الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

«النورس جوناثان ليفنغستون» لريتشارد باخ ... شجاعة الخيال

يقدّم ريتشارد باخ في روايته «النورس جوناثان ليفنغستون» (دار الكرمة - القاهرة) تأملاً رمزياً للطموح المعرفي، ولإغراءات التحرر من سلطة الأنماط الجماعية التي تُخضع الفرد كمجرد كائن على قيد الحياة. يُمثل هذا العمل المقسّم إلى أربعة أجزاء، والذي أعاد محمد عبدالنبي ترجمته إلى العربية، إحدى الكلاسيكيات الروحانية الشهيرة حيث اعتمد على شكل من المحاكاة لقصة المسيح في محاولته السردية لإنقاذ الإيمان من الخرافات، وتخليص الحرية من أوهام الطقوس. لم يقنع النورس «جوناثان» بأن يكون نسخة من النوارس الأخرى التي لا يعنيها أكثر من الوصول إلى الشاطئ للحصول على الطعام، بل أراد أن يكافح لاكتساب مهارات غير تقليدية في الطيران حتى لو كلّفه هذا التطلع من المشقة والمخاطرة ما يضعه في مواجهة المهانة والنبذ، بل وفقدان الحياة نفسها. كان خوض هذه التجربة يُعد سبيلاً متصاعداً للفهم، ولاكتشاف العالم بواسطة الاختبار التدريجي لقدرات الذات، وهو ما قد يعادل النظر إلى الصور التي يمكن أن تتحوّل إليها حياة كل فرد قرر الاستجابة لهذا النداء الباطني للانفلات من التشابه. الآلام المحتملة الناجمة عن اختلال التوازن، والعجز عن السيطرة، والفشل في التوجيه بينما تجاهد خطواتنا غير المألوفة للطيران بسرعات استثنائية وبارتفاعات لم يسبق لنا ملامستها. لكن إخفاق «جوناثان» المقترن باليأس الذي سيحاول إعادته الى الامتثال الآمن لما يُفترض أنها أحكام الطبيعة، هو ما سيضيء الإلهام في عقله، فالمقارنة المتحسّرة بين أجنحة النوارس وأجنحة الصقور ستقوده إلى طي الجزء الأكبر من جناحيه، والطيران معتمداً على طرفيهما فقط. نجاح النورس «جوناثان» في التحليق والانقضاض وفقاً لهذا الإدراك - والذي سيتحوّل إلى ارتقاءات متتابعة على مستوى السرعة والتحكم والتغيير البهلواني للاتجاهات - من شأنه أن ينقل الحسرة إلى صدور أخرى. إلى ظلام كل كائن يخلو ماضيه من هذا التحدي، ومن المكابدة التي ستفضي به إلى نشوة التفرد. كان الثمن الذي تحتّم على «جوناثان» دفعه هو الوصم بالعار من عائلة النوارس التي تمرّد على تقاليدها ثم نفيه إلى المنحدرات القصية. يعتبر هذا النفي تجسيداً للمصير المرعب الراسخ في أعماق الفرد الذي تنشط كوابيسه عند التفكير أو الرغبة في الخروج عن القانون العام نحو السمو الشخصي. الهاجس الأسود للجزاء الذي يتصدى في شكل استباقي للخيال الطامع في تجاوز الإمكانات المحدودة كي يقمع توهجه، ويمنعه من التحوّل إلى واقع عدائي. لكن النورس «جوناثان» لم يكن يبتغي لانتصاره أن يظل شخصياً، بل كان يتمنى لو أصبح هذا الإنجاز ممراً إلى آفاق جديدة تشاركه النوارس الأخرى السفر إليها. كان يدرك هذه الضرورة للخلاص الجماعي من عبودية القواعد والأطر العمياء، ولهذا سيعود إلى السرب بعد أن عاش بعيداً من النوارس عمراً مديداً في سعادة لم يتمكن أن يحظى بها نورس آخر بفضل مهاراته، وبعد أن ظل في السماء محتفظاً بروح النورس الشاب، وطار على نحو أفضل مما كان يطير بجسده القديم على الأرض. عاد «جوناثان» بعد أن عرف أن الحياة تعني بلوغ الكمال في ما يعشق كل كائن أن يقوم به، وأن الكمال بالنسبة إليه هو أن يطير كل مرة كما لم يفعل من قبل. كان هذا التعلّم يشبه حيازة الحكمة الروحية للأداء المادي، حيث أن الانتقال من عالم إلى آخر هو نتاج خبرات العالم السابق، وأن هذه الرحلة غير مرتبطة بسرعة الطيران، وإنما بالتخلص من قيود المكان والزمان (هنا والآن) أي بسرعة الأفكار، وهو ما يعني الثقة في أن محاولات التحرر قد بلغت مقاصدها بالفعل، فالجسد المكافح يمتلك طبيعة عاشت في ما وراء الحدود من قبل. أصبح (جوناثان) مرشداً للنوارس الأخرى نحو حقيقة الطيران، أي الطيران في الماضي والمستقبل، ولأعلى حيث الوصول إلى غاية الرأفة والمحبة.
«بعد أن تلاشى النورس جوناثان من شواطئ السرب، عاشت أغرب مجموعة من الطيور التي ظهرت على الأرض. بدأ كثير منهم يفهم بالفعل الرسالة التي حملها إليهم جوناثان، وصار من المألوف أن ترى نورساً شاباً يطير طيراناً مقلوباً ويتمرن على الدوران».
يريد ريتشارد باخ أن يخبرنا بأن أقبح ما يمكننا ارتكابه هو إساءة فهم «جوناثان»، وتحويله إلى كائن سماوي خارق. أن نستغني عن كسر قيود الأفكار، الذي بالتالي سيكسر قيود الجسد لمصلحة التعبّد القائم على الأساطير والطقوس. وهذا ما يدفعنا بالضرورة نحو استجواب الخلاص الذي بشّر بتعاليمه «جوناثان»، والانشغال باستفهامات الحكمة أكثر من تصديقنا قدرتها على إزالة الغموض، أو تفسير الأثمان (الإعجازية) التي ندفعها نتيجة لصلابته الأزلية. ربما يقف هذا التحريض من الشغف على الانفلات، الذي يتعدّى النطاق الديني وراء هذه الرحلة الروائية. التحريض الذي سيقودنا إلى محاكمة ذلك (الكليشيه) الذي يحتمي به الروائيون الروحانيون، أهل اليقين، والذي يضع الرغبة في التخلص من الحياة أو الإقدام على الانتحار كمرادف تلقائي وساذج للوعي بالحتمية غير المبررة للألم، ولإدراك العبث (الخارق) من المصادفات التعذيبية. يؤمن ريتشارد باخ بأن كل كائن في وسعه أن يكون «جوناثان» لو استجاب للنورس الذي يحيا بداخله كما يقول إهداء الرواية، أي أن يبقى وفياً للطموح والتحرر. أن يظل مخلصاً لشجاعة الخيال مهما كان العقاب.
«الخيال روح عتيقة. شخص ما يهمس في النفس، متحدثاً برقة عن عالم برَّاق وما يسكنه من كائنات، لها ما لها من مباهج وأحزان، من خيبات وانتصارات، حتى تتم الحكاية في غاية من الجمال، عدا أنها بلا كلمات بعد. يحرك الكُتاب الصور كأنها دوَّامة ليواكبوا الحركة التي يرونها، يتذكرون الحوار من بدايته إلى منتهاه».
لم تكن ترجمة محمد عبدالنبي مجرد إعادة كتابة في لغة أخرى، وإنما كانت طيراناً عفوياً بالكلمات، يتناغم مع الطبائع المتباينة لحركة النورس «جوناثان» المرتبطة بتبدلات أفكاره ومشاعره، بل ويماثل حالات الطيران الحقيقي التي عاشها، أي السفر في ما وراء حدود الزمان والمكان.
 جريدة (الحياة) اللندنية ـالثلاثاء، 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016

الاثنين، 28 نوفمبر 2016

سجين يتذكر بوذا قبل مضاجعة زميله

كان يمكن للأمر أن يكون عادياً تماماً لو توقفت رواية (سوبر ماريو) عند حد إعادة التأكيد على أن “حامد” القوّاد واللص وبلطجي الانتخابات هو نفسه الوزير ضابط أمن الدولة السابق المسئول عن تجنيد الممثلات، وكذلك صاحب الأداء الصوتي في إعلانات النظام التليفزيونية، وهو نفسه شيخ الفضائيات الإسلامية. لكنني جعلته أيضاً الأب الذي يصفع ابنه لأنه لم يصلي، والشاب الذي يعد حبيبته بالعيش في سعادة بعيدة عن شرور الحياة بعد الزواج، وكذلك الصاحب الذي ينتحل شخصية امرأة ليخدع صديقه على الشات. الحيلة هنا تتجلى في أن الشر التقليدي المتمثل في “حامد” الذي فعل في الرواية كل ما يمكن أن يقوم به “الخارج عن القانون” لا يتساوى فقط مع الشر الذي تمارسه “النخبة” السياسية والدينية والإعلامية، وإنما يتساوى أيضاً مع التصرفات العادية البسيطة التي يمارسها الجميع. على هذا فرواية (سوبر ماريو) لا تجد فرقاً بين أن يشرب شخص ما المخدرات مع أخته وينام معها، وبين أن يطلب أب من ابنه أن يراعي ربنا في كل شيء وأن يعامل الناس بحب واحترام حتى ينجح في حياته.
(حينما سألها الموظف عنك يا “حامد” هدأت وصمتت فجأة كأنما نُزعت فيشة كهرباء من جسدها ثم أخبرته بالأمر بصوت واطىء خرج من بين شفتيها حزيناً ومتماسكاً .. كانت عيناه تلتهمان ثدييها الكبيرين اللذين يثبت حجمهما وبروزهما الشديد من تحت بلوزتها الضيقة امتلاكهما “c v” حافل، وحينما سمعها تقول أنك مت رفع عينيه إلى عينيها لثانية واحدة ثم خفضهما ليواصل الالتهام .. أختك بالطبع رأت ماذا تفعل عيناه بصدرها وبالطبع أدركت النار التي تحرق أعماقه الآن وبالطبع ابتسمت .. مجرد ابتسامة صغيرة لم تتسع وتمتد وتخرج منها يد مدرّبة لتأخذ شهوته المكتومة إلى أي مكان يصلح للتخلص من الدموع الشبقية الزائدة .. لأنه ليس أكثر من موظف فحسب .. قطعة خراء لا علاقة لها بفصيلة المخلوقات الأسطورية التي تسمى بني آدم .. قطعة خراء تسعى وتحارب وتجاهد وتستميت وتقاتل كي تبقى على قيد الحياة التي لا تعني أكثر من مواصلة الطريق نحو الموت محافظاً على نفسك كقطعة خراء .. لذا هو بالتأكيد لا يمتلك ثمن “الدخول” إلى عالمها الرومانسي الحالم عبر أي من بواباته “العلوية” أو “الأمامية” أو “الخلفية” ولو حتى كـ “عضو” مؤقت وليس عضواً عاملاً).
لو فكرنا في الأمر من خلال زيف الأسس والمعايير البديهية التي تحدد وتصنف الشرور عبر التاريخ بوصفها مستمدة من أهواء ومصالح السلطة؛ لماذا لا تُعد إذن التصرفات العادية البسيطة ـ التي يمكن ألا تُعتبر وفقاً للمقاييس الاجتماعية السائدة شروراً أصلاً بل على العكس يتم تقديرها أخلاقياً كفضائل ـ لماذا لا تُعد هي الشرور الأكثر فظاعة، والأشد إيذاءً لا لشيء سوى لأنها مكونات السلوك اليومي المهيمن، المستتر وراء تلقائيته المبررة واعتياده غير المدان. الفكرة التي لها ارتباط بآراء “فوكو” عن تاريخ الضبط الرقابي، وفنون التصنيف والتوزيع، وتحويل الأفراد إلى حقول معرفة قابلة للمراكمة والممركزة.
