الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023

محفوظ ونوبل وكامب ديفيد... عن موقف صاحب "الثلاثية" من الصراع


الأحد 17 ديسمبر 202311:29 ص

سخَّر أديب نوبل نجيب محفوظ، سنوات حياته الطويلة (1911- 2006)، لشيء واحد أكثر من أي شيء آخر، وهو مشروعه الأدبي، وكان عليه أن يزيح من طريقه كل العقبات التي تقف في سبيل تحقيق هذا الطموح، لكن الإزاحة، ربما تبدو فعلاً عنيفاً وصدامياً، تتنافى مع الطبيعة المسالمة لصاحب الثلاثية. كما أنها تنطوي أيضاً على أشكالٍ من الأنانية والانتهازية وكان محفوظ نظيفاً منهما. من هنا كان عليه أن يلجأ إلى طرقٍ أخرى في مواجهة العقبات؛ أن يتجنبها ويتخطاها، عبر أسلوبين مصريين صميمين، هما "المراوغة"، و"التحايل".

المراوغة كان ينتهجها في المسائل السياسية، فمن غير الوارد أن نحصل على رأي أو موقف سياسي صريح لمحفوظ إزاء قضية ما، لأنه كان يعلم خطورة ذلك على إبداعه أولاً، كما أنه كان يُمرّر كل ما يُريد قوله، في الشكل الفني الذي اختاره، وهو "الرواية" التي تُوفر لكاتبها مساحة من الحرية، لتتخفى آراؤه وسط الألاعيب السردية، فلا أحد يستطيع أن يُمسك عليه شيئاً.

أما التحايل فهو الذي أعانه على العيش وفقاً للثنائية المتضادة "الموظف والأديب"، دون أن يكتسب شيئاً من طبائع الموظفين، أو تتعفر روحه بغبار المؤسسات الحكومية التي عمل فيها 37 عاماً. لكن هذين الأسلوبين تحولا على يد منتقدي محفوظ، إلى صفات نُعت بها صاحب "ثرثرة فوق النيل"؛ صفات من قبيل السلبية، والجُبن، ومهادنة السلطة. وكان محفوظ لا يُلقي بالاً لهذه الانتقادات، قاطعاً طريقه نحو تحقيق مشروعه.

عندما أُعلن خبر فوز نجيب محفوظ، بدأ يوسف إدريس حملته الهجومية عليه، فظل يُردد عبر تصريحات أدلى بها للصحافة المصرية والعربية، أن حصول نجيب محفوظ على نوبل إنما هو مكافأة له من جانب الصهيونية العالمية على تأييده للسلام مع إسرائيل، ولمعاهدة كامب ديفيد عام 1979

غير أن هذه الانتقادات تبدو ناعمة وهزيلة إزاء سهام الاتهامات التي انطلقت إلى صدر نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب (تشرين الاول/أكتوبر عام 1988)، فثمة حرائق اشتعلت إثر فوز أول أديب عربي بنوبل، بجانب أجواء الفرح العارم التي سادت في جميع البلدان العربية، وافتتح القاص والكاتب المصري يوسف إدريس ماراثون الاتهامات هذا، بالأحرى ماراثون "التخوين".

كان يوسف إدريس يُمني نفسه بالحصول على الجائزة المرموقة، خاصة بعد أن أوهمه بعض المثقفين والنقاد بأنه تم تزكيته للحصول على نوبل، وأن اسمه مطروح بقوة، وعندما أُعلن خبر فوز نجيب محفوظ، بدأ إدريس حملته الهجومية والتخوينية، فظل يُردد عبر تصريحات أدلى بها للصحافة المصرية والعربية، أن حصول نجيب محفوظ على نوبل إنما هو مكافأة له من جانب الصهيونية العالمية على تأييده للسلام مع إسرائيل، ولمعاهدة كامب ديفيد عام 1979، وكذلك نتيجة لتجنب محفوظ الحديث عن القضية الفلسطينية، أو التنديد بالاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وبعد هذه التصريحات، انطلقت حملة هجومية شعواء من جانب بعض الكتاب العرب ضد أديب نوبل تتهمه بالتطبيع مع الكيان الصهيوني الذي كافأه بأهم جائزة عالمية حسب زعمهم.

في كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" للكاتب والناقد رجاء النقاش، يردّ محفوظ على الاتهامات التي وجهها له يوسف إدريس، حيث قال نصاً: "أتصور أن الصهيونية العالمية التي تحدث عنها إدريس ضحكت في سرّها على كلامه. هل بلغت السذاجة بالصهيونية العالمية أن تسعى إلى منح أديب عربي جائزةً كبرى بهذا الحجم لترفع من شأن العرب، وتلفت أنظار العالم إليهم وإلى أدبهم، في حين أن العرب هُم العدو الأول لإسرائيل؟! ثم ما معنى أن الصهيونية أرادت أن تكافئني على موقفي المؤيد لمعاهدة السلام. إن الصهيونية لو أرادت أن تكافئ كاتباً على موقف تُشجعه هي، فقد تضع في يده أو في حسابه البنكي مبلغاً من المال على سبيل الرشوة، لا أن تسعى إلى حصوله على جائزة أدبية هي الأولى في مجالها في العالم".

ربما لم يتخلَّ نجيب محفوظ عن أسلوبه المراوغ في التعبير عن رأيه إزاء أي قضية سياسية، سوى أخطر القضايا العربية وهي "الصراع العربي الإسرائيلي"، فلم يكن رأي محفوظ واضحاً فقط كالشمس، بل كان متهوراً وغير مدروس.

قبل عدة سنوات من توقيع معاهدة كامب ديفيد، وبالتحديد في أوائل عام 1973، وقّع نجيب محفوظ مع عدد من الكتاب والمثقفين، على بيان يُطالب فيه الرئيس أنور السادات بضرورة إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، عبر الاتجاه إلى التفاوض مع إسرائيل، وقبل هذا البيان، كما يحكي الكاتب محمد سلماوي في كتابه "في حضرة نجيب محفوظ"، كان الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في ندوة بجريدة "الأهرام"، وحوله عدد هائل من الكتاب والأدباء، وإذا بنجيب محفوظ يسأله: هل من الممكن أن نحارب إسرائيل وننتصر عليها ونُحرّر أراضينا؟ فرد عليه القذافي: مستحيل. فقال محفوظ: إذاً التفاوض والسلام هما الحل.

وفي عام 1976، انفتحت نيران الاتهامات والتخوين في وجه نجيب محفوظ، بعد حوار أجراه في السابع من كانون الثاني/يناير من العام المذكور، بجريدة "القبس"، وكانت الإصدارات الصحافية في سباق محموم حول صياغة العناوين النارية التي تلتهم صورة محفوظ ومكانته الأدبية والثقافية، ففي سياق الحديث عن حرب تشرين الأول/أكتوبر والمسار السياسي الذي اتبعته مصر بعدها، قال محفوظ نصاً: "إنني أريد السلام وأقبله، حتى لو اقتضانا هذا التنازل عن جزءٍ من الأرض، فالأرض لا قيمة لها في ذاتها، الأهم هو الهدف، ويجب أن يكون هدفنا هو بناء الحضارة، نحن نضحي بالإنسان وندفعه إلى الحروب ليُقتل من أجل الهدف، فلماذا لا نضحي بالأرض إذا كانت هذه التضحية ضرورية لتحقيق الهدف الأكبر وهو السلام من أجل بناء الحضارة".

