الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023

جرثومة بو: من القصة الصحفية إلى النوفيلا

لم تكن في مدرستي الابتدائية “صحافة مدرسية”، أما في المرحلتين الإعدادي والثانوي فكنت المحرر الرئيسي لمجلات الحائط بالمدرسة .. كنت المتعهد الذي يقصده المعلمون والمعلمات لإعداد المجلات الخاصة بالجماعات المدرسية التي يشرفون عليها، فضلًا عن أنني كنت المسؤول أيضًا عن الإذاعة المدرسية؛ تحريرًا لموضوعاتها وتقديمًا لفقراتها اليومية .. في الإجازات الصيفية كنت أتولى كذلك إعداد المجلات الثقافية تحت إشراف جماعة الصحافة بقصر ثقافة الطفل .. كنت قد بدأت في كتابة القصة القصيرة قبل بداية هذا النشاط الصحفي المبكر، وكانت الصحافة وقتئذ بالنسبة لي تعني ببساطة واختصار توظيف الأسلوب الأدبي في مجال كتابي آخر .. على هذا الأساس كان حلم الصبا الذي وُلد بداخلي كأثر لكتابة القصة القصيرة بأن أكون صحفيًا .. كولد صغير تربى خياله على مغامرات القصص المصوّرة ومطاردات الروايات البوليسية؛ أحببت بالطبع أن أعيش الحكايات المثيرة المشابهة التي يمكن أن يقودني إليها العمل الصحفي، لكن الأهم أنني سأكتبها بطريقتي.

سأقتبس بدءً من الآن أجزاءً متفرقة من نوفيلا “جرثومة بو” والتي توثق بشكل مختصر لخطواتي الصحفية “الواقعية”، أي التي “حدثت بالفعل” بعد المرحلة الثانوية وحتى مرحلة عملي في القضية التي كانت موضوعًا للنوفيلا:

“كانت هذه السنة هي عام الثانوية العامة بالنسبة لي .. بعد نجاحي والتحاقي بكلية الآداب قسم اللغة العربية سافرت إلى القاهرة وقابلت د. فتحي بمكتبه في دار التحرير، وطلبت منه أن أتدرّب على العمل الصحفي بالقسم الأدبي معه .. رحّب د. فتحي على الفور مُشيدًا بموهبتي، وأخبرني أن أعتبر المكان مكاني .. ستظل هذه الفترة التي قضيتها في العمل مع د. فتحي عبد الفتاح محفورة في ذاكرتي كواحدة من أروع أوقات حياتي المهنية .. أستعيد البهجة الممتنة والرائقة التي عشتها مع سفر القاهرة يوم الخميس من كل أسبوع .. السير من رمسيس أو أحمد حلمي إلى دار التحرير .. طعم سجائر البوسطن واللايت وهوليود الذي لم يتكرر .. تناول ساندويتشات الفول والطعمية وشرب الشاي والقهوة على كرسي وطاولة صغيرة أمام مقهى في شارع عماد الدين تجاوره واحدة من السينمات المهجورة منذ زمن طويل، ويظهر أفيش أحد الأفلام العربية القديمة ملصقًا على حائط داخل ظلامها المغلق ببوابة صدئة .. قراءة الجرائد والمجلات في صالة استقبال دار التحرير حتى الثانية عشر ظهرًا .. صعود السلالم .. دفع الباب الزجاجي لمركز الأبحاث .. برودة التكييف ورائحتها الممتزجة برائحة الكتب وأوراق الكتابة الصفراء .. المشي داخل المكتبة حتى الوصول إلى صالة الاجتماعات الملحق بها مكتب د. فتحي .. الجلوس فوق طاولة الاجتماعات، ومراجعة أوراق العمل .. توافد الزملاء .. خروج د. فتحي عبد الفتاح وجلوسه على رأس الطاولة .. المناقشات حول مواد الملحق الأدبي الذي يُنشر يوم الثلاثاء قبل أن يتغيّر موعد صدوره إلى الإثنين .. جلوسي مع د. فتحي في مكتبه بعد انتهاء الاجتماع .. كان كل شيء مثاليًا .. لم أكتب حرفًا واحدًا إلا وتم نشره على الفور سواء في الملحق الأدبي لجريدة المساء، أو في الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية التي كان يُشرف عليها د. فتحي أيضًا .. لم أصدق يوم أن نُشر مقال لي في باب “خواطر”، والذي كان معروفًا أنه مخصص لكبار الأدباء .. كان المقال عن رواية فؤاد حجازي “الأسرى يقيمون المتاريس”، وحينما رأى د. فتحي دهشتي الفرحة ابتسم وقال لي أنني أستحق أكثر من ذلك .. استمر أيضًا نشر قصصي القصيرة في “المساء” و”الجمهورية”، ونتيجة لكل هذا لم أتعجب حينما صارحني أحد الزملاء في القسم أثناء التمشية ليلًا بعد خروجنا من ندوة مناقشة “الحب في المنفى” لبهاء طاهر في أتيليه القاهرة بأن المحررين كانوا يقولون لبعضهم عند انضمامي للقسم الأدبي أن المشرحة لا ينقصها القتلى، ثم أدركوا تدريجيًا بأنني لست واحدًا من هؤلاء القتلى، خاصة بعد نشر مقالي في باب “خواطر”.

لكن باب السعادة أغلق فجأة مثلما فُتح؛ إذ أخبرني د. فتحي عبد الفتاح ذات يوم عقب انقطاعي فترة عن الحضور لسبب لم أعد أتذكره، وربما يرجع في الأغلب لخسارة جديدة استغرقت وقتًا طويلًا في صراعي الدائم ضد أسرتي للحصول على المال من أكياسهم الممتلئة؛ أخبرني أن سمير رجب أثناء غيابي قرر عقد اختبارات مفاجئة للمتدربين من أجل تصفيتهم، وبالطبع، ولأنني لم أكن متواجدًا من الأساس فقد تم إقصائي من الجريدة .. لم أشعر بمدى محبة د. فتحي عبد الفتاح وتقديره لي أكثر من هذه اللحظة التي أخبرني فيها دون أن ينظر أسفه العميق في عينيّ بأن الجريدة ستظل مفتوحة لقصصي ومقالاتي ولكن بشكل غير رسمي .. صافحني بقوة مواسية ثم أخبرني بوجود مستحقات مالية لي، يتعيّن أن أمر على الخزانة لاستلامها .. خرجت من مكتبه، وألقيت نظرة أخيرة على طاولة الاجتماعات ثم غادرت الجريدة دون مجرد التفكير في التوجّه إلى الخزانة.