أردت أن أجعل رواية “سوبر ماريو” عملاً وقحاً، سوقياً، يمجد آثام البذاءة وخطايا الابتذال. يتحالف مع القاع لفضح الرصانة السمجة، والعواطف القاتلة المحمية بالنُبل والطيبة والمقاصد المهذبة. رواية يمكن أن تقود لمراجعة ثوابت الطهارة والمحرمات والامتياز والعقاب والتقاليد التي تسيطر على الضوابط والمحاذير العقلية، وأيضاً العنف الكامن في المبالغات الشعورية. مغامرة لطرح أسئلة من هذا النوع: لماذا لا يكون مدح صديق لصديقه، والإشاده بصفاته وطباعه للدرجة التي تدفع ذلك الصديق للشعور بالفرح والنشوة “تجميل الحياة والوعد بعدالة في العالم"، لماذا لا يكون فعل كهذا أقسى جرماً من ممارسة طفل للجنس الفموي في حمام عمومي مقابل سيجارة.
(ماما أيضاً كانت هوايتها المفضلة حينما تختلف معها في وجهات النظر أي واحدة من نساء الشارع أو لا تطاوعها في شيء أو حتى لا يعجبها شكلها أو نظراتها أو مشيتها؛ كانت تجلس على الرصيف أمام بيت هذه المرأة واضعة صفيحة بين فخذيها، وتظل طوال النهار تطبّل عليها، وتغني بكل ما له علاقة بالأعضاء التناسلية، والناس التي تركب على ناس، والابناء الذين ليسوا أبناء بحيث لا يأتي الليل إلا وتكون هذه المرأة هي ونساء عائلتها بالكامل قد نمن مع طوب الأرض، ووسعت فتحاتهن كل شيء، وتجشأن لبن البشرية كلها، وأصبح رجالهن أكثر الكائنات خبرة واحترافاً في حمل المناشف والتجفيف وأخذ الفلوس التي تُترك تحت الوسائد).
يمكن بالتالي اعتبار أن طموح "سوبر ماريو” هو وضع حد لاعتبار “الشر” نقيضاً لما يُسمى بالخير، وجعله يمتد ويتسع ليشمل كل شيء. في هذه الحالة لن يكون هو ذلك الشر المتداول الذي يستقر في أي وعي جماعي، أو الذي تختلف انحيازاته من فرد لآخر، بل سيتحول إلى عبث وحشي مطلق، مسخ كاريكاتوري عشوائي يحكم الوجود عبر الزمن. سيصبح قائماً على الأسباب المجهولة والتدابير والشروط الغامضة بعد أن كان مرتكزاً على قواعد ملموسة سواء كانت ثابتة أو متغيرة. تبرهن الرواية على هذا الهاجس من خلال سرد تفاصيل مرتبة ليوم في حياة راوي، يتوازى ويتقاطع مع الحالات المختلفة لشخصية “حامد”. الراوي قد يكون أنا متقمصاً شخصية “سوبر ماريو” السبّاك الإيطالي الذي يخوض مغامرات، ويواجه تحديات متصاعدة الخطورة للوصول إلى الأميرة. يبدأ الراوي في سرد يومه منذ الاستيقاظ والتفكير في كونه “سوبر ماريو” بشرياً، مروراً بجلوسه أمام الانترنت وشعوره بالألم لأنه ليس “أخطبوطاً كونياً” ثم الوقوف في الشرفة، وتذكر الإهانات التي تعرّض لها طوال حياته، وبعد ذلك جلوسه في المساء وحده للاستماع إلى أغاني الأطفال، وكتابة ذكرياته والبكاء على فقدان طفولته، وانتهاءً بصعوده إلى السرير بعد منتصف الليل للنوم والتفكير في الفناء وفي ما يمكن أن يحدث له بعد الموت. تنتهي كل فقرة من اليوم بالجملة الشهيرة للعبة “سوبر ماريو”:
 Thank you Mario But our Princess is in Another Castle
ما يبدو أنها حياة الكاتب الشخصية يتم دمجها بهذه الطريقة كخاتمة ثابتة لكل فصل من فصول الرواية التي تتبدل خلالها شخصية “حامد” كأنها تؤكد على أن تلك الحياة هي التي تقف وراء رؤية العالم بهذا الشكل. إدراك شمولية الأذى؛ فما نحصل عليه من حياة الكاتب، ومن الحالات المتباينة لشخصية “حامد” هو أن العالم ليس إلا عذاباً كارتونياً فوضوياً لا يتوقف، داخل جحيم من الرعب والفشل. بؤس أجوف ومجاني لا يخضع لإرادة أو قرار. هموم وانشغالات الكاتب التي أنتجت وجوه “حامد” المتنوعة تستوعب أنه لا أحد سيتمكن من أن يكون إلهاً، أو ينجح في التخلص من ماضيه، أو يحصل على نوع من الخلود، أو على الأقل ينال قدراً من الثقة في ما سيكون عليه بعد الموت؛ لهذا فحياة الكاتب هي المحرضة على رؤية كل واحد كـ “سوبر ماريو” مختلف. يمكن أن نشعر بذلك التوحد بين “حامد” والكاتب وجميع الشخصيات الأخرى في حياة كل منهما سواء الظاهرة أو الخفية لنصل إلى فكرة اللعبة التي تورط الجميع في حروبها دون فهم أو حسم. 
(أنا “سوبر ماريو
الذي يخوض حروبه الشرسة داخل لعبة متواصلة تتزايد مصاعبها وأخطارها مرحلة بعد مرحلة أي يوم بعد يوم ولحظة بعد لحظة
ينبغي على "سوبر ماريو” أن يظل حياً حتى يصعد إلى سريره مرة أخرى بعد منتصف الليل موعد الإغماءة التالية التي ليست عميقة كما تعرف .
لست فرحاً جداً
كأنني لم أفتح عينيّ منذ لحظات قليلة
ولم أكتشف أنني لازلت حياً
وأنني نجوت من الموت بمعجزة
ولدي أشياء جديدة ليست كالأشياء القديمة التي ينبغي أن أفكر فيها على الفور .
لست فرحاً جداً
الفرح المنهك المتعب للغاية ، واليائس رغماً عني
المريض الذي لا يفهم لماذا ينبغي أن يكون مريضاً هكذا؟
الفرح العجوز الذي لم تعد لديه القدرة لأن يفرح
الفرح لاوجود له
مهما نجوت من الأسقف والحوائط والجدران ، ومهما استيقظت ، ومهما كانت لديك أشياء تفكر فيها على الفور حين تستيقظ).
دمج آخر قمت به في “سوبر ماريو”. إقحام عبارات من القرآن والإنجيل والتوراة والبوذية والبهائية والهندوسية والسيخية والديانة المصرية القديمة وغيرها على لسان “حامد” في كل حالة دون توقع أو سبب معلن وبشكل هزلي كأنني لا أريد فقط الإشارة إلى وقوف الأديان وراء المأساة، وتبرير جرائمها، وإنما لتمرير التصور بأنه لا فرق بينها في طبيعة الوجود والدور والممارسة، حيث تستطيع أن تستبدل فقرة من كتاب مقدس بفقرة من كتاب آخر في أي موقف دون حدوث تغيير أو تأثر.
(أطفأ سيجارته ثم تحرك فوق الكنبة مقترباً أكثر من “منى” التي مالت للخلف وهي تشخر وتضحك حتى نامت على ظهرها وأصبح هو فوقها تماماً فقالت له :
ـ بقولك إيه ؟ .. أنا مش رايقالك
رد عليها “حامد” قائلاً : أول ما كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب .
ثم بدأ يقبّل رقبتها ، ويداه ترفعان جلبابها ثم أمسك بلباسها ، وبدأ يحاول إنزاله لأسفل .. مدت يدها سريعاً ، وأقبضت على طرف لباسها العلوي بقوة لتمنعه من أن يخلعه
ـ حامد .. ما حبكش دلوقت يا حامد).
بناء “سوبر ماريو” ليس تقليدياً بالتأكيد، على الرغم من ذلك سيبدو ـ ظاهرياً ـ أن هناك ما يشبه نظاماً صارماً للرواية: مقاطع تتناول حياة اللص والسجين وقاطع الطريق “حامد” وهي الحياة التي تبدو أساسية في بنية “سوبر ماريو"، يتخللها مقاطع تتناول نفس الشخصية، ولكن في حالات وجود مغايرة على أن ينتهي كل فصل بتعقب أحداث وتفاصيل يوم في حياة "سوبر ماريو”. هذا النظام المحسوب بدقة يمكنه إعطاء دلالة عن انشغال بالاتساق، لكن الرواية تتعمد هذه الخدعة بتقديم وعد لترتيب سردي في حين أن هذا البناء يناهض بوضوح سلطة الحكي. “سوبر ماريو” قائمة على شذرات وقصاصات لا تتبنى روابط آمنة، وإنما تتمسك بخلق الجدل، وبالحفاظ على التفكيك الشكلي استجابة لتفكيك ثنائية الخير والشر ذاتها، والسخرية من التأويلات الراسخة عنها. هنا ينبغي التأكيد على أن الرواية قررت التركيز على الصورة النمطية للخارج عن القانون بكافة رذائلها وفقاً لأحكام التاريخ والأديان والواقع السياسي دون حاجة للجوء إلى ما يُسمى بالجانب الإنساني في حياته باعتبار أنني قمت بتشييد جبهتي المضادة بأعراف وقوانين السلطة ليصير الفضح أكثر سخاءً عند التفكير في المقارنات بين وجوه “حامد” العديدة.

السبت، 26 نوفمبر 2016

عن اللحظات المؤرقة: كتابة تفضح المسكوت عنه

(1)
تستضىء هذه الدراسة بالمنهجية الإبيستمولوجية الحديثة التى تؤمن باشتقاق العقل النظرى من العقل العلمي وليس العكس، ويعنى هذا فى النقد الأدبى أن المقاربة النظرية مشتقة من المقاربة النصية المحقّقة نفسها بوصفها قابلةً لإنتاج نظريتها. ولا يمكن للنقد بهذا أن يسبق العمل، أو يمهد للتنظير له ما لم ينغمس فيه ويعايشه بادئاً منه، ومواصلاً من خلاله، باحثاً عن نفسه فى داخله العميق .  وهذه المجموعة القصصية تطرح كتابة جديدة لا ترتبط بالمرجعيات التقليدية المعروفة، ولكنها تعتمد على الواقع المعيش مباشرة، وتعتمد الفكر الجديد الذى ينتعش فى المجتمع الإنسانى فى كل مكان اليوم، وهو فكر يعلى من شأن التساؤل لا اليقين، والتساؤل دائماً محرك للعقل، فى الوقت الذى يحرمنا فيه اليقين من الاستفسار والفهم العميق . التساؤل هو أحد السبل الأساسية للبحث والتقصي وهو حقنا الإنساني البسيط، لتأسيس المعرفة، ويهدف السؤال إلى خلق عقل تأملى، يبحث عن الحقيقة وعن معنى الوجود، وعن القيم، ليصل إلى المعرفة . وكاتبنا فى طريق تحرّى المعرفة يتحرك بين حدين أساسيين فى الكتاب كله، هما : الموت والجنس، ويمكن أن يعدّا طرفين كبيرين من أطراف الحياة التى لانهاية لها.
والكاتب لاينتفى عنده كل يقين معنوى فحسب، ولكنه يرفض أيضاً اليقين الشكلى، وهو على سبيل المثال لايوجد لديه شكل السرد القصصى التقليدى الموروث منذ الستينيات والسبعينيات، ولا يخضع شكل السرد عنده لأية أقانيم ثابتة، ولكننا نتابع عنده هذه الانتقالات المفاجئة من حالة إلى حالة أخرى شديدة الاختلاف والتباين، أو يطرح معطيات متتالية شديدة التغاير، ويضفرها فى سياقات فكرية وعاطفية مختلفة، ومن هنا فكتابته سترهق الكثيرين من النقاد وخصوصاً أولئك المتقولبين واليقينيين .
