الاثنين، 31 أغسطس 2015

فضيلة الزمن الشخصي

في قصة (ديمتريو) لـ (خوليو رامون ريبيرو)، ترجمة (نادية جمال الدين) يتحدث (ماريوس كارلن) عن صديقه الروائي (ديمتريو فان فاجن) الذي ترك يوميات تُنسب للسنوات الثماني التالية لموته .. قال (ماريوس) أن (ديمتريو) توفى بطريقة غامضة في حانة، وأنه تتبع التواريخ المستقبلية المُدونة بدقة في المذكرات للتأكد من صحة أحداثها وفقاُ لـ (ديمتريو) فاكتشف أنه لم يخطىء أبداً...
(عند ذلك ازدادت حيرتي، كما أن النتائج التي أمكنني استخلاصها كانت قليلة. فواضح أن ديميتريو قد توفى في 2 يناير عام 1945 ولكن المؤكد أيضا أنه في عام 1948 حضر مراسم دفن ارنستو بانكلوس وأنه في عام 1949 كان بالمتحف الوطني بأوسلو، وفي عام 1951 تعرف على ماريون في فريمان ورزق منها بطفل. لقد تم التحقق من كل ذلك بالفعل).
ثم نقرأ تفسير (ماريوس كارلن) للنتائج التي أسفرت عنها تحرياته:
(إن دوامنا الداخلي لا يمكن تعريفه ولا قياسه ولا تأجيله. فمن السهل أن نعيش أياما في دقائق والعكس، دقائق في أسابيع. فكما هو معلوم أن حالات ظواهر التنويم المغناطيسي كثيرة أو حالات شدة الإثارة أو النشوة التي يسببها الحب أو الخوف أو الموسيقي أو الحمى أو المخدر أو التدين الشديد، ولكن ما لا أستطيع إدراكه هو كيف ينتقل هذا الدوام الداخلي إلي حيز الفعل، وكيف يتوافق زمن كل فرد منا مع الزمن الشمسي؟ إن التفكير في أكثر من شيء خلال الثانية الواحدة أمر معتاد ولكن الأكثر تعقيدا هو القيام بذلك في المدة نفسها.
والمؤكد أن ديمتريو فان فاجن قد قام بأشياء كثيرة خلال زمنه الشخصي، وهي أشياء لم تتم في الزمن الحقيقي إلا فيما بعد. كما أن هناك أشياء كثيرة فعلها وما زالت لم تتحقق بعد. فنجده مثلا يصف في العام 1954 رحلة إلى الهيمالايا يفقد خلالها أذنه اليسرى نتيجة التجمد. أو دون أن نبتعد كثيرا، يشير إلى اليوم وهو العاشر من نوفمبر من عام 1953 إلى قيامه بزيارة لبيتي. وهو ما لم يحدث بالطبع لا في زمني ولا في الزمن الشمسي. ولكن اليوم لم ينته بعد وكل شيء محتمل الحدوث. فهو لم يحدد في يومياته الساعة، كما أنها لم تشر بعد إلى الثانية عشرة ليلا. أو لعله قد أجل الزيارة دون تدوين هذا في يومياته.
مازالت هناك دقيقة باقية. أقر بالشعور بنفاذ صبري بعض الشيء حتى أن ربع الساعة الشمسي الذي استغرقته كتابة هذه الصفحات قد بدا لي طويلا بلا حدود. ولكن لا يمكنني بالطبع أن أخطىء، فأحد ما يصعد الدرج. خطوات تقترب. ساعتي تشير إلى الثانية عشرة ليلا. طرق على الباب. إنه ديميتريو، هنا).
إن ما يحكم القصة في اعتقادي ليست علاقة الروائي الميت بيومياته مثلما يبدو للوهلة الأولي بل ما تمثله تلك اليوميات لصديق الراوي الذي يحاول تفسيرها .. كأن (ماريوس كارلن) يستخدم المذكرات المستقبلية التي تركها صديقه (ديمتريو فان فاجن) للإشارة إلى أرق ذاتي بتغييب الموت .. إن اليوميات تضمن للراوي البقاء حياً على الأقل حتى زيارة الروائي الميت إلى بيته، وبذلك فإن القصة يتركز همها الأساسي على هاجس الخلود عند الصديق، أو سعادة الحصول على تأكيد ـ حتي لو كان قائماً على أدلة غامضة ـ لاستمرار وجوده في العالم إلى وقت معلوم .. في ضوء ما سبق سيتحوّل اللقاء في نهاية القصة بين (ماريوس كارلن) و(ديمتريو فان فاجن) إلى معجزة خلاص حقيقية تضع حداً للموت، فهي لا تثبت فقط وضعيتك ككائن على قيد الحياة في تلك اللحظة بل تجعل من إمكانية مواصلة الحياة ـ فعلياً ـ بعد وفاتك شيئاً عادياً يمكن تحقيقه .. لكن على جانب آخر فإن محاولة صديق الروائي تفسير صحة المذكرات المستقبلية، وإرجاعها إلى سهولة أن نعيش أياماً في دقائق، ودقائق في أسابيع، وأن (ديمتريو) قد قام بأشياء كثيرة في الزمن الشخصي لم تتم في الزمن الحقيقي إلا فيما بعد بكيفية مجهولة؛ في محاولة التفسير هذه إلهام يتجاوز الروائي الميت وصديقه، واليوميات .. إنها تحريض على التمعّن في الوجهين النمطيين للحياة والموت بصورة عكسية .. ما يبدو أنه كان ـ ظاهرياً ـ الحياة هو في الواقع لم يكن سوى الموت، أما (الخيال) فهو الجزء الحي الوحيد في هذا الموت .. الجزء الخالد، الذي ـ ربما كنوع من التحرر ـ يتحوّل إلى واقع أبدي حين ينقلب الموت إلى حياة غائبة عن العالم .. لقاء (ديمتريو) هو إذن وصول أمنية (ماريوس) في التعرّف على الحياة الحقيقية إلى حيز التنفيذ.

نُشرت هذه القصة ضمن مجموعة (يوم مثالي لمشاهدة الكنجارو) الصادرة عن سلسلة (كتاب العربي)، وهي مجموعة مميزة أنصح بقراءتها.
تحميل المجموعة