بعد فترة قصيرة من الإحباط والتفكير والتردد قررت العمل بإحدى الصحف الإقليمية في المنصورة .. وفقًا لمعرفتي بالمجال أي الخبرة التي كوّنتها خلال فترة العمل في “المساء”، كنت أدرك أن الحصول على فرصة للعمل الصحفي في مطبوعة قاهرية أخرى ليس سهلًا، أو يكاد يكون مستحيلًا خاصة لكاتب لا يزال طالبًا في كلية الآداب، ولا يقيم بين فخذي الأم المركزية، ولا تربطه صلة بأي من قوّاديها المسيطرين، وحتى لو يمتلك أرشيفًا تجمّع فيه خلال عام واحد فقط، ما لم يستطع أن يحققه آخرون في سنوات طويلة، فضلًا عن حساسيتي الشديدة من طرق باب مجهول ليس لدي ضمان كاف للحصول من ورائه على ما أريد .. لم يكن يسيرًا عليّ كذلك القبول بالعمل في مكان أقل مما كنت أحظى به ـ إن أتيح لي أصلًا ـ ولم أكن راغبًا في الوقت نفسه أن أبذل جهدًا غير منطقي بالفعل في البحث عن هذه اللؤلؤة الصغيرة في قاع المحيط المعتم .. كان الالتحاق بصحيفة إقليمية بمثابة الحل الحزين المؤقت لهذا القهر؛ فهو من جهة سيحافظ على استمرارية العمل دون متاعب السفر، والهلاك في زحام الشوارع والمواصلات القاهرية، وإهدار القروش القليلة التي أنتزعها بطلوع الروح من أبي وأمي، حتى وإن كان هذا العمل في حقيقته ليس إلا سقوطًا مبكرًا من سحابة قزحية إلى حفرة خراء .. من جهة أخرى لن يقف هذا العمل أمام استغلال أي مفاجأة مركزية محتملة، تعوّضني بالشكل المناسب عن خروجي من جريدة “المساء”، كما أنه سيكون في نفس الوقت داعمًا أكيدًا في تثبيت اسمي داخل الفضاء الأدبي الصغير للمدينة”.

عدا استقصاء صغير نُشر لي عن محامي من مدينة السنبلاوين ينتمي إلى التيار الإسلامي قام برفع قضية على نجيب محفوظ بسبب رواية “أولاد حارتنا”؛ عدا ذلك لم يكن في مدة عملي بالصحافة الأدبية مغامرات أو مطاردات، ومع هذا لم أشعر بأن ثمة ما ينقص عملي الصحفي .. كنت “أكتب”، وفي المجال العام الذي ينتسب إليه جوهر حياتي “القصة القصيرة”، وهذا ما كان يعنيني .. هذا ما كان يتيح لي أن أفعل أي شيء.

لكن مع بداية اشتغالي بالصحافة الإقليمية، وجدتني مطالبًا بالعمل في مجالات صحفية أخرى بالإضافة إلى تحرير القسم الأدبي .. عملت في “الحوادث” و”التحقيقات” و”الرياضة” بمزيج من الشغف “حيث كانت الاستجابة لرغبتي القديمة في ممارسة الأشكال المختلفة للعمل الصحفي” كما كتبت في نوفيلا “جرثومة بو”، والحسرة الغاضبة على فترة عملي كمحرر أدبي في جريدة “المساء” والتي أصبحت فردوسًا مفقودًا .. كان وقتًا احتفاليًا لروح المغامر التي خلقتها قراءات الطفولة والصبا والمراهقة، ولكنه أيضًا كان وقتًا مفعمًا بالأسى في مقارنته التي لا تخبو مع المرحلة القاهرية السابقة .. مع ذلك فذروة التجلي لروح المغامر كانت لحظة كتابة المادة الصحفية، لا أثناء العمل الميداني نفسه .. كانت “كتابة” الخبر أو التحقيق أو التغطية، ومع كامل الالتزام بالمعطيات والمعلومات الحقيقية والمؤكدة، تعني إعادة تكوين الحدث الواقعي كما لو أنه صنيعة خيالية بطريقة ما .. تعني أن “أسلوب” السرد يُشكّل حكاية مغايرة لتلك التي جرت فعليًا على نحو مضمر، أي ما يحوّل المادة الصحفية إلى قصة شخصية لكاتبها .. قصة متوارية في عمق الموضوع الصحفي الذي يحمل بالضرورة إيماءاتها وإشاراتها اللغوية، حيث تجد روح المغامر “كاتب القصة القصيرة” مكانها الملائم للعب والمرح.

في عام 1998، وبعد مرحلة من التنقل بين صحف إقليمية عدة قررت إصدار الجريدة التي تحمل اسمي كرئيس تحرير لها .. كنت بالخيال البوليسي للولد الصغير الذي لم يمض وقت طويل على عبوره إلى مرحلة الشباب ما زلت أريد الاستمرار في العمل بالصحافة، وأن أصل بمغامراتي في أشكالها المختلفة إلى أقصى حد ممكن، كما كان الأمر ينطوي بالطبع وبصورة جوهرية على رغبة في تأديب العاملين في الصحافة الإقليمية وتلقين بالوناته الوضيعة دروسًا مجانية في كيفية أن يكونوا صحفيين .. كان إصدار جريدتي الخاصة يعني أن “غريزة” القصة القصيرة في داخلي سوف تحصل على المزيد من الحرية في كتابة الموضوعات الصحفية التي أراها جديرة بذلك، أي أنني سأخلق حكايات أكثر في أغوار المواد الصحفية التي سأختار العمل عليها.

