الاثنين، 30 أكتوبر 2017

آلات الرجاء المكتوم

تحكين لي عن الأرملة العجوز
الأم لاثنين من المهاجرين
التي عثروا على جثتها فوق عتبة المطبخ
بعد يومين من الموت.
قولي لصمتك المرتعش هذا
أن يكف عن التوسل لي
قلبي ليس متحجرًا كما تعتقدين
وليست اللامبالاة القاسية هي التي تمنعني
من الاتصال بكِ مرة واحدة على الأقل في اليوم
مثلما تريدين أن تطلبي مني الآن.
أعرف أنكِ لو أخبرتيني صراحة بكلمات تشبه:
(لا أريد أن تنتهي حياتي مثل العجوز)
لطلبت منكِ ـ كالعادة ـ أن تعبري المطبخ سريعًا
كي لا يصطادك الموت هناك.
صدقيني
ليست متعة مفضلة لي
أن أحوّل خوفك من الموت وحيدة
إلى دعابة هازئة
أنا فقط أكثر رعبًا مما قد يخطر ببالك
حتى أنني لا أجرؤ على قبول الاطمئنان عليكِ كل يوم
كي لا يعد ذلك إقرارًا من جانبي
بثقتك في بقائي على قيد الحياة.
كيف تضمنين ألا يعتبر الموت اتفاقنا
إهانة لدهائه
ينبغي أن يعاقبنا على ارتكابها
فتضطرين للبحث عن أحد آخر
يتصل بك مرة واحدة يوميًا على الأقل
بعد إزاحة جثتي
من فوق عتبة ما.

