الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

تشارلز بوكوفسكي ... ما وراء اللعنة

بنبرة حانات آخر الليل يحكي تشارلز بوكوفسكي في روايته «هوليوود»، الصادرة حديثاً عن دار «مسكيلياني» باتفاق خاص مع «منشورات الجمل»، وبترجمة عبدالكريم بدرخان؛ يحكي قصة من سيرة ذاتية حول فترة كتابته سيناريو فيلم عن مرحلة الكحول والمشاجرات في شبابه، واضعاً هذا المأزق في مقارنة مرعبة مع طبيعته المقامرة، المفتونة بالخسائر التي تدفعه دائماً إلى الركض في الشوارع مُخلفاً حريقاً ما. كانت كتابة هذا السيناريو بالنسبة إلى بوكوفسكي أو هنري تشيناسكي؛ كما استعار لنفسه في الرواية، بمثابة الفقدان للسيطرة على الحياة، أو في شكل أكثر تحديداً الحرمان الموقت من جموحه الغريزي داخل عالم المال والشهرة. «وأخيراً بعد عقود من الكتابة، سيكون عندي مكتب. نعم أشعر بالخوف، بالخوف من التحول إلى شخص يشبه الآخرين، والأسوأ أني وقَّعت عقداً لكتابة سيناريو. أتراني ملعوناً من الآلهة؟ ومقدراً عليَّ العذاب والهلاك؟ هل باتت نهايتي وشيكة؟ لا أحس باقتراب النهاية، وهل يشعر المرء باقتراب نهايته عند اقترابها؟».
يخرج تشارلز بوكوفسكي من هوليوود القديمة، أو القاع الذي عاشت حماقاته الثملة أغلب العمر في ظلامه، ووثَّق تاريخه في كتاباته الكثيرة، إلى هوليوود اللامعة، عاصمة صناعة السينما الأميركية. يخطو ساخطاً نحو فكرة عدائية لمكان سيبدو غير قادر على التآلف مع الطبيعة المتناقضة لبوكوفسكي؛ الثرثار الهازئ الذي غالباً ما يختلط لديه الشعور بالحزن والفرح. تدور الرواية حول الجدال بين أشكال مختلفة من الألم: المعاناة المرتبطة بإنتاج السيناريو، المكابدات الخاصة بالعاملين في الفيلم، فقدان الثقة لدى السكير المُكره والنادم، أي تشارلز بوكوفسكي الذي يحاول المقاومة لإنقاذ شبقه الساحر من الإخضاع. «عرفتُ حينذاك أن للأرواح الضالة حضارة كاملة، تزدهر داخل الحانات وخارجها، ليلاً ونهاراً وإلى الأبد، حتى يموت أصحابها. لم أقرأ عن هذه الحضارة من قبل، لذا قررتُ الكتابة عنها كما أتذكرها، طالما أن آلتي الكاتبة القديمة تعمل في شكل جيد».
يضع بوكوفسكي الضجيج السوقي لماضيه، المتخم بالهزائم الطائشة، والتسكع المأسوي، والعنف المتبجح داخل الكابوس الهوليودي، حيث يجد نفسه متسللاً بالكتابة خارج الورطة ليدون على هامش السيناريو ما سيعد أصلاً سردياً لهذا الواقع السينمائي، فضلاً عن كونه تأكيداً إضافياً لبصمة شيطان العالم السفلي الذي لم يعتبر الكتابة يوماً مهنة له، بل كانت دائماً دافعه للاستمرار في الحياة. كانت الآلة الكاتبة حاضرة طوال الوقت لتخفف عنه، لتسليه، لتنقذه من مستشفى المجانين، ومن النوم في الشوارع، ومن نفسه. «سألني ريك تالبوت: - هل جين ميتة الآن؟ - ماتت منذ زمن بعيد، جميعهم ماتوا، كل ندمائي ماتوا. - وما الذي أبقاك حياً؟ - الكتابة، إنها نشوتي العظمى. أضافت سارة: - كما أني أغذيه بالفيتامينات، وأمنعه من تناول الأطعمة التي تسبب السمنة. سأل ريك: - أما زلتَ تشرب؟ - غالباً عندما أكتب، وعندما أستضيف أصدقائي في البيت. أنا لا أحب رؤية الناس، وحين أشرب كمية كبيرة من الخمر، تختفي البشرية من أمامي».