ويعبر الكاتب دائماً عن لحظات حقيقية وواقعية تؤرق أعماقه (أعماقنا)، وغالباً ماتكون هذه اللحظات مندرجة تحت ما يسمى بالمسكوت عنه، وهى المعانى التى يسعى الجميع لإخفائها وتخبئتها، بينما هى فى كثير من الأحيان تمثل رموزاً لما يدور بيننا بالفعل فى كل لحظة من لحظات الحياة، والنقد اليوم هو الذى يؤكد أن الكشف عن هذه اللحظات هو الذى يصنع الكاتب الكبير أو الإنسان الكبير، القادر على مس أوتار فعلية فى قلوب البشر .  وتوحى كتابة "ممدوح رزق" بأن هناك مستويان للحياة: المستوى الأول ظاهرى معلن : من خلال مايضعه البشر من أقنعة، وما يوهمون به أنفسهم والآخرين من ادعاءات مختلقة، والمستوى الثانى : هو المستوى الحقيقى الذى نعيش من خلاله فى كل لحظات الحياة، ولكننا نسعى لمواراته وحجبه، ونحس بالخجل الشديد منه، إذا انكشف شىء من تفاصيله على سبيل المصادفة، كما أن هناك أسرار فضائحية يخبئها البشر، رغم أنها مرت بهم فعلياً وأثرت على حياتهم تاثيراً شديداً، وكأن كل إنسان يمتلك صندوق قمامة يحرص كل الحرص على تغطيته بغطاء سميك لاتستطيع يد أن تكشفه، وتظل هذه الحقائق تؤرق الإنسان وحده دون أن يشاركه أحد، وتظل أسراره مصانة حتى لحظة الممات، وهذه بالتأكيد أشد أزمة يعانى منها البشر فى مجتمعاتنا، والتى تحتاج إلى مواجهة شجاعة، وهذا هو ما تقوم به هذه المجموعة القصصية المهمة فى ساحة الكتابة اليوم .
(2)
منطق الكتابة الآن يهتم بالأشياء الصغيرة التفصيلية التى تعدُّ ملاذ الكتّاب بعد أن افتقدوا الصلة بالمعانى الكبرى، وافتقدوا الثقة فى الأيديولوجيات التقليدية التى لم تعدْ صالحة لمعالجة الحياة، من الواضح أن المنظومة المعرفية القديمة فى حياتنا قد بدأت فى الانهيار لتحل فى محلها منظومة معرفية جديدة تعتمد معطيات لم تكن واضحة من قبل وتبحث عن مصادر مختلفة، لتولد علاقات جديدة تشكل معرفة غير مسبوقة، وكلنا نلاحظ أيديولوجيا التفاصيل الصغيرة التى تسيطر على حياتنا اليوم، وكاتبنا يتأملها مستعيدا ذاكرة الطفل الحالم، ونحس بقيمة هذه الأشياء الصغيرة بداية من إهداء الكتاب حيث يضع الكاتب يده على التفاصيل الصغيرة التى يرتبط بها ارتباطاً عاطفياً حميماً، تفاصيل الحياة الحقيقية المرتبطة بنا بشكل حميم، فيهدى الكاتب عمله إلى تلاميذ ومعلمات الفصل الدراسى 1983ـ 1989 بمدرسة "ميت حدر" الابتدائية بالمنصورة، ثم يقتطف الكاتب مقطعاً من الكاتب الروسى "فلاديمير نابوكوف" يفيض بالمعانى التى ينحاز لها الكاتب، والتى سوف تتم معالجتها فى هذه الدراسة، ومنها الاهتمام بهذه التفاصيل الحياتية اليومية التى يتعرف عليها الإنسـان بالمشاهدة والمعايشة , والاهتمام با لأشياء التفصيلية هنا لايعنى الأشياء العينية فقط، ولكن قد يعنى الأشياء المعنوية أيضاً، أو لغة الحديث اليومى، أو أحياناً أساليب المصريين فى التحدث أو التخاطب، فهم على سبيل المثال معتادون أن يبدأوا التحدث فى موضوع جديد قائلين كلمة : "تعرف؟" بمعنى (هل تعلم ؟) وبطل نص "جزيرة الورد يتكلم هكذا : (تعرف.. حينما اندفعت البنت زميلتنا في الفرقة من باب قصر الثقافة وجرت في الردهة الطويلة وهي تضع يديها على وجهها وتبكي وتصرخ بشكل هستيري ثم أخبرتنا أن زميلنا مات في حادث سيارة وهو عائد من " القاهرة " عند " أجا ".. تعرف.. شعوري لحظتها لم يكن مجرد شعور بالصدمة أو بالألم أو بالفزع.. هل جربت التجمد المفاجيء ـ ص95).
(3)
المقطع الذى اقتطفه الكاتب من الكاتب الروسى "فلاديمير نابوكوف" يفيض بالإحساس القوى بالذات، وبالتحديد تأتى الذات هنا بالمعنى الشخصانى، وليس بالمعنى الأخلاقى أو الوجدانى أو الجمعى، وهو المعنى الذى يسود فى المجموعة القصصية بكاملها، ونقرأ فى المقتطف : [رغم ذلك أنا سعيد . نعم سعيد . أقسم أنني سعيد . فلقد أدركت أن السعادة الوحيدة في هذا العالم هي أن تلاحظ، تتجسس، تشاهد، تفحص ذاتك والآخرين، أن تكون لاشيء، مجرد ين كبيرة، زجاجية قليلا، محتقنة إلى حد ما ولا ترمش. أقسم أن هذه هي السعادة !  ما الذي يهم في أنني حقير قليلا، مغفل قليلا، وأنه لا يوجد من يقدّر كل الأشياء المميزة فيّ .. خيالي، معرفتي الواسعة، موهبتي الأدبية ! أنا سعيد لأنني أستطيع أن أحملق في نفسي، ولأي شخص هذا أمر ممتع جدا، نعم ممتع بحق! العالم مهما حاول لا يستطيع إيذائي.. فأنا منيع ] .
يفيض هذا المقطع بالتعبير عن معنى الذاتية فى بعدها الشخصانى، وعبارة : (رغم ذلك أنا سعيد) التى بدأ بها المقطع . تشير إلى الرضا بكونه يركن إلى هذه الذات مهما كانت خسارته فى أى شىء خارج نطاق إيمانه بذاته، فإيمانه بذاته هو منبع سعادته الذى يحقق له توازناً مع هذا العالم البارد الجامد القبيح، والمركز الذى ينطلق بالاتكاء عليه هنا هو هذه الذات، ينطلق بمحاولات معرفة العالم والتجسس عليه، ومشاهدته، وتفحصه بعين شفافة قادرة على الرؤية المحايدة، الرؤيا الأولى فيما قبل التعاطف أو النفور، ومن الخيال تبدأ المعرفة الواسعة هذا هو التعريف الجديد للموهبة الأدبية، هو ممتلئ بذاته، وبموهبته، وهذا فقط هو ما يجعله منيعاً محصناً فى عالم هش .
والنص الأول فى الكتاب، وعنوانه (إخفاء العالم ـ ص5)، يتعرض للقضية ذاتها، الارتباط بالذات بالمعنى الشخصانى، وبطل النص مشغولاً بحاجاته، واحتياجاته الشخصية فى المفام الأول، فالمتعة العاطفية والحسية تشكل أولويات الذات، حيث يتعرض النص للعلاقة بامرأة جميلة، كانت جارة فى مرحلة الطفولة، يقتنص معها لقاء فى غياب الزوجة، ضارباً بمسألة الخوف من زوجته، أو الخوف من الفضيحة عرض الحائط كأن حرص الذات على الحصول على حاجاتها يشكل ميلاً عارماً تتضائل إلى جواره أى قضية أخرى، وفى نهاية القصة يزداد الخطر، فالزوجة صارت على وشك الوصول، ولكن بطل اقصة منهمك فى شعوره بمتعة الاستماع لصوتها عاصفاً بكل ما يمنع هذه المتعة : (راحت تردد الكلمات مع " إيمان يونس " ثم بدأت ملامحها تهدأ تدريجيا وصوتها يندمج أكثر مع اللحن حتى تشكلت ابتسامة خفيفة على وجهها ظلت تتسع وتكتسب فرحا متزايدا مع استمرار الأغنية.. كنا نسمع صوت قدمين تصعدان السلالم وتقتربان من الباب ثم سمعنا رنة الجرس ولكنها واصلت الغناء وأنا لم أرفع عينيّ عنها ـ ص7).
ومعنى إخفاء العالم هنا هو إخفاء العالم الظاهرى بكل قوانينه، وقيمه الأخلاقية، ونتائجه مهما كانت، وإظهار المعنى الجوانى الداخلى المرتبط بالذات، مهما كانت خطورته فى المفهوم السائد، والنص بالفعل يتعرض لقيمة أخلاقية تؤرق البشر، وتتعلق بالصراع بين المعنى الظاهرى الملىء بالادعاء، والمعنى الخفى الذى يعيشه البشر سراً دون قدرة على إظهاره رغم الاحتياج له، وهنا يوجه القاص دعوة للبشر أن يظهروا المخفى، وأن يناقشوه بدلاً من المزيد من إخفائه، والهرب منه، ولابد للإنسان الجديد أن يواجه مشكلاته الفعلية فلا يهرب منها أو يتعمد أن يمارس المزيد من مواراتها .
وفى نص (الحرمان من التفاؤل واليأس ـ ص70) نقترب كثيراً من ذات بطل النص، وهى ذات تمتلك خصوصيتها المتميزة، ذات ترفض العالم، وتبحث عن طريقة أخرى للتخلص من الحياة غير الموت، ذات لها طريقتها فى تمضية الوقت، فحين يكون بطل النص منفرداً في الفترة الفاصلة بين العصر والمغرب، الوقت المفضل لديه من اليوم منذ الطفولة، يطالع كتاب كـ " التاريخ الكوني للخزي " لبورخيس أو يشاهد ويستمع لأغنية كـ " moonlight in Vermont " لفرانك سيناترا وإيلا فيتزجرالد، ومن الطبيعى والحال هكذا أن يغرق فى العزلة، التى تعنى تأمل العالم بعيداً عن الآخرين، وبعيداً عن القيم التى تفرض على البشر، وتجبرهم على الخضوع للموت اليومى المتكرر، ويقرر بداخله  أن العزلة جميلة لدرجة أنه يتمنى أن يعثر على طريقة تبقيه بالبيت وتمنع الآخرين من الاتصال به ليصبح منسياً بين البشر  بالتدريج..  ولأن فى خارج البيت دائماً تصطدم هذه الذات بركام هائل من الحكايات المتخمة بالأشخاص والأحداث السيئة، ركام بدأ تشييده في لحظة مجهولة بالنسبة له، حدثت قبل مجيئه للحياة، حينما كان السابقون في أسرته يعتنون جيدا بالميراث الذي سيترك له، هذا الميراث الذى أخذ وقته الكافي في النمو والثبات والتوحش، وهو فى الحقيقة، ليس ميراث بطل النص الذى يتبقى له من أسرته، بل يكاد أن يكون الميراث الذى يتبقى له من تاريخ البشرية كلها .  وبطل النص لا يعد نفسه سوى مجرد استمرار لتاريخ لم يكن جميلاً، ويشعر أن الغرباء قبل الأقارب والأصدقاء يعرفون هذا التاريخ تماماً، وتجرحه به عيونهم وابتساماتهم والفراغات المائعة بين كلماتهم التى يوجهونها له .  يحس البطل أن هناك مساراً محدداً مجبراً أن يسير فيه، مجبراً من خلال قوانين لاقِبَل له بتغييرها مهما فعل، ويعترف فى مواضع عديدة من النص بفشله فى تغيير هذا المسار المفروض عليه، وعلى أسرته، وعلى البشر جميعاً، بل وتأتى دائماً جهوده بنتائج عكسية : (منذ البدايات المبكرة لشبابي وحتى الآن وأنا أحاول أن أفعل كل ما في وسعي لوضع حد، أو البدء من جديد، أو صنع انحراف ما بأي شكل للمسار التقليدي المعتاد الذي أجبر القدر أسرتي على اتخاذه ودائما كانت النتيجة هي نجاحي الباهر في تدعيم هذا المسار البائس ـ ص71).
وبرغم أن البطل المهموم بذاته يسعى أحياناً للمعانى التى ترقى بآدميته، وبالوجود الآدمى كله، ولكنه مندهش لأن البشر مصرون على الانحسار داخل حدود ضيقة، وفي منزل الأسرة على سبيل المثال، ومنذ لحظة ميلاده لم ير شخصين جالسين معاً لتبادل حديث ودي، فجميع افراد الأسرة فى حالة شجارات هيستيرية متواصلة، قد تجمع بالإضافة للأسرة جيران العمارة والعابرين في الشارع أسفل الشرفة . والسؤال الجوهرى هنا لماذا يظل الآدميون ينمّون قدرات عدائية هجومية، مبتعدين عن التحضر والرقى العقلى والإنسانى؟
فى هذا الإطار عاش البطل طفولة مؤلمة، بين دعابات الآخرين الثقيلة التي تنال من الكرامة، يتذكر البطل أيام طفولته التى هى طفولة المصريين جميعاً، لم يكن فى هذه المرحلة قادراً على مجاراة زملائه في المدرسة، فهم من أصحاب المواهب التي كانت تبدو له خرافية، فهم يمتلكون القوة الجسدية، والجرأة على ممارسة الخدع والمقالب، ويمتلكون بذاءة اللسان اللامحدودة، والرغبة فى تطوير قاموس الشتائم بشكل متواصل، ومزج الأذى بالكوميديا، حيث يتعطل فجأة أى تعاطف مع الضحية التى يتم حصارها بكم كبير من الأذى والسخرية والإهانة . وكان بطل النص فى طفولته لفرط رقته وحساسيته، غير قادر على امتلاك هذه المواهب، مما دفع باقي التلاميذ إلى عدِّه مغفلاً ساذجاً، وهذه قضية الطفل المصرى بشكل عام، الطفل الذى لا ترعاه جهات تربوية، أو خطط لتنشئة الصغار، فيترك الأطفال بشكل عفوى لنمو النزوعات السلبية الشريرة التى توقظها الظروف الموضوعية فى واقع لايهتم بالبشر .  وعلى الرغم من كل ظروف التنشئة القاسية يحاول بطل النص أن يحافظ على نقاء ذاته، ولكنه يظل مصاباً بعقد الطفولة، وغير قادر حتى بعد أن كبر وتجاوز الدراسة على ضبط علاقته بالآخرين . وهكذا تظل لعنة الماضي أبدية لايمكن الخلاص منها، ويبدى البطل عجبه بسبب قدرة الآخرين على التعايش مع الواقع القاسى، أو قدرتهم على قتل الوحش الذي يطاردهم، وكيف أنهم يمتلكون دائماً القدرة على عيش حياة جديدة كأن شيئا لم يحدث ؟ وهكذا تظل عقد الماضى تطارد البشر، وتتحول الحياة فى تعريف جديد يخص هذا النص، تتحول إلى محاولات مستمرة لتنمية مهارات دفن الذكريات الخانقة في أبعد مقبرة ممكنة داخل الروح، ويحاول العقل باستمرار أن يحمي نفسه بنفي الذكريات السيئة، ولكنها تظل تحيطه بإلحاح، إنها ذكريات الإحباط والقمع، ومختلف الذكريات السلبية المدفونة، وعلى البشر دائماً أن يكونوا قادرين على قمع الذكريات المؤلمة المستعادة، الذكريات المكبوتة الناتجة عن الضغوط الشديدة فى خلال ظروف الحياة القاسية .
تصبح الحياة صعبة وقاسية، وهاهو البطل لا يريد أن يخرج من البيت فى مدينة تسحق البشر تحت ناطحات السحاب التى حلت فى محل البيوت والمحلات والكازينوهات القديمة التي كانت في " الثمانينيات، ناطحات السحاب الخجولة التى (تتراص أسفلها مطاعم وكافيهات ومحلات ملابس وأحذية على الطراز الغربي الحديث امتثالا لأمر أثرياء " اليورو " الجدد من الريفيين الذين نجوا من الغرق قبل سنوات بعد أن ألقت بهم قوارب الهجرة غير الشرعية بالقرب من شواطيء أوروبا ـ ص72).
لقد صار المجتمع  يقفز فوق أرتال من "النفايات" الاجتماعية والفكرية المتكدسة والتي تحوّلت إلى  شعارات "صلبة"، من خلال "العروض" الفكرية والسياسية في الذاكرة الثقافية، وحيث يبدو تململ أعمق في العلاقة بين الإنسان والوجود . وحيث يظهر الوجه القبيح للتقاليد البالية، ويصبح ملحاً أن ثمة حاجة تاريخية لإعادة تكوين الهوية التى تخصنا فى زمن جديد .
وفى إشارة قوية لأسباب ضياع الإنسان وغرقه فى كل هذه القيم السلبية تقدم القصة هذا الوصف لتكوين الواقع الذى نعيشه اليوم، الواقع الاستهلاكى المتناقض والمختل، والذى لا يراعى طبيعة البشر الآدمية ويحولهم إلى دمى شائهة : (أي فراغ يُكتشف بقاءه على كورنيش النيل يخترقه فورا قضيب سكني ممدود من طبيب كبد استفاد تماما من التحالف بين أسلوب النظام الحاكم في تنفيذ الإبادة الجماعية عن طريق الطعام والماء والدم الملوث وبين نتائج أبحاث مضاعفة الأرباح التي تخرج من معامل ومختبرات شركات الأدوية العالمية.. أو من أحد الشيوخ الذين عينتهم آبار البترول السلفية في الفضائيات لاستقبال توبة الفقراء عبر الـ SMS.. أو من ضابط شرطة يقسّم وقته بالتساوي بين حجرات التعذيب وفيلات تجار المخدرات والسلاح وشقق الدعارة التي يديرها أو يحصل على رواتب شهرية منها ـ ص75).
ويريد البطل أن يجابه كل هذه المشكلات والمحبطات، ويتصور أن أهم مايمكنه من الصمود هو عودته لذكرياته التى يستشعر الحنين تجاهها، فيقضى يوم كاملاً بصحبة أخيه متجولين بالسيارة بين بيوت الأقارب، وأصدقاء الطفولة وبين المدارس والمقاهي والشوارع والمحلات التي مازالت تقاوم الغياب، متبادلاً مع أخيه كلمة : "فاكر ؟"، وهو بذلك لايكتفى بمجرد التذكر العادي إلى خطوة أكبر كثيراً، وهى التحرك جسدياً نحو مواطن الذكريات .  ومهما وصل الإنسان إلى مراحل  متقدمة من العمر فإنه يظل قابعاً فى المراحل العمرية السابقة خاصة مرحلة الطفولة، وشخصية الإنسان تنمو دائماً بطريقة تراكمية، بحيث لا تنمحى المراحل العمرية السابقة، مثل البناء فلا يمحى الدور الأعلى الدور الأسفل، ومن هنا نعرف أهمية الخبرات التى تعيش مع الإنسان منذ طفولته : البيوت التى عاش فيها والشوارع والعلاقات، ولايستطيع الإنسان أن يقتل الطفل الذى فى داخله، ولكن فى معظم الأحيان على العكس يحن لطفولته، بل وقد يشعر أنه يريد أن يلعب كما كان يلعب فى صغره، أو يبكى، أو يستمع للحواديت .
وينهى القاص عمله من خلال لحظة واقعية من حياته اليومية، وهذا من سبيله أن يكسب قضاياه معقولية، وصدقاً فنياً عميقاً : (أنهض لأتجه إلى حجرة النوم.. أرتدي ملابسي وأنا أشعر بالدوار.. أنظر لوجهي في المرآة.. يبدو أنني لن أنتحر ولن أعثر على طريقة أخرى للتخلص من الحياة .. أتجه إلى باب الشقة.. الاستمرار في الدنيا رغما عنك هو بالضبط ما يعنيه أن يظل جبل المكعبات الذي تجلس على قمته يرتفع بك أكثر وأكثر بينما عدم فهمك لما حدث بالأسفل ويواصل الحدوث يزداد بلادة وسادية ـ ص76).
ويمكننا فى نص (جزيرة الورد ـ ص94) أن نتابع القضية ذاتها : التفاف النص حول الذات بالمعنى الشخصانى، سنكون بإزاء حكاية ممثل مسرحى، وقد ترمز لحكاية الإنسان فى كل مكان وزمان  .  الممثل المسرحى هنا عاشق لمدينته جزيرة الورد :    (" جزيرة الورد " ليس الاسم القديم لمدينتي فحسب.. هو أيضا الاسم الذي سيظل يتطابق تماما مع المسمى.. مدينتي كانت وستستمر حتى نهاية وجودها جزيرة ورد حقيقية بكل ما تنجبه من كائنات وأشياء.. هي أيضا وصف لكوكب الأرض نفسه باعتبارها جزء من كل.. جزء يعبر ويدل بصدق على معنى الكل..ـ ص94).
ويحس بطل النص بنفسه مختلفاً وأنه غالباً ما يكون صادماً بالنسبة للآخرين، وهو إنسان ينزع دائماً نحو التساؤل لا اليقين، هذا هو قدره فى الحياة، وهو صادم أيضاً لأنه يسير فى أقصر طريق نحو الحقيقة الصريحة فى كل شىء فى القضايا الاجتماعية والسياسية، وما يدور فى كواليس الأحزاب السياسية، لذا يخاف منه الكاذبون والمزيفون، وكما يقول "تنيسى ويليامز" لقد زيف الناس مشاعرهم وأحاسيسهم الحقيقية بنجاح، وحتى عن أنفسهم، فصاروا يعيشون مسرحية مستمرة حتى أمام ذواتهم، فتراهم يقومون بادعاء دور الطيبة أو الحب أو الإخلاص، ولا يخلعون أقنعتهم، ولا يعودون إلى طبيعتهم إلا مع من يظنون أنهم أقل منهم شأنا، ويفوتهم أنهم تحولوا إلى مسوخ لا صلة لهم بعالم البشر .
يخاف المزيفون من بطل النص، يخافون من أن يعبثوا خطأ فى الأسلاك العارية المتوارية بداخله فيصعقون، ورغم خوفهم فهم مرتبطون به، وخوفهم الأكبر أن يفتقدوه، لأنه يمثل رمز الخلاص بالنسبة لهم، فهو ليس بطلاً من أبطال المسرح فحسب، بل هو بطل من أبطال الحقيقة فى الوجود الغامض الذى يحيط بهم، بل يمكن أن يتحول إلى معنى خالداً من معانى الوجود فيبقى إلى ما بعد الموت : (بعد موتي سأعود إليكم.. ربما سأزور كل واحد منكم في أحلامه أو أدخل إلى ذهنه فجأة من باب سري بينما يفكر في الحياة والموت ـ ص98).
سيتحول البطل المسرحى إلى رمز كبير يضىء الحياة بمعان جديدة، سيعرفه المجتمع كله، سيعرفه القهوجي، وماسح الأحذية، وبائع المناديل، سيعرفونه عندما ينظرون إلى المثقفين عندما يأتون حاملين جرائدهم ومجلاتهم وكتبهم بعد أن ظلوا طويلاً يكررون أنفسهم دون قدرة على التجديد منذ سنوات طويلة، وظلوا يضحكون على الأشياء نفسها التي يعرفون أنها لم تعد مضحكة .. سيحقق البطل ليس نصراً مسرحياً فقط .. بل نصراً ثقافياً وإنسانياً جديداً، وسيسير بالناس فى طريق السعى لحل أزماتهم الكبرى .  وينتهى النص بعبارة مهمة يطلقها البطل المسرحى، عبارة تفيض بالدلالات المختلفة، ما بين الاستنكار، والتحفز للتجديد الجذرى، والحلم، يقول : (أنا مثّلت كثيرا.. لكنني لم أمثّل أبداً ـ ص99).