السبت، 28 أكتوبر 2017

فلاش باك لجناحين ناعمين

أخرج من بيتي في الظهيرة .. أتحرك من شارع جانبي إلى آخر حتى أصل إلى البوابة الخلفية لمحطة القطارات .. أسير أمامها نحو الرصيف المحاذي لمدرسة العائلة المقدسة .. أخطو تحت ما يشبه الحافة الممتدة، غير المستوية لبحر أخضر، أمواجه متفاوتة الارتفاع، يحتشد في ثباتها الغصون المتلاحمة للأشجار الكثيرة، وفروع النباتات المتشابكة بكثافة أوراقها، وتناثر زهورها الملونة، حيث يمكن تمييز رائحة الفل من اختلاط النسائم .. تغمر أطراف هذا البحر الأشبه بفردوس صغير سياجًا حديديًا يعلو جدران المدرسة، وتتدلّى عبر ثقوبه الواسعة نحو هواء الرصيف .. أمر تحت الكوبري السفلي ثم أعبر الطريق نحو بيت آخر .. ليس هناك أحد إلا الموتى .. أبي يقف أمام الدولاب المفتوح في حجرة النوم .. أمي بين البوتاجاز والحوض داخل المطبخ .. أختي جالسة على سريرنا أمام دولابها الصغير .. أخي الأكبر ممدد في حجرته .. أخي الآخر جالس بجوار شباك الصالون، وينظر إلى الشارع عبر الشق الضئيل بين ضلفتيه .. لو أردت أن أسمعهم الآن سأسمعهم .. لكنني ـ كالمعتاد ـ لا أتذكر كلماتهم الآن، ولهذا يتبدد الصوت غالبًا لصالح الوجه .. كأنني كنت أعيش مع مجموعة من الأبكام، لا يستطيعون التخاطب إلا بواسطة إشارات الأيدي وتعبيرات الملامح بالرغم من أن حيواتهم لم تمتلك بصمة لإثبات وجودها أقوى من الصراخ والنحيب .. كأنني كنت طفلا أصمًا لا يمكن لأذنيه أن تمررا إلى وعيه ماهية العذاب المتدفق طوال الوقت من أفواههم فظل معتمدًا حتى اللحظة الأخيرة على تأمل الوجوه ومراقبة انفعالاتها، وتتبع حركات الأذرع والأقدام .. فجأة يختفون ثم تطلب طفلتي أن أقف معها في الشرفة .. تضع قدمها اليمنى في الفتحة المربعة الكبيرة للسور ثم تستند على صلابته لترتفع قليلا بينما تضع قدمها اليسرى في الفتحة المربعة الكبيرة المجاورة للأولى .. حينما كنت أقوم بهذا الصعود القصير لمشاهدة العابرين، لم أكن أعلم أنه سيكون لي طفلة ستقف في نفس المكان بالضبط بعد أكثر من ثلاثين سنة .. كيف لطفل لا يزال مستكينًا داخل السنوات العشر الأولى من حياته أن يتخيل وهو جالس في الشرفة آخر النهار الشتائي بين أصص الريحان، وتحت فروع اللبلاب الغزيرة المثبّتة فوق الحائط أنه سيقف بجوار طفلته ذات لحظة ما في الموضع ذاته بعد أن يتلاشى كل شيء .. هنا يا حبيبتي كنت أقرأ القصص المصورة، وأحلم بالعيش في حصانتها، مرتديًا البيجامة الكستور بينما أنصت إلى صفير متواصل كنت أظنه لطيور غير مرئية، تخاطبني من وراء الغيوم حتى اكتشفت أنه لصاحب برج الحمام فوق سطح هذا البيت القديم، الذي ينادي أصدقائه ذوي الأجنحة الناعمة كي يعودوا إلى بيتهم العالي قبل الغروب .. هنا كان جسدي الصغير والمطر يحتض كل منهما الآخر .. كان الهواء البارد يجعلني والمطر كائنًا واحدًا داخل هذه الشرفة التي كانت على وشك أن تكون جزءًا من مدينة البط يا حبيبتي .. أما الآن فالصحراء المقيتة خلفي، يطبق ظلامها المرعب على كل حيز داخل الصالة والحجرات، ويمتد عبر الباب إلى السلالم المتهدمة التي مرت عليها جنازات هذا المنزل، واحدة تلو الأخرى، ولم يعد لفضائها الصامت هوية سوى الرائحة المريرة للموت، بكل ثقلها السافل، الذي يعصر قلبي ويطحن عظامي أثناء الطلوع والنزول .. منذ سنوات طويلة، لم يعد صعودي وهبوطي لهذه السلالم سوى تمرين على جنازتي .. الصحراء المقيتة خارج البيت .. في المدينة كلها .. في العالم الذي لم أجئ إليه سوى لأدفن طوال عمري داخل بقعة صغيرة من فراغه المعتم .. لم تعد الحياة بالنسبة لي سوى التظاهر بأنني لست ضائعًا في الظل الأسود الهائل للموت .. ابتعدت عن الأصدقاء، كي أمشي وحدي، أبحث في الأماكن القديمة عن نظرات أمي .. ربما أجد عينيها في وجوه الفلاحات داخل السوق اللاتي كانت تبتاع منهن، أو فوق أبواب وحوائط ولافتات الدكاكين العتيقة