كأن تشارلز بوكوفسكي يلوّح ضاحكاً - كعادته - عبر صفحات الرواية لمُشاهد فيلم «زبون البار»، وهو من إنتاج 1987، وأخرجه باربت شرودر، ولعب فيه دور البطولة ميكي روك وفاي دونوي. المُشاهد الذي لديه الرغبة في العثور على الروح الشهوانية في نقائها التام لذلك الجسد الذي تمَّ تشكيله فوق شاشة لم يكن من الممكن فضح كواليسها إلا بارتكاب هذه الدعابة الروائية. يبدو بوكوفسكي هنا شاهراً وقاحته الشهيرة في وجه التظاهر الذي يحكم حياة الممثلين؛ إذ يكتشف بعد تأمل عميق أن الممثل تصعب عليه العودة إلى ذاته بعد أن يكون شخصاً آخر، وبعد مرور الزمن، والتحول إلى عشرات الأشخاص لن يستطيع أن يتذكر نفسه، أو يجد صوته وأسلوبه الخاص.
إذا كانت حياة تشارلز بوكوفسكي أقرب إلى مجاهدة صاخبة في حماية هوية لا يمكن التفاوض مع جنونه في شأنها؛ فإن قارئ بوكوفسكي ربما يجد في نفسه شيئاً من هذا الرفض المماثل للالتزام بما تقترحه الصورة النمطية الشائعة عنه - رغم سحرها البدهي - فاللعنة المبتذلة السائدة عن تشارلز بوكوفسكي عند مقاربتها في إطار التشاجر الهائل مع الموت؛ سيمكننا اكتشاف وظيفتها كقناع مراوغ لشكل من الخوف الطفولي الذي قد يكون متناقضاً على نحو مدهش وبالغ القسوة مع الإصرار المتفاخر أو الهوس بالانحطاط الغاضب والمتهكم الذي يميز عـالمه. ربما لن يكون لهذا النوع من الخوف تلك الصفة الضدية، بل ربما يكون في الواقع ظلاً مستقراً للعنة المبتـذلة، ويمتــلك في الوقــت ذاتـه حتمية الجوهر.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 29 أغسطس 2017 


الجمعة، 18 أغسطس 2017

الخروج من الزمن في قصص ليديا ديفيس

ترجم أحمد شافعي مؤخرًا بجريدة (عمان) ثلاث قصص للكاتبة الأمريكية ليديا ديفيس تُجسّد ما يمكن النظر إليه كملامح للزمن، داخل الإطار المكثّف والمعتاد عند (ديفيس) .. في القصة الأولى يتم تناول (بعض) عادات رجل ما في الشراب؛ فهو يحب أن يشرب في الأماكن التي لا يعرفه أحد فيها، ولا يقيم الناس المارون بها ـ الذين يكونون على سفر، أو على وشك أن يكونوا على سفر ـ روابط شخصية، مثل حانات المطارات، والقطارات .. هذه الأماكن مكرّسة للوجود المؤقت، لذا فدخولها يمثّل خروجًا من الزمن الشخصي المستقر نحو نوع من الخلاص العابر .. يمكننا تخيّل صور التحرر ـ أو العادات الأخرى في الشراب ـ التي يمارسها الرجل من الشروط القهرية للواقع الذي غادره للحظات خاطفة: الاعتراف .. الهذيان .. التطفل .. الكذب .. لن يكون الرجل ملزمًا بالثمن التقليدي الذي يُحتم عليه أولئك الذين ينتمون إلى الزمن الثابت أن يدفعه؛ إذ أن لقاءه بالغرباء في تلك الأماكن لن يكون خطوة تمهيدية لهزيمة ما، أو تبادلًا خبيثًا لوعد جماعي يتجهّز لأن يصبح غدرًا أبديًا، بل يحكم هذه المصادفات تواطؤ ضمني على حماية المساحات الفاصلة، وعدم التورط .. لن يكون الرجل جزءًا من حيوات هؤلاء الناس، كما أنهم لن يكونوا جزءًا