الأحد، 30 أغسطس 2015

الكولاج اللازمني

ربما كانت لقصة (رجل عجوز على الجسر) حكاية أصلية حدثت في الواقع بنفس الترتيب الذي انتظم في القصة: أثناء أداء (إرنست همنجواي) لعمله كمراسل حربي لـ (اتحاد صحف أمريكا الشمالية) في الحرب الأسبانية، وبينما كان يتابع دبابات الجمهوريين ومشاتهم كجزء من مهمته في الإعداد لفيلم (الأرض الاسبانية ) بالاشتراك مع (جون دوس باسوس) قابل العجوز الذي كان يعتني بالحيوانات عند الجسر، وأجبر على تركها بسبب القصف المدفعي، ثم دار بينهما الحوار الذي انتهى بجلوس العجوز فوق التراب دون أن يعرف إلى أين يذهب، حيث حقيقة كون القطط تستطيع العناية بنفسها هي كل ما تبقى عنده من حظ حسن.
لكن ماذا لو أن (همنجواي) في الواقع قد رأى العجوز المتعب جالساً فقط في هذا المكان، ولم يحدث بينهما أي حوار؟ .. ماذا لو أن حديثاً دار بينهما لم يأت فيه أي ذكر للحيوانات؟ .. ماذا لو لم يكن العجوز جالساً أصلاً، ولم يكن بمفرده بل كان يعبر الجسر مثقلاً بآلامه وسط عائلته؟ .. هذه الفرضيات تقودنا لتصور أن (همنجواي) ربما رصد رعباً ممتزجاً بالحسرة في عيني العجوز وهو يغادر بلدته، وأن هذه الملاحظة هي ما دفعته لتضمين المشاهد اللائقة المختزنة في الماضي داخل تلك الغنيمة بعد ابقاء العجوز وحيداً أو عزله ذهنياً عن عائلته .. ربما رأى (همنجواي) عنزة في مشهد آخر، وشاهد أيضاً حماماً يطير في وقت سابق لهذه اللحظة، فضلاً عن كونه مغرماً بالقطط، وهذا ما أدى به لتحويل العجوز إلى راعٍ للحيوانات .. قد يكون وجود العجوز في هذا المكان، وبهذه الحالة حافزاً بديهياً لخيال (همنجواي) لاستدعاء تلك الخامات البصرية من الذاكرة، وزرعها بشكل تلقائي داخل الفراغات المختبئة لهذه اللقطة الملائمة، والتي عثر عليها عند رؤيته للعجوز.
الآن دعونا نفكر: لو أراد (همنجواي) للقصة أن تتخذ نسقاً مضاداً لما يبدو أنه نوع من العاطفة المألوفة الكامنة في التواجه المتوقع بين الضعف والمسالمة (العجوز وحيواناته التي أجبر على التخلي عنها) ووحشية الحرب؛ أي مشهد في حياته كان بالإمكان أن يستخرجه ليشيّد التحامه مع صورة العجوز مفارقة صادمة، تتخطى تأثيرات التناغم الشكلي، ويعتمد توترها على الغياب الظاهري للمنطق؟ .. قد يمثل انتحار والد (همنجواي) إجابة ملهمة لهذا التساؤل خاصة لو تم استحضاره كمادة شبحية مغلفة بهواجس (همنجواي) عن مجابهة الموت وترويضه وقبوله كجزء من دورة الحياة .. الصراع بين الخجل المرير الذي كان يشعر به إزاء انتحار أبيه، ومصافحة الموت بالاندفاع نحو أكثر احتمالاته قوة، والتوحد مع كابوس الإنهاء الحتمي للحياة بطريقة ما كآخر ما يمكن للأسطورة الشخصية أن تقدمه كدليل على الكرامة أمام حصانة الفناء .. يمكن باتباع هذا المسار أن يتكلم العجوز في قصة (رجل عجوز على الجسر) على النحو التالي:
(كنت أنتظر أبي حتى يأتي، ويطلق النار على جبهتي .. لقد بقيت في البلدة منتظراً أن يحضر ومعه مسدسه المحتفظ به من أسلحة الحرب الأهلية .. الآن أنا مجبر على ترك المدينة قبل وصوله .. لا أعرف ماذا سيحدث لو أتى ولم يجدني .. الكابتن طلب مني المغادرة بسبب القصف .. ليس لدي موقف سياسي، لكنني أتساءل كيف سيعثر عليّ أبي لو مشيت في هذا الطريق حيث تمضي الشاحنات .. أنا فقط كنت أنتظر أبي حتى يطلق النار على جبهتي، ومع ذلك ربما يستطيع الوصول إليّ رغم كل شيء).
هل عجوز مثله لازال أبوه على قيد الحياة أم أنه يتوهم ذلك؟ .. ما معنى أن ينتظره حتى يطلق النار على جبهته؟ .. ما علاقة هذا بالحرب الأسبانية؟ .. استفهامات متناسلة تتدافع من غرابة الحالة التي تمتلك منطقها الخاص عند (همنجواي)، ولديها من المبررات ما يجعل من عجائبيتها حقلاً مغرياً للخطو داخل اشتباكاته المربكة .. هكذا كان يمكن لـ (همنجواي) توظيف عنف هذا الأثر الواقعي من حياته الشخصية في ممارسة الطيش القصصي لو أراد لقصة (رجل عجوز على الجسر) أن تتخلى عن الرمزية الشائعة (الحرب كاختزال للعالم الذي يسحق الضعفاء دون ذنب، ويجبرهم على التخلي عما كانوا يعتنون به).
الآن .. لو أراد (همنجواي) للقصة أن تتخذ نسقاً مضاداً آخر، ولكنه هذه المرة متسماً بالروح الهزلية؛ أي مشهد في حياته كان بالإمكان أن يستخرجه ليشيّد التحامه مع صورة العجوز مفارقة صادمة، كوميدية، محكومة بالرغبة في حفر بصمة هازئة .. لنفكر جيداً في هذا المشهد عن روايته (حب في الظهيرة): (انفجر "همنجواي" غاضباً بسبب العروض التي نشرت عن روايته، وعندما قال "ايستمان" أن أسلوب "همنجواي" الأدبي كان مثل "شعر زائف على الصدر" قال "همنجواي" أنه خنزير وخائن وعاجز ويغار من رجل حقيقي يستطيع تأديب أي واحد منهم وأن يؤلف أيضاً، وقال أنه سيسحق "ايستمان" يوماً ما. وسنحت له الفرصة أخيراً في مكتب "ماكس بيركنز" حيث وجد "ماكس" يتشاور مع رئيس التحرير بشأن كتابه الجديد، ورضى "همنجواي" في البداية أن يقارن صدره كث الشعر بصدر "ايستمان" الخالي من الشعر).
على أساس هذه الذكرى لدى (همنجواي) كان يمكن أن يتكلم العجوز في قصة (رجل عجوز على الجسر) على النحو التالي:
(كنت انتظر أحد الخنازير الذي أرسل لي كي يتحداني بأن شعر صدره أغزر من شعر صدري .. لقد بقيت في البلدة منتظراً أن يحضر لأهزمه في هذا الرهان .. الآن أنا مجبر على ترك المدينة قبل وصوله .. بالتأكيد سيعتقد أنني هربت من مواجهته لو أتى ولم يجدني .. الكابتن طلب مني المغادرة بسبب القصف .. ليس لدي موقف سياسي، لكنني أتساءل كيف يمكنني مقابلة هذا العاجز وتأديبه لو مشيت في هذا الطريق حيث تمضي الشاحنات .. أنا فقط كنت أنتظر أحد الخنازير كي أثبت له أن شعر صدري أغزر من شعر صدره، ومع ذلك ربما ينجح أي منا في العثور على الآخر رغم كل شيء). 
هل يُعقل أن تنحصر ضروة وجود العجوز بالبلدة في انتظار شخص أرسل له تحدياً على غزارة شعر الصدر؟ وأن تقتصر حسرته لمغادرة المدينة على فشل عقد المواجهة والفوز بالرهان؟ .. أي بشر يتنافسون في هذا الأمر؟ .. كيف يمكن التفكير والانشغال بهذا النوع من التحديات أثناء الحرب؟ .. تساؤلات متصاعدة، تحتدم من جنون الموقف الذي لا تعوزه المعقولية عند (همنجواي)، ولديه من التعليلات ما يجعل من هذيانه فضاءً داعياً للتورط في التباساته المتهكمة .. هكذا كان يمكن لـ (همنجواي) توظيف فكاهة هذه الإشارة من عالمه الخاص في مزاولة النزق القصصي لو أراد لقصة (رجل عجوز على الجسر) أن تكون دعابة تسخر من الحرب ومن البشر ومن نفسه.
تبدو الذاكرة أشبه بالكولاج الهائل غير المؤطر، المهيأ والمحرض دائماً لتوثيق نصوصه المتوالدة : أشلاء وشظايا لا تخضع العلاقات فيما بينها لنظام محدد، إذ يمكن لمشهد ما أن يخلق في أي لحظة وبكيفية مبهمة ارتباطه بمشهد آخر مستقر في الماضي .. ليست هناك شروط صارمة تلزم هذه الصلات بالانتماء إلى طبيعة معينة، أوتقديم أنماط جاهزة من التفسيرات حول إرادتها .. لا يوجد قانون بإمكانه السيطرة على استراتيجية الدمج بين مشاهد مختلفة زمنياً لتكوين مشهد متحرر من سلطة الزمن، ولذلك إذا مارست صورة ما بشكل مفاجىء هذا الاستدعاء العفوي لصورة أخرى في الذاكرة فتمسّك بالصورة المرئية أكثر من تمسكك بالأخرى التي استدعتها .. استغل هذه الفرصة الثمينة في التنقيب والبحث داخل رصيدك من التجارب السابقة عن مشاهد أخرى استرشاداً بالمشهد المنتزع من الذاكرة، سواء في سياقاته المتماثلة أو المناقضة .. اعقد مقارنات بين جميع الصور المكتشفة بنية الفرز واختبار الأغراض المختلفة لتوافقاتها مع الصورة الأساسية، وكذلك التغييرات والتعديلات الممكنة في التفاصيل دون قلق بحتمية توفير مسوغات يمكن للجميع استيعابها أو أسانيد منطقية للتفاهمات المنجزة بين الصور المتباينة .. أعد ترتيب قصاصات الذاكرة وفقاً لاستجاباتك غير المتوقعة مهما كانت غامضة، ومهما بدت عسيرة الترويض كمعنى مدرك كلياً، ومتخماً بالثقة في روابطه الآمنة .. أنت أولاً وأخيراً تخلق الكولاج اللازمني الذي يخصك.