التي كانت تقصدها، أو في الشرفات المتهالكة والخاوية للبيوت المقفلة على غبار النهايات التي كانت تخطو بين ابتساماتها .. أمشي وحدي في المدينة كوعاء للفناء، يحمل رماد عائلته كلها، يرتعش بالروائح المفاجئة للماضي التي تتعمّد الانبعاث عند مروره أمام مخابئها ثم تتلاشى في لمح البصر كي يتمادى سقوطه داخل الجحيم .. جسدي يواصل الاحتراق لتزداد تدريجيًا حمولة الرماد العائلي التي أحملها فتثقل خطواتي داخل هذه المدينة التي لا أعرفها .. أربعون سنة قضيتها كغريب تائه، إقامته محددة داخل هامش ضيق جدًا، ليس بمقدوره مغادرته، بل كان عليه أن يبقى مجمدًا ومنكمشاً في خفائه، ومتطلعًا إلى الحياة خارجه باستسلام تام للخوف الذي يمزق روحه بتمهّل شهواني .. الآن أفكر في المدينة كذكرى لم أعشها .. كخيال يمكن أن يعيد الحياة إلى هذا الرماد .. لكن النوافذ التي أتهاوى منها أثناء سيري، والشوارع التي تذبح بصري في كل التفاتة، وأعمدة الإنارة التي تمضغ قدميّ المرتجفتين؛ جميعها ترسّخ وعدًا أزليًا بأنها لن يمكن أن تستجيب لأحلامي التي أرى فيها المدينة كما يجدر أن تكون خارج كل هذا الضجر الغليظ الصدئ .. كأنني أفتش منذ أربعين عامًا داخل هذه الشوارع عن لقاء لا أتذكر من الذي الذي أعطاني موعدًا له، وما الذي يمكن أن يحدث عندما يتم.
جميعهم يعرفونني .. المقيمون وراء الشبابيك، والجالسون في المحلات، والعابرون في الطرق تحت المصابيح جميعهم يدركون سري .. ينظرون في عينيّ حينما أمر بينهم كأنهم يعلمون أن معي حصيلة كبيرة من الرماد، يضيف المحترق من جسدي إليها وزنًا إضافيًا طوال الوقت، وأنني أكابد عناءً في حملها لم أعد أطيقه .. يعلمون أنني لا أستطيع نثر هذا الرماد خارج قلبي، ولا أستطيع تشكيله مرة أخرى كأبوين وثلاثة إخوة وجدة وقطتين وسلحفاة واحدة .. يعلمون أن هذا الرماد هو كل ما تبقى لي من العالم، وأنني فارغ تمامًا من دونه .. جميعهم يسمعونني دون أن أتكلم .. يقرأون في وجهي الصوت المتوسل الذي أخاطبهم به وهم يدهسونني: أيتها الأشباح التي تفيض المدينة بأجسادها العفنة .. يا من تتضاجعون، وتنتحرون، وتغتصبون، وتقتلون بعضكم البعض في كل لحظة بين الجدران وخارجها .. لا أريد أن أسمع الكلمات القديمة .. لا أريد أن أرى المزيد من نفس الصور .. لا أريد أن يكون لكم وجود هنا .. أنا آلة المحو المعطلة، وأنتم لستم أكثر من عبء بشع على ذكرياتي .. مسوخ بالية تجثم على خيالي المحتضر .. لستم سوى الكراهية في ذاتها التي تسجن أحلامي .. أنا الذي تسحقونه تحت بلادتكم البغيضة، ولا يستطيع أن ينطق، لكنكم لا تدرون شيئًا عن استمتاعه العظيم بشقائكم .. تلذذه الطفولي بالمصائب التي تلتهم غفلتكم ..  كل ما أتمناه أن أرى هلاككم جميعًا قبل موتي .. لا أرجو أكثر من أن تتبخروا دفعة واحدة في صمت محكم.
السيارات والدراجات النارية تتقاذفني بأعاصيرها الهائجة، التي تتفجر في كل الاتجاهات .. يرتجل الجالسون وراء عجلات القيادة، والراكبون خلف مقاود الموتوسيكلات مقطوعات متواصلة لموسيقى الخراب بالوقاحة اللائقة لاندفاعاتهم العاتية .. يتبادلون ارتباكي الفزع .. يقلصون المساحات إلى أقصى حد ممكن أمام خطواتي المذعورة .. يحاصرونني بالتهديد الثمل، المتلاحق في كل لحظة فأبلع الشتائم التي لا يمكنها أن تلحق بالضجيج اللامبالي لعبورهم الخاطف الذي يواصل الاعتداء على كل فراغ حولي .. أرى الخيوط التي تحركهم النازلة من السماء .. أسمع حركة أمعاء المايسترو الذي يلهو بالمسارات الفوضوية لعمائهم الدنيء .. أشم الرائحة الكريهة لانسجامه المطمئن مع إيقاع الماكينات المارقة .. أنا أشيخ مُقطّعًا في انتظار وقفة واحدة داخل الموسيقى الهادرة .. وقفة قصيرة واحدة فقط .. ربما أتمكن ـ بكل ما أحمله من رماد ـ من الطيران إلى هذا البيت العالي قبل الغروب.
اللوحة لـ Fabian Perez
أنطولوجيا السرد العربي ـ 20 أكتوبر 2017

