السبت، 26 نوفمبر 2016

الطفولة ومسارات الكتابة في قصص (قبل القيامة بقليل) لممدوح رزق

في اعتقادي أن الإهداء إلى تلاميذ ومعلمات الفصل الدراسي 1983 ـ 1989 بمدرسة ميت حدر الابتدائية بالمنصورة كان مقصودا ، بل والمقدمة أيضا التي تقع خلف صفحة الإهداء مباشرة وهي عبارة عن ثلاث فقرات قصيرة لـ " فلاديمير نابوكوف " تتحدث عن تجربته الشخصية وإحساسه بالسعادة رغم الشقاء الذي يعيشه لأنه يكتب وهذا يتيح له أن يكون مراقبا لذاته وللآخرين وإيمانه بموهبته وخياله يؤجج هذه السعادة أيضا ، فعبر مجموعة قصصية للقاص " ممدوح رزق " والتي تحوي 24 قصة قصيرة متفاوتة الحجم ، متقاربة البناء الحداثي يتنقل الكاتب ببراعة بين ضفاف طفولته وطفولة الآخرين والتي ترتدي أيضا مهما تذرع الكاتب بالدهاء الأدبي طفولته التي افتقد فيها الأمان والانسجام العائلي وحلم الرسم ، لرغبة وحيدة وهي أن يمنح للأب الراحل المرأة التي رسمها وحيدة في قصة " الخلاص " ولعله خاف أن يتحول حينما يصير كبيرا وقد تحقق مثل الأب عبر الأحلام .. كما تبرز الطفولة أيضا في وجه آخر أكثر تعقيدا حين يربط بينه وبين الجنس في قصة " إخفاء العالم " حينما يطلب من الفتاة التي كان يمارس الجنس معها منذ دقائق أن تغني له الأغنية التي كانت تغنيها في طفولتها وقد كانت جارة للراوي أغنية ( بنات كتير كده من سني ... ) ورغم أنه أمرها بالسرعة والخروج قبل أن تأتي زوجته وفي تعجلها في وضع النقاب لكي تغادر تلح الطفولة غير عابئة بالتهديد الخارجي الذي يقدم إليه عبر السلالم .
في قصة " الحرمان من التفاؤل واليأس " يتنقل عبر مسيرة طويلة لعائلة ممزقة خربت طفولته بسببها عبر مدى تاريخه اللاحق وكانت السبب في طباعه الغريبة .. يتحدث الكاتب إلى ذاته في لعبة شيقة في قصة " الأضرار الجانبية للحظة التنوير " حيث يجعل الطفولة حلما يشبه الكابوس بينما المشيب رعبا قادما ويقبع هو في المنتصف موهما إيانا بأنه يخاطب شخصا آخر .. تكون الطفولة حلما بالعودة إلى المدرسة الابتدائية والتي ترفضه فيخرج إلى الشوارع حالما بالعزلة في صدره زجاجة مولوتوف ، ورغم خوف الناس إلا أنه لم يكن ينوي تفجيرها بل أن يريها لهم فقط لكنهم لم يفهموه .
أما الجانب الآخر والذي احتل من المجموعة مكانا كبيرا فكان مسار الكتابة والكاتب .. في هذا الجانب يسرد " ممدوح رزق " بطرق متعددة تجربته في مرايا الذات والآخرين مع مساحة الخيال الفني الذي لا يبعدك عن الواقع لكنه في نفس الوقت لا يجعلك تأخذ الواقع القصصي هكذا وتسقطه مباشرة على الكاتب ، فمهما روى الكاتب عن نفسه يظل الخيال هو اللعبة الجميلة والمشوقة المتفق عليها بين الكاتب وقرائه .. استخدم " ممدوح رزق " في هذا الجزء نفس اللغة البسيطة الموحية والتي تحيلك مباشرة إلى واقع القصة بتكثيف لا يفقد القصص وضوحها ، كما تم استحضار آخرين للسرد والذي تم غالبا بضمير المخاطب وهذا أصعب أنواع الضمائر وأقواها وهو يبين مهارة الكاتب لأنه يورط القاريء مباشرة في الحكاية ويتيح للكاتب كشف ذاته ومحاسبتها والبوح بما هو مشترك وسري بينه وبين الآخرين ، لكنه يحتاج في نفس الوقت إلى لغة متفجرة بالصور والدلالات والجمل القصيرة ذات النقلات السريعة وقد تحقق ذلك في معظم قصص المجموعة .