* * *
المعلومات الخاصة بسيرة (همنجواي) في هذا المقال تستند إلى ما جاء في كتاب (إرنست همنجواي) للروائي والناقد البريطاني (انتوني بيرجس) الصادر عن دار الحرية للطباعة ـ بغداد 1989، ترجمة: سمير عبد الرحيم الجلبي.

موقع (قل)
http://qoll.net/%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5-1-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%B2%D9%85%D9%86%D9%8A/

السبت، 29 أغسطس 2015

الاحتمالات المتساوية في حياة البهائم


لا تقصد الطبيعة المهيمنة للارتباك والانزلاق داخل الانقطاعات المفاجئة من الحوار في قصة (جميل فمي عيناي خضراوان) لـ (جيروم ديفيد سالنجر) القيام بوظيفة إرجائية، أي تأجيل الوصول إلى دلالات محسومة باعتبار الفراغات إحالات متتابعة، وغير مستقرة للهذيان .. لكن (سالنجر) يضع الطيش كحضور راسخ، متشبع، ومكتف بذاته، ما يقود إليه ليس غائباً وإنما فائض بوضوح كمتن صادم .. تتجلى فوضى اللغة كسياقات متصارعة؛ إذ يمكن ملامسة حدود البنية التي تتقاتل الكلمات العشوائية داخل ظلامها .. (سالنجر) يجعل من غياب اليقين الحواري حالة عضوية، لا تشير إلى استنتاجات أبعد من القرارات السردية التي يتضمنها شكل المحادثة بين الزوج والصديق الذي تنام الزوجة في سريره .. يصبح تجاور الاحتمالات بديلاً للعلامات؛ حيث يمكن للزوج أن يكون على وعي بوجود الزوجة في سرير صديقه أثناء المحادثة التليفونية حتى لو كانت تفاصيلها تشير ظاهرياً إلى الاتجاه المضاد .. نفس الأمر ينطبق على المعلومة الكاذبة التي أبلغها الزوج لصديقه في النهاية بأن زوجته قد عادت بالفعل إلى البيت بينما كانت لا تزال نائمة في سرير الصديق .. قد يكون هذا الوعي لدى الزوج بوجود زوجته عند الصديق ـ وهي معرفة تدعمها قطعاً خبرة الزوج بزوجته التي كشف الحوار مع الصديق عن تلخيص واف لها ـ هذا الوعي قد يكون فرصة تم انتهازها لممارسة الارتباك وليس مجرد قاعدة منطقية لتفجيره .. رغبة لدى الزوج في التحرر من علاقته بزوجته ـ بصرف النظر عما تفعله الآن حتى لو كانت نائمة مع صديقه ـ بواسطة الهذيان، أما المعلومة الكاذبة فلم تكن سوى تطويراً لهذا الهذيان .. الاحتمالات كذلك تمتد إلى الصديق الذي قد يكون شعوره بالضيق ناجماً عن الذنب، وهو ألم سيعمقه بقوة المعلومة الكاذبة التي سيخبره بها الزوج عن عودة زوجته النائمة بجواره الآن .. ربما يكون الجفاء ناجماً كذلك عن تأكد متزايد من كونه ضمن قائمة الأوغاد الذين لا يتمالك الزوج نفسه من البحث عنهم في الخزائن اللعينة كل مساء حين يعود إلى المنزل، والذين يحتمل أن تكون زوجته قد خبأتهم: صبيان خدمة المصاعد، صبيان الدكاكين ورجال الشرطة .. كأن الصديق يواجه بوجوده داخل هذه اللائحة من عشاق الزوجة مأساته الضئيلة داخل حطام بشري هائل .. الزوجة التي تشعر بنفسها كأنها كلبة من أعلى رأسها حتى باطن قدميها، يسمع الصديق من زوجها أنها الفتاة مدعية الثقافة، الأكثر تخلفاً على قيد الحياة، والجديرة بالشفقة، التي عندما تكون مهتاجة تنط على أول وغد يدخل إلى المطبخ مؤكداً بأنها لا تحتاج إلا لوغد كبير، لا يفتح فمه، فقط يدخل عليها من حين لآخر فيضاجعها ثم يعود ليواصل قراءة جريدته .. الزوج (المحامي الذي خسر قضية للتو) يخبر صديقه الذي يبدو أنه لا يعرف من هي (مدام بوفاري) بأنه خرع، وكأنه يقول لصديقه: أما أنت فالوغد الكبير الذي تحتاجه زوجتي التي قد تكون نائمة بجوارك الآن .. إن الاحتمالات المتساوية تجعل من طلب الزوج الحضور إلى الصديق في هذه اللحظة التي توجد فيها زوجته داخل سريره نوعاً من التلويح بالإيذاء الخبيث، أو اللعب المتعمد بالأعصاب سينتهي مع رفض متوقع من الصديق لحضور الزوج إلى بيته .. من يمكنه أن يستبعد بإيمان تام، وبيقين مطلق أن الزوج كان يشك بوجود زوجته في سرير صديقه أثناء مكالمتهما التليفونية، ومن يمكنه أن يستبعد بنفس الإيمان التام واليقين المطلق أن صديق الزوج كان يشك في معرفة صديقه بهذه الحقيقة؟ .. لا أحد يستطيع غلق هذا الباب السحري الذي فتحه (سالنجر) ببساطة قاسية.
هذه الاحتمالات ليست افتراضات متوارية تنتظر إشارات محفزة ينبغي تتبع مساراتها، وتأويل العلاقات داخل النظام السردي الذي تخضع له، وإنما هي أقرب إلى النتائج البديهية المتساوية الكامنة كخلفية معلنة للطيش الذي ينسجه (سالنجر) ببراعة .. أنت لا تحتاج للذهاب بعيداً خارج النسق اللغوي الذي يعيّن الإمكانات كتعويض لشفرة ليس هناك احتياج لها، وهو ما يلائم دعابة لا ينبغي أن يفسدها التخمين .. (سالنجر) يخبرك على لسان صديق الزوج بأنهم جميعاً بهائم .. في أعماقهم هم جميعاً بهائم .. لذا مهما كانت مشاعر الغضب والتوتر والحسرة، ومهما كانت (نيويورك) عاهرة وشلة العصابيين فيها ينبغي مفارقتهم .. لا تصدق أن تلك المشاعر تريد الذهاب بك إلى أمر أكثر أهمية مما يبدو .. إنها مجرد دعابة تخص أولئك الذين يشعرون أنهم بهائم في أعماقهم .. (سالنجر) لم يخلق حواراً وإنما ابتكر إيهاماً فاتناً بالحوار، كأن هناك شخصيات تتحدث بالفعل عن مشكلة ما في حين أن وجودهم أقرب إلى الفقاعات أو الوخزات الشاحبة التي تخطو داخل الدعابة لتنجز إيقاعها الخاص وتتلاشى، ثم تعاود الظهور لتؤدي مهمتها قبل التبخر النهائي.