الاثنين، 23 أكتوبر 2017

من رواية (إثر حادث أليم)

صباح شتائي مشمس .. برواز صغير معلّق في الصالة ذات الحوائط باللون البيج والنقوش الحمراء المتناثرة .. البرواز يحتضن زهورًا بيضاء وصفراء كبيرة تحت سماء زرقاء .. الوقت يقترب من الظهر، وأنا نائم في حجرتي .. أفرك قدميّ تحت الأغطية الدافئة، والبلكونة مغلقة مع بابيها الخشبيين .. (عمر فتحي) يغني في رأسي (عجبًا لغزالٍ قتّالٍ عجبا .. كم بالأفكار وبقلوبٍ لعبَ) فتخطو (فريدة فهمي) بدلالٍ وتثير الشُهبَ داخل عينيّ المغمضتين .. ضوء الشمس ينساب من فراغات الشيش، وزجاج بابي البلكونة، مع برد خفيف يزيد من عمق النوم، وثقل النعاس عند أي استيقاظ بسيط .. أصوات خافتة للناس والسيارات في الشارع بينما هدير الغسالة الأملس يخرج من الحمام، ويعبر الصالة، ويمر من الباب المقفول، ويدخل تحت اللحاف والبطانيتين .. كنت أريد استمرار العالم هكذا دون أي تغيير.
 ذات مساء كانت أبلة (هانم) المعلمة بمدرسة (ميت حدر) ووالدة (وليد بدير) زميلي في الفصل في زيارة لأمي بالبيت مع ابنها .. حينما أخذت (وليد) إلى غرفتي للعب، دار حوار في حجرة الصالون بين أمي وأبلة (هانم) حول ضرورة أن تكون لي مساحة من الحرية خارج البيت والمدرسة .. كان (وليد) يمتلك هذه القدرة على الوجود في أي مكان يريده دون قيود، وسمعت والدته تنصح أمي بأن تتركني أذهب مع ابنها إلى الاستاد، أو إلى قصر ثقافة الطفل، وأن أشاهد الدنيا، وأعرف الناس بعيدًا عن سجن الأسرة .. أتصور أن (حالتي) كانت واضحة للجميع داخل العائلة، وفي المدرسة، والشارع .. الخجل الشديد، والارتباك الهائل عند التعامل مع الغرباء، وأعتقد أنها لم تكن المرة الأولى التي تسمع فيها أمي هذه النصيحة من الآخرين، لكنني أظن ـ بسبب النبرة القوية لأبلة (هانم) التي كانت تصل إلى سمعي خارج الصالون ـ أنها كانت المرة الأولى التي تتخذ فيها النصيحة التقليدية هذا المستوى المرتفع من الإلحاح، والحسم .. بدا كأن أبلة (هانم) كانت تؤكد لأمي بطريقة ضمنية أن الأمر لم يعد من الممكن السكوت عنه، وأن معالجته لا تحتمل التأخير .. ربما كان هناك فرقًا مثيرًا للشفقة، وسهل الملاحظة بالفعل بيني وزملائي في الفصل، وربما كان من اليسير أيضًا إدراك أن هذا الفرق يتسع بمرور الزمن بحيث أصبح من الضروري حدوث تدخّل منقذ لوضع حد له .. أعتقد أيضًا أن هذه الفجوة بيني وأقراني التي استوعبها (الكبار) تجاوزت اللجلجة، واحمرار الوجه، والصمت العاجز عند وجوب الكلام إلى فضيحة مستقرة، تنمو طوال الوقت من الاختلافات الخطيرة التي تؤثر على ما يُسمى بـ (بناء الشخصية) .. كان الكثير من زملائي ـ خصوصا الذكور ـ خبثاء .. جادين .. أقل طفولية مما ينبغي، أو مما أتصور أنه بديهي .. سريعي الخاطر (وتلك الميزة ليست مرتبطة على الإطلاق بمستوى التفوق العلمي بل على العكس أغلب من كانت تتوفر لديهم هذه السمة على نحو واضح كانوا أقل التلاميذ كفاءة دراسية، ولهذا كانت الدلائل الواضحة لسرعة البديهة تتجسد خارج كل ما له علاقة بالتعليم، أو بشكل أدق داخل العالم الكبير المجهول الذي تقع المدرسة على هامشه) .. خبراء في الحياة .. منهم الأذكياء في ممارسة الشرور، وفي تفاديها، وفي ردها لو أصابتهم .. خفيفي الدم أحيانًا بطريقة ملفتة؛ إذ لم يكونوا مهرجين دائمين بالكيفية المضرة لكرامتهم، أو متصنّعي الكوميديا في الأوقات الخاطئة، وإنما كانوا في لحظات قليلة مفاجئة يغادرون جديتهم المألوفة، وغموضهم الرصين، ويخلقون دعابة غير متوقعة، غالبًا ما تكون مدعومة بجرأة الإيحاء الوقح، الذي لا يكشف عن بذاءة كاملة .. في نفس الوقت كانت تعطي اللامبالاة المتزنة التي تميز أساليبهم في خلق الدعابات رسوخًا إضافيًا، وأكثر حدة للهيبة ـ متعددة الصور ـ التي يصطبغ بها وجودهم .. كانت دعاباتهم تحفر بعمق أثرًا سحريًا في روتين الفصل، يجبر المعلمين والمعلمات ـ حتى أكثرهم وقارًا وعنفًا ـ وكذلك التلاميذ الآخرين ـ حتى أكثرهم كرهًا ونفورًا من صاحب المزحة ـ على الضحك ـ بقدر ضروري من الغيرة ـ بل والتفكير فيها، واسترجاعها في الأوقات التالية كذكرى تستحق الاستعادة، ونقلها أحيانًا لمن لم يشهد حدوثها باعتبارها هدية مباغتة، ومبتكرة يلزم تداولها .. أما أنا فكنت على الجانب المضاد أتحلى بذلك النوع الفاخر من الغفلة، التي يحكمها فراغ تام كان يجب أن تملؤه تجارب وخبرات مماثلة لتلك التي يمتلكها زملائي .. كنت ذلك الطفل التقليدي ("تربية البيوت" كما كانوا يقولون للإشارة إلى تكوينه المناقض للأولاد الآخرين "تربية الشوارع") رغم انتمائي إلى نفس المنطقة الشعبية التي يسكنها أغلب زملائي .. كنت ذلك الكائن الصغير الذي تتوفر في طبيعته كافة الخصال المعروفة للسذاجة بوفرة فائضة، وكان هذا يجعلني مختلفًا حتى عن الأولاد الآخرين (المؤدبين والمتفوقين) مثلي؛ إذ كانوا هؤلاء يتصفون بالذكاء الاجتماعي ـ الذي لا يخلو من دهاء غير مُضر ـ وبفطنة الانعزال المحسوب، الواثق، بعيدًا عن مسارات الأذى المحتملة والطائشة التي يحتلها الأولاد (السيئون) .. كانوا أطفالاً عاديين، أي لديهم سلامة النية الشائعة في مثل هذه السن الصغيرة، والتي كانت تعرّضهم ـ منطقيًا ـ في بعض الأحيان لمضايقات نفسية وجسدية من (ذوي الأخلاق الفاسدة)، ولكن ردود أفعالهم كانت تتسم دائمًا بالتحفّظ والتعقّل، وبكثير من عدم الاكتراث، والأهم أنهم كانوا لا يعانون بسبب هوسهم بمصادقة من يضايقونهم .. كانوا ـ على العكس مما أكابده ـ لا يتلجلجون، ولا تحمر وجوههم وآذانهم دائمًا، ولا يصمتون حينما يجب أن يتكلموا .. لم تتحوّل سلامة النية في طفولتهم إلى وصمة مهينة .. كنا (أي الأولاد المؤدبين والمتفوقين) نشبه أطفال البرامج الصباحية، ومسلسلات وأفلام ومسرحيات الثمانينيات من حيث النظافة، والأناقة، ووفرة الأدوات والأغراض الدراسية، وسلامتها وجمالها، إلى جانب فصاحة اللسان التي كانت تتحوّل عندي إلى باعث للضحك والشفقة .. لكن بالطبع لم يكن يتوفر لدى أي منا ذلك النوع من الفهم الذي يدفع أحدنا عندما يتعرّض لمضايقة نفسية أو اعتداء بدني من أحد الأولاد (الأشرار) لأن يبتسم في وجهه بهدوء قاتل، ويخبره بمنتهى الثقة المدمرة أن العنف الذي يرتكبه دون مبرر ضد الأولاد المسالمين ليس إلا نتيجة طبيعية للبؤس الأسري الذي يعيشه، ولتعويض المهانات اللا أخلاقية التي يتعرّض لها في بيته، أو للانتقام من الرذائل والموبقات التي تحدث في نطاق عائلته .. لم تكن هناك قواعد أكيدة، أو حسابات قاطعة للانفصال بين هاتين الفئتين من الأطفال اللتين تمثلان ـ ظاهريًا ـ ثنائية (الخير والشر) .. كانت المسألة بعيدة عن الغنى والفقر، أو الرقي المهني ووضاعته؛ فمعظمنا كان من أبناء الطبقة الوسطى بتدرجاتها وتنويعاتها، وبالتقاطعات الغائمة لأطيافها، ولم يكن (حسن التربية) متعلقًا بالمستوى الوظيفي أو بدرجة الكسب المادي .. لكن ينبغي التفكير في أن موضوع (الانفصال)  بحد ذاته يبدو أكثر طغيانًا في الطفولة، حيث الميل الفوري ـ الذي يعاند التراجع، وإن يسمح بسلوكيات غير خاضعة لصلابته أحيانًا ـ لتصنيف الآخرين ـ ولو بحسب ملامحهم ومظهرهم الخارجي ـ وتوزيعهم دون تفاوض على العالمين المتباعدين: الأبيض والأسود.
لو أردت تحديد كلمة واحدة لوصف علاقتي بأقراني في الفصل، وفي الدرس الخصوصي الوحيد الذي أخذته طوال المرحلة الابتدائية في الصف السادس عند الأستاذ (عاشور) الذي كان يسكن في شقة بالدور الأرضي داخل شارع جانبي أمام سينما (ركس)؛ ربما ستكون كلمة (الادعاء) هي الاختيار الأنسب: ادعاء الخبث .. ادعاء الجدية .. ادعاء المعرفة .. ادعاء القوة الجسدية .. ادعاء الدهاء اللا أخلاقي .. ادعاء الصلابة النفسية .. ادعاء الصداقة بأقراني.
أظن أن هذه الادعاءات هي صاحبة الفضل الأساسي في تحويل الغفلة من مجرد حالة إقصائية، تنطوي على آلامها الخاصة المحدودة في نطاق التوحد الطفولي إلى مهزلة كوميدية حاضرة، ومتجددة طوال الوقت من الإذلال الرائج .. تحويل السذاجة من إنزواء مقفل للهموم الصغيرة إلى تراكم متداول، شبق، ومضحك، للجروح المغرية.
موقع (الكتابة) ـ 20 أكتوبر 2017