(4)
ومن المهم أن نشير إل أن بطل النصوص فى هذه المجموعة حائر، يشعر أنه سقط فى فخ وجودى، وأن الحياة عبء ثقيل، ولكنه مجبر عليها إجباراً، يفكر كثيراً فى الانتحار، أو فى الخلاص من الحياة بأية طريقة، لأنه غير قادر على الانسـجام معها، يبدأ نص (الحرمان من التفاؤل واليأس ـ ص70) هكذا : (لأنني لن أنتحر طبعا كان عليّ إذن أن أبحث عن طريقة أخرى للتخلص من الحياة غير الموت) ويظل الإنسان يسعى لدفن ذكرياته الخانقة، وتظل الحياة عبارة عن تفاقم متسارع لوباء شديد، وفى نص (جزيرة الورد ـ ص94) يبدأ الكاتب نصه بالورود والحدائق وينهيه بالفشل والكراهية، ويصف الكاتب البشر فى هذا النص بأنهم كائنات منتظرة، ولا تكاد تعرف ما الذى تنتظره، هل تنتظر نوعاً من الخلاص، هل تنتظر مكاسب غامضة وغير قابلة للتحقق ؟ هل تنتظر الموت، أو مزيداً من الهزائم، رغم المهازل البشرية التى يعيشها البشر، فى قصة واحدة تتكرر بلا توقف : (يا أيها الذين تنتظرون هل أخبركم بأكثر ما يؤلم في الانتظار.. أن تكون لديك غرفة معلق على أحد جدرانها صورة أب ميت تؤمن كلما نظرت إليها بأن الماضي ليس قضية منتهية أبدا وأن الأشياء القديمة التي لا تُحسم ومع ذلك تكون مجبرا على تجاوزها تتحول إلى أشباح تنمو تدريجيا وهي تلتهمك من الخلف لحظة بعد لحظة.. ألا يكون في يدك ما تفعله لهذا الأب وهو في قبره سوى التفكير فيه بعمق وأنت تضحك أمام " فؤاد المهندس " حينما يغني : "يبقى أتجوز ليه.. وأنا مالي.. ولا أتقيد ليه.. كده مالي ".. أن تختنق فجأة أثناء الضحك والتفكير وتشعر بدموع تريد الانفلات من عينيك لأنك تعرف كم كان هذا الرجل يحب " سيدتي الجميلة "..
أكثر ما يؤلم في الانتظار أن تناديك العجوز المريضة التي تنام في الحجرة المجاورة بينما تشاهد المسرحية وتطلب منك حينما تذهب لتقف بجوار سريرها ألا تدخن كثيرا قبل النوم : " كفاية إللي حرقته طول اليوم " ولكنها لن تخبرك أبدا أن قصة واحدة تتكرر فحسب.. تتكرر رغما عن أي أحد يريد تغييرها.. لن تخبرك بذلك رغم أنها رأتك تنظر في عينيها وتتأمل تجاعيد وجهها وجسدها الراقد تحت الأغطية كجثة تأخر دفنها.. رأتك وربما فهمت ما بداخلك لكنها أغمضت عينيها ولم تقل شيئا.. ما فائدة أن تخبرك ؟!.. أليست القصة تتكرر رغما عن أي أحد ؟!..ـ ص95).
ونص (جريجور سامسا ـ ص8) وعنوانه مأخوذ عن نص لـ"فرانز كافكا" نشر لأول مرة في 1915عام  عن البائع المتجول، "جريجور سامسا" الذى استيقظ من نومه ليجد نفسه قد تحول إلى مخلوق يشبه الحشرة، ونص كاتبنا لا يتفاعل مع هذا النص وحده، بل مع عدد من النصوص لكتاب عالميين يدينون حالات القهر التى يعيشها البشر ليس فى ظل البدائية والتخلف فقط، بل فى عصور التحضر والأزمنة الصناعية حتى عصورنا الإلكترونية اليوم، عصور البريد الإلكتروني، والبيانات الإلكترونية، والأقراص المدمجة، واستخدام أدوات التشفير وشبكات النت التى تحيط بالأرض، بعد أن غيرت التكنولوجيات الحديثة المعلومات والاتصال، والكثير من المفاهيم والأسس فى حياة البشر، ونص "جريجور سامسا" المنشور فى مجموعة "قبل القيامة بقليل" يثير قضية إحساس الإنسان بالاغتراب فى زمن "الفيس بوك" و"الإنترنت"، ولعله يذكرنا بصورة أو بأخرى بنص "ماركيز"  "لايجد الكولونيل من يكاتبه"، وبطل النص هنا يعيش أزمة أبناء العصور الجديدة، فهو يبعث برسائله على "الفيس بوك" لأشخاص لايجيبونه فيحس بالتجاهل، وبغياب الثقة فى النفس، بل وبالنقص الشخصى : (كان عاجزاً تماماً عن التحرر من سلطة يعرف أنها متوارية فى كل حيز فى الخفاء الكونى، وكان على وعى تام بأنها متوغلة فى كيانه بشكل لا يمكن الإحاطة به وتستخدمه كأداة ينفذ بها على نفسه وعلى الآخرين مشيئة مجهولة ـ ص12).
(5)
ويطرح الكاتب فى النص الأول (إخفاء العالم ـ ص5)، قضية أخرى من قضاياه الأساسية هى النوستالجيا، وبسبب الحاضر المنهك، والمستقبل الغامض، أصبح كل منا اليوم يستشعر الحنين للحظات الجميلة فى ماضيه الشخصى القريب أو البعيد، وبطل النص الأول يريد من المرأة جارته القديمة التى تزوره فى غياب زوجته، أن تغنى له أغنية فرقة المصريين التى كان يسمعها منها فى الطفولة، وعلى الرغم من خطورة الموقف، بسبب احتمال وصول زوجته فى أية لحظة، وهى الخطورة التى تستشعرها المرأة الجارة، إلا أنه يصر على الاستماع لهذه الأغنية من فمها، الآن وفى هذه اللحظات بالذات، كما لو كان الحنين للماضى الجميل الذى شهد تحققاً ما للذات، أهم من أية مجـازفات يمكن أن يجازف بها الإنسان : (أخبرتها بأنني كنت أسمعها وهي طفلة تغني بصوت جميل أثناء نزولها وطلوعها على سلالم البيت القديم الذي كنا جيران فيه أغنية فرقة المصريين : " بنات كتير كده من سني.. بيغيروا مني، وبيحسدوني مع إني.. مش أحلى منهم بصراحة ".. حدقت في وجهي باستغراب وابتسمت) !! .
وفى نص (الحرمان من التفاؤل واليأس) لايعود بطل النص إلى ذكرياته التى يحن إليها بمجرد التذكر بل يقرر التحرك جسدياً نحوها، فيقضى يوماً كاملاً بصحبة أخيه متجولين بالسيارة بين بيوت الأقارب، وأصدقاء الطفولة، إنه ينغمس بجسده بين المدارس والمقاهي والشوارع والمحلات التي مازالت تقاوم الغياب، متبادلاً مع أخيه الكلمة الرائعة : "فاكر ؟" (أريد أن أخرج.. أحلم بيوم كامل أقضيه منذ بدايته وحتى ونهايته بصحبة أخي نمر فيه بسيارته على كافة أماكن الحنين : ما تبقى من بيوت أقاربنا وأصدقاء طفولتنا والمدارس التي تعلمنا فيها والمقاهي والشوارع والمحلات التي مازالت تقاوم الغياب.. أريد أن نتبادل أنا وأخي في كل مكان حكاياتنا عنه بحيث لا يبدأ أي منا كلامه للآخر إلا بكلمة : " فاكر ؟ ".. أخي الذي سيضحك كثيرا ويتهمني بالعته قبل أن يتجاهل وينسى سريعا رغبتي هذه إذا ما صارحته بها..
نعم.. من الأفضل أساسا ألا أخطط لاستعادة الماضي بهذا الشكل.. يجب أن أحذر من الاطمئنان لتحقق سعادة استثنائية ناجمة عن تجاوز التذكر العادي إلى التحرك جسديا بشكل مباشر نحو مواطن الذكريات.. حين لا تتمكن من تجاوز التذكر العادي فأنت بالتأكيد فريسة سهلة متاحة طوال الوقت للذهول والتعاسة وحين تتمكن ـ ربما بمعجزة ـ من أن ترجع بنفسك إلى ما تركته منذ طفولتك ولم تعد إليه حتي الآن ومع ذلك تفشل في استرداد الماضي كما كان بالضبط فأنت مجرد جثة مستيقظة ـ ص75).
والنص الأخير فى الكتاب (الخلاص ـ ص119) يطرح روح الحنين بكثافة، حيث هذا الرجل الذى يعود إلى أوراقه القديمة، ورسوماته التى أنجزها فى الطفولة، وتكاد القصة أن تحكى من منظور رمزى حكاية البشرية كلها، حيث دائماً الكبار مشغولون بأنشطتهم الوجودية والجسدية، وأطفال مأخوذون لعوالمهم الرومانسية المتفائلة، التى ستتوالى الضربات عليها بالتدريج لكى يكبر الأطفال ويتحولوا إلى رجال ونساء، ويكرروا المسار من جديد، إلى ما لا نهاية .
(6)
نص (علبة الرماد ـ ص19) يفضح حالة الاهتراء الأخلاقى والتفسخ القيمى فى المجتمع وهذا هدف أساسى لهذا الكتاب، ويتضح المعنى بداية من العنوان فالرماد هنا هوبقايا احتراق كل قيمة إيجابية، وعلى سبيل المثال يطرح بطل النص هذا التضاد الذى يعبر عن التناقض وعدم الصدق من ناحية، ويعبر عن الانحراف الأخلاقى من ناحية أخرى ، فيقول فى مرة معقباً على علاقته بابنة الكاتب الكبير : [ظلت علاقتي بها لا تتجاوز التحيات المقتضبة الخجولة ـ من جانبي طبعا ـ والكلمات القليلة العابرة المحكومة بحرصي المرتبك على ألا تتلاقي نظراتنا بشكل مباشر..]، ثم يتضاد مع نفسه عندما يقول فى مرة أخرى: [كنت أتحسس بعينيّ جسمها من بعيد وهي تتحدث مع صديقي] .
ويستمر التضاد المرضى الذى يعبر عن الانهيار الأخلاقى فى المقطع التالى، على لسان ابنة الكاتب الكبير فى علاقتها بأحد السياح الأجانب : [الرجل الذي استيقظ بجواري في الصباح لم يكن هو الرجل الذي استكنت عارية في حضنه  قبل أن أنام.. تحوّل إلى إنسان آخر تماماً وبدأ يشتمني ويشتم مصر بسخرية وبرود، وهو يرتدى ملابسه بيدين متعجلتين ويخبرنى بأن ما أخذه منى أمس كان بقية حقه من إدارة القرية ـ ص21] .
وتعبر ابنة الكاتب الكبير عن أن هذا الرجل كان سافلاً معها بقسوة بالغة حتى أن الصدمة قد أعجزتها عن الرد فبقيت جالسة في السرير تبكى وتنظر إليه، بينما هو يتأنق مبتسماً في المرآة حتى خرج دون أن يلتفت إليها، وفى الوقت نفسه تشعر أنها تريد أن تناديه ليعود إليها ليتحابا قبل أن يذهب !! (ص21) .  كل ملاحظ يتابع حركية المجتمع سيلاحظ تشقق جدار الأخلاق بل وانهياره المتسارع في الآونةِ الأخيرة، فى إطار الفساد المتفشى، وللفسادِ قوة جذب خطيرة وقوية تسير في خط متواز مع التنشئةِ الاجتماعية حتى أصبح من الممكن أن نقول أننا صرنا داخل  "مأسسة" عصرية للفساد، وصارت للفساد صناعة لها مهندسوها، وشركاتها، ومجالاتها، ومنظروها، وفلاسفتها الذين يكرسون للغشِّ والاحتكار والاستغلال، وللتفكك الأُسَري والانحراف، والرشوة والنفاق .
ويستمر معنى الاهتراء الأخلاقى والتضاد، فى حدث آخر فى النص، عندما تأخذ ابنة الأديب الكبير صديق البطل إلى غرفتها كى تطلعه على مكتبتها، بينما أبوها وأمها يلعبان الشطرنج فى خارج الحجرة، ويتحدث هنا بطل النص بذكاء عن هذه المفارقـة بين " لعب الشطرنج " وما يستدعيه من صلابة ذهنية وتركيز عميق وقدرة على الحذر والتنبؤ، وتوقع جميع الاحتمالات، وما يمكن أن يحدث للابنة التى سُمح لها بأن تأخذ شاباً إلى غرفتها .
