السبت، 8 يوليو 2023

"هفوات صغيرة لمغيّر العالم": قصص الغرائبية الواقعية والواقع الغريب

تقترح قصص الكاتب المصري ممدوح رزق "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" فضاء مختلفًا يعيد رؤية "الحدث القصصي" في جزئياته الأصغر والأقل مدعاة للانتباه عادة، وهي تفعل ذلك بروح فيها كثير من القلق والتوتر والألم نستعيد معه شيئًا كثيرًا من عوالم كافكا الغرائبية والفذة في الوقت ذاته، وهي استعادة أعلن عنها الكاتب منذ البداية في احتفائه بقول للكاتب التشيكي الذي وضعه كافتتاحية لقصصه.

ممدوح رزق يتجوَل في جزئيات الحدث القصصي الصغيرة، وبالذات تلك التي تبدو "أليفة"، عادية، أو لنقل قليلة الأهمية قد لا تستحق التفاتة الكاتب أو اهتمامه، لكنها مع ذلك تأخذ عنده بعدًا تأمليًا، إذ يزجها الكاتب في حمأة حضور يشي بحقيقة "أخرى" لها.
هي رؤية قصصية تستعيد الهاجس، بما هو اكتشاف للمتواري وإحضاره بكامل معانيه ومغازيه بل واحتمالاته، وهو ما يجعل القصة في حالة كهذه وقائع "تناوش" الفانتازيا، لكنها لا تنتمي لها، وتقارب السوداوية من دون أن تكتسي بها. هي حالة أبرز ما فيها أنها تبحث أولًا وثانيًا وعاشرًا عن الفنية بمعناها العميق، المترع بالرغبة الجامحة في جذب القارئ إلى محاولة اكتشاف ما وراء العادي وغير المثير. هي قصص الحرائق الصغيرة التي تندلع من التفاتة هنا، أو لحظة صمت هناك، وهي كلها جزئيات تشكل بهدوء، و"من دون قصد"، قصصًا قصيرة تنطلق من واقع اجتماعي، لكنها لا تستسلم للنظر العادي، أو المألوف، الذي يقر للواقع بحقيقة صورته كما تبدو للنظر العابر، ولكنها تذهب ـ بدلًا من ذلك ـ نحو إلى الما وراء، الذي هو في هذه الحالة يعتمد "الهاجس" كدليل "أكيد" لا يهتم بأن يكون حقيقيًا قدر اهتمامه بأن يشكل باعثًا جديًا لفكرة "التنقيب" عن صلة قرابة مع القلق مرة، والخوف مرة ثانية، ولكن مع العميق في المرات كلها.
بهذا المعني، تحمل قصص "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" إشاراتها إلى العلاقة بين غرائبية العالم وبين الإبداع، وهي علاقة تتحقق من خلال زج الإبداع في أتون مثقلة بالمعاني الأعمق للأشياء الظاهرة، خصوصًا المتصلة بحياتنا اليومية، والتي نعيشهان أو نمر فيها من دون أن تدعونا إلى ملاحظة ما تحمله من تفاصيل تنتج تفاصيل جديدة يمكن تأويلها عشرات المرات من دون أن تستنفد ذاتها، لأنها تحمل ما يمنحها القدرة على استنطاق المخيلة. هي قصص معاصرة، بل إنها تتناول الحياة اليومية الراهنة، وهي بذلك تعكس رغبة الكاتب في استكشاف ما تنطوي عليه حياتنا "العادية" من مفارقات، وكأنه يقول لنا إن ما يبدو لنا عاديًا وبسيطًا إنما يخبىء في "صورته الأخرى" صورًا تثير فزعنا.




هي كتابة تلامس الحدث المعاش من حدقة تجتهد كي ترى صوره الأخرى، وهذه المقاربة الفانتازية، إذ تحاور المخيلة القصصية وتستنطقها، تحتفل في الوقت ذاته بالوشائج التي تربط الفردية الإنسانية بالعوالم التي تحيط بها، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الميزة الأهم لقصص هذه المجموعة هي أنها نجحت في الخروج على تقليدية القصة القصيرة العربية. أعني رتابة موضوعاتها، ورتابة أساليبها السردية. القصة القصيرة عمومًا تختار الانحياز لواقعية تتبع السرد العادي "المنطقي"، وتعد ذلك ذروة تفاعلها مع الواقع، في حين اختارت قصص "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" أفقًا مختلفًا يقوم على تركيبية تعودها القارئ في حالات نادرة، وهي تقع عمومًا في الرواية بشمولية سرديتها واكتمال حضور أبطالها وشخصياتها، مع ذلك نجح ممدوح رزق في استحضار تلك المناخات الغرائبية وما فيها من مفارقات إلى فن القصة القصيرة. إنها حكايات تمتلك تشويقها وحدتها الطالعة من مزيج الواقع والمخيلة، والقارئ لا يعثر خلال قراءتها على "خروج عن النص"، لأن "النص" فيها هو لوحات مرسومة تتناسل عن رؤى حية تأخذ حيويتها من استقصاء حميم للهاجس والفكرة، ولأنها كتابة تؤمن بأهمية الشكل الفني باعتباره بنيانًا سرديًا له سطوته في اجتذاب جماليات فنية تمنح الفكر الواقعي ذاته إطاراته الجميلة.
ممدوح رزق في قصص "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" كاتب يجتهد في مقاربة أفق جديد، فني وحار لفن تعودنا أن يتكىء على التبسيط، فنجح في رسم لوحات قصصية عن الحياة اليومية بلغة مختلفة، وصور مختلفة أيضًا.

راسم المدهون

ضفة ثالثة

5 يوليه 2023