الاثنين، 16 أكتوبر 2017

ممدوح رزق.. إلى أطفال الثمانينيات في مصر

صدرت عن "الهيئة المصريّة العامّة للكتاب"، ضمن سلسلة "إبداعات قصصية"، رواية "إثر حادث أليم" للروائي والناقد المصري ممدوح رزق (1977)، الذي قال لـ"الترا صوت": "الرواية في جانب أساسي منها جاءت كهدية توثيقيّة لكلّ الذين عاشوا طفولتهم خلال سنوات الثمانينيات في مصر"، كما جاء في تقديم الرواية أنّها نجحت في نقل القارئ إلى عوالم فترة الثمانينيات من خلال عين الطفل المسرود عنه.
تتمحور فكرة الرواية الرابعة لرزق حول طفلٍ ينشرُ ما يقول أنّها مذكرات والده الذي تدور حول طفولته، وذلك بعد وفاة الوالد إثر حادث غامضٍ وغريب، وتؤرخ تلك المذكرات لفترة الثمانينيات في مدينة المنصورة المصريّة، إذ يحاول الوالد من خلال الكتابة الانتقام من ذكرياته الماضيّة، حيث يعتبر أنّ الأمر وسيلًة لمواجهة طغيانها والتشويش على مشاهدها. ويستمرّ الطفل في نشر المذكرات طيلة فصول الرواية، قبل أن ينتهي الأمر في الفصل الأخير منها "لغز كاتب المسرح" الذي يضع الابن والأب والمذكّرات والحادث في موضع الاستفهام، وتتحوّل تلك المذكّرات إلى لعبة من المفاجآت يمتزج فيها الوقعي والخيالي والسوريالي.
يذكر أنّ ممدوح رزق كاتب وناقد مصري يكتب في عدد من الجرائد والمجلّات المصريّة والعربية، وقد صدر لهُ عددًا من الأعمال الأدبيّة نذكر منها: "السيء في الأمر" (نصوص)، "مكان جيد لسلحفاة محنطة" (مجموعة قصصيّة)، "خلق الموتى" (رواية)، "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" (مجموعة قصصيّة)، "خيال التأويل" (قراءات نقديّة).
من الرواية
ماكينة خياطة "سنجر مرسيدس" كانت تستعملها جدتي وأمي وأختي، وكانت توضع أمام الكنبة بجوار حجرة والديّ، وأحيانًا كانت تنتقل صباحًا إلى داخل هذه الحجرة لتوضع بجوار البابين المغلقين للبلكونة ذات الشيش المفتوح. كانت جدتي تجلس خلفها ـ حيث أبي في عمله خارج البيت ـ وتفصّل الملابس. كانت الصالة وحجرة والديّ تمتلئان أحيانًا ـ عندما تعمل ماكينة الخياطة وقتًا طويلاً وأيامًا متواصلة ـ بالأقمشة، والقصاصات، وبكرات الخيوط بالإضافة إلى "المازورة" الملونة في أحد وجهيها بالأصفر، وفي الوجه الآخر بالأبيض والأحمر والأخضر ـ كالتي كان يستعملها يوسف شعبان في مسلسل "عيلة الدوغري" ـ وكذلك المتر الخشبي القديم ذي اللون البني الفاتح.
لي تجربة مروعة مع هذه الماكينة كتبتها في نص قديم اسمه "الحبل السُري": "بينما كان صغيرًا/ كان يراهم يضعون القطع القماشية الممزقة/ أو المنفصلة عن بعضها البعض/ أسفل إبرة ماكينة الخياطة/ ثم يديرون المقود الدائري/ لتتحرك الإبرة سريعًا فوق ثقوب القماش/ والقطع المتباعدة/ فتختفي الثقوب/ وتتلاحم القطع المتباعدة/ كان مبهورًا بما يراه/ حتى أنه انتهز فرصة عدم انتباههم له/ وابتعادهم عن ماكينة الخياطة/ وقرر أن يمارس الأمر بنفسه/ لم يبحث عن قماش ممزق ليرتقه/ أو قطع متباعدة ليلحمها/ فقط/ وضع إصبعه الصغير أسفل الإبرة/ وأدار المقود/ بالطبع/ كانت هناك دماء كثيرة/ وصرخات كثيرة/ وألم كبير/ لكنه بعد أن انتهى من البكاء/ وبعد أن صار إصبعه ملفوفًا بضمادة سميكة/ لم يعرف لماذا فعل ذلك/ لماذا وضع إصبعه بديلاً للقماش/ حتى بعد سنوات كثيرة جدًا/ لم يعرف/ فقط/ كان يشعر بضرورة ما فعله/ حتى أنه إلى الآن/ وكلما وقعت عيناه على ماكينة خياطة/ يظل يتأملها طويلًا/ ثم بشكل تلقائي جدًا/ يجد نفسه متوجهًا في صمت/ نحو أية مرآة قريبة".
الترا صوت ـ 12 أكتوبر 2017