وفى نص (معارض متنقلة ـ ص25) يلتقى الحبيبان من خلال روابط إنسانية حميمة، لن يستطيع البشر الآخرون فهمها، لأنهم يبحثون عن مكاسب صغيرة محدودة فى علاقتهم بها، فيقول لها بطل النص :  (اعطيهم كل الحدائق والسماوات والبحار والبالونات الملونة والوجوه الجميلة المبتسمة التي ينتظرونها منك)، ثم يشير إلى طبيعة العلاقة شديدة الخصوصية وشديدة الاختلاف بينهما : (ودعي ما بيننا يتجذر وينمو في خفائه السحرى وبكامل وحشيته.. اتركيهم يفرحون بك فرحهم التقليدي المشحون بكافة الأمراض المزمنة بينما يؤكدون للجثث التي تملأ أرواحهم وهم يشاهدون لوحاتك هذا ما يجب على البنت الملائكية الموهوبة أن ترسمه حقاً) (ص25) .  حبيبان يمتلكان علاقة شديدة الصدق، وشديدة الصفاء، ويتحملان لأجلها عقاباً لا يستحقانه فيتعرضان للاستجواب فى أقسام الشرطة لأن لقاءهما سيدفع الجيران إلى الشكوى، وهذا هو القدر الاجتماعى الذى يعيشه المحبون فى مجتمعنا !!؟
ونلاحظ أن هذا النص يمثل وجهاً آخر لما جاء فى القصة الأولى فى الكتاب : (إخفاء العالم ـ ص5) من حيث أنه محب يقابل بسبب لقاء حبيبته أهوالاً وأشكالاً مختلفة من العقاب، ونلاحظ فى هذا النص استكمالاً لما جاء فى النص الأول أيضاً من عرض لحالات من التشوه الأخلاقى والخيانة مثل ما حدث من ممثلة المسرح التى خانت حبيبها لترتبط بزميلها الممثل، أو الشاب الذى لم يصمد للدفاع عن حبيبته بإزاء قهر أهلها، وبمجرد أن رأى الكدمات الزرقاء وراء النظارة الشمسية تحت عينى حبيبته فر هاربا من حياتها (ص26).
(7)
وتعبر الكتابة فى هذه المجموعة عن رفض العالم المزيف وعدم القدرة على الانسجام معه .. ويظل هذا المعنى ضمنياً فى معظم النصوص .. ولكنه يبرز بوضوح أكثر فى نص مثل(ترتيبات الوداع ـ ص27) الذى يحكى عن شخص يبعد أبويه وإخوته وزوجته وكل معارفه عن البيت ليقوم بالانتحار، وهو يخطط تخطيطاً دقيقاً لتنجح العملية، فى شكل تعمد مسرحى يدفع بالجميع أن يلتقوا ليدخلوا عليه الشقة فيجدونه مستلقياً فى فراشه عارياً، وعيناه المبتسمتان تحدقان في سقف الحجرة بامتنان !! لقد اختار الموت بهذه الطريقة الدرامية ليشهد الجميع على موته، والسؤال المنطقى هنا : ما الذى يدفع برجل مستقر مع زوجته التى يحبها، ومع أسرته ومع معارفه وأصدقائه أن يفكر فى الانتحار، وأن يصمم عليه بهذه الصورةالدرامية المثيرة، لابد أن الخلل الاجتماعى والإنسانى الكبير الذى يعيشه المجتمع قد أربك حياته وجعلها لا تطاق .
(8)
ولكن مثل هذه القصة ينبغى ألا توحى بأن هناك شعور عدمى لدى الكاتب، لأن أبطال النصوص محبون للحياة، بل وإيجابيون، ففى قصة (أن ترى الفراغ ـ ص35) على سبيل المثال، نتابع هذا الصراع بين الموت والحياة، بل والإصرار على الحياة من قبل بطل النص الذى لم يمت، ولكنه يبدو كما لو كان قد اقترب من الموت، وصوت راوى القصة يحكى بلغة التوقع عن موت بطل النص، وليس موته الفعلى، تقول القصة فى بدايتها متحدثة عن زوجة البطل : (بعد موته لن يتغير الأمر كثيراً .. ستظل تنظر كل ليلة إلى صورته المعلقة على الحائط أمام السرير وتقول في نفسها : كان طيبا ورقيقاً) ويؤكد النص معنى الاحتمالية باستخدام كلمة (ربما)، وهذا يجعلنا فى منطقة تطرح تصوراً متردداً بين (الموت) و(الحياة) : (ربما ستفتقد أيضا إصراه كل ليلة قبل النوم على أنه يسمع صوت دقات ساعة قوية ـ ص35) وعلى الرغم من هذه اللغة التى تقصد التردد بين (الموت) و(الحياة) فهناك إصرار قوى من البطل على معنى الحياة، وهذا الإصرار يتبدى لدى بطل النص فى استماعه فى كل ليلة قبل أن ينام لصوت دقات ساعة قوية، على الرغم من أن زوجته لا تسمع هذا الصوت، ولكنه صوت واضح لديه يكاد يكون إيقاع الحياة نفسها، معنى الموت يحوم حول البطل، ولكنه مصر على أنه يستمع لهذا الإيقاع القوى .
ويتميز بطل نصوص هذا الكتاب بصفات توضح مدى تمرده، ورفضه لكثير من القيم الاجتماعية المستتبة، وعدم قدرته على الانسجام معها، مما يسبب كل هذا النفور منها، ويمكننا أن نلاحظ المسألة نفسها لدى بعض بطلات النصوص أيضاً وبخاصة، البطلة الحبيبة التى تقيم معه علاقة التفاهم والحب العميق، مثلما جاء فى قصة (الثقب الذى لا يعنينا فى الساحر الطيب ـ ص49)، وهى قصة حب من الطراز الأول، والحبيبة هنا يناديها بطل النص قائلا : "يا طفلتى" بسبب حساسيتها ورقتها الشديدة، وهاهى تملأ الدموع عينيها، وهى تغنى "شجر اللمون" فى جلسة الأصدقاء بالمقهى، ولكنها ليست مجرد طفلة، بل على العكس هى إنسانة خبيرة صاحبة تجارب طويلة عميقة فى الحياة، حبيبة تتميز بشخصية متمردة قلقة موترة الأعصاب، تنغصها دائماً معطيات الحياة المتضادة، وتبدو كما لو كانت تريد أن تمتلكها جميعاً، فهى لا ترضى بطرف من طرفى أى تضاد، وهذا حس ما بعد حداثى جديد يريد أن يلم كل شىء تحت إطاره، أو يحيط بكل شىء . ويطلق بطل النص عبارة (لن اصدق) عندما يصف معظم سلوكيات وأفعال الحبيبه، وهذا لا يعمل على تأكيد فكرة أنه لا يصدق بل على العكس يؤكد أنه يصدق، وبخاصة أنه فى آخر سطر يقول : (أنا لن أصدق نفسى)، فلا يصدق البطل الدموع فى عينى حبيبته وهى تغنى لحناً شعبياً جميلاً، أو تغنى "زهرة المدائن"، ولا يصدق سؤالها : هو الحب ده يعنى إيه بالظبط؟)، ولا يصدق فرحتها الكبيرة وهى تريه علبة الماكياج والملابس البناتى التى قررتْ شرائها فجأة كي تجرب العيش قليلا كأنثى عادية .. لن يصدق طبعا أنها كانت فرحة زائفة، لن يصدق اشتراكها المفاجيء في مظاهرات حركة " كفاية " برغم كرهها المناقشات ثقيلة الدم لأصدقائها في السياسة، ولن يصدق ظهورها في الكافيهات مع أصحاب جدد، يختفون فجأة بنفس السرعة التي يدخلون بها إلى حياتها، وكأنها توهم من يشاهدها، بالسعادة، ولن يصدق زواجها الذي انتهى بسرعة بالطلاق من رجل توفرت لديه كل المميزات التي كانت تحتاجها وتبحث عنها دائماً : مثل العمر الكبير، والمهارة في الاحتواء، والشعر الأبيض، والاتزان النفسي، والخبرة بالحياة وبالزواج مدعومة بتجارب سابقة، ولن يصدق أن كل ذلك كان مجرد فصول مبعثرة لمسرحية كانت "تشغل" بها العالم كي تثبت له ولكائناته ولنفسها أنها قادرة في أي وقت وبمنتهى السهولة على التلاعب بقوانين هذا العالم، وبعلاقاته وشخوصه، لا لشيء وإنما لرغبتها في علاقة جديدة مع الدنيا قائمة على الاحترام . فهو يصدق كل هذا، ولكن القضية هنا ستصب فى معنى التردد الحاد الذى تعيشه الحبيبة، وهو تردد يعبر عن شخصية شديدة التميز فى عالمنا، وهو يشبه ما لدى بطل النص نفسه (أو أبطال عدد من النصوص)، وهو تردد يعكس بدقة طبيعة الحياة التى نعيشها اليوم، وماحدث فيها من تغيرات جذرية .
كما رصد النص أيضاً مجموعة أخرى من التناقضات التى تعيشها الحبيبة مرهفة الحس، وهى التناقضات التى تنغص عليها حياتها، فهى فى مرة ترغب فى علاقة جديدة مع الدنيا قائمة على الاحترام المتبادل، وفى مرة أخرى، تظهر فى حالة بشعة بعد غياب طويل بنظرات تائهة، وبسواد ثقيل حول العينين، أو تغرق بابتسامة خائفة، ويدين مرتعشتين فى كلام غير مترابط عن الحياة والموت، وهما القضيتان اللتان تؤرقان بطل معظم هذه النصوص، لأنها وكما سبقت الإشارة شديدة التشابه مع البطل نفسه، وفى النهاية صار المعارف والأصدقاء يخافون تقلباتها، ويتهربون منها، ويخشون مجالساتها، تماماً مثل ما حدث للبطل نفسه فى نص (جزيرة الورد) حيث يتخوف الأصدقاء من مجالسته .
أما الذى لن يصدقه البطل بالفعل، فهو حديث هذا الشخص الماكر الذى كادت الحبيبة أن تسقط تحت حبائله، وهو لفرط مكره وذكائه أقرب لأن يكون ساحراً، وواضح أنه حاول أن يؤثر على الحبيبة ولكنه فشل فى أن يجتذبها، لقوة شخصيتها ووعيها الكبير وخبرتها بالعالم، وتجاربها الواسعة فيه، ولكن ذكاءه سوف يهزم من خلال ثقب واسع يمثل منطقة هزيمته، أمام شخصيتها القوية .
(9)
من أهم ملامح التقنية الفنية فى هذا الكتاب قدرة الكاتب على كتابة النصوص القصيرة المفرطة فى قصرها : (الميكروتكست)، وفى هذا نزوع نحوالكتابة الجديدة اليوم، الكتابة التى تلقى بالضوء على تفاصيل صغيرة محددة، مثل أعمال : [(ترتيبات الوداع ـ ص27)، (الخلاص ـ ص119) .. وهكذا ] .
ويتضمن النص الأول فى الكتاب (إخفاء العالم ـ ص5)  ملمحاً مهماً من ملامح التقنية أيضاً، هو الحبكة الفنية التى تخلق الحالة الإبداعية القادرة على إمتاع المتلقى وجذبه بشدة، فالكاتب لا ينهى هذا النص الذى يدفع المتلقى إلى ترقب نهاية الحدث متشوقاً لمعرفتها، بعد الورطة التى وقع فيها الحبيبان فى لحظة قد تكتشفهما الزوجة فيها، ولا ينهى الكاتب قصته أية نهاية تقليدية، بل يترك كل شىء معلقاً لتقدير القارئ، وهذا النوع من الكتابات القصصية يدفع المتلقى دائماً إلى إعادة النظر فى كل شىء يحيط به، يدفع المتلقى إلى إعادة النظر فى الحياة كلها .  وعلاوة على الحبكة الفنية فهناك أيضاً القدرة الفائقة على تصوير المشاعر بأسلوب يكاد أن يكون شعرياً، وفى قصة "جزيرة الورد" تمثيلاً لاحصراً يصف الكاتب شعوره عندما صدمته فكرة غير متوقعة : (كأن تمثالاً حجرياً بنفس حجمك ومقاييسك سقط داخل جسدك بعنف من ثقب مجهول في رأسك وسحق تحته كل شيء كان ينبض في لحظة واحدة ـ ص95).