في عام 1976، انفتحت نيران الاتهامات والتخوين في وجه نجيب محفوظ، بعد قوله: "إنني أريد السلام وأقبله، حتى لو اقتضانا هذا التنازل عن جزءٍ من الأرض، فالأرض لا قيمة لها في ذاتها، الأهم هو الهدف، ويجب أن يكون هدفنا هو بناء الحضارة".

هذا كلام خطير لا شك، وهو منافٍ تماماً لطبيعة محفوظ الكتومة المراوغة، وكان من الطبيعي أن يُدان ويُهاجم، لكن البعض قد تمادى في هذا الهجوم إلى حد التجريح والتخوين، واتهمه بعض الكتاب العرب بأنه يعمل ضد الحقوق الفلسطينية، بل أنه لا يرى الشعب الفلسطيني على الإطلاق، مدللين على ذلك بأنه لم يكتب أيّ عمل روائي أو أدبي عن القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب المركزية.

وبرغم أن معاناة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة على وجه التحديد كانت جزءاً أساسياً في خطاب نوبل الذي ألقاه نيابة عنه في الأكاديمية السويدية الكاتبُ المصري محمد سلماوي، إلا أن هذا لم يُغير من الأمر شيئاً، وظل محفوظ بالنسبة لبعض الكتاب العرب في خانة "المُطبعين مع الكيان الصهيوني"، برغم أن ياسر عرفات، كان قد هنأه بحصوله على نوبل وكذلك الشاعر محمود درويش، وغيرهم من رموز النضال الفلسطيني.

ما يحدث الآن من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، وكذلك الضفة الغربية، يُظهر كلمة "السلام" ملطخةً هي الأخرى بدماء القتلى الفلسطينيين، ولأن نجيب محفوظ، القامة الأدبية الكبيرة، هو واحد من أول الداعين إلى إقامة السلام مع إسرائيل، لإنهاء قضية الصراع العربي الإسرائيلي، رأينا أنه من الضروري، مراجعة هذا الموقف لأهم أديب عربي، في ضوء الاعتداءات الصهيونية على الشعب الفلسطيني.

في حواره مع رصيف22 رأى الدكتور وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك بكندا، أن موقف نجيب محفوظ المؤيد للسلام مع دولة الاحتلال كان متسقاً مع قيمه، ومنطلقاً من موقف أخلاقي محبذ للسلام العالمي وليس فقط على الحدود بين مصر وجيرانها، مشيراً إلى أن أديب نوبل كان أكثر ميلاً للحس المصري القُطري، والذي عبره تتحلل مصر أو تتحرر من التزامات عربية -تجاه فلسطين مثلاً- ، وتوفر نفقات الصراع والتعبئة المتواصلة في إطار صراع سلمي أو حربي إلى التنمية الاقتصادية، ليعيش المجتمع المصري في حالة من الاسترخاء.

هذا هو تحليل الدكتور الخشاب لموقف نجيب محفوظ الذي يراه لا غبار عليه من حيث المبدأ، لكنه يواصل: "الإبادة العرقية التي يتعرض لها إخواننا في غزة تضعنا أمام حقيقة مؤلمة، وهي أن اليمين المتطرف في دولة الاحتلال قد استمر في الصعود منذ بدء عملية السلام مع مصر منذ نصف قرن، وقد ازداد ذلك اليمين في تطرفه، وبالتالي من السذاجة أن نتصور أن قواعد اللعبة وموازين العلاقات بين مصر وجيرانها إلى الشرق لم تتغير. ومن السذاجة أن نتصور أن النظام المهيمن على إسرائيل يحافظ على السلام مع جيرانه العرب من باب احترامهم، لا من باب تقديره لخسارته لو ناصبهم العداء عسكرياً".

ويضيف الخشاب أن ما تفعله إسرائيل بغزة هو بمثابة رسالة إلى مصر والأردن وسوريا ولبنان، وإلى الدولة الفلسطينية في الضفة، مفادها: التزموا بهيمنتنا عليكم وإلا أصابكم ما يصيب الغزيين.

وفي مسألة العلاقة بين حصول نجيب محفوظ على نوبل وتأييده للسلام مع إسرائيل، يرى أستاذ الدراسات العربية، أنه من الظلم تصور أن نوبل ذهبت لمحفوظ بفضل تأييده للسلام مع إسرائيل، "فنجيب محفوظ عملاق أدبي بصرف النظر عن مواقفه السياسية. ومع ذلك فبالتأكيد أن نوبل لم تكن لتمنح لمحفوظ لو كانت له مواقف حادة في مناهضة إسرائيل. ولهذا فلم يكن ممكناً أبداً أن يحصل محمود درويش على نوبل برغم أنه أهل لها، فهو يمتلك كل مقومات الحصول على الجائزة إلا في ما يتعلق بالدفاع عن الحق الفلسطيني".

وفي حين يرى صاحب "مهندس البهجة" وليد الخشاب، أن انتقاد بعض المثقفين لموقف محفوظ منذ ما يقرب من خمسين عاماً أمر مقبول، بسبب تسيد الموقف المناهض للسلام مع إسرائيل في ذلك الزمن، إلا أن الروائي والناقد ممدوح رزق له رأي آخر، حيث يقول لنا: "هؤلاء الكتّاب الذين هاجموا محفوظ لا يريدون مؤيدين ومساندين لـ'ملائكيتهم' في 'حروبهم الانتقائية' وحسب، وإنما قبل كل شيء يريدون الصامتين عن ما يقوّض 'المبادئ' التي ترتكز عليها آلياتهم الرقابية والترهيبية والعقابية... يريدون من لا يفضح انتهازيتهم المعروفة لـ'القضايا الكبرى' من أجل ممارسة العنف والتنكيل تجاه الآخر، اكتساباً للقيمة المجانية، تعويضاً عن الهزائم والآلام الشخصية، وتضليلاً للعجز عن 'الفعل المُغيّر والحاسم' بـ'الكلام' حول 'موضوع عام' لا يكلفهم بأي 'فعل'، بل على العكس، يكافئهم على 'الخزي' أو 'العار' الذي لا يتحملون مسؤوليته، ولا دخل لهم في استمراريته، ولكنهم يجيدون الصراخ والنحيب والقتل البلاغي من حوله".

وبرغم أن الروائي الشاب لا يؤيد فكرة السلام مع إسرائيل ويراها ساذجة ومستحيلة، إلا أنه لا يسخر من الدوافع التي جعلت نجيب محفوظ مؤيداً لفكرة السلام لأنه بحسب تعبيره"لست نجيب محفوظ؛ لم أعش حياته، ولم أجرّب ما مرّ به طوال وجوده على الأرض، ولم يكن جسدي هو الجثة التي خلّفها موته... يمكنني -بل وأفعل ذلك بشغف- السخرية من سلطةِ اسمه الأدبي المتوالدة عبر الزمن، لكنني لست في عداء مع ما يعتقده أو ما يتفوّه به".

ويذهب ممدوح رزق إلى نقطة مغايرة في هذه القضية، حيث يرى أن الهجوم على محفوظ كان نابعاً في الأساس من موقفه المختلف عن الأغلبية، وليس بسبب الموقف في حد ذاته، مشيراً إلى ديكتاتورية الأغلبية، وما تقوم به من أساليب عقابية وترهيبية، "كان هناك احتياج إلى أن يكون أديب نوبل مثل الجميع أو الأغلبية التي ترفض السلام مع إسرائيل، أي أن يفكر ويتحدث بنفس الطريقة التي يفكر ويتحدث بها كل الذين يؤمنون بتحرير الأرض الفلسطينية كاملة، وإلا فالجزاء 'الأخلاقي' لن يتعلق بنجيب محفوظ فحسب، وإنما بتاريخه الأدبي أيضاً... ستكون القضية الفلسطينية 'سلاحاً نقدياً' لاستهداف أعماله، ومطاردتها بالمعاني والدلالات 'التخوينية' أو 'التغييبية' في أفضل الأحوال".