من حياته، ولهذا سيشبه اللقاء صفقة غير مكلّفة، قد تنطوي على احتمال لإنقاذه، كما أن الرجل لن يعتبر هذه المصادفات إهدارًا للعمر ـ مثلما هو الحال في الزمن الشخصي ـ بل فرصة استثنائية لتأمل هذا الضياع .. للتمعن في السر الثمين الذي نفقده كل لحظة، ولا يمكننا فهمه، أو استرجاعه، أو تعويضه لدرجة أننا (في الثامنة والعشرين، نتوق إلى أن نكون ثانية في الرابعة والعشرين)، وهذه الكلمات بين القوسين هي القصة القصيرة الثانية التي تحمل عنوان (الخوف من الشيخوخة)، مع تعديل من جانبي لصيغة الجمع .. إن هذا الشوق للرجوع أربعة سنوات فقط للوراء هو إشارة ساطعة لما تعنيه الشيخوخة حقًا؛ فالزمن هنا يٌعرّف كامتزاج بين اليأس وإدراك فداحة ما يضيع على نحو متواصل .. إذا كانت إعادة الميلاد معجزة مستحيلة، وإذا كان استرداد الطفولة سيظل ممتنعًا عن التحقق؛ فإننا ـ على الأقل ـ ندرك بطريقة ما مدى الخسائر الغامضة التي تراكمت في أرواحنا خلال الماضي القريب جدًا، وهي أكبر مما يمكن تصديقه، أو إبعاده عن كوابيسنا .. بالرجوع إلى القصة الأولى في ضوء هذا الخاطر سيمكننا التفكير في أن الناس الذين على سفر أو على وشك أن يكونوا على سفر في حانات المطارات أو في القطارات لن يساهم اللقاء بهم في التقدم نحو الشيخوخة بل سيكون أقرب إلى التحليق فوق حتميتها، أو سخرية ضرورية من غريزة الزمن التي تقوده بهذا اليقين الذي لا يمكن تعطيله.
في القصة الثالثة، والمسمّاة (جارنا الشاب وسيارته الصغيرة الزرقاء) تقدم ليديا ديفيس وصفًا مختصرًا للواقع أو الزمن الشخصي، الذي يتم الخروج منه إلى أماكن الوجود المؤقت .. إنه (الضجيج) الذي لا يُعد الإزعاج الناجم عن حركة الجار الشاب بسيارته الصغيرة الزرقاء إلا مجرد تعبير عنه .. الجلبة التي تتعاقب الهزائم والوعود المغدورة داخل ظلامها .. الأسرار الثمينة التي يتوالى فقدانها حيث امتزاج اليأس بإدراك فداحة ما يضيع، وعدم القدرة على تصديق أو إبعاد الخسائر الغامضة التي تتراكم عن كوابيسنا .. لننتبه إلى العلاقة بين هذا الضجيج وكلمة (بعض) التي تم وضعها بين قوسين في عنوان القصة الأولى، والشكل المكثّف للغاية الذي كتبت به (ديفيس) هذه القصص .. لننتبه تحديدًا إلى الحس التهكمي المتحسّر في هذين القوسين؛ فالرجل لديه (ضجيج) أكثر وحشية من أن يتم وصف الاحتياج للخلاص المؤقت منه بـ (بعض) العادات التي يتسم جوهرها ـ رغم قناعها التقليدي ـ بطبيعة استغاثية .. يفرض الزمن الشخصي على هذه التوسلات أن يبقيها دون غنيمة حقيقية، كأنها إجراءات تخص أي روتين آخر، ولهذا ستبقى (عادة) من (بعض) عاداته في الشراب .. هنا يأتي دور الشكل المكثف للقصص الذي يؤسس انطباعًا جماليًا بأن المصادفات العابرة للرجل في حانات المطارات أو في القطارات هي اختلاسات مقتضبة بعيدًا عن الضجيج .. (بعض) من الاستراقات الصغيرة، والمتعبة للعالم خارج الزمن الشخصي، المنذورة للإخفاق كأي عادة.