“كنت ذات مساء في زيارة اعتيادية للمحامي محمد شبانة، والذي كنت شبه مقيم بمكتبه في تلك الأيام بعد أن تعرّفت عليه في وقت سابق خلال عملي في أحد التحقيقات الصحفية، وأظن أنه كان الموضوع الذي شاركني أحمد صبري العمل فيه ضد مصطفى السعدني مدير عام الثقافة بالدقهلية في تلك الفترة .. كان شبانة من المحامين المنخرطين في القضايا العامة، والناشطين في مجال حقوق الإنسان، وعلى المستوى الإنساني كان شخصية مهذبة ومحترمة لأبعد الحدود .. أخبرني أن لديه ملفًا خطيرًا عن شاب مصري من أبناء الدقهلية معتقل في المملكة دون جناية، ويلاقي في سجنه تعذيبًا بشعًا .. بالطبع سال لعابي الصحفي على الفور، وطلبت الملف منه، لكنه أخبرني أنه سبق وأخذ موعدًا من جمال فهمي في جريدة “الدستور” لعرض القضية عليه، ومناقشة إمكانية نشرها ثم أعطاني وعدًا بأنه إذا لم يوافق جمال فهمي على تبني الموضوع فسوف يعطيني الملف في الحال .. قلت له أن جمال سيرفض النشر، وأنني سآخذ هذه القضية بعد عودته من اللقاء.

صدق ما توقعته؛ ففي اليوم المتفق عليه ذهبت إلى مكتب شبانة، وأخبرني أن جمال فهمي عرض أن ينشر القصة كاستغاثة أو ما شابه، وأن هذا أقصى ما يمكنه القيام به لأن المملكة ـ بحسب تعبيره ـ خط أحمر .. أخرج شبانة الملف من مكتبه، وعلى وجهه ابتسامة متعجبة من ثقتي في الحصول على القضية التي كانت في محلها.

لم يكن متبقيًا على عيد الأضحى سوى يومين تقريبًا، لذا قررت تكريس أيامه كلها لدراسة ملف منصور عبد الرحيم .. اعتزلت البشرية طوال هذه الأيام الأربعة، ولم أر الشارع خلالها إلا من شباك المكتب الذي كنت أقف فيه لإراحة ذهني أحيانًا، وفي الأغلب للتفكير في معلومات القضية التي أقرأها، والملاحظات التي أدوّنها.

كان الملف مقسّمًا بين الخطابات التي تشغل الحيز الأكبر منه، والرسومات التي ليس هناك تأكيد هل خطّها منصور بنفسه أم بيد أحد آخر، وتصوّر طرق التعذيب التي يتعرّض لها، بالإضافة إلى قصاصات الصحف والمجلات القليلة التي نشرت إشارات تافهة عن الموضوع، والتي يبدو أن ثمة يدًا تساعده في الحصول عليها داخل قبره العسكري .. كانت لكلمات منصور بنية متصدّعة، تشبه تمامًا كتابة طفل لم تتطوّر بعد مهارته في تشكيل الحروف وتوصيلها ببعضها .. كأن كلماته المتكسّرة، والربط العسير، غير العفوي بين حروفها ليست إلا صورة لأصابع منصور المحطمة، التي تم ترميمها باستخفاف .. بالتناقض مع الكلمات كانت الرسومات أكثر انضباطًا، وتتميز بقدر كبير من الإتقان الفني يثير الدهشة عند مقارنتها بالكتابة .. كانت تبدو كأن منصور قد حصل من السجّانين على نسخة من الأشكال التوضيحية التي يتضمنها كتاب التعذيب الذي يسترشدون به ثم قام بوضع ورقة الخطاب الشفافة فوق كل رسم ليتتبع بقلمه الرصاص خطوط الشكل الذي يظهر تحتها .. كانت هناك أيضًا صورة بالأبيض والأسود لمنصور يظهر خلالها شابًا في العشرينيات، غير مبتسم، بشعر كثيف، ولحية خفيفة، كما تخلو الصورة من الإشارة لستوديو التصوير، والتاريخ الدقيق لهذه اللقطة بعكس المعتاد .. كان في الصورة شيء من الغرابة المقلقة، ربما بسبب الأبيض والأسود؛ فهي مع عدم حداثتها مازالت تنتمي للزمن الذي جعلت فيه الألوان هذا النوع من الصور شيئًا نادرًا أو على الأقل غير شائع .. لهذا تبدو الصورة أكثر قدمًا مما قد تكون في الواقع، ويبدو منصور خلالها بعينيه الخاليتين من أي انطباع كأنه شخص عاش في سالف العصر والأوان.

أكثر من مرة وضعت صورة منصور ملاصقة لرسومات التعذيب محاولًا دمج وجهه بالجسد الذي يتم التنكيل به في نسخ مختلفة .. لابد أنها لم تكن المرة الأولى التي أجرّب فيها عملية التركيب بين صورتين سعيًا لخلق صورة ذهنية ثالثة، ولكنني لا أعتقد أنني حصلت على انسجام أكثر إحكامًا من هذه اللحظة .. كان وجه منصور يتوحّد مع كل رسم بتناغم فوري، كأنه جسد مستيقظ، يدرك تناثره، ويتحرك ذاتيًا لاستعادة التلاحم بين أشلائه بمجرد العثور عليها .. بدت ملامحه مع هذا الاكتمال كأنها مرسومة هي الأخرى بالقلم الرصاص، أما خطوط جسده على الورق فكانت تتحوّل إلى جلدٍ عارٍ، تنزف منه الدماء، ويكسو عظامًا مكسورة.

لم يكن في الملف أي ذكر لحياة منصور قبل سفره إلى المملكة إلا تلك المتعلقة بقضيته نفسها؛ فهو حاصل على شهادة الثانوية الصناعية، شعبة ميكانيكا السيارات سنة 1983 من مدرسة المنصورة الصناعية بنين، وهذه البيانات وردت بالمستخرج الرسمي الذي قدمه منصور إلى سفارة المملكة، والصادر من مديرية التربية والتعليم “إدارة شئون الطلاب”.