نُشرت هذه القصة ضمن مجموعة (اليوم المرتجي لسمك الموز)
تحميل المجموعة


الخميس، 27 أغسطس 2015

مكان جيّد لسلحفاة محنطة


بعيدًا عن جدل المركزية الثقافية للقاهرة، الذي لن ينتهي قريبًا لأسباب عديدة، فإن هناك عشرات المبدعين ممن يقيمون بعيدًا عن ضجيج العاصمة ومعاركها واستطاعوا رغم ذلك – أو بسبب ذلك – إسماع أصواتهم وفرض حضورهم الفني والثقافي، دون أن يلعبوا دور الشهداء المضطهدين أو العباقرة المغبونين.
ممدوح رزق أحد هؤلاء اللاعبين المهرة، الذي لا يخشى أن يلقي بنفسه في غمار الكتابة بصنوفها وتجلياتها، مواصلًا إنتاجه في نشاطٍ وهمة يثيران الحسد، فكتب قصائد النثر والروايات وسيناريوهات الأفلام القصيرة وقصص الأطفال والكثير من الدراسات البعيدة حتى عن مجال الأدب، إلى جانب نصوص حُرة من أي تصنيف، لكني أعتقد أن ميله الأساسي وعشقه الأول يظل للقصة القصيرة، ربما لأنه يكتب حاليًا سلسلة مقالات ثاقبة النظرة عن بعض كلاسيكيات القصة عند روّادها الأوائل، وربما لأن طبيعته الفنية أقرب إلى القنص منها إلى البناء، وإلى تكثيف الرؤية منها إلى الاستطراد. تتجلى أغلب ميوله التقنية وسمات قلمه في مجموعته (مكان جيد لسلحفاة محنطة) التي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، تلك السلحفاة المخبأة جيدًا فلن يستطيع القارئ العثور على أي أثرٍ لها في صفحات الكتاب.
يتسع مفهوم السرد هنا ليقترب من الكتابة بشمولها، واحتمالاتها المراوغة بمعزل عن ضرورات السرد ومقاصد القصة بصورتها المتعارف عليها. الكتابة التي تسمح بالتأمل والاستيهام الباطني وتتبع أفكار الذات وتحليلها، بالاعتماد أحيانًا على أقل قدر ممكن من الوقائع ومفردات الحياة، فليس ثمة افتتان بالواقع هنا بل كفر به يشارف العدمية، كفر مدعوم بألعاب ذهنية بارعة وروح خفيفة مرحة، ليس ثمة ركض وراء الحبك الدرامي، حتى عند توفر إمكانياته في بعض القصص، بقدر ما نلحظ اعتصار الدراما لصالح الوعي وتقطيره في نظرة شديدة الخصوصية. حتى في أقرب قصص الكتاب إلى الشكل التقليدي، المعتمدة على الموقف السريع والمفارقة الواضحة في سطورها الأخيرة، قصة (ثغرات الخلود) مثلًا، يأبى الكاتب الاستسلام التام لهذا الشكل ولا ينهي قصته إلّا بعد تسريب مُعضلة صغيرة جديرة بإرباك القارئ ودفعه إلى إعادة القراءة.
ثمة حضور للواقع الافتراضي في أكثر من قصة، ليس بوصفه حِلية أو موضة ما بعد حداثية، بقدر ما يكون قرينًا وبديًلا لما يُسمى بالواقع الحقيقي، يتبادلان الأماكن والأدوار كما تتبدل وجوه الناس في القصة الأولى، (فيس بوك). تمامًا مثل الدور التي تلعبه الأحلام المتداخلة ورؤاها العجيبة في بعض النصوص، لذلك كان طبيعيًا للغاية أن يكتب رزق معارضة لقصة بورخيس (الآخر)، وهو المأخوذ بألعاب الزمن الغامضة ومواقعنا منه. إلى جانب كل تلك الإشارات السريعة غير الوافية، يبقى فعل الكتابة حاضرًا بصورٍ متنوعة، بداية من أمثولة الرجل الذي كتب قصة قصيرة عن ماضيه البعيد فاعتبره الناس ساحرًا وأحرقوه حيًا، وليس انتهاء بإشارات واضحة إلى أعمال سابقة للكاتب مثل فيلمه القصير (إخفاء العالم)، حين يعطي صوتًا لفراش الأب الذي تم تصوير بعض مشاهد الفيلم عليه، هنا تختلط المرجعيات تمامًا، فلا يعود التفريق سهلًا بين أفعال الفن والخيال وبين دقّات الواقع والزمن، هنا أيضًا تكون أفضل حالات ممدوح زرق قاصًا، إذ كلّما ابتعد عن العاطفية السهلة والمفارقات الواضحة كما في بعض الأقاصيص الواردة في نهاية الكتاب، استطاع أن يعقّد نسيجه ويكثف رؤاه في جدائل محفزة على التفكير واللعب الحر، كما في أغلب قصص هذه المجموعة المتميزة. وحتى حين تطول بعض نصوصه إلى بضع صفحات لا تفتقر إلى تلك الكثافة والروح المحلقة، ويبقى صادقًا عليها وصفه لإحدى اللحظات في قصة (رسم الهواء): "كانت ومضة خاطفة جدًا. اختطاف عابر للنَفْس خارج الحاضر ثم استردادها في غمضة عين."



محمد عبد النبي
جريدة (القاهرة)
18 أغسطس 2015

الخميس، 20 أغسطس 2015

الحرب


في قصة (المفقود) لـ (أرنولف أوفرلاند)، ترجمة (سميرة أحمد السليمان) لا يعني رجوعك المفاجىء من الحرب بعد الاعتقاد بموتك سوى أن الحياة ستصبح بالنسبة لأم وابنة أكثر عذاباً .. الذي عاد من الحرب لم يرجع إلي زوجته وطفلته التي كبرت، بل إلى بطالة وغلاء وعالم يدبر أبناؤه أمورهم بشق الأنفس .. إننا بقدر بسيط من تعمّد الإنصات بمقدورنا الاستماع لأصوات الحرب في خلفية الحوار الثقيل بين الزوجة والزوج العائد بعد سنوات طويلة: آلات القتل وصرخات الألم والاحتضار، بل بوسعنا أن نشم رائحة الموت داخل صدوع المحادثة العسيرة بينهما .. الكلمات المقتضبة، الحذرة، التي تستكشف استكمالاً بائساً لحياة ماتت، وإعادة تكوين علاقات جديدة بين أشخاص فقدوا عالمهم، وتحتم على أشباحهم البدء في تعايش مظلم .. إن الحرب بإمكانها أن تنهي العالم لبشر لا يزالون على قيد الحياة؛ إذ تضع الانفصال كطبيعة مهيمنة للعلاقات بين أولئك الذين احتفظوا بصلاتهم السابقة، وتفرض الغربة بين من أعاد القدر تجميعهم في نفس المكان .. الحيز المغلق الذي شهد تباعدهم، وأصبح بعد تلك السنوات أثراً ثابتاً لا يوثق فوق جدرانه التحوّلات القاسية التي ضاعفت أعمار هؤلاء الذين دمرت الحرب دنياهم وحسب، بل يختزن الاستمرار البديهي للحرب داخل بيت لم يعد من الممكن أن يعيش أفراده كما كانوا في الماضي .. الحرب لا تنتهي؛ إذ يتحول الأحياء الذين عبرت فوق أجسادهم، ودفنوا تحت الأنقاض التي تركتها إلى آلات قتل بديلة لتلك الوحوش المعدنية التي صمتت مؤقتاً .. كوابيس متحركة، تتصارع على شكل معتم من الوجود، وجدت نفسها مرغمة على ابتلاعه، بعد أن أصبح تقاسمها للحياة ورطة مجحفة، وعبأً لا مفر من الرضوخ لمسايرته، انتظاراً للحظة التحرر من وحشيته ..  يصبح العالم استكمالاً للألم والموت فتبدو الحروب العسكرية كأنها نوع من الرحمة للتخفيف من آلام حروب أخرى يحكمها الدمار الاجتماعي الذي ترتعش لغة التخاطب بين ضحاياه بالحسرة، والتخوّف المكتوم، والجفاء اليائس للعاطفة .. إن الحياة حينئذ لو جاز لنا أن نضع تعريفاُ لها فلن نجد أكثر أمانة من الكلمات الأخيرة في هذه القصة:
(هل سوف أنام هنا؟ سأل هو.
ـ نعم. في الداخل ننام أنا و"إتي").