برغم أن معاناة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة على وجه التحديد كانت جزءاً أساسياً في خطاب نوبل الذي ألقاه الكاتب محمد سلماوي نيابة عن محفوظ في الأكاديمية السويدية، إلا أن هذا لم يُغير من الأمر شيئاً، وظل محفوظ بالنسبة لبعض الكتاب العرب في خانة "المُطبعين مع الكيان الصهيوني"

وأوضح رزق أن موقف نجيب محفوظ يُذكرنا بشيء من العسير جداً الانتباه إليه فضلاً عن تبنّيه والإيمان به، وهو "كيف تكون 'الحرية' التي تقف وراء أي موقف مختلف 'غير تحريضي' سبباً في 'الإبقاء على حياة صاحبه'، لا قتله؟… الحرية التي تكوّنت على أساس ماض شخصي لم يختبره 'الآخر'؛ وذلك كافٍ وبديهي لأن يكون انحيازك -مهما كان جماعياً- شأن خاصاً بك، وليس سلطة مطلقة".

ويأخذنا أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة القاهرة الدكتور خيري دومة إلى زاوية أخرى في قراءته لموقف نجيب محفوظ من الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يقول إن نجيب محفوظ اتخذ في هذه القضية وفي غيرها من القضايا التي طرحها عليه عصره، موقفاً فلسفياً عقلانياً، مشيراً إلى أنه كان مؤمناً بالعقل والعلم في إدارة أمور الحياة الواقعية. ولم يعبر محفوظ عن موقفه هذا في رواياته أو قصصه، وإنما عبّر عن موقفه في الحوارات الصحافية، أي أنه اعتمد على مقاصده الواعية. أما في رواياته، فالأمر مختلف، ويخضع لمنطق داخلي خاص. حتى في رواياته –خصوصاً "اللص والكلاب" مثلاً- يعرف محفوظ أن الانفعال والعواطف والانتقام أمر بشري وطبيعي في أبطال رواياته الخيرين، لكنه ينتهي بهم إلى مصائر مظلمة ما لم يأخذوا العقل والحكمة في اعتبارهم.

ويوضح أستاذ الأدب الحديث أن موقف أديب نوبل لم يكن نابعاً من ثقة في إسرائيل بقدر ما هو نابع من رؤية تقول إن الحضارة وليس القوة هي التي تنتصر في النهاية، وأن من الأفضل أن نتخذ هذا مدخلاً للقضية. ويضيف: "في كل ما جاء بعد عملية السلام الطويلة، وصولاً إلى ما نراه من مذابح مرعبة في غزة الآن، خيبت أفعالُ إسرائيل في كل مرةٍ توقعاتِ محفوظ الذي كان بالفعل حذراً في تعبيره من البداية. ومع أننا في غمرة الانفعال والبكاء لأطفال غزة نكاد نصل إلى رفض قاطع لرأي محفوظ في طبيعة العلاقة بيننا وبين إسرائيل، فإن صوته العاقل يمثل جزءاً أصيلاً من رؤية المصريين غير المعلنة: 'يجب أن نستعد، لكن يجب في النهاية أن نجد طريقاً غير الحرب لأن نتائجها كارثية حتى ونحن نحقق انتصارات تكتيكية'".

الخميس، 14 ديسمبر 2023

عن "الفشل في النوم مع السيدة نون"

 

إغماءة الكحول

كانت أنفاسك بالغة الوهن، ومع ذلك كانت رائحة الكحول التي تفوح منها ثقيلة وعاصفة، كأنها سر روحك .. ارتميت مغمض العينين، منفرج الفم على أرض حجرتك في نهاية الصالة بعدما قطعت المسافة بينها وباب الشقة الذي فتحته لك أمي آخر الليل مترنحًا، تقاوم سقوطًا محتومًا ..  أمي التي صرخت فأسرعتُ إلى هناك بين أبي وشقيقتي ووجدتك في تلك الحالة فلم أعتبرها سوى فرصة سانحة لا ينبغي على طفل مثلي أن يفوّتها .. جلست فورًا على ركبتي بجوار جسدك الهامد وبدأت منتشيًا في تدليك صدغيك مع تربيت متلاحق على خديك .. هكذا يعيدون الوعي إلى فاقديه على شاشة التليفزيون وكان عليّ أن أثبت براعتي في تقليدهم .. لم أفكر في الأمر إلا من ذلك المنظور .. ثلاثون سنة، لم أر في تلك الليلة أكثر من نجاحي في إفاقتك والتي أعلنتها شهقة خافتة مقترنة برعشة جفنيك، بينما أخذت عيناك تُفتحان تدريجيًا .. أين كنت؟ .. برفقة من؟ .. ما الذي حدث؟ .. كان من اليسير الإجابة على تلك الاستفهامات من قبل أن تتجسد في الذهن استنادًا إلى معرفتنا بك .. كنت مع رفاق السوء في شقة أحدهم وأفرطت في الشرب .. لكنها لم تكن الإجابات الصحيحة .. كانت الإجابات السهلة فقط .. كان الوصف المختصر للأمر وليس حقيقته .. الاستفهامات نفسها لا يجب أن تصاغ بهذه الطريقة ولا حتى أن توجه إليك .. كان السؤال المنطقي في تلك الليلة: من هذا الذي ساعدته على الإفاقة من إغماءة الكحول؟ .. كان يجدر بي التوصل إلى رد حاسم قبل موتك ولكنني انتظرت .. انتظرت طويلًا جدًا دون أن أشعر بضياع الوقت .. دون أن أشعر بأنني مطالب بالرد أصلًا، كأن تلك الليلة ـ كسائر الليالي ـ تخصني وحدي .. انتظرت حتى أصبح العالم خاويًا تمامًا .. جسدك ليس هنا، ماضيك مدفون داخل قبور أصدقائك وأسفل حطام أماكنكم القديمة، أما التذكر فليس إلا توطيدًا خبيثًا لجسامة الفراغ .. لا شيء يمكنني أن أحاول إعادة الوعي إليه .. لا شيء يمكنه أن يفيق جسدي الهامد، المتناثرة أشلاؤه بين القبور والحطام .. الأشلاء التي تفوح منها رائحة كحول الثمانينيات، الذي مررته أنفاسك إلى روحي وأنا أدلك صدغيك وأربت على خديك بيدين كارتونيتين.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