ومن ملامح التقنية التى تخص هذه المجموعة أيضاً، تعدد المعطيات وتداخلها، مما يجسد معنى أساسياً من معانى حياتنا العصرية اليوم، نتيجة التوالد المطرد لكل معطى، وكل حقيقة، وقد أدى الازدحام الهائل إلى حدوث التعدد والتداخل فى كل ظاهرة تحيط بنا، وفى قصة (علبة رماد ـ ص19) على سبيل المثال سيكون هناك راويان للقصة على الأقل، فيحكى بطل النص، كاتب القصة، وتحكى ابنة الأديب الكبير صديق بطل النص، ويتكلم كل من الشخصيتين بشكل متداخل، ويتميز حديث كل منهما بشرطة قصيرة فى أول السطر، وهذا أسلوب جديد فى فن القص العربى، أسلوب مثير يشعرنا بالتعدد وبالحيوية، وبما يشبه سيناريو سينمائى حاد التقطيع، ولنتابع هذين المقطعين فى بداية القصة، المقطع الأول على لسان بطل النص، والمقطع الثانى على لسان ابنة الأديب الكبير :
[ـ منذ سنوات طويلة تعرفت أنا وصديق لي، وهو قاص أيضا بالمناسبة، على أديب كبير السن مخلص في كتاباته للقيم والمباديء التي رسختها كلاسيكيات الأدب الروسي.. كان رجلا مهذبا وطيبا بحق وكان يعاملني أنا وصديقي كأبناء...
ـ منذ سنوات طويلة جاء جروب سياحي إلى القرية التي أعمل بها وكان من ضمن أعضائه شاب نمساوي شعرت منذ اللحظة الأولى بانجذاب شديد نحوه.. كان وسيما ورقيقا جدا وكان يعاملني طوال فترة مرافقتي لهم كأميرة... ـ ص19]
ومن تقنيات هذه المجموعة، استخدام تيمة التكرار استخداماً فنياً متمكناً، يستفيد فيه الكاتب فيه من هذه التيمة استفادة كبيرة، وفى قصة (الثقب الذى لا يعنينا فى الساحر الطيب ـ ص49) يكرر الكاتب عبارة (لن أصدق) على لسان البطل ليصف سلوكيات حبيبته : (لن أصدق أن الإغماءة التي أصابتك فجأة ونحن على وشك العودة إلى بيوتنا آخر الليل والتي قلتِ لنا فيما بعد أنها كانت بسبب عدم النوم وشرب البيرة والقهوة والسجائر بكثرة على معدة خاوية .. لن أصدق أنها كانت تمثيلا متقنا منكِ .. لن أصدق أنكِ حين سألتيني : " هو الحب ده يعني إيه بالظبط ؟ ") وتكرار عبارة لن أصدق هنا، أفادت فكرة الكاتب فى تأكيد خصوصية مشاعر الحبيبة، وتميزها كإنسانة حساسة تتفاعل مع طبيعة الحياة التى نعيشها اليوم وهى تريد أن تحتوى طرفى التناقض، وهى عاشقة للحياة تريد أن تعيشها بكل لحظاتها وأن تمتلك كل تفاصيلها .
ولدى كاتبنا دائماً ميل لبث الروح الواقعية فى نصه وهذا من سبيله أن يؤكد ويثرى معانيه الفلسفية والوجودية المختلفة التى يطرحها النص، ويمكننا أن نتعرف على المسألة فى معظم نصوص الكتاب، وفى نص (جزيرة الورد ـ ص94) على سبيل المثال يصف مكان وجود المسرح فى صورة خريطة دقيقة : (المسرح لا يوجد في المبنى الكبير المطل على النيل والمجاور لحديقة " صباح الخير يا مصر "، وأيضا لا يوجد في المبنى القائم خلف مديرية الأمن بالقرب من " كازينو أندريا ".. المسرح يمتد بالتحديد من مقهى " الفراعنة " وحتى " كازينو الحرية " الشهير بمقهى " اللبن " في ميدان " أم كلثوم " مرورا بـ " فندق مارشال المحطة ) والوصف الواقعى للمكان له ضرورة فهو يثري النص، ويمنحه معقوليته وأصالته، وبالطبع فوصف المكان فى النص القصصى  ليس غاية في حد ذاته ؛ وإنما هو وسيلة يتخذها الكاتب للوصول للرؤية التى يقدمها، ويشير إلى ما هو أبعد وأعمق من التحديد الجغرافي ويدفع ذهن المتلقى إلى التخيل والحركة فى مكان تتحرك فيه عين القارئ لتتشيع بروح النص .
 د. أمجد ريان

توق الحواس وكشف الفراغ

في مقاربة لعالم القاص, ومحاولة إعادة قراءة وطرح ماتموج به مجموعة ” قبل القيامة بقليل” لممدوح رزق, وعلى مدار 24 قصة قصيرة يطرح القاص ” عالمنا” قبل أن يكون عالمه الخاص, رغم ما يبدو تحرك ذات فردية خلال العمل على مستوى المجموعة, لتبدو حالات الاستبطان شديدة الخصوصية, والتقاط المشاهد التي يختارها الكاتب بعناية بالغة ليضفر في نهاية الأمر عالما أشبه ” بفجيعة ” خاصة, والتي تتمثل في الـ ” الفجيعة ” ذاتها الجماعية..
لقد تم تشكيل اللحظات في المجموعة بعناية شديدة, وبين لحظة وأخرى, وأثناء اللحظة ذاتها يطل علينا الكاتب بأسباب حالة الفجيعة التي تكمن وراء الحياة والتي يعيشها كل واحد منا بصورة مغايرة شكلا, ولكنها قد تكون حالة جماعية في عمق التجارب المشتركة على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي, وما أصاب الفرد من عمليات التجريف الممنهج واستلاب آدميته!
فأمام العالم الواقعي يتم – من خلال هذه المجموعة القصصية – تشكيل وصناعة فخاخ خاصة لمزيد من استحضار حالات متتابعة ولاستمرار العالم الخاص على حالة حيوية مصنوعة, فيما تشبه الحيوية!
ربما أشبِّه هذه اللحظة – في المقاربة – بإلقاء حجر في بحيرة راكدة وهادئة على الدوام, الحجر لن يفجر فوران الماء, وتوازيا في عالم الواقع لن تتفجر حالة الحيوية الطبيعية, بل يصنع اللحظة المغايرة مهما تكلف الأمر من أحداث درامية صغيرة في حياة الفرد, أو الذات التي تقطعت علاقاتها بالحياة الجماعية, الحياة الجماعية التي لم يعد لها وجود بفعل التجريف المتعمد, وربما أيضا يظل بحث هذه الذات بشغف وتوق لما يمنحها ” حياة”.
تتجلى صناعة زخم خاص يقاوم الموت, ويؤكد على الحياة ما تطرحه حالة النص ” إخفاء العالموترميز هذا العنوان – بصنعة فنية – في نص قصصي يطرح بانسيابية أسلوبية وربما تعمد السطحية في الطرح أن تظل حرفية القاص في إضفاء واستمرار شعور بالقلق.. يقول في نص ” العالم ص 5″:
كان قلبي يدق بعنف بسبب التوتر فطلبت منها أن تسرع لأن زوجتي يمكن أن تأتي في أي لحظة …” بعد هذه العبارة المشحونة بالتوتر يقول: ” طلبت منها أن تغني الأغنية..” ولعل تناول هذا المشهد بسطحية سوف يظهر تضارب في الحالة الفنية, ولكن تعمد صناعة لحظة متوترة على الدوام ليظل القلب ” يدق بعنف” أو حالة الحياة, لتصل لزروتها في “الفقرة الأخيرة ص 7 “:
” كنا نسمع صوت قدمين تصعدان السلالم وتقتربان من الباب ثم سمعنا رنة الجرس, ولكنها واصلت الغناء وأنا لم أرفع عيني عنها.“
تشكيل اللحظة بما تطرحه من إقبال على حالة, وليست “حياة” هي في حقيقتها إخفاء وإن كان إخفاء فاشلا لهذا الواقع, أو لهذه الحياة, ويبدو أن فكرة “الإخفاء” وتغييب العالم الواقعي بقبحه تقنية فنية يستخدمها القاص في استلهامه في طرح الخاص الناتج عن العام؛ أو المتشابك معه على الدوام؛ فالتشبث بلحظة من عالم الطفولة التي تشبه ومضة مؤثرة على الروح, والتذكرلهذه اللحظة يفتح بابا جديدا لاستعادة – من هذه اللحظات البعيدة – حالة تيقن مؤقت, ومؤقت بحجم حالة الاستدعاء, لصناعة حيوية.
ربما تمثل الحياة الاجتماعية والسياسية شديدة الإحباط دافع أكبر للبحث عما هو شديد الخصوصية ولحظيا, بل يظل التخطيط في توسيع دائرة اللحظة لتستنفذ زمنا أكبر, بين استدعاء حدث طفولي وإعداد المسرح والقفز داخل اللحظة في نص ” إخفاء العالم ” وهو يستوجب أيضا عمل ” الفخاخ ” التي تجعل القلب يدق, والرغبة الجامحة في استرار اللحظة
محاولة مستمرة في نزع الذات المحبطة أمام هذا العالم الذي يستحق الإخفاء, وتأتي عملية “إخفاء للعالم” ضمن آليات بحث الذات عما قد يكون ” شديد الخصوبة لحظيا”, وهي في نهاية الأمر “لحظة”, تلعب الحواس المجبولة على الانقطاع القصري والمؤقت عن العالم وتصبح الكيانات الأخرى هامشية وبلا ملامح!!
الحواس هنا محور الوجود الفردي لتأكيد وجوديتها, والفردية – في هذه المقاربة – تستمد لحواسها ما تراه في الكيانات الأخرى للتخلص من الروافد الواقعية شديدة الوطأة والإحباط, فالأسماء مهملة بصورة كبيرة.. أسماء الكيانات الواقعية, تختفي الملامح الدقيقة والإنسانية لهذه الكيانات ولا تظهر إلا بصورة محدودة وعابرة.
فإذا كانت الملامح الإنسانية مهملة بهذه الصورة, أو الروح الأخرى مهملة, فماذا يستدعى الفرد بفرديته في الآخرين؟! وأي مشاركة تتشكل هنا!! لقد تمت عملية الاغتيال لكياناتهم, وقد تكون محاولة “إخفاء العالم” شكلا وجيها وجاهة المناخ السائد, ووضوحه الفج المسيطر, وواقع الركود المحبط, والذي أصبح حالة مجتمعية, سياسية, أخلاقية, يومية, على مدار العقود السابقة وبفجاجة, وكلها تقضي على إنسانية الإنسان, وتنال من روحه, فيصل – كمراد أمني – للعجز الكامل, لتأتي “الوحدة” النفسية “المُمْرِضة” مثل أبخرة ملل وإحباط مزعج, يدعو للتأفف قسوة ومرارة, الوحدة ضمن كيانات كل منها يعيش وحدته, جزر منعزلة على كثرتها المشهدية, كيانات ضربت في إنسانيتها بآليات متعمدة!!
الخوف أيضا في مواجهة حقيقة هذه المناخات الفقيرة والمحبِطة كلها تدفع إلى ضرورة ” إخفاء العالم “, وإيجاد البدائل بصناعة اللحظة, ليس على سبيل الهروب, فهناك مقاومة – في أدنى صورها – وقد تكون “اللحظة” وتنشيط الحواس التي تصنع صناعة وإن كانت غير حقيقية بالكامل, وتلعب الحواس فيها الدور الرئيسي, قد تكون المحفز – ليس على الحياة الفاعلة أو الوجود الفاعل, وليس حضورا فاعلا وجماعيا كما يجب أن تكون عليه الحياة, لكنه على وجه التقريب ” حَفاظٌ ما ” أشبه بالكمون عن الدور الطبيعي للإنسان, أو الحفاظ على أدنى مكونات الفرد للحظة حقيقية يكون فيها فاعلا قد لا تجيء أبدا.
هي حالة النص أيضا حين ننظر على مشهدية النصوص وتتابعها وما بينها من ترابط عضوي, – مجموعة النصوص – أو القصص, نجد أننا أمام عالم ممتد, يتكشف شيئا فشيئا عبر حالات لايمكن أن تقف عند العين الزجاجية الكبيرة في رصد المشاهد, فوراء هذه العين ” التجربة ” التي دفعت العين للرؤية الواضحة.