جميع الخطابات تبدأ من السجن وتنتهي داخله؛ إذ لم يكن هناك أي توضيحات حول ملابسات سفر منصور إلى المملكة، أو عن حياته هناك قبل اعتقاله منذ سبع سنوات .. كان منصور في كل رسالة يخاطب الجميع: إخوته وأقاربه والمسئولين الحكوميين ورؤساء التحرير والصحفيين والإذاعات ورؤساء الأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان وبعض المحامين في المنصورة والقاهرة .. كلها مناشدات بالتدخل لإنقاذه، وتحمل نفس الصيّغ والمعلومات تقريبًا، أما عن طريقة تهريب الرسائل فيرجع الفضل فيها بحسب تأكيد منصور إلى شخص متعاطف معه يُدعى صادق، ويعمل باحثًا اجتماعيًا بالسجن، ويبدو أنه قد ساعده أيضًا في الحصول على عناوين المراسلات، وتزويده بالمعلومات التي لم يكن له أن يعرفها بدونه، وربما كان هو صاحب اليد المجهولة التي رسمت أشكال التعذيب بهذه المهارة .. على هذا بدا كأن “صادق” هو الملاك السري الوحيد في حياة منصور، لكنه بكل تأكيد كان ملاكًا ناقصًا، فالقدرة على إنقاذه من هذا الجحيم كانت معطلة تمامًا.

كانت القضية جاهزة للكتابة والنشر، وكنت أعتبر وقتها أن هناك سبيلين أمامي: إما الكتابة فورًا وفقًا لمعطيات هذا الملف ثم نشر القصة في العدد الأول من “الرأي العربي” الذي كنا نجهّز لإصداره، أو التحرّك للبحث عن المزيد من الحقائق عن منصور سواءً التي تخص حياته قبل السفر إلى المملكة أو بعده .. لم أتردد كثيرًا في حسم الاختيار لصالح الطريق الأول .. كنت أفكر في أنني لا أريد مصادفة معلومات أو أدلة يمكنها أن تفسد الأمر أو تقلل من حدته كما هو عليه الآن، ومثلما أتخيل الطريقة التي ستُكتب بها القصة، والتي قد تتسبب بالطبع في تأجيل النشر، أي الاستمرار في التعتيم على هذه المأساة وقتًا أطول .. أستطيع أن أكتب القصة الآن في إطار الدفاع عن إنسان مغترب، تم اعتقاله دون محاكمة، ويتم تعذيبه بوحشية .. هذا الأساس لا يمكن تهديده مهما كانت الاكتشافات التي قد أعثر عليها فيما بعد، والتي ربما تفكك القضية، وتسحب خيوطها نحو اتجاهات أخرى .. قررت أن النشر لن يمنعني من التحرك في المستقبل سعيًا وراء هذه الحقائق بل على العكس قد يساعدني على الوصول إليها”.

كان العمل في قضية منصور عبد الرحمن الذي أصبح “منصور عبد الرحيم” في نوفيلا “جرثومة بو” يعني التفكير في قصتي الشخصية التي سأكتبها بواسطة هذه القضية .. ليس الموضوع الصحفي الذي سيُنشر في الجريدة، ولكن الحكاية الخيالية الغامضة التي سأمررها بين سطور هذا الموضوع .. الحكاية التي تخصني وأخفيها بعفوية في طيات السرد المعلن لتفاصيل القضية، والذي تحتفظ لغة كتابته بشفرة تلك الحكاية السرية .. كانت روح المغامر “كاتب القصة القصيرة” تجد مكانها الملائم للعب والمرح داخل “الصمت” المبهم، الماكر، المترصد حول كلمات التحقيق الصحفي.

بعد نشر قضية “منصور عبد الرحمن” وما رافق ذلك وتبعه من مغامرات ومطاردات  “بوليسية”؛ اتخذت قرارًا بالتوقف عن العمل الصحفي .. أدركت ـ بغريزة كاتب القصة القصيرة ـ بأنه قد حان الوقت لمغادرة ما هو هامشي والتمركز كليًا في ما هو جوهري “الجرائم التي لا يراها أحد، ولا تخلّف جثثًا أو دماءً، ولا يعاقب عليها قانون، ولا يُعثر لها على قاتل” .. كنت أشعر بأن الصحافة ـ كأي تجربة أخرى ـ كان لها زمن وانتهى بالنسبة لي، وأنه يجدر الآن ـ بالمنطق الأساسي لعالمي السردي الخاص ـ التعايش والاشتباك وتأمل الخبرات التي اغتنمتها منها لكي تتحوّل إلى “كتابة” .. كنت أريد أن أقتحم الغموض الكامن في الموضوع الصحفي الذي كتبته عن منصور عبد الرحمن لكي أكتب قصتي الشخصية من خلال تجسيد ذلك الغموض، بواسطة فك شفرة صمت اللغة التي كتبت بها تحقيق منصور .. كانت كتابة هذه القصة تغنيني عن مواصلة العمل في القضية، التي كانت قد وصلت بالفعل إلى طريق مسدود تمامًا، لا لشيء سوى لأنها لن تكون “قصتي” وحسب ولكنها ستكون بالضرورة قصة منصور أيضًا .. قصته المخبوءة .. القصة التي يجهلها كل “منصور” عن نفسه.

“أجلس وراء المكتب .. أفتح الصفحتين المتقابلتين لقضية منصور بالجريدة .. أقرأ الموضوع مرة تلو الأخرى .. أتأمل صورته .. رسومات التعذيب .. أغلق الجريدة .. أشعر بالخوف، ولكنه ليس الذي يدفعني سريعًا إلى ترك الحجرة والعودة إلى السرير، بل على العكس، فهذه الرجفة التي تسري في جسدي، كأنها حدس مفزع بتجسّد منصور أمامي الآن لا تحرضني على الهروب إلى رفقة النائمين بل على البقاء وحدي .. هناك ما هو أكثر أهمية وإلحاحًا من ظهور شبح منصور استجابة للمنطق الحالي للزمان والمكان، وانعكاسًا لما يحتدم في ذهني الآن .. ماذا لو ظل الأمر غامضًا كما هو؟ .. ماذا لو بقيت المعرفة متعذرة للأبد؟ .. حسنًا .. هناك حكاية واقعية لمنصور، ولأنها خفية تمامًا فهناك سبيل وحيد لاكتشافها .. أن تُكتب .. أستوعب الآن أنني منذ اللحظة الأولى في علاقتي بهذه القضية كنت أجهّز لهذه الضرورة، وأن كل ما حدث خلال الفترة السابقة لم يكن سوى خطوات متدرّجة لتحقيقها .. أخرج الأوراق البيضاء من درج المكتب ثم أبدأ في كتابة القصة الحقيقية لمنصور عبد الرحيم”.