الخميس، 7 ديسمبر 2023

سمكة زينة في صحن الخلود: الفناء مغامرة شعرية

في المجموعة الشعرية "سمكة زينة في صحن الخلود" لرضا أحمد، والصادرة عن سلسلة "الفائزون" بالهيئة العامة لقصور الثقافة؛ ثمة لغة تتشكل وفقًا لامتزاج متعدد بين الحدة والتمزق، تكشف بواسطته الذات عن استعارتها لخطاب الفناء كي تتكلم نيابة عنه بينما تتحدث عن نفسها. ذلك يبدو كأنه محاولة ضمنية، مراوغة، ولا تخلو من هزل بالطبع لاستنطاق هذا الفناء على نحو فعلي. كأن الذات تستخدم شعريتها في دفع الفناء لتعرية جوهره بدرجة النقاء القصوى أي بخالص فداحته، ولكن من الجانب المقابل لسطوته. لا من موضع غيبيته المعتم وإنما عبر بصمته المقهورة في العالم الممثلة في الذات، التي تقدم نفسها ظاهريًا ككائن يحكي سيرته وحسب. كائن يحفر صورة الخراب والقمع والتنكيل في مظاهره الرقابية والاستجوابية والعقابية المهيمنة، باعتبار ذلك الكائن مجرد فكرة استعراضية، عاجزة ومسجونة في ذهن المطلق. تحمي المطلق بفقدها المتواصل لكل ما تتوهم امتلاكه؛ حيث كل حلم بالنجاة ليس إلا تعميقًا عفويًا خبيثًا لعلة الوجود المبهمة، الغائرة في جسد الكائن. فكرة مؤقتة تختبر الألم والبؤس والتيه دون أن يكون بوسعها أن تصبح شيئًا مناقضًا لا يُقتل، متحرر ومحصن وخالد، أي ليس ناجمًا عن لغة. فكرة تأخذ دور الدوبلير في لعبة الإثم، تخضع لكل جلاد بوصفها انتهاكًا كونيًا. مصدرًا للذنب كبديل لذنب القداسة. نقرأ في قصيدة "سمكة زينة في صحن الخلود":

سأقول أنني غنيت

وأنني أعرف الصهيل والهدير والآلام الأخرى؛

لسنا في حال أفضل

لكننا على الأقل

لا نغمس لقمتنا في الطين

ولا نضيق على أولياء الله

زوايا الأضرحة،

لا نعاتب الرب خفية

ونطمئن ذئاب الزمن على خرافنا الهادئة؛

أوباش وحفنة من العجزة

نحن

حين نخرج لندافع عن الوطن في الظل

نترك دقيقنا المالح يعج بالديدان

وسواقينا تعيد طلاء الماء بالصدأ،

نهرب إلى الإسفلت؛

سيارات أهدرت المسافات كلها

ولم تجد في الطريق

دارا واحدة.      

إن الذات حينما تتحدث إلى نفسها / الآخر بالكيفية التي تجعلها تبدو كأنما الفناء يعرض جسامته من خلال صوتها؛ فإن ذلك يسعى لإكساب ذلك الفناء الشعرية اللازمة لجعله مفككًا لنفسه، مؤوّلًا لشره، كاشفًا عن سره. ليس مجرد مصير مرعب يتحدث بلسان العابر الخاضع لهذا المصير كمفارقة إيحائية. لأن الفناء ليس ناتجًا عن حياة حقيقية وإنما هو الحياة التي التهمها الخلود استباقيًا. الحياة التي تدعي أنها ليست الموت، أنها ليست النهاية، وكأن النهاية لا تسبق دائمًا الحياة المفترضة، وكأن "الحياة" ليست نتيجة النهاية الأزلية التي تتقدم على كل وعد بـ "الخلود". الفناء هو المشيئة التي قدّرت تفاصيل الزمن أكثر من كونه يقينًا يعقب تبدده.

الطريق بين عينين

هوة سحيقة

جرح عميق بين ضمادتين،

فلا تعش كذبتك طويلا؛

ليس للزمن وجوه يألفها

ولا للمكان سماء لا تتنازع فيها البنادق

ولا أنت بالكبش الثمين

ليهاتفك الوحي

إن لم يقتلك التدافع في طوابير الخبز

ستقتلك خطواتك

في الطرق المعبدة بشعائر الرب.

"كل ما تقوله سيستخدم ضدك"

فلا تظن أنك في مأمن

الأتقياء سيمتطون ظلك

ويصرخون:

أين كنت حين تجعدت بشرة الشمس

ونمت على ذراع القمر الخفافيش

والليل قادم؛

سيقشرون رأسك كتفاحة معطوبة

بحثا عن خطيئة آدم.

صوت الفناء إذن في الباطن الخفي لصوت الذات. يتحدث بضمير الأنا في صمت الشعرية. في أغوار لغة رضا أحمد. يقول عن نفسه ـ من وراء جحيم الذات المتكلمة ـ بأن سره لا ينكشف إلا بقدر ما تحصده الشعرية من غموض مضاعف وأكثر تعذّرًا. الشعرية التي تعيّن "المشهد" كمجابهة. المشهد المنسوج من الحدة والتمزق. المرئي في مقابل الغيبي. لكي يرى الغيبي نفسه ـ حين يمتلك صوتًا بشريًا مضمرًا ـ فيمكن للذات أن تبصره في إذعانها المرئي له. أن تتقمص غموضه. تؤجل كابوسيته في زمنها الداخلي. تتفاوض مع الأمان باعتباره شبحًا. تنفلت من بلاغة الحكمة، أو تلامس حافتها الغائمة. تحرّض المجهول على الصدق حين يتفاخر بأكاذيبه. وكأنه مجاز التبادل بين الذات والغيب. بين الجحيم والفناء. المجاز الذي يكافح لتضليل اللغة. الذي يبقى عالقًا في اللغة. مشروطًا بإكراهاتها. وكأن الشعرية هي الكفاح في حد ذاته لجعل اللغة تقاوم نفسها. تتفتت ذاتيًا كما يليق بأشلاء "مخلوق" لم تتوحد على الإطلاق وإنما تم استبدالها بسراب التكوّن . الشعرية التي تمثل الخلود المضاد. التي تحوّل الفناء إلى مغامرة تراهن خلالها الذات على دمائها لكي تصبح أبديتها الخاصة. أثر سمكة الزينة في فراغ الصحن.

بيده الخضراء

كان الحب يقظًا

لم يدع لقاءنا للصدف؛

أريد ليلة بطول نجمة بيضاء

أكتب عليها طالع رجل لا يفارقني

أريد حديقة انتظار لا تذبل فيها عيناي،

مَن يدير هذه الضجة في الخارج؟

مَن علق النجمة في سماء نائية؟

المسافة ليل،

قدمي حائرة،

رأسي نائم في أصيصه

وجرادة تبحث بين أشواكه

عن وجبة عشاء.

تفصح الذات عن هذه الأبدية بشكل واضح في قصيدة "في قلبي أبدية معك". الفناء يتكلم عن نفسه بينما تتحدث الذات عن الفراق، الذبول، النأي. هكذا تعرّف كلمات كالحب، الليل، النجمة، السماء. تعرّف بواسطة دراما البتر والتناثر التي تشيّدها رضا أحمد في قصيدتها. البتر والتناثر كفعلين متلازمين، متزامنين، يشكلان حدثًا واحدًا، قديمًا، ملغزًا، يسبق الكلمات ويخلقها، ليختبئ الزوال في صدوعها العمياء. "من يدير هذه الضجة في الخارج؟"، سؤال يبدو ساخرًا لو نظرنا إليه من وعي الفكرة الاستعراضية التي يجسدها الكائن، لو أنصتنا إليه بنبرة "سمكة الزينة". ذلك لأن العرض هو الفناء الذي تحوّل خطابه المستتر شعريًا إلى ذات "يأكل الجراد من رأسها". نقرأ في قصيدة "وحوش في وردية ليلية":

أفكر أننا منذ ساعة وجدنا علاجًا للخوف

بوضع  الألم على طاولة

تحفها القفازات الدامية وصلاة طبيب،

فركنا الحزن في منديل

يخلصنا من النداء الأسير للوداع

وارتعاش القلب،

أنت وحيد

وأنا أنتظرك كل ليلة

كي لا تفقد أحلامك

وأفقد لعبتي المفضلة.