جريدة (القصة) / العدد التاسع ـ أغسطس 2017

الاثنين، 7 أغسطس 2017

ماهية الفخ

قرأت قصة (الكاتدرائية) لـ (ريموند كارفر) منذ فترة طويلة ثم أدركت بعد إعادة قراءتها مؤخرًا أكثر من مرة  أن الزمن لم يؤثر في استجابتي الأولى لها؛ فالفخ الذي وضعه (كارفر) داخل هذه القصة كنت سأنصبه أنا في مكان آخر .. هذا الاختلاف لا يتعلق بما يمكن أن يُوصف بالاستناد إلى مبادئ عامة بـ (عيوب الصنعة)، والتي يمكن أن تثير غضب آباء صارمين مثل (روي بيتر كلارك)، أو (فيرلين كلينكنبورج) .. يحق لـ (ريموند كارفر) أن يزهو بـ (آثامه) المرتبطة باستخدام الحال، والعبارات الطويلة، والتكرارات، وحروف العطف، ليس فقط لأن المحاذير التقليدية ينبغي أن تتبدد أمام الضرورات الجمالية، بل لأن الطمس الهازئ أيضًا لوهم هذه السلطة يمثل في حد ذاته أحد الأورجازمات العظيمة في الكتابة .. لكنني ـ ودون أن أعتبرها عيوبًا في القصة كأي أب صارم ـ حددت لخطواتي مسارًا أكثر إلهامًا بالتخلص مما اعتبرته ـ بشكل غير مطلق ـ الثرثرة السابقة للحظة ذهاب الزوجة إلى محطة القطار لإحضار صديقها الأعمى .. لم أكن في حاجة لمعرفة أنه كان للأعمى زوجة ميتة، وأنه كان في زيارة عند أقربائها في (كونيتيكيت)، وأنه اتصل من بيت حميه بالزوجة، وأنهما كانا يتبادلان أشرطة صوتية عبر البريد، وأنه كان لهذه الزوجة حبيبًا سابقًا منذ أيام الطفولة كان لا يزال طالبًا في مدرسة الضباط، وأنهما كانا مفلسين، وأنه كان للأعمى مكتبًا صغيرًا في دائرة الخدمات الاجتماعية، وأن الزوجة تزوجت حبيبها الذي أصبح ضابطًا رفيعًا، وانتقلت معه من (سياتل) .. كنت أريد فقط الحصول على بعض الإشارات المقتضبة التي لا تشيّد (عناصر حاسمة) بقدر ما تقدم على نحو خافت (إيحاءات) عن طبيعة ما جديرة بالتخيّل، وليس الإدراك .. أتحدث عن ذلك الفرق الذي دائمًا ما يكون محورًا للنقاش في تدريس القصة القصيرة بين (المعلومات اللازمة) التي تقود إلى حياة غير معلنة، و(الحياة المعلنة) التي لا تمنح معلومات لازمة .. على أن الأمر ـ وسأستمر في التأكيد على هذا ـ نسبي تمامًا، لأنني حينما أعتبر أن (التفاصيل الضرورية) تقتصر فحسب على أن الزوجة كانت تعمل عند الأعمى، وأن الزوج يكره العميان فإنني أفكر في انحياز ذاتي تمامًا، يلائم ويجهّز للإخفاء الأهم الذي كنت سأمارسه لو كنت كاتب هذه القصة، وأقصد به تحسس الأعمى لوجه الزوجة ورقبتها، وأنها حاولت كتابة قصيدة عن ذلك.
(طلبَ الأعمى أنْ يلمس وجهها، فوافقتْ! وأخبرتْني أنه مرّر أصابعه على كامل أجزاء وجهها، حتى أنفها ورقبتها!، كما أنها حاولتْ أن تكتبَ قصيدةً عن ذلك، فهي دائماً تحاول أن تكتب قصيدة، وكانتْ تكتب قصيدة أو قصيدتين كل عام، غالباً بعد حدوثٍ أمرٍ مهمّ في حياتها.
عندما بدأنا نخرج معاً – أنا زوجتي، أرتْني القصيدة، في القصيدة كانت تسترجعُ أصابعَهُ والطريقةَ التي مرّرها بها على كامل وجهها، وفي القصيدة أيضاً تصفُ مشاعرها في تلك اللحظات، وما جالَ في ذهنها عندما كان الأعمى يلمسُ أنفها وشفتيها. أذكرُ أنني لم أُعِـرْ اهتماماً للقصيدة، بالطبع لم أخبرْها بذلك، ربما لأنني لا أفهمُ الشعر، وعادةً لا أمدُّ يدي إلى كتبِ الشعر عندما أنوي القراءة(.