الأحد، 15 أكتوبر 2017

أبوية القارئ (1)

هناك عدة صفحات يمكن اعتبارها الركائز الأساسية لموقع جودريدز: الصفحة الرئيسية التي تعرض أنشطة المشاركين بتسلسل زمني .. الصفحة الشخصية التي توثق فاعلية المستخدم: تقييماته للكتب ومراجعاته وتدويناته ... إلخ .. صفحة الكتاب التي تحمل معطيات عديدة مثل الغلاف والنبذة وعدد الصفحات ودار النشر واللغة والتعريف بالكاتب وبإصداراته الأخرى والاقتباسات وذلك على هامش المحتوى الرئيسي الذي يتضمن مراجعات القراء وتقييماتهم بالنجوم، والتي تتحكم تلقائيًا في التقييم الكلي للكتاب الذي يتصدر الصفحة.
هذا النظام الذي يعمل به موقع جودريدز يختلف عن نظام آخر:
ألا تكون هناك صفحة للكتاب بل يظل موقف القارئ منه (التقييم والمراجعة) داخل مساحته الخاصة (الصفحة الشخصية) بالضبط كما لو أنك نشرت غلافًا لرواية في صفحتك على فيسبوك مقترنًا بمراجعتك لها دون أن تنتقل هذه المراجعة إلى فضاء عام يتكوّن من تقييمات قراء آخرين.
ما الفرق بين النظامين؟
يقوم النظام الأول الذي يعمل به جودريدز على إعطاء (حقيقة) للكتاب من خلال انحيازات قرائه، وهذا يفترض أن الكتاب لا يمتلك هوية دائمة التجاوز، وإنما هو شيء نفعي، مؤطر بحدود ثابتة في وعي جامد، ولا تتحدد (قيمته) إلا وفقًا لأحكام مستعمليه، التي بدورها غير قابلة للتراجع أو التحوّل أو لإعادة الإنتاج وإنما تمثل خط نهاية محصن للعلاقة القرائية .. هذه الحصيلة المؤلفة من توافقات القراء واختلافاتهم تجاه الكتاب هي وحدها يقينه المقدس الذي لا سبيل للتفاوض معه.
أما النظام الثاني (الذي لا يستخدمه جودريدز لأنه يتعارض مع السلطة التي يعطيها الموقع وحدها الحق في تكوين الحقيقة أو المعنى النهائي) فهو الذي يوفر للقارئ مساحته الذاتية التي تنمو بداخلها مواقفه التأويلية المتغيرة غير قابلة للسيطرة، ولا يمكن منحها الثقة الكاملة من حيث كونها القرار الأخير القاطع، ولا يضمنها القارئ نفسه. هو نظام أكثر تفهمًا لما يعنيه (الموقف الخاص للقارئ)، أي أنه يخلق (المساحة الإبداعية المستقلة الموازية للكتاب التي ينبغي أن يمتلكها القارئ مثلما كان للمؤلف نفس المساحة عند كتابة النص)؛ فالمؤلف لم يضع كتابه كجزء من حقيقة كتاب آخر بالتشارك مع الآخرين، أي أن كتابه لم يكن (مراجعة وتقييمًا) لكتاب آخر كنوع من المشابهة الشكلية مع منتجين مماثلين للمراجعات والتقييمات، وإنما كان شيئًا ينتمي إلى خصوصيته، حياته، ثقافته، مزاجه الشخصي في زمن ما، رغباته وهواجسه وممارساته التخييلية، وهو بالضبط ما يفترض أن تُعبّر عنه كتابة القارئ دون تبعية لنسق عام يفرض تحويل هذا القارئ (إبداعه) إلى مجرد محرّك صغير من ضمن محركات لانهائية لتشغيل ماكينة المطلق. إنه نفس الفرق الجوهري بين مدونات القراءة مثلا التي تعتمد على الريفيوهات فقط، والنظام الذي يقوم عليه موقع جودريدز.
كتبت قراءات نقدية لأعداد هائلة من الكتب والنصوص، وبالتأكيد لا يوجد خط نهاية في علاقتي بأي منها.أعود دائمًا للأعمال التي كتبت عنها، وأعيد تناولها بمنظورات مختلفة في مقالات ودراسات أخرى فضلا بالتأكيد عن معالجتها في الكتابة الأدبية. نعم، يمتلك القارئ على جودريدز نفس الحرية؛ فهو يستطيع أن يكتب مراجعة تأخذ مكانها ضمن قطيع القراء في صفحة الكتاب، ثم يمكنه أن يكتب فيما بعد ما يشاء من التدوينات عن نفس الكتاب بصورة مباشرة أو غير مباشرة في أقسام أخرى من الموقع ذاته .. حسنًا، هناك بالتالي أسئلة ضرورية: إذا كان بالإمكان التدوين عن الكتاب أكثر من مرة في أكثر من مكان وبطرق مختلفة لنفس القارئ وفي نفس الموقع: ما هي الحكمة من وجود صفحة مستقلة للكتاب إذن؟ .. أليست الصفحة الشخصية لمستخدم جودريدز هي الأشمل كـ (مساحة ذاتية تستوعب كافة المواقف التأويلية المتغيرة غير قابلة للسيطرة، والتي لا يمكن منحها الثقة الكاملة من حيث كونها القرار الأخير القاطع)، فضلا عن أنها تتفادى بوجودها كفضاء وحيد التعتيم المحتمل بقوة على الزوايا الأخرى للتناول، والذي يفرضه (الموقف الرسمي) أي المراجعة المكتوبة في صفحة الكتاب؟ .. ثم السؤال الأكثر بداهة: مع كل هذا الانعدام للاستقرار، ومع هذه الإمكانية التي لا تتعطل للتغيّر، ولإعادة الكتابة؛ أي حقيقة تعطيها نجوم التقييم إذن؟!. (يتبع)
جريدة (القصة) / العدد العاشر ـ أكتوبر 2017