في هذه المقاربة تبدو رضا أحمد وكأنها تعيد تصوير الزوال خياليًا منذ البداية، أي منذ أن كانت قصة العالم خامة متوارية في الظلام الغيبي؛ فتشكل عناصر بدئها ومسارات حكاياتها عبر الذاكرة الشخصية للأنا الشاعرة، بواسطة قصصها، دموعها، الكوابيس التي تحتل موضع حضورها. لكن هذا التصوير يبدو وكأنه يرتب هذه الذاكرة الشخصية بينما "يحكي قصة العالم" بأثر رجعي. ينقّب عن جذر الخوف، الذي يمكن أن يتحوّل ـ بهذه الطريقة ـ إلى لعبة لا تعوّض الذات عن عدم اقتلاعه، ولكنها تناوشه، تخاتل ترصده، لا تسمح له بأن يبقى مجردًا من الخدوش. يبدو أيضًا ترتيب الذاكرة كأنه هو ما يقود الفناء لتفكيك نفسه، ذلك لأن الفناء ليس نهاية الخوف وإنما أصله وطبيعته. الخوف الذي يستعمله الخلود حيث لا حياة تغاير الموت. حيث لا شيء سوى الموت. الموت الذي يوهم بالحياة عبر جمود قاتم ولئيم يدعي الحركة والتبدل ويُسمى "الزمن". نقرأ في قصيدة " سأنتظر الموت في شرياني التاجي":

الوحدة

أزيز متقطع لشريطك الجيني

يباعد بينك وبين مرآة

تأكل بنهم أرواحك السبع،

لو قلت إنني تفرجت على حياتي من الدور الرابع

ستصدقني عضة البرد

والبومة التي تتسكع الآن على نافذتي،

أنا رأيت نفسي يا عالم

وعرفتها...

بعد عشرين عامًا من الآن؛

عجوزا تهذي في جنازة

تحمل في حضنها راديو كقلب حبيب يخفق

راديو مازال بشوكه ودمه

ووظيفته القديمة،

تحتفظ بالأمل في برطمان أزرق بجوار الكمون

واليأس منشور مع الفلفل الأحمر في البلكونة،

ببعض الحبوب تطعم يمامة جريحة

وباليمامة تنقذ غرابًا أعرج،

تنزوي ذاكرتها في كل رائحة مألوفة

وتصلي على كسرة ضوء،

يقول طبيبها أن الأبدية دودة عملاقة تأكل كبدها

فتضحك،

تلك القهقهات تتدلى فوق رأسها كل ليلة

فتقطف منها واحدة

تبتلعها مع حبة مسكن

وتنام.

يرتب المشهد الذاكرة الشخصية كمجابهة تعيد تمثيل الفناء، ليكون هذا الأداء استشرافًا لا للذات فحسب، وإنما لما سيصير إليه الفناء بالضرورة في ادعائه "الحياة". ما ستكون عليه الوحدة، المرآة التي يمضغ الزمن الملامح والأجساد بداخلها، البرد. الفناء يستشرف نفسه كبومة تتسكع على النافذة بواسطة البصر البشري الذي يشاركها / يتوحد معها في تفحص لحظة الرؤية الممتدة في الوقت. هذيان الموت، ثرثرة العالم كونس معذّب، الأمل الصدئ، اليأس الناضج دومًا، الجروح التي يلتهم كل منها الآخر، الانطواء في ومضات وشظايا الحنين، التوسل في ظل الظلام. ما تتغذى عليه "دودة الأبدية". ما يصنع "الأبدية الخاصة" التي تتلصص على الفناء بضحكات وجع مزمن، ما يؤلف عزفًا منفردًا كما في قصيدة "عزف منفرد":

إنه جسدي أو خرابي

لائحة أمراض تمشي على قدمين

طرحها أوراق تهذي بألم وقيح

ثمارها أقراص أسبرين

فلا تسألني عن بيت تقصده

ظلي توابيتك التي لا تعد،

في الجُرح أسمع دبيب حواسي

وهي تغلق على خوفكَ الباب.

تعزز هذه القصيدة حالة "العراء" أو "الوحشة" التي تنسجم مع التسلط القدري للنبذ، الإقصاء، الجسد المطرود من الخلود، من حصانة الخلود، بكل ما يعنيه ذلك وينتجه. العراء الذي يجعل الخوف ملاذًا حين تراهن الذات على شعريتها في مواجهة زوالها المحتوم. الوحشة التي تجعل الألم سكنًا حين تبني الذات مشهدًا وعرًا ومتهدمًا  لغيابها الأبدي في مواجهة "الأبدية" نفسها. صوت الخراب الشاحب والمتقطع من وراء باب أو غطاء تابوت.

أخبار الأدب

3 ديسمبر 2023

تحميل كتاب "وهم الحضور"


الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023

جرثومة بو: من القصة الصحفية إلى النوفيلا

لم تكن في مدرستي الابتدائية “صحافة مدرسية”، أما في المرحلتين الإعدادي والثانوي فكنت المحرر الرئيسي لمجلات الحائط بالمدرسة .. كنت المتعهد الذي يقصده المعلمون والمعلمات لإعداد المجلات الخاصة بالجماعات المدرسية التي يشرفون عليها، فضلًا عن أنني كنت المسؤول أيضًا عن الإذاعة المدرسية؛ تحريرًا لموضوعاتها وتقديمًا لفقراتها اليومية .. في الإجازات الصيفية كنت أتولى كذلك إعداد المجلات الثقافية تحت إشراف جماعة الصحافة بقصر ثقافة الطفل .. كنت قد بدأت في كتابة القصة القصيرة قبل بداية هذا النشاط الصحفي المبكر، وكانت الصحافة وقتئذ بالنسبة لي تعني ببساطة واختصار توظيف الأسلوب الأدبي في مجال كتابي آخر .. على هذا الأساس كان حلم الصبا الذي وُلد بداخلي كأثر لكتابة القصة القصيرة بأن أكون صحفيًا .. كولد صغير تربى خياله على مغامرات القصص المصوّرة ومطاردات الروايات البوليسية؛ أحببت بالطبع أن أعيش الحكايات المثيرة المشابهة التي يمكن أن يقودني إليها العمل الصحفي، لكن الأهم أنني سأكتبها بطريقتي.