هذه هي المعلومة التي كانت جديرة بالاختفاء بالنسبة لي في بداية القصة، وهي التي كان ينبغي الكشف عنها ـ بعد التخلص من دفعة جديدة من الثرثرة المقترنة بتناول العشاء ـ عند إغفاءة الزوجة الجالسة بين الأعمى وزوجها بثوب النوم الوردي بعد تدخين الماريجوانا، ثم انحسار الثوب عن فخذها (الشهي) .. لماذا كان يجب على الزوج أن يتذكر تحسس الأعمى لوجه الزوجة ورقبتها في الماضي عند هذه اللحظة تحديدًا، والتي مد فيها يده ليغطي ساقيها قبل أن ينكشف فخذها مجددًا؟ .. تتحرك القصة منذ البداية داخل سياقات محددة: زوج منزعج من زيارة الصديق القديم لزوجته نتيجة خبرة غير جيدة بالعميان .. زوجة تتصرف كما يليق بصديقة مثالية  .. أعمى يبدو أنه يمتلك من الحياة ما يتجاوز توقعات الزوج .. هذه السياقات يضمن توترها ـ الحسي بشكل أخص ـ الوصول إلى غاية شهوانية .. لدينا ما يشبه مثلث الحب المألوف، ولكن في وضعية غير تقليدية من التواطؤ الشبقي الغريب بين أطراف يحمل كل منها هوية مختلفة .. كان (كارفر) واعيًا بذلك، ولم يكن مرغمًا على الإفصاح عنه بل كان عليه فقط أن يجعل الزوجة ترتدي ثوب النوم الوردي، وأن تجلس بين الزوج وصديقها الأعمى، وتدخن الماريجوانا ثم تغفو وينكشف فخذها .. هنا كان يجدر بالمصيدة الخبيثة أن تكتمل بالإعلان عن المفاجأة التي لم تأت أي إشارة لها من قبل، وهي أن الزوج يتذكر الآن عند ظهور فخذ زوجته أنها سبق وأخبرته بتحسس الأعمى لوجهها ورقبتها، وأنها حاولت كتابة قصيدة عن ذلك، تسترجع فيها أصابعه، والطريقة التي مررها بها على كامل وجهها، ومشاعرها في تلك اللحظات، وما جال في ذهنها عندما كان الأعمى يلمس أنفها وشفتيها .. هنا تبدأ الممارسة بين الأعمى الذي يدخن، والزوجة الغافية، والزوج الذي يتأمل فخذها المكشوف .. لكننا في حاجة أيضًا إلى معلومة صغيرة، ولكنها أساسية، سيكون مناسبًا أن يفصح الزوج عن تذكره لها الآن، وهي أنه لم يسبق له أبدًا أن مارس الجنس مع زوجته بعينين مغمضتين.
لنترك الكاتدرائيات المعروضة في التليفزيون، ولنجعل الأعمى يشعر بالرغبة في التوجه إلى السرير الذي أعدته الزوجة لينام بدلا من أن يطلب من الزوج أن يصف له الكاتدرائية .. لنجعل الزوجة تستيقظ، وتقود الأعمى إلى السرير ثم تتوجه مع زوجها إلى حجرتهما بدلا من المحاولة الفاشلة للزوج في وصف الكاتدرائية للأعمى .. لنجعل الزوج يقرر ممارسة الجنس مع زوجته بعينين مغمضتين للمرة الأولى في حياتهما بدلا من أن يسأله الأعمى (هل أنت رجل مؤمن؟) قبل أن يغلق هذا الأعمى قبضته على يد الزوج التي تمسك بالقلم ويحركها لرسم كاتدرائية تحوي بشرًا فوق كيس ورقي كبير .. لنجعل الأعمى يشعر بالرعشة الجنسية وهو نائم وحده في سرير مجاور لحجرة الزوجين اللذين يمارسان الجنس في هذه اللحظة.