تشكلت مسارات الكاتب والكتابة عبر أكثر من مضمون ما بين :
أولا : الكاتب القابع خلف الكومبيوتر ويمارس الحياة مع رفاقه ورفيقاته على الماسنجر والفيس بوك ويحلم بأي لمسة حانية من أصابع بشرية ، لكنه في العالم الافتراضي يتوفر له التعبير بصراحة عن أشواقه وأحلامه المحرمة بممارسة جنسية بل والافضاء بما فعله من قبل طالما كل الرفقاء يقبعون بعيدا عن المواجهة المباشرة ، وأحيانا يكون التعبير على هذه المواقع هو رفض العالم الخارجي والافتراضي أيضا ؛ ففي قصة " جريجور سامسا " ـ بطل قصة " المسخ " لكافكا ـ يتماهى البطل الذي يعيش في الأقاليم مع أزمة " سامسا " في جوهرها ، يتحول " سامسا " عند " كافكا " إلى صرصور هائل الحجم يشكل معوقا لأهله عن التواصل مع الآخرين بينما يشعر هو بالاضطهاد خصوصا من أهله وبرغبتهم في الخلاص منه حتى يقتله أبوه في النهاية بضربة قوية ، يشعر بطل قصة " ممدوح رزق " بفقدان التواصل على شبكة الانترنت حيث يرسل رسالة شكر إلى الذين تواصلوا مع رسائله على الفيس بوك في عناد واضح وانتقام مكشوف ممن لم يتواصلوا معه ، لكنه يحظى في النهاية برد وحيد ممن يخبره بأنه ربما من مدينة إقليمية ولا يعرف مشاكل الناس القاهريين فيما يحمل نفس الرد سخرية مبطنة بالأسى والتعاطف من واقع هذا الشاب الذي يريد وضوحا في العلاقات كما في المجتمعات الريفية .. يخرج إلى المقهى وسط زملائه ليحظى من أحدهم بلمسة من أصابعه لتعيد البطل إليهم بعد أن سرح عقله فيما حدث .. يتمنى أن تدوم اللمسة في إشارة لافتقاد الحس الإنساني الدافيء بين الموجودين على مواقع التواصل الاجتماعي .
في قصة " علبة الرماد " يتبادل الشاب والفتاة ـ اللذان يمارسان أيضا الكتابة الأدبية ـ البوح بعلاقات حدثت لكلا منهما أدمت القلب ولم تكتمل ، ويودعان بعضهما بـ سلام .. سلام وكأن شيئا لم يحدث .. أما في " لست نيكول كيدمان ولكنه أجمل من توم كروز " فيأتي السرد في بنيته متماهيا مع العنوان في ثنائية " النفي ـ الإثبات " : ( لم أذهب ، ولكنني ... ) وهكذا في إشارة واضحة إلى عدم تحقق الشخصية الإنسانية ووجود ما يعوق تحققها وممارستها حياة طبيعية في عالمها الخارجي والافتراضي أيضا نظرا لدمامتها .. المفارقة هنا أنها صادقة في جعل صورها متاحة للجميع على " البروفايل " فيما الآخرون ربما يمارسون خداعا ما ، وكأن الصدق بشكل رمزي " دميم " لا يقبله الآخرون .