سأقتبس بدءً من الآن أجزاءً متفرقة من نوفيلا “جرثومة بو” والتي توثق بشكل مختصر لخطواتي الصحفية “الواقعية”، أي التي “حدثت بالفعل” بعد المرحلة الثانوية وحتى مرحلة عملي في القضية التي كانت موضوعًا للنوفيلا:

“كانت هذه السنة هي عام الثانوية العامة بالنسبة لي .. بعد نجاحي والتحاقي بكلية الآداب قسم اللغة العربية سافرت إلى القاهرة وقابلت د. فتحي بمكتبه في دار التحرير، وطلبت منه أن أتدرّب على العمل الصحفي بالقسم الأدبي معه .. رحّب د. فتحي على الفور مُشيدًا بموهبتي، وأخبرني أن أعتبر المكان مكاني .. ستظل هذه الفترة التي قضيتها في العمل مع د. فتحي عبد الفتاح محفورة في ذاكرتي كواحدة من أروع أوقات حياتي المهنية .. أستعيد البهجة الممتنة والرائقة التي عشتها مع سفر القاهرة يوم الخميس من كل أسبوع .. السير من رمسيس أو أحمد حلمي إلى دار التحرير .. طعم سجائر البوسطن واللايت وهوليود الذي لم يتكرر .. تناول ساندويتشات الفول والطعمية وشرب الشاي والقهوة على كرسي وطاولة صغيرة أمام مقهى في شارع عماد الدين تجاوره واحدة من السينمات المهجورة منذ زمن طويل، ويظهر أفيش أحد الأفلام العربية القديمة ملصقًا على حائط داخل ظلامها المغلق ببوابة صدئة .. قراءة الجرائد والمجلات في صالة استقبال دار التحرير حتى الثانية عشر ظهرًا .. صعود السلالم .. دفع الباب الزجاجي لمركز الأبحاث .. برودة التكييف ورائحتها الممتزجة برائحة الكتب وأوراق الكتابة الصفراء .. المشي داخل المكتبة حتى الوصول إلى صالة الاجتماعات الملحق بها مكتب د. فتحي .. الجلوس فوق طاولة الاجتماعات، ومراجعة أوراق العمل .. توافد الزملاء .. خروج د. فتحي عبد الفتاح وجلوسه على رأس الطاولة .. المناقشات حول مواد الملحق الأدبي الذي يُنشر يوم الثلاثاء قبل أن يتغيّر موعد صدوره إلى الإثنين .. جلوسي مع د. فتحي في مكتبه بعد انتهاء الاجتماع .. كان كل شيء مثاليًا .. لم أكتب حرفًا واحدًا إلا وتم نشره على الفور سواء في الملحق الأدبي لجريدة المساء، أو في الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية التي كان يُشرف عليها د. فتحي أيضًا .. لم أصدق يوم أن نُشر مقال لي في باب “خواطر”، والذي كان معروفًا أنه مخصص لكبار الأدباء .. كان المقال عن رواية فؤاد حجازي “الأسرى يقيمون المتاريس”، وحينما رأى د. فتحي دهشتي الفرحة ابتسم وقال لي أنني أستحق أكثر من ذلك .. استمر أيضًا نشر قصصي القصيرة في “المساء” و”الجمهورية”، ونتيجة لكل هذا لم أتعجب حينما صارحني أحد الزملاء في القسم أثناء التمشية ليلًا بعد خروجنا من ندوة مناقشة “الحب في المنفى” لبهاء طاهر في أتيليه القاهرة بأن المحررين كانوا يقولون لبعضهم عند انضمامي للقسم الأدبي أن المشرحة لا ينقصها القتلى، ثم أدركوا تدريجيًا بأنني لست واحدًا من هؤلاء القتلى، خاصة بعد نشر مقالي في باب “خواطر”.

لكن باب السعادة أغلق فجأة مثلما فُتح؛ إذ أخبرني د. فتحي عبد الفتاح ذات يوم عقب انقطاعي فترة عن الحضور لسبب لم أعد أتذكره، وربما يرجع في الأغلب لخسارة جديدة استغرقت وقتًا طويلًا في صراعي الدائم ضد أسرتي للحصول على المال من أكياسهم الممتلئة؛ أخبرني أن سمير رجب أثناء غيابي قرر عقد اختبارات مفاجئة للمتدربين من أجل تصفيتهم، وبالطبع، ولأنني لم أكن متواجدًا من الأساس فقد تم إقصائي من الجريدة .. لم أشعر بمدى محبة د. فتحي عبد الفتاح وتقديره لي أكثر من هذه اللحظة التي أخبرني فيها دون أن ينظر أسفه العميق في عينيّ بأن الجريدة ستظل مفتوحة لقصصي ومقالاتي ولكن بشكل غير رسمي .. صافحني بقوة مواسية ثم أخبرني بوجود مستحقات مالية لي، يتعيّن أن أمر على الخزانة لاستلامها .. خرجت من مكتبه، وألقيت نظرة أخيرة على طاولة الاجتماعات ثم غادرت الجريدة دون مجرد التفكير في التوجّه إلى الخزانة.

بعد فترة قصيرة من الإحباط والتفكير والتردد قررت العمل بإحدى الصحف الإقليمية في المنصورة .. وفقًا لمعرفتي بالمجال أي الخبرة التي كوّنتها خلال فترة العمل في “المساء”، كنت أدرك أن الحصول على فرصة للعمل الصحفي في مطبوعة قاهرية أخرى ليس سهلًا، أو يكاد يكون مستحيلًا خاصة لكاتب لا يزال طالبًا في كلية الآداب، ولا يقيم بين فخذي الأم المركزية، ولا تربطه صلة بأي من قوّاديها المسيطرين، وحتى لو يمتلك أرشيفًا تجمّع فيه خلال عام واحد فقط، ما لم يستطع أن يحققه آخرون في سنوات طويلة، فضلًا عن حساسيتي الشديدة من طرق باب مجهول ليس لدي ضمان كاف للحصول من ورائه على ما أريد .. لم يكن يسيرًا عليّ كذلك القبول بالعمل في مكان أقل مما كنت أحظى به ـ إن أتيح لي أصلًا ـ ولم أكن راغبًا في الوقت نفسه أن أبذل جهدًا غير منطقي بالفعل في البحث عن هذه اللؤلؤة الصغيرة في قاع المحيط المعتم .. كان الالتحاق بصحيفة إقليمية بمثابة الحل الحزين المؤقت لهذا القهر؛ فهو من جهة سيحافظ على استمرارية العمل دون متاعب السفر، والهلاك في زحام الشوارع والمواصلات القاهرية، وإهدار القروش القليلة التي أنتزعها بطلوع الروح من أبي وأمي، حتى وإن كان هذا العمل في حقيقته ليس إلا سقوطًا مبكرًا من سحابة قزحية إلى حفرة خراء .. من جهة أخرى لن يقف هذا العمل أمام استغلال أي مفاجأة مركزية محتملة، تعوّضني بالشكل المناسب عن خروجي من جريدة “المساء”، كما أنه سيكون في نفس الوقت داعمًا أكيدًا في تثبيت اسمي داخل الفضاء الأدبي الصغير للمدينة”.

عدا استقصاء صغير نُشر لي عن محامي من مدينة السنبلاوين ينتمي إلى التيار الإسلامي قام برفع قضية على نجيب محفوظ بسبب رواية “أولاد حارتنا”؛ عدا ذلك لم يكن في مدة عملي بالصحافة الأدبية مغامرات أو مطاردات، ومع هذا لم أشعر بأن ثمة ما ينقص عملي الصحفي .. كنت “أكتب”، وفي المجال العام الذي ينتسب إليه جوهر حياتي “القصة القصيرة”، وهذا ما كان يعنيني .. هذا ما كان يتيح لي أن أفعل أي شيء.