هكذا، وبعد عشرين سنة كاملة، بدأت في كتابة “جرثومة بو”، القصة الحقيقية لـ “منصور عبد الرحيم”.

 

الجمعة، 17 نوفمبر 2023

بانتومايم

لا يزال هناك، بتصفيفة شعره، بنوعية ملابسه، بعينيه اللتين تحدقان داخله أكثر مما تنظر حولها، بالصمت الذي يطغى على أحاديثه مع الآخرين، كأنما يعيش حذرًا دائمًا، أو كأنه ليس الوقت والمكان الملائمين له، أو البشر الذين يجب أن يتكلم معهم . لا يزال عالقًا في تلك السنوات البعيدة، داخل المدينة التي هجرته.

كقارئ قديم للقصة القصيرة؛ يتصوّر نفسه أحيانًا العجوز الذي كان يربي الحيوانات في قصة همنجواي “رجل عجوز على الجسر”؛ لا يستطيع البقاء في مكانه أو العودة لبلدته أو الهروب منها لأي مكان آخر. لكنه يفكر في أن تجواله اليومي هو ما يشيّد الجسر الذي لا يستطيع عبوره.

يجلس في المقاهي القديمة، يقف أمام فاترينات المحلات التي لم تعد مزدحمة، يتناول طعامه داخل مطاعم أصبحت خالية تقريبًا من الزبائن. يقول في نفسه: “في هذا المقهى الذي يقع وراء سنترال شارع البحر كان يعمل “سعيد” الجرسون الريفي العجوز؛ صعد سلالم منزله آخر الليل وهو يغني كعادته “راحوا الحبايب” لعدوية، ثم تناول عشاءه ونام ولم يستيقظ أبدًا .. وراء ماكينة النقود في محل الملابس هذا كانت تجلس “رحاب”، الشابة البيضاء الجميلة، التي كنت أتبعها كل يوم من أمام بيتها في ميدان “الشيخ حسنين” إلى أن تصل إلى المحل في “السكة الجديدة” دون حتى أن أفكر في التحدث معها، بينما كانت تكتفي هي بالنظر لي بابتسامة لا تخلو من تهكم .. على طاولة داخل كازينو “منيرفا” المندثر من هذه البقعة على النيل؛ تجرّأت في مساء ما، وسألت نادلة ودودة لا أعرف اسمها عن أحوالها، ثم اكتشفت بعد دقائق أنها لم ترد تحيتي إلا لأنها تعشمت في صلتي بشخصية ذات سلطة، تمنع عنها مضايقات ضابط “آداب” يريدها أن تعمل في “الحرام” لكي توفر له القضايا”. ضحك بداخله وهو يفكر في أن الصلة الوحيدة الممكنة التي قد تربطه بشخصية ذات سلطة ستكون هي نفسها التي جمعت بين الموظف والجنرال في قصة تشيخوف “وفاة موظف”.

يتذكر أنه خلال ذلك الزمن المتبدد كان يقول دائمًا إن ميزة المدن الصغيرة أن أهلها إما أصدقاء بالمعرفة الشخصية، أو بالاسم، أو بالملامح، أو بالانطباعات المألوفة. الآن يردد نفس الكلمات أثناء تطوّحه البطيء في الشوارع، ولكنه يضيف إليها في النهاية: “وربما ذلك هو أتعس ما في هذه المدن”.

من السهل استنتاج محتويات أوراقه المتناثرة ودفاتره المتراكمة من عُمر الصبا وحتى الآن، الراقدة في ظلام بيته. مخططاته السرية الفائضة بالأسماء والأماكن والملاحظات والدوائر والأسهم والخطوط العنيفة المرتبكة والمتشابكة. من السهل استنتاج منظره جالسًا وحده كل مساء أمام شباك مغلق، كأنه صورة رجل رُسِمَت بيدٍ مكسورة. حدث كل شيء سريعًا جدًا كلحظة خاطفة، لم يشارك فيها أو ينتبه لها أو يفهمها. هكذا يصف الماضي من قاع انطوائه. عمره كله أشبه بمتشرد أعمى، يدور يوميًا حول زحام متعاقب ومتغيّر، ثم يعود منكمشًا كحصيلة ثقيلة من المهانات، يعزل جثته وراء باب لا يُفتح إلا عند دخوله وخروجه، حيث لا يدري أحد عنه شيئًا، ثم يمسك بالقلم، ويتحرك به فوق تلك الأوراق بتجهم حائر؛ فيضيف “شخبطة” جديدة ويسميها “احتمالًا”. كأنه يدوّن طرقًا مفتتة لتصحيح كل شيء قبل النهاية. استدراك، انتقام، استيعاب، امتلاك، هيمنة. الأحياء والموتى. ما وراء (يحكم) كل زمان ومكان. الحنين بالنسبة له يعني تصفية الحساب الشاملة مع ما كان يعتبره جمالًا قديمًا لم يقبض عليه مطلقًا.

يتخيل ابن صاحب كشك السجائر المقابل لمحطة القطار، والذي يجلس داخله محل أبيه الميت؛ يتخيله يقول له وهو يعطيه علبة السجائر: “كل ذكرى نقية هي حبيبة مُعذِبة، لا تبالي باحتضارك، وستكون أبعد ما تكون عنك لحظة نهايتك”.