تدور فكرة قصة (الكاتدرائية) كما كتبها (ريموند كارفر) عن الإيمان: (هل أنت مؤمن؟) .. حسنًا .. (سأجعلك ترسم كاتدرائية وأنت مغمض العينين) .. زوج لديه بصر قاصر يدفعه لاتخاذ موقف عدائي من الأعمى الذي يمتلك (بصيرة) .. شخص لا يرى (غير مؤمن بأي شيء)، ويحتاج لإغماض عينيه كي يتمكن من الرؤية بقلبه أو بروحه ـ أيًا يكن ـ أي أن يتأمل جوهر الحياة غير المحدود، الكامن وراء الضلالات المزيفة للوعي .. أن يصبح ـ ببساطة ـ شخصًا مؤمنًا.
(أبقيتُ عينيّ مغمضتين، كنتُ في بيتي، أعرفُ ذلك، لكنني لم أشعرْ أنني في أيّ مكان، وقلتُ: "إنها حقاً جميلة!". ).
كم مرة رأينا أو سمعنا أو تخيلنا شخصًا يقبض على يد آخر أعمى، أو مغمض العينين، ويرسم بها، أو يمرر أصابعه فوق حروف بارزة ليقرأ عبارات معينة، أو يختبر قدرته على التوصل لطبيعة شيء يتحسسه في لعبة ما؟ .. لنتذكر ما قام به المخرج البلجيكي (جاكو فان دورميل) في فيلم (اليوم الثامن) حينما جعل (جورج) صديقه (هاري) يستلقي بجواره على العشب، ويغمض عينيه مثله لمدة دقيقة واحدة من الصمت، ويخبره أنه حين يتخيل نفسه يحتضن شجرة سيصبح شجرة، وحين يفكر في نحلة سيصبح نحلة، وحين يفكر في أحبابه حتى الموتى منهم سيجدهم جالسين معه ويطبطبون عليه.
تدور فكرة قصة (الكاتدرائية) كما كتبتها أنا عن فقدان الثقة في كل ما سبق ونقيضه .. في البصر والبصيرة .. في العينين والقلب .. في الشهوة الملغزة للحياة، التي يعيش فيها العميان والمبصرون داخل بعضهم البعض، والقادرة عند أي لحظة على ألا تكون جميلة ـ على الأقل ـ مهما رسمت من كاتدرائيات.
قارن بين الاحتمالات المختلفة للمسارات التي يمكن أن تتخذها قصتك خصوصًا تلك التي قد تبدو مناقضة لما تصورته (معنى) أساسيًا لها .. حاول أن تكتشف ماهية الفخ الملائم لكل احتمال، كيفية تجهيزه، موعد الكشف عن الإغراء المباغت الذي سيقود إليه، الطريقة التي سيتم بها الإفصاح عن هذا التحريض .. اجعل الاحتمال غير التقليدي هو أكثر المسارات جدارة بالتأمل، التحوّل المفاجئ، غير المتوقع، الصادم بشكل ما، الذي لا يعيد تدوير الإيمان، بل يحفر ـ بمنتهى المرح المناسب ـ جرحًا شخصيًا جديدًا في الثقة القديمة.