لكن مع بداية اشتغالي بالصحافة الإقليمية، وجدتني مطالبًا بالعمل في مجالات صحفية أخرى بالإضافة إلى تحرير القسم الأدبي .. عملت في “الحوادث” و”التحقيقات” و”الرياضة” بمزيج من الشغف “حيث كانت الاستجابة لرغبتي القديمة في ممارسة الأشكال المختلفة للعمل الصحفي” كما كتبت في نوفيلا “جرثومة بو”، والحسرة الغاضبة على فترة عملي كمحرر أدبي في جريدة “المساء” والتي أصبحت فردوسًا مفقودًا .. كان وقتًا احتفاليًا لروح المغامر التي خلقتها قراءات الطفولة والصبا والمراهقة، ولكنه أيضًا كان وقتًا مفعمًا بالأسى في مقارنته التي لا تخبو مع المرحلة القاهرية السابقة .. مع ذلك فذروة التجلي لروح المغامر كانت لحظة كتابة المادة الصحفية، لا أثناء العمل الميداني نفسه .. كانت “كتابة” الخبر أو التحقيق أو التغطية، ومع كامل الالتزام بالمعطيات والمعلومات الحقيقية والمؤكدة، تعني إعادة تكوين الحدث الواقعي كما لو أنه صنيعة خيالية بطريقة ما .. تعني أن “أسلوب” السرد يُشكّل حكاية مغايرة لتلك التي جرت فعليًا على نحو مضمر، أي ما يحوّل المادة الصحفية إلى قصة شخصية لكاتبها .. قصة متوارية في عمق الموضوع الصحفي الذي يحمل بالضرورة إيماءاتها وإشاراتها اللغوية، حيث تجد روح المغامر “كاتب القصة القصيرة” مكانها الملائم للعب والمرح.

في عام 1998، وبعد مرحلة من التنقل بين صحف إقليمية عدة قررت إصدار الجريدة التي تحمل اسمي كرئيس تحرير لها .. كنت بالخيال البوليسي للولد الصغير الذي لم يمض وقت طويل على عبوره إلى مرحلة الشباب ما زلت أريد الاستمرار في العمل بالصحافة، وأن أصل بمغامراتي في أشكالها المختلفة إلى أقصى حد ممكن، كما كان الأمر ينطوي بالطبع وبصورة جوهرية على رغبة في تأديب العاملين في الصحافة الإقليمية وتلقين بالوناته الوضيعة دروسًا مجانية في كيفية أن يكونوا صحفيين .. كان إصدار جريدتي الخاصة يعني أن “غريزة” القصة القصيرة في داخلي سوف تحصل على المزيد من الحرية في كتابة الموضوعات الصحفية التي أراها جديرة بذلك، أي أنني سأخلق حكايات أكثر في أغوار المواد الصحفية التي سأختار العمل عليها.

“كنت ذات مساء في زيارة اعتيادية للمحامي محمد شبانة، والذي كنت شبه مقيم بمكتبه في تلك الأيام بعد أن تعرّفت عليه في وقت سابق خلال عملي في أحد التحقيقات الصحفية، وأظن أنه كان الموضوع الذي شاركني أحمد صبري العمل فيه ضد مصطفى السعدني مدير عام الثقافة بالدقهلية في تلك الفترة .. كان شبانة من المحامين المنخرطين في القضايا العامة، والناشطين في مجال حقوق الإنسان، وعلى المستوى الإنساني كان شخصية مهذبة ومحترمة لأبعد الحدود .. أخبرني أن لديه ملفًا خطيرًا عن شاب مصري من أبناء الدقهلية معتقل في المملكة دون جناية، ويلاقي في سجنه تعذيبًا بشعًا .. بالطبع سال لعابي الصحفي على الفور، وطلبت الملف منه، لكنه أخبرني أنه سبق وأخذ موعدًا من جمال فهمي في جريدة “الدستور” لعرض القضية عليه، ومناقشة إمكانية نشرها ثم أعطاني وعدًا بأنه إذا لم يوافق جمال فهمي على تبني الموضوع فسوف يعطيني الملف في الحال .. قلت له أن جمال سيرفض النشر، وأنني سآخذ هذه القضية بعد عودته من اللقاء.

صدق ما توقعته؛ ففي اليوم المتفق عليه ذهبت إلى مكتب شبانة، وأخبرني أن جمال فهمي عرض أن ينشر القصة كاستغاثة أو ما شابه، وأن هذا أقصى ما يمكنه القيام به لأن المملكة ـ بحسب تعبيره ـ خط أحمر .. أخرج شبانة الملف من مكتبه، وعلى وجهه ابتسامة متعجبة من ثقتي في الحصول على القضية التي كانت في محلها.

لم يكن متبقيًا على عيد الأضحى سوى يومين تقريبًا، لذا قررت تكريس أيامه كلها لدراسة ملف منصور عبد الرحيم .. اعتزلت البشرية طوال هذه الأيام الأربعة، ولم أر الشارع خلالها إلا من شباك المكتب الذي كنت أقف فيه لإراحة ذهني أحيانًا، وفي الأغلب للتفكير في معلومات القضية التي أقرأها، والملاحظات التي أدوّنها.

كان الملف مقسّمًا بين الخطابات التي تشغل الحيز الأكبر منه، والرسومات التي ليس هناك تأكيد هل خطّها منصور بنفسه أم بيد أحد آخر، وتصوّر طرق التعذيب التي يتعرّض لها، بالإضافة إلى قصاصات الصحف والمجلات القليلة التي نشرت إشارات تافهة عن الموضوع، والتي يبدو أن ثمة يدًا تساعده في الحصول عليها داخل قبره العسكري .. كانت لكلمات منصور بنية متصدّعة، تشبه تمامًا كتابة طفل لم تتطوّر بعد مهارته في تشكيل الحروف وتوصيلها ببعضها .. كأن كلماته المتكسّرة، والربط العسير، غير العفوي بين حروفها ليست إلا صورة لأصابع منصور المحطمة، التي تم ترميمها باستخفاف .. بالتناقض مع الكلمات كانت الرسومات أكثر انضباطًا، وتتميز بقدر كبير من الإتقان الفني يثير الدهشة عند مقارنتها بالكتابة .. كانت تبدو كأن منصور قد حصل من السجّانين على نسخة من الأشكال التوضيحية التي يتضمنها كتاب التعذيب الذي يسترشدون به ثم قام بوضع ورقة الخطاب الشفافة فوق كل رسم ليتتبع بقلمه الرصاص خطوط الشكل الذي يظهر تحتها .. كانت هناك أيضًا صورة بالأبيض والأسود لمنصور يظهر خلالها شابًا في العشرينيات، غير مبتسم، بشعر كثيف، ولحية خفيفة، كما تخلو الصورة من الإشارة لستوديو التصوير، والتاريخ الدقيق لهذه اللقطة بعكس المعتاد .. كان في الصورة شيء من الغرابة المقلقة، ربما بسبب الأبيض والأسود؛ فهي مع عدم حداثتها مازالت تنتمي للزمن الذي جعلت فيه الألوان هذا النوع من الصور شيئًا نادرًا أو على الأقل غير شائع .. لهذا تبدو الصورة أكثر قدمًا مما قد تكون في الواقع، ويبدو منصور خلالها بعينيه الخاليتين من أي انطباع كأنه شخص عاش في سالف العصر والأوان.

أكثر من مرة وضعت صورة منصور ملاصقة لرسومات التعذيب محاولًا دمج وجهه بالجسد الذي يتم التنكيل به في نسخ مختلفة .. لابد أنها لم تكن المرة الأولى التي أجرّب فيها عملية التركيب بين صورتين سعيًا لخلق صورة ذهنية ثالثة، ولكنني لا أعتقد أنني حصلت على انسجام أكثر إحكامًا من هذه اللحظة .. كان وجه منصور يتوحّد مع كل رسم بتناغم فوري، كأنه جسد مستيقظ، يدرك تناثره، ويتحرك ذاتيًا لاستعادة التلاحم بين أشلائه بمجرد العثور عليها .. بدت ملامحه مع هذا الاكتمال كأنها مرسومة هي الأخرى بالقلم الرصاص، أما خطوط جسده على الورق فكانت تتحوّل إلى جلدٍ عارٍ، تنزف منه الدماء، ويكسو عظامًا مكسورة.