المتسوّلة العجوز، الجالسة على ناصية شارع بنك مصر، وكانت قبل أربعين عامًا راقصة فاتنة، استمتع بمشاهدتها في الأفراح التي كان يتسلل إليها طفلًا في “سيدي عبد القادر” و”الحسينية”، و”عزبة عقل”؛ يتخيلها تستوقفه أثناء مروره أمامها وتقول له: “الذكريات الصافية أنانية بغير تراجع، متجذرة في ذاتها، لا يمكن أن تتفاوض معك حول شيء من التسامح. هي تمضغك فحسب بفمها الزهري الشاسع دون حد، بنعومتها الوحشية التي تستولي على رجاءاتك بشكل خالص وبلا ثمن”.

يصادف زميل دراسة قديم في “النادي اليوناني”، يتأمل شعره الأبيض وتجاعيده المحفورة في وجهه الكامد، وبصوت مهترئ يتخيله يقول له: “لماذا لا تصدق هذا؟ لماذا يسجنك كل هذا الغضب؟ لا شيء قابل للمناقشة وأنت تعرف هذا. أنت وحدك. تتذكر وحدك. الوحدة تتذكرك في حياة سابقة فيتفاقم مرضك. سعادتك كلما حلمت بالماضي تتمادى في قتلك. أنت لا تتذكر. أنت تنتحر، ولك كل الحق في هذا”.

مؤخرًا أصبح يسير في الشوارع بعينين ذاهلتين، تحدقان في فراغ ما بين السماء والأرض، وبفم لاهث نصف مفتوح، وبذراعين مرفوعتين، كأنهما تتأهبان لصد أو تفادي شيء خفي على وشك الوقوع من علوٍ شاهق. لم يكن يعرف كيف يتوقف عن المشي بهذه الطريقة، أو تفسيرها لمن يسأله عن سرها. شعر بأنه هكذا أقرب ما يكون لـ “أكاكي أكاكيفيتش”؛ النسّاخ الذي سُرق منه معطفه في قصة “غوغول”. لم يكن متحمسًا كثيرًا للتخلص من هذه الصورة التي تحتجز خطواته بين الناس الساخرين من غرابتها. فكّر في أن أحدهم يمكن لهذا أن يقترح عليه ذات يوم العمل كفنان بانتومايم. حسنًا؛ ستكون فكرة جيدة، خصوصًا أن ذلك في الواقع كل ما كان يفعله طوال حياته مجانًا.

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2023

العالم المكتوب: تاريخ التمرد

في كتابه "العالم المكتوب" الصادر عن دار أثر بترجمة نوف الميموني؛ يخوض الكاتب الإنجليزي مارتن بوكنر رحلات شيقة عبر ستة عشر عملًا أو ما يعتبرها النصوص التأسيسية التي كان لها دور في تشكيل تاريخ العالم من الإلياذة وحتى هاري بوتر مرورًا بحكاية جينجي ودون كيشوت والبيان الشيوعي. الرحلات التي ـ بحسب مقدمة الكتاب ـ تنقل تجربة كاتبها برواية قصة الأدب، وكيف حوّل الأدب الأرض إلى عالم مكتوب.

ما يعمّق من أهمية الكتاب هو اقتفاء أثر مسارات التدوين والطباعة والتداول والقراءة التي اختبرتها الكتابة عبر الزمن، فضلًا بالتأكيد عن المعاينات الواقعية لبلدان وأماكن النصوص التي قام بها الكاتب وساهم حضورها داخل البنية التأريخية للكتاب في إكسابه مذاقًا حميميًا مميزًا؛ حتى أنه ربما ينتاب قارئ ما شعورًا بأن ما كان ينقص مارتن بوكنر أن يسافر في رحلة دوران حول القمر على متن مركبة كـ "أبولو 8" والتي استشهد في مقدمة كتابه بمناورتها الشهيرة عام 1968، وتحديدًا بالاقتباسات "الأدبية" التي تضمنتها هذه الرحلة من قِبل روادها الثلاثة في وصف كل منهم للقمر والكرة الأرضية والفضاء، وعلى الأخص الرسالة التي بعثوا بها إلى شعوب الأرض من سفر التكوين:

"في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغَمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله: "ليكن نور"، فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة. ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلًا. وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا. وقال الله: "ليكن جَلَد في وسط المياه. وليكن فاصلًا بين مياه ومياه". فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك. ودعا الله الجلد سماء. وكان مساء وكان صباح يومًا ثانيًا. وقال الله: "لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة". وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضًا، ومجتمع المياه دعاه بحارًا. ورأى الله ذلك أنه حسن".

يرى مارتن بوكنر أن أبولو 8 تعطي درسًا في قوة تأثير النصوص التأسيسية مثل الإنجيل، ليس هذا وحسب، بل إن المهمة التي قامت بها هذه المركبة بوصفها معركة من معارك الحرب الباردة؛ كانت بالضرورة من ضمن نطاق الحرب بين النصوص التأسيسية. بين آيات الإنجيل التي قرأها الرواد الأمريكيون، والبيان الشيوعي الذي يشكل أفكار رائد الفضاء الروسي يوري غاغارين، أول رجل يجول في الفضاء الخارجي، والتي عبّر عنها بعد عودته إلى الأرض.

"لم يولد الأدب إلا عندما تقاطعت رواية القصص مع الكتابة، ففي السابق كانت رواية القصص منحصرة في الثقافات الشفهية، ولها قواعد وأغراض مختلفة، ولكن عندما ارتبطت رواية القصص بالكتابة بزغ الأدب مشكّلًا قوة جديدة. وكل ما تلا ذلك، أي تاريخ الأدب بأكمله، بدأ منذ لحظة التقاطع هذه، وهذا يعني أنني إذا أردت أن أحكي حكاية الأدب فعليّ أن أركز على الاثنين؛ رواية القصص وتطوّر تقنيات الكتابة المبتكرة، مثل الحروف الأبجدية والورق والكتاب والطباعة".