المفقود
أرنولف أوفرلاند

السيدة هيمبل تقف في المطبخ حينما دق الباب. لم تكن قد ارتدت ملابسها كما ينبغي حتى الآن، لكن "إتى" قد غادرت، لذلك ينبغي عليها فتح الباب بنفسها. كان يقف في الخارج رجل بقبعة لها جزء أمامي متحرك يغطي الوجه ومعطف رمادي فضفاض. كان يحمل كيسا تحت ذراعه. لم يقل شيئا، فقط وقف ونظر إليها، يصفي حنجرته، لكنه لم يقل شيئا.

كانت ستغلق الباب مرة أخرى. لم يكن لديها شيء لإعطائه. بالمناسبة، هي لا تحب هؤلاء الذين يأتون ويطرقون على الأبواب - وبالذات عندما تكون وحيدة في المنزل.

حينما اقترب نحوها وأمسك الباب.

-
ليزا! قال هو.

هل يعرفها؟ السيدة هيمبل حدقت في ذلك الوجه الرث المحروق من الجو، هذا الوجه يشبه شيئا قد حلمت به. والصوت أيضا.. ثم صرخت. تركت مقبض الباب، نحو الخلف، تلمست طريقها خلال الممر ثم داخل الصالة وأجلست نفسها.

الرجل أتى خلفها.

-
إنه أنا! قال هو.

-
ما زلت على قيد الحياة؟ همست هي. الفزع يملؤها تماما حتى الحنجرة.

-
نعم. قال هو

-
ونحن الذين اعتقدنا أنك ميت!

-
لا لا، لقد أخذت كسجين.

-
كنت ضمن قائمة المفقودين. ولم نسمع منك المزيد. ولا كلمة واحدة. لماذا لم تكتب؟

-
هناك، لم يكن بريد. لقد حاولنا بعض المرات إرسال مكاتيب، وقالوا إنهم سوف يرسلونها، لكن.. بعدها لم يكن لدينا أوراق.

-
هل كنت في روسيا؟

-
نعم في سيبيريا.

-
طوال الوقت؟ كانت سنة 1915 حين اختفيت؟

-
نعم.

-
والآن نحن في سنة 1930، (5ا) سنة!

-
نعم.

-
ولكن لماذا لم تأت قبلها؟ الحرب انتهت سنة 1918!

-
في 1918؟، لا. كنا في مخيم المسجونين في كراسنويارسك لمدة ثلاث سنوات، ثم أتى إلى منطقة كولتسياك. وحاربنا بجانبه ضد البوليسفيك. ثم أصبحنا مسجونين من جديد. كان هذا سنة 1919. حينها كنا نقوم بأعمال الطرق معظم الأوقات، وأعمال البلد.

-
إذن لم تكونوا في مخيم المسجونين طوال الوقت؟

-
لا، السنوات الأخيرة كنا فيها أحرارا.

-
ألم يكن باستطاعتكم حينها القدوم إلى الوطن مرة أخرى؟

-
نذهب حول العالم؟ لا.

نظرت إليه. إنه زوجها الذي عاد. رجل رمادي، نصف عجوز، يشبه أب جورج. ذات مرة تزوجت منه الأفضل أن تقول إنها كانت في الواقع متزوجة منه.. تنظر إليه. لم تعد خائفة. هذا الرجل الفقير العجوز لا تخافه. لكنها لا تعلم ماذا سوف تصنع معه.. يقف هناك أمامها والكيس تحت ذراعه حتى الآن، لكن لا تستطيع أن تطلب منه الجلوس، لأنه وبطريقة ما كان في منزله. خرج بعضهم في ممر الدرج الخارجي. لقد نسيت إغلاق الباب خلفها. كانت ضعيفة قليلا في ركبتيها حتى الآن، ذلك ما تدركه.

-
ألن تضع الكيس؟ قالت هي.

-
بلى. ذهب هو نحو الباب ووضعه هناك. هناك كان كرسي أيضا. أجلس نفسه هناك. قبعته ألقاها فوق الكيس. كان على الأصح متعبا، قد مشى على قدميه من "باهنوف".

-
هل تناولت الفطور؟ هل ترغب في أن أقوم بإعداد بعض الطعام لك؟ سألت هي.

-
نعم شكرا.

خرجت ووضعت إناء القهوة.

بعد برهة دخلت مرة أخرى مرتدية معطفا وقبعة.

-
نعم، الآن كل شيء جاهز لك. سوف أذهب الآن، أنا. أنا سأرجع على الغداء.

-
هل ستذهبين؟

-
نعم، يجب علي الذهاب إلى المتجر.

-
المتجر؟

-
نعم؟ - المعمل؟

-
أوه نعم نعم! هل لديك ذلك حتى الآن؟

-
نعم نعم!

-
هل تستطيعين أن تديريه إذن؟

-
نعم، هذا أستطيعه، ما الذي كنا سنفعله أو نعيش منه؟

-
لا. لكن هل استطعت تعلم شيء؟

-
نعم، استطعت ذلك. كذلك لدى "نولتا". نعم، "نولتا" هو صانع ساعات أيضا. وأنا أقف في المحل.

-
مفهوم، نعم.

-
نعم، الآن يجب علي الذهاب. يا إلهي، الساعة الآن بعد التاسعة! إلى اللقاء إذن.

ذهب إلى المطبخ وأكل. ثم ذهب مرة أخرى إلى الصالة. وهكذا يجلس هنا في المنزل. في المنزل مرة أخرى. غريب هذا الشعور. لكنه لم يكن قد فكر فيه هكذا. الصالة كانت كما هي تقريبا، وبطريقة ما - الأريكة القديمة والطاولة القديمة والكراسي القديمة كانت هناك. ما عدا بوفيه خشب البلوط مع الكئوس الألماسية والصحون الفضية. لم تكن له. لكنها كانت جميلة. لكنها ليست له.