لم يكن في الملف أي ذكر لحياة منصور قبل سفره إلى المملكة إلا تلك المتعلقة بقضيته نفسها؛ فهو حاصل على شهادة الثانوية الصناعية، شعبة ميكانيكا السيارات سنة 1983 من مدرسة المنصورة الصناعية بنين، وهذه البيانات وردت بالمستخرج الرسمي الذي قدمه منصور إلى سفارة المملكة، والصادر من مديرية التربية والتعليم “إدارة شئون الطلاب”.

جميع الخطابات تبدأ من السجن وتنتهي داخله؛ إذ لم يكن هناك أي توضيحات حول ملابسات سفر منصور إلى المملكة، أو عن حياته هناك قبل اعتقاله منذ سبع سنوات .. كان منصور في كل رسالة يخاطب الجميع: إخوته وأقاربه والمسئولين الحكوميين ورؤساء التحرير والصحفيين والإذاعات ورؤساء الأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان وبعض المحامين في المنصورة والقاهرة .. كلها مناشدات بالتدخل لإنقاذه، وتحمل نفس الصيّغ والمعلومات تقريبًا، أما عن طريقة تهريب الرسائل فيرجع الفضل فيها بحسب تأكيد منصور إلى شخص متعاطف معه يُدعى صادق، ويعمل باحثًا اجتماعيًا بالسجن، ويبدو أنه قد ساعده أيضًا في الحصول على عناوين المراسلات، وتزويده بالمعلومات التي لم يكن له أن يعرفها بدونه، وربما كان هو صاحب اليد المجهولة التي رسمت أشكال التعذيب بهذه المهارة .. على هذا بدا كأن “صادق” هو الملاك السري الوحيد في حياة منصور، لكنه بكل تأكيد كان ملاكًا ناقصًا، فالقدرة على إنقاذه من هذا الجحيم كانت معطلة تمامًا.

كانت القضية جاهزة للكتابة والنشر، وكنت أعتبر وقتها أن هناك سبيلين أمامي: إما الكتابة فورًا وفقًا لمعطيات هذا الملف ثم نشر القصة في العدد الأول من “الرأي العربي” الذي كنا نجهّز لإصداره، أو التحرّك للبحث عن المزيد من الحقائق عن منصور سواءً التي تخص حياته قبل السفر إلى المملكة أو بعده .. لم أتردد كثيرًا في حسم الاختيار لصالح الطريق الأول .. كنت أفكر في أنني لا أريد مصادفة معلومات أو أدلة يمكنها أن تفسد الأمر أو تقلل من حدته كما هو عليه الآن، ومثلما أتخيل الطريقة التي ستُكتب بها القصة، والتي قد تتسبب بالطبع في تأجيل النشر، أي الاستمرار في التعتيم على هذه المأساة وقتًا أطول .. أستطيع أن أكتب القصة الآن في إطار الدفاع عن إنسان مغترب، تم اعتقاله دون محاكمة، ويتم تعذيبه بوحشية .. هذا الأساس لا يمكن تهديده مهما كانت الاكتشافات التي قد أعثر عليها فيما بعد، والتي ربما تفكك القضية، وتسحب خيوطها نحو اتجاهات أخرى .. قررت أن النشر لن يمنعني من التحرك في المستقبل سعيًا وراء هذه الحقائق بل على العكس قد يساعدني على الوصول إليها”.

كان العمل في قضية منصور عبد الرحمن الذي أصبح “منصور عبد الرحيم” في نوفيلا “جرثومة بو” يعني التفكير في قصتي الشخصية التي سأكتبها بواسطة هذه القضية .. ليس الموضوع الصحفي الذي سيُنشر في الجريدة، ولكن الحكاية الخيالية الغامضة التي سأمررها بين سطور هذا الموضوع .. الحكاية التي تخصني وأخفيها بعفوية في طيات السرد المعلن لتفاصيل القضية، والذي تحتفظ لغة كتابته بشفرة تلك الحكاية السرية .. كانت روح المغامر “كاتب القصة القصيرة” تجد مكانها الملائم للعب والمرح داخل “الصمت” المبهم، الماكر، المترصد حول كلمات التحقيق الصحفي.

بعد نشر قضية “منصور عبد الرحمن” وما رافق ذلك وتبعه من مغامرات ومطاردات  “بوليسية”؛ اتخذت قرارًا بالتوقف عن العمل الصحفي .. أدركت ـ بغريزة كاتب القصة القصيرة ـ بأنه قد حان الوقت لمغادرة ما هو هامشي والتمركز كليًا في ما هو جوهري “الجرائم التي لا يراها أحد، ولا تخلّف جثثًا أو دماءً، ولا يعاقب عليها قانون، ولا يُعثر لها على قاتل” .. كنت أشعر بأن الصحافة ـ كأي تجربة أخرى ـ كان لها زمن وانتهى بالنسبة لي، وأنه يجدر الآن ـ بالمنطق الأساسي لعالمي السردي الخاص ـ التعايش والاشتباك وتأمل الخبرات التي اغتنمتها منها لكي تتحوّل إلى “كتابة” .. كنت أريد أن أقتحم الغموض الكامن في الموضوع الصحفي الذي كتبته عن منصور عبد الرحمن لكي أكتب قصتي الشخصية من خلال تجسيد ذلك الغموض، بواسطة فك شفرة صمت اللغة التي كتبت بها تحقيق منصور .. كانت كتابة هذه القصة تغنيني عن مواصلة العمل في القضية، التي كانت قد وصلت بالفعل إلى طريق مسدود تمامًا، لا لشيء سوى لأنها لن تكون “قصتي” وحسب ولكنها ستكون بالضرورة قصة منصور أيضًا .. قصته المخبوءة .. القصة التي يجهلها كل “منصور” عن نفسه.

“أجلس وراء المكتب .. أفتح الصفحتين المتقابلتين لقضية منصور بالجريدة .. أقرأ الموضوع مرة تلو الأخرى .. أتأمل صورته .. رسومات التعذيب .. أغلق الجريدة .. أشعر بالخوف، ولكنه ليس الذي يدفعني سريعًا إلى ترك الحجرة والعودة إلى السرير، بل على العكس، فهذه الرجفة التي تسري في جسدي، كأنها حدس مفزع بتجسّد منصور أمامي الآن لا تحرضني على الهروب إلى رفقة النائمين بل على البقاء وحدي .. هناك ما هو أكثر أهمية وإلحاحًا من ظهور شبح منصور استجابة للمنطق الحالي للزمان والمكان، وانعكاسًا لما يحتدم في ذهني الآن .. ماذا لو ظل الأمر غامضًا كما هو؟ .. ماذا لو بقيت المعرفة متعذرة للأبد؟ .. حسنًا .. هناك حكاية واقعية لمنصور، ولأنها خفية تمامًا فهناك سبيل وحيد لاكتشافها .. أن تُكتب .. أستوعب الآن أنني منذ اللحظة الأولى في علاقتي بهذه القضية كنت أجهّز لهذه الضرورة، وأن كل ما حدث خلال الفترة السابقة لم يكن سوى خطوات متدرّجة لتحقيقها .. أخرج الأوراق البيضاء من درج المكتب ثم أبدأ في كتابة القصة الحقيقية لمنصور عبد الرحيم”.

هكذا، وبعد عشرين سنة كاملة، بدأت في كتابة “جرثومة بو”، القصة الحقيقية لـ “منصور عبد الرحيم”.