في " مريض مطيع يتسلى بالكيتش " يتكلم المريض على شبكة الانترنت مع امرأة وهمية ملامحها وصفاتها من صنع خياله ، يبثها أشواقه ورغبته العارمة في علاقة جسدية يعرف في النهاية أنها لن تتحقق .. لكن الراوي / الكاتب في توحد فني يدلي برأيه النهائي في هذه القصة عن عدم اقتناعه بهذه الوسيلة للتواصل : " أنا فقط أفعل ما تفعله عادة كل القطط المختبئة تحت السيارات بينما تنتظر فرصة آمنة للأكل من القمامة " ، لذلك رفض في النهاية عبر شخصية الراوي إقامة علاقة جنسية هاتفية مع صديقة الزوجة في قصة " أيادي مرفوعة إلى سقف الحظيرة " .
ثانيا : " الكاتب في مرايا الآخرين وبينهم " .. في قصة " معارض متنقلة " يتساءل البطل باستنكار عن سبب دهم شرطة الآداب للمرسم وهو يمارس حريته مع حبيبته ، بل ويتهم في النهاية الذين تحصنوا بأخلاق المجتمع وقواعده ووأدوا حريتهم خوفا من العقاب : " المجرم الحقيقي لا يمكنه أن يتعرى أمام أحد مثلما نفعل ولا يمكنه أن يرسم عريه ممزقا بل عليه أن يظل صامتا حتى لا يفضح مخبأه .
في قصة " جماليات الفضيحة " يقبع الكاتب في ركنه الأمين يسجل فقط فضائح الآخرين التي يسردونها على مسامعه ليسردها بعد ذلك في قصصه ، لكنه في النهاية حين يعود لحجرته يتوحد مع المهرج ـ الظل ـ مقطوع الرأس على الحائط .. أما في قصة " بوك ستور " فتكون العلاقة الجسدية المتحررة من أي وثيقة اجتماعية في المكتبة حيث تستيقظ نزوة الراوي على المرأة المطلقة التي تعمل لديه وتربطها علاقة حب بصديقه ، حين يراها ترتب الكتب على الأرفف السفلية ، ثم يمارسان الجنس في ورشة النحت الخاصة بالصديق المغدور وبين دراويشه وفلاحيه وأعماله المنحوته ببراعة في جو أسطوري إيروتيكي على هذه الخيانة وكأنها شريك بالصمت المتواطيء وبالجمال الإنساني المختزن داخلها .. كان الجنس وعباراته صريحان في الوصف لكنهما دعّما الإحساس بالصدق الفني وبتلك النزوة الطارئة .. يلجأ الراوي طوال القصة لتبرير خيانته لحبيبة صديقه إلى أن يصل إلى : " يجب أن تؤمن فقط أن أمورا كهذه تحدث بطريقة عادية جدا .. الحياة تسمح بهذه الأشياء ولا تريد منا بالضرورة أن نتعامل مع وافقت على حدوثه على أنه كارثة أو أزمة " ؛ مما يعني سخريته من الحب مهما تذرع بالندم ، ولم يكن غريبا أو مفاجئا أن تأتي النهاية لتكشف وتفضح هذه السخرية التي لا تعبأ بالعواطف : " دع الحياة تكمل مسيرتها ولا تنسى بعد ذلك أن ترتب الكتب التي أطلب منك ترتيبها " .
تلجأ الكاتبات أيضا إلى إقامة علاقة في " الثقب الذي لا يعنينا في الساحر الطيب " لكنها تفشل لدمامتها والراوي يتقبلها رغم رفضه الداخلي لها ربما من باب الشفقة .. في " أفراح العين الزجاجية المحتقنة " يقع الراوي في موقف المشاهد لعلاقة أشد ما تكون تمثلا للخيانة حين تكون بين أصدقاء ما زالوا على عهد الصداقة لكنه لا يبوح لأي منهما بمعرفته ، وهما يشعران بشيء ويتفقون جميعا على الصمت وكأنما الجميع مشاركون في الفعل وتكون المرأة هي الضحية الوحيدة ولكنها الجلاد في نفس الوقت الذي لا يستحق الشفقة .