وهكذا - زوجته - مالذي أصابها؟ فأصبحت أكبر سنا، نعم، نعم، أصبحت كذلك. لكنها لم تكن بهذا الكبر. دعني أرى، سنة 1914 كانت حينها 25 سنة، بلى، إنها الآن 40 سنة. لكنها كانت جميلة حينذاك. سمينة فقط قليلا، يا إلهي. ظل من الخوف قد أتى من خلاله بالضبط وبما فيه الكفاية لكي يقول لنفسه إنه عاد إلى منزله مرة أخرى. لكنه اعتقد أن يكون ذلك الاستقبال مختلفا إنه كان غير منتظر. وكان ذلك منذ وقت طويل جدا. لا بد أنه قد تغير كثيرا، لذلك لم يكن من السهولة تعرفه من جديد. وكذلك كانت هي تعتقد أنه قد مات - ولكن عندما تعرفته من جديد وبعد لحظة المفاجأة، بعدها كان من الواجب أن يعانق كل منهما الآخر، وأن تكون فترة مقدسة عندما يرجع الأب من الحرب إلى بيته.

وبالضبط بسبب اعتقادها أنه كان ميتا، كان من الواجب أن تكون سعيدة بمقدار الضعف لأنه ما زال يعيش على قيد الحياة. وكان من الواجب أن يكون أمرا مقدسا وبهيجا الجلوس على طاولته مع زوجته وطفلته. لحظة فرح حقيقية كان هوالواجب حدوثها.

وكانت هي مشغولة جدا لدرجة أنه لم يملك الوقت المناسب ولو لمرة واحدة للسؤال عن "إتى". يجب أن تكون الآن فتاة كبيرة، يا إلهي، هذا ما يجب أن تكونه.. يجب أن تكون في الثامنة عشرة تقريبا.

ألم تكن هي التي قابلها على السلالم؟

المرأة الصغيرة القادمة نحوه، نحو الأسفل بجورب حريري ومعطف جلدي؟ والتي أدرك عطرها حينما مالت نحو الحائط عندما مرت به؟ - مستحيل.

لا يستطيع الحصول على صورة لها؟ كانت هناك بعض الصور المعلقة على الأريكة.

بلى، الفتاة الصغيرة في فستان التعميد يجب أن تكون "إتى". إنها جميلة إنه لأمر غريب أن تكون هذه الفتاة الناضجة ابنته.

وهذا هو، في منتصف الحائط، في اللباس الرسمي. هذه هي الصورة التي التقطها في يوم الحشد للحرب. ومع الحداد الأسود على الإطار وزهور الخلود والصليب الحديدي!

أحببناه وفقدناه!

أجلس نفسه لينتظر. هذا ما تعلمه. الانتظار هو ما قد تعلمه. الوقت أصبح طويلا. ذهب مرة أخرى إلى المطبخ ودهن لنفسه شريحتي خبز. قليل من التبغ لديه حتى الآن.

وفي الساعة السادسة قدمت ليزا وبدأت تحضر للغداء. في الساعة السابعة حضرت "إتى".

أخرجت صرخة تعجب عندما رأته. قدمت الأم نحوها.

-
هذا هو أبوك، قالت هي.

نظرت إليهما الابنة دون أن تفهم شيئا.

-
إنه أبوك قد عاد مرة أخرى من الحرب.

-
أي حرب.

-
الحرب، يا ابنتي، الحرب العالمية!

-
أوه.. لكن..

-
كان في الأسر في سيبيريا

-
لكنك كنت تقولين دوما إنه..

-
نعم، هذا ما اعتقدناه!

- "
إتي" قال هو ومد ذراعيه نحوها.

-
مساء الخير! قالت هي. أصبحت منتصبة وهي تنظر إليه. إن لديها أبا، وإنه قد أتى إلى المنزل - سمعت والدتها تقول ذلك، وأنها يجب أن تعرف ذلك. أن تستوعب ذلك. كانت هناك قضية أخرى وهي. هل سوف يعيش معهما على سبيل المثال؟ هذا الرجل.

غادرت الأم مرة أخرى إلى المطبخ. فأصبح الاثنان وحيدين في الصالة. إنه مؤلم.

-
لحظة واحدة! قالت "إتي" واختفت. أتت مرة أخرى مع مفرش وأطباق وأعدت الطاولة.

تناولوا الطعام بصمت. بعد الغداء خرجت "إتي"، سوف تقابل أحدهم. وأصبح الاثنان جالسين.

-
وهكذا رجعت إلى البيت مرة أخرى إذن. قالت هي.

كان شيئا حقيقيا بما فيه الكفاية. ليس لديه ما يقوله لهذا الأمر.

-
ما الذي فكرت في البدء به الآن؟

-
سوف أبدأ في المعمل مرة أخرى.

-
ليس هناك الكثير لعمله هناك، قالت هي. ليس هناك عمل لأكثر من اثنين. و"نولتا" له نصيب في المتجر : إنه شريك. لم يقل شيئا عن هذا أيضا. لم يقل إنه معمله. لأن ذلك كان منذ وقت طويل. ولم يكن واثقا أنه قادر على ذلك أيضا الآن. ليس لديه اليدان لمثل هذا العمل الدقيق. يجب أن يبحث له عن شيء جديد.

-
ما الذي أستطيع أن أبدأ به؟ قال هو.

آه نعم، هذا ما يعلمه الله. هنا فقط البطالة والغلاء. جميع الناس يروحون بلا عمل. وأنه لمكلف جدا أن تعيش، فظيع الغلاء بحيث أني و"إتى" نتدبر أمرنا بشق الأنفس. فإذا لم تستطع الحصول على عمل ما، فأنا لا أعلم.. السيدة همبل أخرجت قطعة قماش وبدأت في ترقيعها. الساعة أصبحت التاسعة. بدأت في التثاؤب.

-
سوف أرتب لك السرير. قالت هي. دخلت إلى غرفة النوم وعادت مرة أخرى مع بطانية وملاءات ووسادة وبدأت في الترتيب فوق الأريكة.

-
هل سوف أنام هنا؟ سأل هو.

-
نعم. في الداخل ننام أنا و"إتى".