بصرف النظر عن التحديدات التاريخية والاكتشافات الأثرية التي يعتمد عليها الكتاب؛ فإنني أفكر في أن "تدوين القصص" هو كفاح مرتبط بالوجود الإنساني، وما الكتابة إلا نتيجة هذه المجاهدة العفوية التي سبقت البداية المفترضة للتدوين، وتمثل العمر البشري نفسه على الأرض. بدأت الكتابة مع النظر والصمت والحركة والتفوّه ومخاطبة النفس والآخر والمجهول، أي مع اكتشاف الحاجة إلى تمرير التفاصيل المؤقتة التي تشكل حياة الإنسان إلى المطلق. إلى الإبقاء على "حكايته" خارج الزمن كمقاومة للفناء المحتوم وبمختلف السبل الممكنة للحواس. هذا السعي الأزلي، ولكونه قائمًا على إدراك الطبيعة البشرية الناقصة والزائلة فإنه محكوم بغريزة الرفض والعصيان والثأر، والتي تتجسد في مظاهر لا نهائية، تتنكر أحيانًا في عكس ما يكمن وراءها ويقودها، ودون وعي بتلك المواراة التي تفرضها كل آليات التسلط. "الكتابة" إذن تمثل خطوة منطقية في مسيرة التمرد الإنساني هذه، بجعل الخطاب الفردي "الانعزالي" الموجّه للمطلق، وعبر الآخر، يتحوّل إلى "رسالة" موثقة عابرة للزمن، أي أن تتمثل "القصة" في نطاق "مجسّم" يساعدها على مراوغة المحو والتبدد، بما يعني تزايد احتمالات الحصول على أثر غيبي ما.

"كان الكهنة الهنود يأبون تدوين القصص المقدسة خشية فقدان سيطرتهم عليها، وكذلك فعل شعراء غرب أفريقيا الذين عاشوا بعدهم بألفي عام في الجهة المقابلة من الكرة الأرضية. أما الكتبة المصريون فتقبّلوا الكتابة، ولكن حاولوا إبقاءها سرًا أملًا في احتكار قوة الأدب لأنفسهم. وقادة ذوو نفوذ وشهرة مثل سقراط رفضوا التدوين وثاروا على مبدأ سيطرة النصوص التأسيسية وعلى تقنيات الكتابة التي حوّلتها إلى حقيقة".

لكنه ليس مجرد تدوين؛ فالكتابة ـ امتثالًا للفكر الذي نتجت عنه ـ هي مطاردة للإيهام المستقر في ما يُحكى استغلالًا للحضور الحسي "المتناسخ" للكلمات، أي عبر الوجود المتعيّن للقصة وليس عبر أصوات الحكائين المتراوحة بين الغياب والاستعادة. هذا الوجود المتعيّن أراد تحويل القصة من "صراخ شفاهي، سلبت فرديته ونذر للضياع والتبدل" إلى "سردية متجذرة" استنادًا إلى "الذاكرة" الناجمة عن التدوين؛ فالكتابة تتيح للحكاية أن تكشف وتوحي بماضيها الخفي، الأفكار والتغيرات والإزاحات التي تعاقبت على إنتاجها، وبالضرورة أيضًا تتيح لها حيازة الإمكانيات غير المحدودة لمراجعتها وإعادة خلقها خارج الطمس الماثل في صيرورة التداول بين الحفظة ووارثيهم. تجريد القصة من البُعد "الصوت" البشري المقيّد، من خضوعها للألسنة التي لا تحميها من النسيان، من الانتقاء والإهمال والاستبعاد. حوّلت الكتابة قصة الإنسان إلى سردية حينما أبقت على استقلاليتها خارج الولادة العابرة والحياة المؤقتة والموت الحتمي.  

"وبالاستفادة من تجارب المصريين السابقة أدرك الفينيقيون أن مكمن القوة في هذه الأنظمة الكتابية هو نفسه موطن ضعفها؛ إذ ظلت الرموز مرتبطة بمبدأ تمثيلها الشكلي للمعاني فسوف يكون عددها لا متناهيًا، فخرجوا بحل مختلف جذريًا: يجب أن تُفصل الكتابة عن عالم الأشياء والمعاني، فتمثّل اللغة نفسها فقط، وتحديدًا أصواتها، فكان كل رمز يمثّل صوتًا، ومن ثمّ يمكن جمع الرموز لتأليف كلمات ذات معنى".

كان الاعتماد على أصوات اللغة المنطوقة بالتحديد كاشفًا لدور الكتابة في مواجهة الصمت الغيبي، وهو ما سيصبح أكثر وضوحًا مع الطباعة والتداول، حيث يتجلى ذلك الاحتياج لأن يكون المكتوب أكثر من نفسه، أن يتعدد دون حد، يتجاوز المعنى المباشر، والدلالة المستقرة، وكأن كل نسخة هي احتمال جديد لهذا التخطي لما يمكن أن يُعد أصلًا للحكاية، وذلك ما تحقق بالفعل مع الولادات المستمرة لنسخ مختلفة من القصص. هذا ما يذكر بأهمية "التدوين" وضرورته؛ كيف كان يمكن أن يتحقق هذا التجاوز والتعدد لو لم يكن هناك نص مستقل، لا يرضخ لأهواء الكلام، وغير مرهون بوعي الذين يتبادلونه أو بالأحوال القدرية التي تحكم ذلك التبادل في فضاء مُهدِر.

"وإن كان من الصعوبة التخلي عن الترميز للأشياء والمعاني في الكتابة فإن لها ميزة عظيمة؛ فقد قل عدد الرموز من المئات أو الآلاف إلى عشرات قليلة، فصارت القراءة والكتابة يسيرة أيما يسر، وارتبطت الكتابة ارتباطًا وثيقًا بالكلام المنطوق".

ذلك ما يفسر بالطبع رفض الكهنة الذين أشار لهم مارتن بوكنر للتدوين، وكذلك شعراء غرب أفريقيا ورغبة الكتبة المصريين في احتكار الكتابة سرًا، وهذه مجرد أمثلة، ذلك لأن التدوين يقف أمام هذه السيطرة الشفاهية على الحكايات بواسطة التحولات التغييبية عبر الزمن لمتونها، أي ما يعطيها بصورة جوهرية القدرة على أن تكون سلطة في أيدي الرواة "الرسميين".