الأربعاء، 11 أكتوبر 2017

(بقايا اليوم) لكازو إيشيجورو ... أن تخدم الموت.

في روايته (بقايا اليوم) الصادرة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في 357 صفحة، بترجمة الراحل الكبير (طلعت الشايب)؛ لا يستثمر الروائي الإنجليزي من أصل ياباني (كازو إيشيجورو) صاحب الـ 62 عاماً، والحاصل مؤخراً على جائزة نوبل في الآداب ثيمة السفر في سياقها التقليدي كفرصة مضمونة لمراجعة الذاكرة، ومحاكمة الماضي الذي غادرت الذات تجسيده المكاني بشكل مؤقت، بل يجعل كذلك من السفر نفسه موضوعاً للمساءلة: هل هو نوع من التحرر ولو في نطاق محدود، أم أنه ـ في حقيقته الأعمق ـ إعادة تجديد للخضوع؟. هل يمثل الابتعاد المقترن بالتأمل والفهم المختلف أسلوباً للانفلات من سيطرة قدرية على الزمن، أم أنه ترسيخ قهري ـ أكثر حدة ومراوغة ـ لحتمية هذا الرضوخ؟. 
(ربما نكون قد فهمنا على نحو أفضل سر غرام أبي بقصة رئيس الخدم الذي لم يهتز عندما اكتشف وجود نمر تحت طاولة العشاء، ذلك لأنه كان يعرف بالغريزة أن في موضع ما في تلك القصة يوجد الجوهر الحقيقي لمعنى "الكرامة").
إن (ستيفنس) رئيس الخدم الإنجليزي بقدر ما كان يحاول الخطو بعيدًا عن صرامته الوظيفية أثناء الرحلة بواسطة الاستعادة، والتشريح المضاد لوجوده بقدر ما كان يبدو أنه يستخدم هذا الخروج لترويض الهواجس العدائية التي تناوش هذه الجدية الحاكمة لشخصيته وحياته العملية. ربما نفكر في أن رحلة (ستيفنس) داخل الريف الغربي لم تخلق هذه الحاجة لمراجعة الذاكرة، وإنما كانت مجالا ملائمًا لأن تصبح هذه المحاكمات المخبوءة، والتي يسهل استنتاج أنها تمثل جزءاً جوهرياً من ماضي (ستيفنس)، أن تصبح واقعه الخاص والعابر بقدر الوقت الذي سيستغرقه هذا السفر. علامات الجوع للتورط في العالم الممتد خارج القصر، والتي كانت أقرب إلى المركز السري للعالم، أو بالأحرى كان النزاع مع قمعها الفوري، أو مع قتل تماديها هو ذلك المركز.
هنا تعلن سلطة المكان (قصر دارلنجتون) التي تم تجاوز حدوده المتعينة عن هيمنتها غير المحكومة بأطر. تثبت عدم ارتباطها بحيز جغرافي بقدر ما هي مشيئة تُشكل غرائز الحياة لدى بشر كـ (ستينفس). الدوافع المقدسة التي لا تقوده دائمًا للإيمان بأنه أدى دوراً مثالياً تجاه العالم فقط، بل تجبره أيضاً بواسطة الجدل مع هذا الإيمان على التمسّك به. هذا الحفاظ على اليقين لا يتجذّر لدى رئيس الخدم الإنجليزي بوصفه واجباً اضطرارياً، أو هروباً من مواجهة متحسرة للأخطاء، وإنما تحوّله الرحلة ـ بكل ما تدعيه من تحرر ـ إلى اكتشاف غير متوقع للجدارة، دعم استثانئ لفكرة الذات عن نفسها، والتي ينبغي عليها بالضرورة أن تكون ممتنة للمهمة الوجودية ـ خدمة (اللورد دارلنجتون) ـ التي منحت الذات هذه المكانة، حتى لو كانت مهددة، أو محل شك.
(أنا مندهش لرد فعلك هذا يا مس "كنتون"، والمؤكد أنه لا حاجة لتذكيرك بأن واجبنا المهني لا يسير حسب أهوائنا وعواطفنا وإنما حسب رغبات من نعمل عنده).
تتحدد الاستفهامات المتعلقة بما يؤديه السفر حقاً في الرواية وفقاً للتفاصيل التي يسترجعها (ستيفنس)؛ إذ تمزج طبيعة تحليلها بين رؤية رئيس الخدم لحقيقته التاريخية التي تتعدى حضوره الفردي، وبين الضبابية المنتهكة لرونق هذه الصورة. بين محاولة تسوية التعارضات القائمة بين الحقيقة التاريخية لوحدته، ونقائضها، وبين إنكار هذه الحقيقة كلياً. ليس الألم متعلقاً هنا بهذا الصراع فحسب، وإنما بالوعد المغدور للخلاص الذي كان يفترض بالرحلة أن تحققه، والتي أثبتت أن مسارها ليس أكثر من التفافًا للرجوع إلى الأصل مكتسباً ما يشبه الشغف الناضج والخبيث، الذي قد لا ينجم إلا عن الوهم بالابتعاد. كأن (ستيفنس) قد حصل على بداية جديدة لحياته القديمة مشيّدة على ما هو أبعد من الركائز الاعتيادية لوجوده السابق، أي المسافة المجازية المثقلة بالرجاء واليأس، التي يمكن للذات أن تتفحص الماضي من ورائها لتختبر وتجادل المعاني التي كوّنت الذاكرة، وفي مقدمتها (الكرامة)، حتى لو كان المصير المتوقع أو الثابت هو العودة رغم كل شيء.
(إلا أنني لم أسمح أبداً بأن تدخل مدبرة القصر وتخرج من غرفتي هكذا طوال اليوم. غرفة رئيس الخدم ـ كما أعرف ـ مكان له أهميته الخاصة. هي قلب كل الأنشطة التي تدور في القصر، ليست أقل من مركز العمليات .. مركز القيادة في المعركة).
يستخدم (كازو إيشيجورو) في (بقايا اليوم) اللغة المماثلة لوظيفة (ستيفنس)، أي أنها تتسم بما يجب أن يحظى به الخادم العظيم، القادر على تحقيق التوازن ـ بحسب ما جاء في الرواية ـ  بين اليقظة والتظاهر بعدم الوجود. كأن لغة الرواية تخدم غرضين مزدوجين: الحفاظ على هوية (ستيفنسن) مع تشابك حالاته المتغيرة أثناء الرحلة، وفي نفس الوقت تثبّت طبيعته كخادم لشيء يتعدى (اللورد دارلنجتون)، أو(مستر فراداي) المالك الجديد للقصر، أي أنها تضعه طوال الوقت في نطاق البُعد الغيبي لوظيفته كخادم لغاية مجهولة، غير مدركة، تنتهي بالموت.
(لقد كرست وقتاً طويلاً بالطبع من أجل تحسين قدراتي أو مهاراتي في الممازحة، ولكن ربما لا أكون قد تعاملت مع ذلك بالالتزام الواجب. وربما أبدأ المران بحماس جديد عندما أعود إلى "دارلنجتون هول" غداً).
على جانب آخر لا يجب استبعاد الرغبة في التعويض الملموس كهدف أساسي للسفر، سواء فيما يتعلق بحب (ستيفنس) لـ (مس كنتون) مدبرة القصر السابقة، وسعيه لإعادتها إلى العمل، أو على مستوى الإقرار الذاتي بحقيقة (اللورد دارلنجتون) كشخص مجرد من العظمة، أو بالتخلص من تزييفات الوعي التي سيطرت على ماضي رئيس الخدم. ولكن عند رصد هذا، يمكننا أن نتناول تلك الإرادة كتأكيد على الوعد الذي اعتبر (ستيفنس) أن بوسع هذه الرحلة تحقيقه. ليس هذا فقط، بل علينا أن نرصد ذلك في ضوء تحوّل التعويض إلى انتباه لما يمكن أن نعتبرها حكمة للابتعاد؛ ما الذي يقودنا للخروج، أو بالتعبير الأشمل: السعي نحو الانزواء المختلس الذي يتخطى ما رُسم لنا من خطوط مكانية، والذي قد لا يكون سفرًا بالأخص، وإنما تراجعًا أو انسحابًا بأي كيفية عما كان مقدرًا لأعمارنا أن تتورط في حصاره؟. لماذا علينا أن نتتشبث بالطموح في استجابات منقذة لهذا الابتعاد؟، ولماذا يتكفل الابتعاد بإعادة تقديمنا كعناصر نمطية من وليمة عامة للتاريخ رغم كافة الإشارات التي يبديها كأطواق نجاة؟. هل هو ابتعاد حقًا أم وسيلة ماكرة، غير مستوعبة، لتجديد الولاء؟. 
يذكر أن هذه الرواية التي سبق حصولها على جائزة البوكر البريطانية سنة 1989 واحدة من أربع روايات ترجمت إلى العربية لـ (كازو إيشيجورو)، وصدرت جميعها عن المركز القومي للترجمة لمترجمين مصريين، أما الروايات الثلاث الأخرى فهي: (من لا عزاء لهم)، ترجمة (طاهر البربري) عام 2005. رواية (عندما كنا يتامى)، ترجمة (طاهر البربري) عام 2008 رواية (فنان من العالم الطليق)، ترجمة (هالة صلاح الدين) عام 2009.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الأربعاء، 11 أكتوبر 2017