محاولات متتابعة لهذه الـ ” ذات ” الفردية وسط ” أفراد / ذوات ” ونشهدها وكأنما استسلمت لوضع مثقل, مترهل, غامض, بلا حيوات حقيقية, بلا مشاركات تظهر ما كان يجب أن تكون, أو ما يجب أن يقتحمه الفرد إلى حالة جماعية فاعلة تُكسب المجموع وبالتبعية الفرد وجودا خاصا, حيويا, وجماعيا مفعما!!
ومثلما كان العنوان فاعلا فنيا في حد ذاته, يلقي ظلالا على النص, رغم مايبدو عليه من انفصال شكلي عنه, ولكنه فاعل مضمونيا بين وجوب ” إخفاء العالم ” وبين ظلال صناعة “اللحظة” التي تكتسب عمقها الدلالي من المناخ الغير مرئي في هذه اللحظة, فنجد كشف الكاتب/ القاص الذي يجسد حالة القهر الإنساني كنتاج لما امتلأبه هذا افنسان تاريخيا, منذ تسلم الحياة بموروثها الاجتماعي والسياسي تحديدا, بفعل تراكم, وما تم تكريسه لعقائد مقدسة مفروضة فرضا لتشكيل حالة “زائفة” وسط حالات مثقلة بذات الزيف, الخلل الذي يصيب الإنسان وينتقص من إنسانيته حتى يصل الأمر أن يعيش الإنسان محتقرا لذاته, متهما إياها بالخزي من الوجود البشري, وطبيعة هذا الوجود..
ربما استدعاء القاص في العنوان – وبمعزل شكلي عن النص – لـ ” جريجور سامسا ” وهو عنوان يستدعي إحدى شخصيات فرانتس كافكا في ” الدودة الهائلة ” أو ” المسخ ” من قصص التحول , ليلقي ظلالا واسعة على ما أصاب الفرد ” الإنسان ” من تداعي كامل حينما تم النيل من ” إنسانيته ” فالتهكم والسخرية والتراكمات التاريخية, والمقدس / الزائف بفعل النفعية السلطوية, كلها أدوات إبادة شديدة القسوة, تقلص حجم إنسانية الإنسان وتصيبه بارتداد إلى داخل ظلامي موحش, شديد المرارة والإحباط, ويظل الإنسان مضطربا وفي حالة اغتراب حاد عن المجتمع والواقع, الواقع ” صانع الخراب”.
فمن خلال الطرح الفني في نص ” جريجور سامسا ” يضع الكاتب حالة الغموض كآلية شكلية, وتظل الشخوص في العالم الافتراضي ” الفيسبوك” ظلالا من بداية النص لآخره, شخوص ليست من لحم ودم, لكنها تمارس التجاهل تجاه إحدى ” ذوات ” الكاتب, ويضع مصطلحات العالم الافتراضي ” الفيسبوك” WALL, LIKE, REFRESH,..  وهكذا ليعطي الإطار الفني واقعية أكثر من الشخوص, وتلعب حالة الاستبطان واللعب بالمستوى النفسي دورها الرئيسي في النص, حالة الحيرة والارتباك, انفصال الشخص عما يحيطه, والتعلق بمجموعة من الافتراضات, تكشف ما يناله من دونية وتعلق بافتراضات واهية, يتحرك بها:
أليس من الوارد أن يشعر أحدهم بالذنب حينما يقرأالرسالة؟ وتحت ضغط الندم يرسل إليه رسالة اعتذار عن التجاهل السابق…” ( صـ 10 جريجور سامسا), ” لماذا حتى لم يضغط أي منهم على like كأنما جمعهم اتفاق سري على تجاهله؟..” ( صـ 16 جريجور سامسا)
وتظل قدريته بأن ينفصل عن الواقع الحقيقي فعندما يجلس مع بعض أصدقائه في المقهى, لا تكون المشاركة الفاعلة والحضور مع هذا الواقع, بل يظل متعلقا بالعالم الافتراضي وشخوصه, ويتحكم هذا العالم في مشاعره وتفكيره, وتأتي علاقته بالواقع الحقيقي رد فعل لتأثير العالم الافتراضي على حالته:
كان يشعر بدوخة متبلدة تفتت عظام دماغه, وبحريق داخلي يقطع كل أعصاب جسمه ولكن كل هذا اختفى فجأة حينما وجد رسالة على الإيميل تفيد بقيام أحد الذين شكرهم بكتابة تعليق على رسالته.. كل شيء تغير للدرجة التي جعلته وهو يفتح الرسالة كي يقرأ التعليق يطلق دعابة عابرة أنتجها ذهنه على الفور إثر التقاطه لطرف حديث كان يدور بين أصدقائه لم يكن متدخلا فيه من البداية..” ( صـ 17 جريجور سامسا).
يكمن الارتباط الفاعل بين العنوان والمضمون في ” جريجور سامسا” في أعلى صوره حين يقول القاص في سرده:
” كان عاجزا تماما عن التحرر من سلطة يعرف أنها متوارية في كل حيز من الخفاء الكوني, وكان على وعي تام بأنها متوغلة في كيانه بشكل لا يمكن الإحاطة بها وتستخدمه كأداة ينفذ بها على نفسه وعلى الآخرين مشيئة مجهولة..” (صـ 12 جريجور سامسا)
ويسرد أيضا ” القاص” ليؤكد استطاعات هذه السلطة وانتصارها في خمش روح الإنسان, وتعطيلها بصورة كاملة:
” لم يكن بمقدوره الانفلات من أسر الإرضاء الحتمي لهذه السلطة التي بدا أنه لا يمكن تضليلها أو تعطيل الإذعان لها فكان عليه الإيمان وبثبات قهري متجذر بكونه مجبرا على الاستجابة لكل ما تمليه عليه أفكاره ومشاعره الباطنية المطبوخة بأيدي هذه السلطة, وكان عليه أن يعتنق وبرسوخ مثالي فكرة أن إشباع شهوتها سيسفر عن إشباعه هو شخصيا في النهايه…” ( صـ 12 جريجور سامسا).
هذه هي الفكرة الأخطر والتي تواجه إنسانية الإنسان في عمق ذاته, لتمسخها كلية, وتترك لها منفذا وحيدا لا يفضي إلا تعايشا على سبيل التماهي مع في هذه السلطة المتوحشة والتحول إن استطاع إغلاق علامات الاستفهام عن وجوده ومشتهياته الروحية والجسدية!!
يسرد: ” كان يريد الحصول على دعم خارجي محايد لتثبيت مسئوليته عن الأزمة والتي كان الإقرار بها أهون لديه بالتأكيد من فشله في التوصل لسب التجاهل ولكنه حينما حُرم من الفوز بهذا الدعم أدرك بشكل تلقائي بأنه تورط في متاهة بارعة لا تخدم سوى هدف واحد وهو تمزيقه بإيقاع متصاعد ومدروس ودون جلبة” ( صـ 14 جريجور سامسا).
حالة من البحث عن إنسانية الإنسان التي أبيدت بفعل فاعل, لقد تم تحوله واقعيا, وفي مواجهة عوالم افتراضية, يفتح الباب لهيمنة سلطة تتحرك بدأب لمسخ الكائنات وضرب إنسانيتهاودفعها للتمحور حول نفسها / ذاتها, فلا تجد إرادة تذكر للمقاومة!! ويرضخ: ” أدركُ أن ثمة أسبابا خفية تدفع بالعالم للتصرف معه على هذا النحو, ولم يكن يمكنه بالطبع ن يصمد أمام رعبه….” ( صـ15 جريجور سامسا).
حالة “الروح القدس صـ 53 ” تطرح أداة السلطة, هذه الأداة التي تتمثل في “الإعلام” وسائل فاعلة موجهة للتخلص من أي موقف جماعي موازي مِن قِبَل الأفراد والمجتمع, فهي أكبر إسهام لانتهاك إنسانيتهم وتدمير الروح الجماعية, ويطرح كيف تنجح السلطة/ الحكومات والنخبة في حظيرتها, والتيارات الدينية الشائهة  – وفق آليات التغييب المستمر – والدائم لعزل الإنسان الفرد والجماعي عن أي قدرة لرد فعل: “بدأ الأمر أثناء حرب غزة نهاية 2008 وبداية 2009 .. على مدار اليوم كان التليفزيون هو الوسيط البارد الذي يمرر بتلقائية نشطة وعمياء سيل الهذيان الوحشي المتدفق بانسيابية غير معقولة, والغريب ببشاعة عن أي خبرة واقعية ممكنة…., أصبح هذا الهذيان أشد انتماء للخيال الهزلي“, بالتأكيد ليس فعل المشاهدة هو أكثر ما يناسب وصف العلاقة يين الجالس أمام التليفزيون وبين الصور الحية التي يستقبلها“( صـ53 الروح القدس)
يسرد: ” ازدياد كم الرسائل التي تأتيني من جهات مختلفة كثيرة جدا كي تبلغني بأن قبورا جديدة تم فتحها كشفت عن أن جثث موتى طالبان والقاعدة وحماس وحزب الله وشيوخ السعودية لم تتحلل في حين أن قبورا أخرى كشفت عن موتى يعذبون عذابا فظيعا لأنهم كانوا مقصريين في أداء الصلاة.. ” ( صـ 56 الروح القدس).
خراب العالم الذي يشارك فيه الجميع, والعالم يكتسب دلالة آنية بين ” حرب غزة ” وبالتوازي مع مأساة “سعاد” المومس التي تجاوزت الخمسين, ولم تعد مرغوبة, فتتشكل حالةالقهر الذي أوجد هذا التضافر في النص بين سطوة الإعلام الممثل للسلطة والتيارات الدينية والنخبة معا  من ناحية, وسقوط “مومس” بفعل الزمن, ربما يمكننا أن نعكس الحالة المتضافرة لنرى التماهي, نكتشف “العهر السياسي” جليا, لا شيء يستر عوراتنا, عجز المتلقى” المشاهد أمام التليفزيون”, ويده المغلولة فيأتي فعل الانتصاب توازيا من خارج المشهد كحالة اعتراض فج, لا يمثل حالة حياة وإخصاب بل عماء خاص, وانفصال – لا يخلو من فجيعة للذات – عن كل شيء, يقول:
كنت مفتونا بذاتي وأنا أشعر بجسدي يتخلص من عاديته ويتحول إلى ما يشبه روحا متحررةغير محكومة بشروط الزمان والمكان..”( صـ 59 الروح القدس).
ستأتي اللحظات في أي لحظة وبلا مبرر كما في بوك استورز, فالجنس هنا نفس حالة العماء بلا إيمان حقيقي بقيمة الحالة, تأتي “لحظة” أخرى كهبةٍ إذ لم تكن متوقعة كما في نص” جماليات الفضيحة” لتصبح عملية البحث دائمة وتجهيز المسرح نوع من الهرولة لإخفاء العالم, وكأنه سيختفي للأبد!!
تحفل أدوات الكاتب في تنوع إطارات القص, وألياته إذ نجد رحابة وقدرة على استدعاء هذه القوالب بسلاسة عفوية, يعتمد على تفجير حالات الأفراد والتي قد تمثل حالته هو في أغلب المحاور أو المضامين, وتظل متماسكة ومتضافرة بقوة, لتخرج بالمجموعة إلى حالة إبداع تتشابك مع العالم بالتنافر فني, حتى يمكن القول من خلال هذه المقاربة لعالم “النصوص/ النص/ المجموعة” أنها وحدة متكاملة تخلص في نهاية الأمر إلى تشكيل عالم خاصر في مرحلة خاصة, وإدانة مضمونية تطرح إشكاليات الواقع, الوجودي الهش, وكيف لهذا الواقع وما يحركه من سلطة متجلية في الواقع, ومتمثلة في نصوص المجموعة, وقدرتها على تقريب الجزع والصمت, وتحويل الذوائق البشرية إلى استساغة المرارة والعجز, بالقوة المفرطة, والإعلام المتماهي بالفساد, والدين البراجماتي / تأويل السلطة للسيطرة على الإنسان!!
 حسني الزرقاوي