السبت، 5 أغسطس 2017

مولانا المقدم: سينوغرافيا السلطة

هل هناك لحظة يمكن عندها التوقف عن تكرار الاستفهامات الأزلية عن السلطة؟.. ثمة إلحاح متصاعد لهذا الهاجس قد يسيطر علي قراءة مسرحية (مولانا المقدّم) للكاتب وليد علاء الدين، الصادرة حديثًا عن سلسلة المسرح بالهيئة المصرية العامة للكتاب.. نحن هنا أمام إعادة استخدام تبدو لا مفر منها لإرادات القوة التي تخوض نفس الصراع.. الأديب الذي يتسم بكثير من الطوباوية.. المحامي المكرّس لتحويل القانون إلي توظيف براجماتي للظلم.. المصارع ضخم الجثة، والذي يفوز بكرسي العرش ويتحوّل إلي (مولانا المقدّم).. يقدّم كل طرف من هذه الأطراف خطابه التبريري إلي ذلك الكائن الذي يبدو خارج الصراع، أو بشكل أدق الذي يجب أن يكون حقلا خاضعًا لمشروعيته وهو (المهرج)..يطمع كل منهم في الحصول علي (الاعتراف) بأحقيته في الحكم، أي أن يكون هذا المهرج هو الأداة الموضوعية لعقاب الآخرين.. لكن المهرج الذي يُذكرنا بالأعمي في مسرحية (الشحاذ أو الكلب الميت) لبرتولد بريخت، حيث تحطم الاعتداد المتفاخر للقيصر أمام سخريته الخبيثة؛ هذا المهرج لا يطرح نفسه ككيان مستقل، يجسّد الطابع العبثي للصراع بإعطائه مهمة الاختيار للحاكم بين الشخصيات الثلاث، وإنما يبدو أيضًا كشبح من الصدأ اليائس، الذي يعكس الطبيعة الجوهرية لأطراف الصراع؛ فالأديب والمحامي والمصارع مفتول العضلات تحرّكهم خيوط ذاتية من الخسارات التي تشكّل ذاكرة كل منهم، والتي ستتحوّل إلي دوافع للهيمنة.. الأديب هو كاتب لم يستطع أن ينجح في هوايته، كما كان زوجًا يُعاني من العيش مع زوجة مرعبة، وسبق له أن كتب مسرحية بعنوان (الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار) التي تخيّل فيها تحوّل الإنسان لشخصين لا يفهم أي منهما الآخر.. المحامي الذي يسخر من الأديب، ومن العدل الذي لا يوجد إلا في الروايات، ويستعرض (بحسرة) مهارات الاحتيال والخداع والغش التي تستعمل القانون لخدمة الربح التجاري.. الحداد، الذي لعب المصارعة، صاحب الحياة الفارغة، التي تخلو من الأصدقاء، والذي تزوج كثيرًا وطلّق كثيرًا، وانتهي به الأمر إلي الالتحاق بالقوات الخاصة في الجيش وهو الأمر الذي علينا أن ننتبه إليه جيدًا.(كان كل همي في الحياة، إني أبقي إنسانا مهما، الناس تبصله نظرة احترام، مش خوف، واتمنيت إنه ييجي اليوم اللي أبقي فيه عظيم... دخلت الجيش، قوات خاصة رغم إني معنديش شهادة، قوتي كانت شهادتي، عملت عمليات كتير انطلبت مني، مكنتش بسأل، أنفذ وبس، اتعينت شرف، واترقيت وكنت موعود  برتبة واستكمال خدمة.. هي مش رتبة كبيرة يعني ابتأثر واضحب لكن خلاص كل شيء انتهي، كل شيء انتهي).
سيقترن تكرار الاستفهامات الأزلية عن السلطة علي نحو ضمني، بفكرة الثورة خاصة مع هذا الانحياز في المسرحية للأديب الذي يُعيّن نفسه من خلال خطاب الديمقراطية والثورية (أو ما يُسميه تحريك الوجود داخل العدم) كحقيقة مثالية مضادة للطغيان المحكوم بالحماقة، والمتمثل في المصارع ضخم الجثة الذي يفوز دون حق بكرسي الحكم، كما أن هذا الأديب سيُعيّن نفسه أيضًا كيقين مُعادٍ لإخضاع (لعبة العدالة) إلي سطوة هذا الحاكم، وهو الدور الذي سيُكلف به المحامي، المتسق مع حياته السابقة.(الرجل: »ثائرًا» رعية مين، اسمع، الحكم هنا للأقوي، ومادمت أنا الأقوي، يبقي أنا الحاكم، واللي مش عاجبه يفرجني نفسه...
الأديب: "متفاديًا ثورة الرجل" مين إللي مش عاجبه ده! لكن تسمح لي أقدم رأيي، أظن الديمقراطية تحتم ذلك..
الرجل: "بدهشة" ديمقراطية!! إزاي يعني!
المحامي: "ساخرًا" الديمقراطية حاجة زي الفول والطعمية...
الأديب: الديمقراطية، هي حلم الإنسان، الديمقراطية هي أن يصبح الإنسان إنسانًا، أن تحترم آدميته، أن يكون عقل وروح وجسد، وليس فردا في قطيع).
