد والجماعة، أو كيأس من اللغة، أو بكونه “الاحتفاء الوحيد المتاح بالحياة، والتشييع اللائق لمن يودعها بإخلاص”؛ فإنه يخاتل الصمت المجرّد فعليًا من اللغة، أي ذلك الذي يوجد من قبل تحققها.. وديع سعادة يناوش “غياب الصمت” في اللحظة التي يستفهم خلالها عن “خرس اللغة”- باستعادة “رامبو” أيضًا- كمرادف للعدم، أو شطب الوجود.

“لماذا صمت نيتشه كلّ تلك السنوات؟ ولماذا غادر رامبو الكلمات؟ والكثيرون غيرهما لماذا وضعوا هذا الحدَّ المرعب بين اللغة وخرسها، بين الذات والآخر، بين الحياة وعدمها، بين الإقامة وشطب الوجود، هذا الكائن الصغير الوحيد بين عدمين؟”.

إن صمت نيتشه ورامبو، أو “الصمت” كما يفكر فيه وديع سعادة لا وجود له مقارنة بـ “اللازمن” المفترض الذي لم تتكوّن داخله اللغة بعد.. الصمت في القصيدة هو اقتفاء أثر “الصمت الحقيقي” الذي يتقدم على “الوجود”، تلصص على غيابه، محاولة لتقمص ما كان “صمتًا” خالصًا.. هذه المطاردة هي الحياة الفعلية.. عدم النطق ممارسة إيروسية مع الصمت المتعذر، حيث الكلام المحتجب، الذي تردده الذات في امتناعها عن التلفظ به، هو وسيلتها المختبئة للاتصال بالظلام الذي يسبق اللغة.. بغموض الصمت القبلي المحصّن في الغيب.. هذا ما يمنح البصيرة قدرة التمعن في “الاختفاء”.. الاختفاء الذي يعجز عن الحدوث امتثالًا لارتهانه بـ “الصمت” الغائب.. يصبح التحديق إلى “الاختفاء” بديلًا لوقوعه.. التحديق المسمى بـ”الشِعر” أحيانًا، حيث مراقبة “الصمت” الناجمة عن عدم التفوّه بالكلمات تخلق حلم الانطواء الفردي بالتبدد.. تلاشي الجسد الذي كوّنته اللغة.. الرغبة في استرداد الكينونة المطلقة التي يكشفها المحو.. التبدد الذي لا يتم وإنما يُصاغ بالسكون.. بالخيال المضاد للحركة.. تتفحص الحياة وهمها، وتدور حول سراب خلاصها عبر هذا الكفاح المقيّد للانفصال عن عنف الطبيعة.. هذا الأداء الإيروسي يكمن تحديدًا في ما يمكن تسميته بـ “التناص بالصمت” بين فراغات القصيدة أو المساحات الخالية من رسم الكلمات، وبين ما اعتبره وديع سعادة “صمتًا” لدى نيتشه ورامبو.. التناص الذي يحوّل “وهم الصمت” إلى تلاعب بالصمت نفسه الذي لا يمكن ملامسته.

مقالي ضمن ملف مجلة قناص الثقافية عن الشاعر اللبناني وديع سعادة.

2023-07-02