ثالثا : " الكاتب في مرآة ذاته " .. تبرز قصة " لا يزال حيا " على لسان الراوي الذي تأتينا كلماته وعباراته البسيطة ويوجه المسرود بأسلوب عامي بسيط لمأساته حيث يقهره الأب ويلغي اختياراته ومن ثم حريته .
أما " الروح القدس " فتسعى عبر التفلسف في وصف الشعور بالانتصاب وحدوثه لأكثر من مرة فعلا إثر مشاهدة الجثث والدماء والمجازر المتكررة في حرب 2008 على غزة ، بل وتتطور الرغبة في ممارسة العادة السرية وهو بذلك يؤكد عشقه للحياة رغم مآسيها ومخاوفها وتأكيدها في مواجهة الموت .
يستدعي الكاتب صديقه الذي علم بوفاته وهو في قصر الثقافة إثر حادث مروري عند " أجا " في قصة " جزيرة الورد " .. يشعر الراوي بصدمة هائلة ويتجمد في مكانه ولكنه يستدعي هذا الصديق إلى القصة مباشرة لينتقل السرد بسلاسة من الراوي الأول إلى الصديق الذي مات توا ليطلق هذا الصديق قذائفه على من كان يكرههم بل ويهدد هذا الصديق بعودته طيفا ليخبرهم بما يعرفه ويخفيه .
يتوحد الراوي مرة أخرى مع صديقه أو لعله الصورة الأخرى منه وهذا الصديق يمارس الجنس مع فتاة فيما الراوي يشاهد المنظر ويمارس بعينيه في " لوحة سرطان الخصية " حيث يكون أحد الشخصين في مقام الفعل والآخر / الصورة أو المرآة في مقام المشاهدة .
ملاحظات عامة :
تحتفي المجموعة بالحياة ، بأفراحها وانتصاراتها القليلة وتقرر مواجهتها وعيشها بأسرارها ولذاتها رغم الانكسارات والخيانات .. كذلك ينطلق الكاتب من الذات ويجعلها مرتكزا رئيسيا ووحيدا في الرؤية للعالم مما يشير إلى الثقة المفرطة بهذه الذات وأحكامها على المواقف والأشخاص ، وينقل قناعاته أيضا من خلال القصص المختلفة أو بمعنى أدق يسربها ببراعة لا تخفى على القاريء وتؤكد في الوقت نفسه إيمان الكاتب بذاته إيمانا مطلقا بل وتقديسه أحيانا لها .
تأتي الذات في صور متعددة فهي إما أن تكون المتورط الأساسي في القصة أو المشارك أو المشاهد من بعيد الذي ينقل قناعاته بوعي متفرد .. أيضا يحتل الموت مساحة في المجموعة بوصفه البيولوجي مرة في أقصوصة " أن ترى الفراغ " ، وبوصفه الفلسفي مرات وأحيانا ارتباطه بالجنس في " الروح القدس " و" لوحة سرطان الخصية " وغيرها .
تنوعت أساليب السرد وحداثيتها دون التورط في غموض القصة أو المضمون أو الدلالة كما تنوع الحس الإنساني في حالاته المختلفة وأحلامه مهما افتقد العقل إلى الرغبة في حياة لائقة كما في قصة " مكان الروح ".
ملحوظات أخرى :
فصلني عن السرد المشوق والجميل أحيانا بعض الجمل الطويلة كما لفت نظري الموقف المعادي للكاتب تجاه شعراء النثر وشاعراته حيث تكررت إهاناته لهم في أكثر من قصة على لسان أبطاله .. كانت هناك أيضا عناوين فاضحة لمضمون القصة ، وتعبيرات فجة قليلة متناثرة في المجموعة .
هذه المجموعة حققت لي استمتاعا في القراءة ، وأدركت أنني أمام كاتب موهوب ومحترف يعرف ما يريد ويحققه بوسائل فنية متنوعة .
فكري عمر