لكن هناك محاولة لتبيّن الوجه الآخر من الصراع، والمتعلق بتأثير الهزائم الفردية علي الفعل الجماعي.. يضع وليد علاء الدين دائرة حول هذه المنطقة الملغزة التي تسبق الصراع، أي التي تبدأ معها حتميته الفعلية داخل كل جسد لم يمتلك بعد الوعي الكافي للتأمل فيما يمكن أن تعنيه مواجهة الآخرين، أو بشكل أكثر تحديدًا الكائن الذي وجد نفسه في قلب هذه المواجهة لمجرد أنه امتلك هذا الحضور في مكان لا مجال فيه سوي لضرورة تحطيم الآخر.(يتصارع الجميع، ويحتدم الصراع في دائرة بينما المهرج يتقافز حولهم ويضحك في هستيريا.. الأديب يقف متفرجًا غير بعيد، ينتهي الصراع لصالح الرجل الذي يتغلب علي الجميع، يضعهم تحت قدمه ويقف معلنًا قوته.. يسارع إليه المهرج، ويسلمه المسدس ويضع الطرطور علي رأسه.. ويصرخ: عاش.. عاش.. الطرطور).
يختار وليد علاء الدين ما بعد الموت وما قبل الجحيم كزمن لمسرحيته، وهو ليس مجرد إعطاء صفة الأبدية للاستفهامات المتكررة عن السلطة، وإنما كتخليد لأطرافها التقليديين أيضًا عن طريق تثبيت الإرادات التي تنتج خطاباتها بوصفها ممرات يقينية للجحيم.. علي جانب آخر يقترح وليد علاء الدين سينوغرافيا من الظلام والضوء الخافت والظلال ومنطقة فسيحة تبدو جزءًا من واد صخري حيث لا ينشأ عن تواطؤ هذه العناصر الشعور بالخواء المبهم الجدير بزمن المسرحية بقدر ما يصوّر هذا التواطؤ موضوع السلطة في تاريخ كل شخصية، فكرتها الغامضة، أو خيالها الموحش الذي لا سبيل لقهره.(المحامي: يامولاي، أنا وصلت لك الكلام ده، لأني واثق في ديمقراطية حكمكم، وإنكم مش هتسمحوا للعناصر الهدامة دي إنها تسعي بين الرعية بالفساد.
المقدّم: مظبوط، مظبوط... بس تعرف هما بيجيبوا الأفكار الهدامة دي منين؟
المحامي: الأديب يا مولاي... الأديب، اللي كان بيدعي صداقته بجلالتكم، هو إللي بيروج للأفكار المريضة دي، دي بنات أفكاره يا مولاي.
المقدّم: بنات أفكاره؟!
المحامي: أيوه يا مولاي، بنات أفكاره الخبيثة، المريضة، دا بيحاول يقنع الناس بأنه أصلح الناس للحكم، والعياذ بالله... وأنا نبهته، نبهته يا مولاي، وقلت له إن إللي بيعمله ده يعد في القانون خيانة عظمي، أيوه خيانة عظمي، وعقوبته القتل، الإعدام).
ماذا لو تخيلنا أن (مولانا المقدّم) ليس سوي كابوس مشترك بين الشخصيات الثلاث تحوّل فيها الواقع إلي حالة رمزية تتخلي مؤقتًا عن القمع داخل اللاوعي، وأن ذهابهم إلي الجحيم ليس إلا عودة للواقع بعد الاستيقاظ، وقد أدركوا من خلال هذا الكابوس أن ما يظنونه صحوًا هو النهاية التي يرغبون في الحصول علي ما يرغمهم علي الإيمان بأنهم قد أصبحوا يعيشونها حقًا؟.. ماذا لو أنصتنا الآن بما يجعلنا قادرين علي استيعاب الظلام، وسماع صوت المذيع الداخلي الذي قال في نهاية المسرحية: (السادة الأموات في الصالة نرجو التوجه إلي الرحلة رقم.. الحظة صمتب.. مش مهم الرقم.. المهم التحرك نحو المصير، وعلي السادة الأموات الجدد التزام أماكنهم في صالة الترانزيت.. مطار الجمهورية الطرطورية يتمني لكم ترانزيت هادئ)؟.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 5 / 8 / 2017