"بل إنه في إحدى الأحداث الدرامية المذكورة في الكتاب المقدس (التناخ) يتصوّر الكتبة المنفيون ربهم كاتبًا. فالرب يستدعي أولًا موسى ليملي عليه الشرائع التي يريد للشعب المختار أن يتبعها. يكتب موسى كل كلمة بدقة، ويوصل الرسالة للناس. وهذا موقف كتابي مألوف: سيد ذو سلطة يملي كلمات على كاتب. ثم دون أي توضيح يعدل الرب عن ذلك ويقرر أن يلقي كلمته بلا كاتب. وبدلًا من أن يملي على موسى يعطه ألواحًا من حجر تحمل كلمات منقوشة، نقشتها إصبع الرب. ولم يكن من المستغرب أن يرغب إله في أن يكتب بيده، فقد عبد سكان بلاد الرافدين الإله نابو من ضمن آلهتهم الكثيرة، وكان نابو إله الكتبة. وما كان مسغربًا هو أن بني يهوذا قد جمعوا الكينونة الإلهية كلها في إله واحد، ومع هذا أرادوا أن يجعلوا هذا الإله كاتبًا".

خلق الكاتب المطلق على صورته، كأنه يفصل أصله الغيبي عن بشريته "الكاتبة" لكي يعيد ذلك المطلق "المخلوق" إلى الكاتب "كونيته المستلبة والعصية"، باعتبار أن "المطلق" هو مصدر الكتابة، أي مصدر العالم، وذلك ما يجعل هذا الخلق "المضاد" انتقامًا من السر الماورائي، لأن الإنسان "الكاتب" بهذه الطريقة يسعى لإيجاد سرديته الحصينة التي قد تزيح قدره البشري. ذلك الانتقام "الغريزي" قائم على شكل من الترويض والكبت للغضب الوجودي، بتقمص سيادة هذه السردية التي تم نسبها للمطلق، التوحد مع مشيئتها المجردة، الثواب والعقاب، الجزاء الأخروي إلخ. بهذا فإن الكاتب لا يقدم ولاءه ويثبت إذعانه لقوة خارجية، منفصلة ومستقلة، غير مشروطة بالعالم، ولكنه يفعل ذلك تجاه نسخته الكونية "الموروثة" التي تعاقبت جماعات أسلافه على "كتابتها" أي تكوينها وتعديلها، وكان عليه أن يكتسب ملامحه الخاصة من خلال "سردياتها" بواسطة ذلك الوسيط القهري المخاتل وهو "الإيمان".

"هذا المشهد كله هو كابوس أي كاتب. فُرض أولًا على الكاتب أن يملي عليه الرب كلماته، ثم تُسلم إليه الألواح بعد اكتمالها، ثم تسلم إليه الألواح البديلة، ثم أخيرًا يجد نفسه مضطرًا إلى كتابة ما يُملى عليه مرة أخرى. ولا ريب أن الدقة ضرورية هنا، فأي خطأ سيكون حتمًا مميتًا، جالبًا غضب هذا الرب الذي هو نفسه كاتب محنك. استعان الكتبة المنفيون الذين حفظوا هذه الحادثة كتابة ونمقوها بكل طاقاتهم التخيلية لابتكار دراما من رحم عملية الكتابة، ليوضحوا مدى التعقيد والتشديد الذي يحيط بالكتابة، كيف لا وهي هنا طريقة التواصل مع الرب ذاته".

لنراجع نماذج من النصوص التي قام مارتن بوكنر في "العالم المكتوب" بتحليلها: الإسكندر الأكبر أراد أن يكون آخيل الغاضب والمنتقم في "إلياذة" هوميروس، الملك جلجامش يصارع الآلهة من خلال غريم وحشي ثم يضطر في نهاية الملحمة القبول بفنائه كإنسان، عزرا أحد كتبة بني يهوذا يعيد نسخ و"نسج" قصص أسلافه كشرائع يحتل منزلة أساسية فيها غضب موسى وكسره للألواح الحجرية التي نقشتها يد الرب وإعادة كتابته لوصاياها بنفسه، شهريار ينتقم من النساء بقتلهن قبل أن تبدأ شهرزاد في رواية قصص "ألف ليلة وليلة".

"إن نزوع الإنسان إلى رواية القصص، ووضع الأحداث في تسلسل واضح، وعقد حبكات ثم تصعيدها ومحاولة حلها تكاد تكون غريزة بيولوجية متأصلة في جنسنا. نحن منقادون إلى ربط الأمور، من أ إلى ب، ثم من ب إلى ج، وأثناء هذه العملية تراودنا أفكار عن كيفية الوصول من نقطة إلى نقطة أخرى، وما الذي يحرّك القصة إلى الأمام، وما إذا كانت الإجابة قدرًا كونيًا أم حظًا أم دوافع اجتماعية أم إرادة البطل. وغالبًا ما تضمر الشخصيات سرًا لا يمكن البوح به، ومع ذلك فإننا لا نطيق صبرًا لمعرفته، وبحكم قانون رواية القصص فإن السر يخرج منهم عنوة، حتى لو كان ذلك لإرضاء فضول الملك وفضولنا. بغض النظر عن ماهية الدوافع التي تقود أولئك الأبطال فإننا نتابع مسيرهم في الظروف المعادية أو الملائمة، حتى نفاجأ أن الراوي خلق لنا عالمًا متكاملًا".

هذه النصوص التي يعتبرها مارتن بوكنر "تأسيسية" تُشكل وتؤكد تاريخ التمرد المُسمّى بالكتابة، الذي لا يبدأ بالتدوين "قصة الأدب"، ولا ينتهي بإعادة النَسخ، وباعثه الجوهري هو رفض الصفة الإنسانية، عصيان الحتمية البشرية، الثأر من "المطلق" الذي حرمه من امتلاك قدر إلهي، ولهذا سنجد دائمًا حكاية قائمة على الغضب والصراع مع "الكوني" والانتقام مما يمكن أن يمثل عقبة أمام التحرر من الحياة والموت .. التمرد الذي يمكنه أن يتجسد في صور وأشكال مناقضة لطبيعته، ولكنها لا تمحوه لأنه غريزة وجود، بل تبقيه كامنًا، نشطًا، وقائدًا للذات عبر أقنعة وضلالات.

أخبار الأدب

4 نوفمبر 2023