السبت، 15 أغسطس 2015

الوحشة


يعمل (ايونا بوتابوف) حوذياً؛ أي أنه شخص تحتم على حياته أن تُفنى بين صنوف عديدة من الغرباء الذين تحملهم زحافته كل يوم، وتجوب بهم الشوارع لتنقلهم من مكان إلى مكان .. ربما لو وجّه أحد ما ـ بشكل عابر ـ سؤالاً لهذا الحوذي داخل رتابة الأحوال العادية عن رؤيته لطبيعة البشر لأجاب دون تردد بابتسامة متحسرة، وصوت منكسر، وربما مع هزة رأس متيقنة بأنهم متغطرسون، قساة القلوب، لا يبالون بمشاعر الآخرين .. لكن هؤلاء هم البشر الذي سيحاول الحوذي نفسه أن يحصل منهم على التعاطف حينما يموت ابنه .. المواساة التي لا تعني أكثر من مجرد الاستماع لتفاصيل مرض الابن ووفاته وجنازته وابداء ـ ولو بشكل زائف ـ الحزن اللائق بالفاجعة .. إن (بوتابوف) ليس مجرد إنسان معذب تضاعفت آلامه بالحرمان من العزاء بعد فقد ابنه، ولكنه أيضاً إنسان عادي تتراجع خبرته بالحياة في أوقات المصائب ليتوقع حدوث معجزة، واثقا أن تحققها أمر بديهي للغاية .. يكمن العذاب إذن في أنه لا يوجد بشر آخرون سوى هؤلاء الذين تُفنى حياة الحوذي بينهم، لذا فهو مجبر دائماً على محاولة انتزاع ما هو في أشد الاحتياج إليه من داخل كائنات أبعد من أن تمتلكه .. ليس أمامه سوى أن يقاوم صلابة خبرته بالبشر، وأن يتحرك بسلوك مضاد لما تؤكده المعرفة الراسخة في أعماقه عن طبيعتهم .. إذا كان الحوذي على استعداد لقبول أي نوع من المنطق في خسارة ابنه فعلى الأقل لماذا لا يكون الحصول على التعاطف مع خسارته حدثاً منطقياً أيضاً رغم كل شيء؟ .. هكذا يفكر الحوذي المضطر إلى التحرك باتجاه هؤلاء الذين لا يعرف سواهم، وهنا يمكنك أن تعرف قيمة حيوان كالحصان أكثر من أي وقت آخر.
هل من الممكن تفادي التفكير في أن (ايونا بوتابوف) واحد من هؤلاء البشر الذين يمكنهم في لحظة ما أن يتسموا بالغطرسة وقسوة القلب واللامبالاة بمشاعر الآخرين؟ .. من يستطيع أن يجزم بأن السلوك المعبّر عن هذه الصفات يقتصر على مظاهر نمطية ثابتة غير قابلة للاتساع، تتضمن عدم منح العزاء لأب مات ابنه منذ فترة قصيرة؟ .. إن (بوتابوف) يمكنه أن يتسم داخل أزمة لا تخصه بأي من الخصال التي يمكن وصفها تلقائياً بالرذائل دون أن يحرم أحداً من فضيلة المواساة .. أتذكر الآن ما كتبه (فرانك أوكونور) عن قصة (الشقاء) لـ (أنطون تشيكوف) في كتابه (الصوت المنفرد): (عملاء سائق العربة العجوز أناس مثلنا تماماً. أناس مشغولون، مغلفون في اهتماماتهم الخاصة. وإذا كانوا قد كسروا قلب الرجل العجوز من الوحدة فإن ذلك ما قد نفعله نحن أنفسنا) .. بدا لي هذا الرأي في الماضي البعيد مجحفاً حد الحماقة المسرفة .. حكم سخيف، غير عادل، ولا يمكن تعميمه .. كنت موقناً تماماً ـ كما يليق بولد صغير يخطو خارج طفولته ـ بأنه من المستحيل أن يأتي اليوم الذي أمارس فيه هذه الوحشية التي ارتكبها الركاب ضد الحوذي العجوز .. لكنني الآن ـ بعدما واصلت الحياة متجاوزاً هذا الماضي ـ لازلت أحصد التأكيدات المتلاحقة على أنه داخل الجحيم يمكن لأي سلوك أن يكون وحشياً بطريقة أو بأخرى مهما كانت دوافعه أو عدم وضوح تأثيره أو مهما بلغت قوة الانتماء إلى أي خرافة أخلاقية يمكنه التحصن بها.

الشقاء
أنطون تشيخوف

غسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسب طبقة رقيقة لينة على أسطح المنازل وظهور الخيل, وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي (ايونا بوتابوف) أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوسا، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس وهو جالس على المقعد بلا حراك.. ويبدو أنه لو سقط عليه كوم كامل من الثلج فربما ما وجد ضرورة لنفضه وفرسه أيضاً بيضاء تقف بلا حراك وتبدو بوقفتها الجامدة وعدم تناسق بدنها وقوائمها المستقيمة كالعصي حتى عن قرب أشبه بحصان الحلوى الرخيص، وهى على الأرجح مستغرقة في التفكير؛ فمن أُنتزع من المحراث من المشاهد الريفية المألوفة وأُلقي به هنا في هذه الدوامة المليئة بالأضواء الخرافية و الصخب المتواصل والناس الراكضين لا يمكن إلا أن يفكر.
لم يتحرك ايونا وفرسه من مكانهما منذ وقت طويل. كانا قد خرجا من الدار قبل الغداء ولكنهما لم يستفتحا حتى الآن، وها هو ظلام المساء يهبط على المدينة، ويتراجع شحوب أضواء المصابيح مفسحاً مكانه للألوان الحية, وتعلو ضوضاء الشارع .
ويسمع ايونا : يا حوذي! إلى فيبورجسكا ! يا حوذي!
ينتفض ايونا و يرى، من خلال رموشه المكللة بالثلج، رجلاً عسكرياً في معطفه بقلنسوة. ويردّد العسكري : إلى فيبورجسكايا, ماذا هل أنت نائم؟ إلى فيبورجسكايا! ويشد أيونا اللجام؛ علامة الموافقة، فتتساقط إثر ذلك طبقات الثلج من على ظهر الفرس ومن على كتفيه ويجلس العسكري في الزحافة، ويطقطق الحوذي بشفتيه ويمد عنقه كالبجعة وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحكم العادة أكثر مما هو بدافع الحاجة وتمد الفرس أيضا عنقها, وتعوج سيقانها وتتحرك من مكانها بتردد وما إن يمضي ايونا بالزحافة حتى يسمع صيحات من الحشد المظلم المتحرك جيئة وذهاباً: إلى أين تندفع أيها الأحمق! أي شيطان ألقى بك؟ الزم يمينك! .. ويقول العسكري بانزعاج: أنت لاتجيد القيادة! الزم يمينك!
ويسبّه حوذي عربة حنطور، ويحدّق أحد المارة بغضب وكان يعبر الطريق فاصطدمتْ كتفه بعنق الفرس وينفض الثلج عن كمه، ويتململ ايونا فوق المقعد وكأنه جالس على جمر ويضرب بمرفقيه في كلا الجانبين ويدور بنظراته كالممسوس وكأنما لا يفهم أين هو ولماذا هو هنا.
ويسخر العسكري : يا لهم جميعا من أوغاد! كلهم يسعون إلى الاصطدام بك أو الوقوع تحت أرجل الفرس.. إنهم متآمرون ضدك.. يتطلع ايونا إلى الراكب ويحرك شفتيه....يبدو أنه يريد أن يقول شيئا ما ولكن لا يخرج من حلقه سوا الفحيح.
فيسأله العسكري: ماذا؟
يلوي ايونا فمه بابتسامة ويوتر حنجرته ويفح :
-
أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع ..ابني مات .
-
ممم!.. مات إذن؟
يستدير ايونا بجسده كله نحو الراكب ويقول:
-
ومن يدري؟ .. يبدو أنها الحمى .. رقد في المستشفى ثلاثة أيام ومات... مشيئة الله.
ويتردد في الظلام:
-
حاسب يا ملعون ! هل عَميت أيها الكلب العجوز؟ افتح عينيك!
ويقول الراكب: هيا, هيا سِرْ، بهذه الطريقة لن نصل ولا غدا. عجّل!
ويمد الحوذي عنقه من جديد، وينهض قليلا ويلوّح بالسوط بحركة رشيقة متثاقلة، ويلتفت إلى الراكب عدة مرات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات. وبعد أن أنزله في فيبورجسكايا توقف عند إحدى الحانات، وانحنى متقوساً وهو جالس على مقعد الحوذي, وجَمُد بلا حراك مرة أخرى.. ومن جديد يصبغه الثلج الرطب؛ هو وفرسه باللون الأبيض، وتمر ساعة و أخرى.
على الرصيف يسير ثلاثة شبان وهم يطرقعون بأحذيتهم في صخب ويتبادلون السباب؛ اثنان منهم طويلان نحيفان والثالث قصير أحدب ويصيح الأحدب بصوت مرتعش:
-
يا حوذي إلى جسر الشرطة! ثلاثة ركاب بعشرين كوبيكا.
يشدّ ايونا اللجام ويطقطق بشفتيه ليست العشرون كوبيكا بسعر مناسب ولكنه في شغل عن السعر! فسواء لديه روبل أم خمسة كوبيات المهم أن يكون هناك ركاب يقترب الشبان من الزحافة وهم يتدافعون بألفاظ نابية ويرتمي ثلاثتهم على المقعد دفعة واحدة. وتبدأ مناقشة حادة من الاثنين اللذين سيجلسان ومن الثالث الذي سيقف؟، وبعد سباب طويل ونزق وعتاب يصلون إلى حل : الأحدب هو الذي ينبغي أن يقف باعتباره الأصغر.. فيقول الأحدب بصوته المرتعش وهو يثبت أقدامه ويتنفس في قفا ايونا: هيا عجل! اضربها بالسوط! يا لها من قبعة لديك يا أخي! لن تجد في بطرسبرج كلها أسوأ منها فيقهقه ايونا : هذا هو الموجود!
-
اسمع أنت أيها الموجود عَجّل، هل تسير هكذا طول الطريق؟ ألا تريد صفعة على قفاك؟
ويقول أحد الطويلين: رأسي يكاد ينفجر؛ شربت بالأمس أنا وفاسكا عند آل دوكماسوف أربع زجاجات كونياك نحن الاثنين.. ويقول الطويل الأخر بغضب: لا أدري ما الداعي للكذب ! يكذب كالحيوان .
-
عليّ اللعنة إن لم تكن حقيقة...
-
إنها حقيقة مثلما هي حقيقة أن القملة تسعل.
فيضحك ايونا: هىء هىء هىء .. سادة ظرفاء .
ـ فلتخطفك الشياطين! هل ستعجل أيها الوباء العجوز أم لا!
ـ هل هذا سير؟ ناولها بالسوط ! هيا أيها الشيطان! هيا! ناولها جيدا !
ويحس ايونا خلف ظهره بجسد الأحدب المتململ ورعشة صوته ويسمع السباب الموجه إليه ويرى الناس فيبدأ الشعور بالوحدة ينزاح عن صدره شيئا فشيئا. ويظل الأحدب يسب حتى يغص بسباب منتقى فاحش وينفجر في السعال. ويشرع الطويلان في الحديث عمن تدعى ناديجدا بتروفنا.
ويتطلع ايونا نحوهم وينتهز فرصة الصمت فيتطلع نحوهم ثانية ويتمتم:
-
أصلا أنا..هذا الأسبوع..ابني مات!
فيتنهد الأحدب وهو يمسح شفتيه بعد السعال :
-
كلنا سنموت..هيا عجل عجل.. يا سادة أنا لا يمكن أن أمضي بهذه الطريقة متى سيوصلنا؟
-
حسنا فلتشجعه قليلا... في قفاه !
ـ هل سمعت أيها الوباء العجوز؟ سأكسر لك عنقك! التلطف مع جماعتكم معناه السير على الأقدام....هل تسمع أيها الثعبان الشرير؟ أم أنك تبصق على كلماتنا؟
ويسمع ايونا أكثر مما يحس بصوت الصفعة على قفاه.
فيضحك هىءهىءهىء سادة ظرفاء ربنا يعطيكم الصحة !
ويسأل أحد الطويلين: يا حوذي هل أنت متزوج؟
-
أنا ! هىء هىء! سادة ظرفاء ! لم يعُد لديّ الآن إلا زوجة واحدة : الأرض الرطبة؛ أي القبر ! ..ها هو ابني قد مات و أنا أعيش.. شيء غريب؛ الموت أخطأ بوابته بدلاً من أن يأتيني ذهب إلى ابني... /
ويتلفت أيونا لكي يروي كيف مات ابنه ولكن الأحدب يتنهد بارتياح ويعلن أنهم أخيرا، والحمد لله، وصلوا.. ويحصل ايونا على العشرين كوبيكا، ويظل طويلاً في أثر العابثين وهم يختفون في ظلام المدخل وها هو وحيد ثانية ومن جديد يشمله السكون والوحشة التي هدأت قليلاً تعود تطبق على صدره بأقوى مما كان وتدور عينا ايونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الشارع : ألن يجد في هذه الآلاف واحدا يصغي إليه ؟ ! ولكن الجموع تُسرع دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته؛ وحشة هائلة لا حدود لها.. لو أنّ صدر ايونا انفجر وسالتْ منه الوحشة فربما أغرقتْ الدنيا كلها، ومع ذلك لا أحد يراها.
لقد استطاعت أن تختبئ في صَدفة ضئيلة؛ فلن تُرى حتى في وَضَح النهار<<
يلمح ايونا بواباً يحمل قرطاساً فينوي أن يتحدث إليه ويسأله : كم الساعة الآن يا ولدي؟
-
التاسعة.. لماذا تقف هنا .. امشِ.
يتحرك عدة أمتار ثم ينحني متقوسا ويستسلم للوحشة ويرى أنه لا فائدة بعد من مخاطبة الناس ولكن ما إن تمر بضع دقائق حتى يعتدل وينفض رأسه كأنما أحس بوخزة ألم حادة ويشد اللجام لم يعُد قادرًا على التحمل.
ويخاطب نفسه : إلى البيت .. إلى البيت !
وكأنما فهمت الفرس أفكاره فتبدأ في الركض بحماس، وبعد حوالي ساعة ونصف يكون ايونا جالسا بجوار فرن كبير قذر، وفوق الفرن وعلى الأرض وعلى الأرائك يتمدد أناس يشخرون، والجو مكتوم خانق.... يتطلع ايونا إلى النائمين، ويحك جلده ويأسف لعودته المبكرة إلى البيت ويقول لنفسه : لم أكسب حتى حق الشعير ولهذا أشعر بالوحشة، الرجل الذي يعرف عمله، الشابع هو وفرسه؛ دائما مطمئن البال..
في أحد الزوايا ينهض حوذي شاب، ويكح بصوت ناعس ويمد يديه إلى الدلو.. فيسأله ايونا: أتريد أن تشرب؟
-
كما ترى .
-
بالهناء والشفاء... أما أنا يا أخي فقد مات ابني هل سمعت؟ هذا الأسبوع في المستشفى... حكاية!
ويتطلع ايونا ليرى أي تأثير تركته كلماته ولكنه لا يرى شيئا؛ فقط تَغطًى الحَوذي الشاب حتى رأسه وغط في النوم، ويتنهد العجوز ويحك جلده فمثلما رغب الحوذي الشاب في الشرب يرغب هو في الحديث.. عما قريب يمر أسبوع منذ أن مات ابنه، بينما لم يتمكن حتى الآن من الحديث عن ذلك مع أحد كما يجب ..ضروري أن يتحدث بوضوح على مهل , ينبغي أن يروى كيف مرض ابنه وكيف تعذب وماذا قال قبل وفاته وكيف مات، ينبغي أن يصف جنازته وذهابه إلى المستشفى ليتسلم ثياب الفقيد، وفي القرية بقيت ابنته أنيسيا ينبغي أن يتحدث عنها أيضا وعموما فما أكثر ما يستطيع أن يروي الآن؛ ولا بد أن يتأوه السامع ويتنهد ويرثى والأفضل أن يتحدث مع النساء، فهؤلاء وإن كن حمقاوات يوَلونْ من كلمتين.
ويقول ايونا لنفسه : فلأذهب لأتفقد الفرس وفيما بعد سأشبع نوماً يرتدي الملابس ويذهب إلى الاصطبل حيث تقف الفرس ويفكر في الشعير والدريس و الجو فعندما يكون وحده لا يستطيع أن يفكر في ابنه ,يستطيع أن يتحدث عنه مع أحد، وأما أن يفكر فيه ويرسم لنفسه صورته فشيء رهيب لا يطاق.. ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقتين
-
تمضغين؟ حسنا امضغي أمضغي .. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس...نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا، كان حوذيا أصيلا لو أنه فقط عاش.. ويصمت ايونا بعض الوقت ثم يواصل :
-
هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودا... رحل عنا..فجأة .. خسارة.. فلنفرض مثلا أن عندك مهراً وأنت أم لهذا المُهر.. ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفا؟.
وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج ايونا فيحكي لها كل شيء.