السبت، 24 يونيو 2017

كأجنحة مروحة

توقف أمامي طفل صغير، وسألني عن الوقت .. نظرت في ساعة يدي، وأجبته بما تُشير إليه بدقة .. عاود الطفل السير، ثم اكتشفت عجوزًا يقف قريبًا مني .. نظر في عينيّ وقال: (ساعتك خاطئة) .. أشاح وجهه، وراح يبتعد بخطوات بطيئة .. عاودت التطلع في ساعة يدي .. وجدت العقارب تدور بسرعة شديدة كأجنحة مروحة .. رفعت عينيّ لأتمعّن في يدي العجوز .. لم تكن هناك أية ساعة.
اللوحة: (الصرخة) لإدفارت مونك.

الاثنين، 19 يونيو 2017

جزء من رواية (إثر حادث أليم) ... تصدر قريبًا

كنا نتقابل في الفناء، ونتحدث ونضحك ونجري ونلعب، وكنا نمشي يوميًا أنا وهي من المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي حتى بيتي الذي يبعد خطوات قليلة ثم أودّعها لتواصل هي السير نحو منزلها .. كانت أمي و(أبلة خلود) يتحدثان عن تزويجنا في المستقبل، وكنت أحبها فعلاً بكامل طفولتي، ثم رأيت (أحمد) ابن (أبلة عايدة) يقف مع (ريهام) ذات يوم في الفناء .. كانا يتحدثان ويضحكان، ولم تمر لحظات قليلة حتى عاد (أحمد) إلى أمه في حجرة المعلمات، وعادت (ريهام) إلى فصلها وأنا أراقبهما .. لم أعرف ترتيبات هذا اللقاء .. هل كان صدفة؟ .. كيف تتكلم (ريهام) إذن مع ولد لا تعرفه؟ .. هل سبق وأن تعرّفت عليه في وقت سابق دون أن أدري؟ .. هل طلبت (أبلة خلود) من (ريهام) أن تكون صديقة له حتى تخفف هي الأخرى ما يثقل صدره المغموم، وأن تشغل ذهنه عن طلاق أبويه لتعيد إلى قلبه البهجة؟ .. في ذلك اليوم سألت (ريهام) أثناء الخطوات المعتادة من المدرسة إلى بيتي عما كان يدور بينها و(أحمد) أثناء وقوفهما معًا في الفناء .. ابتسمت بخجلها الثابت، وقالت لي باقتضاب ناعم (مفيش) .. كأن (أحمد) هو الذي ابتسم، وكأنه هو الذي رد على سؤالي بهذه الكلمة التي أصبحت أكثر كلمات اللغة سفالة .. كأنه هو الذي ألقى بعينيه قنبلة خفية إلى رأسي، ظللت أيامًا طويلة أشعر بدقاتها التنازلية المقبضة، مترقبًا انفجارها المؤكد .. حسنًا .. لقد تحوّل ابن المطلقة إلى نسمة حنونة مع (ريهام)، وهذا سيجعلها مع الشفقة الحتمية تجاه مأساته تميل إليه، وتتعلّق به .. وعاء اللزوجة المبخوت، الذي أهداه طلاق أبويه السحر الغامض للكآبة في ملامحه وصوته .. ثقيل الدم الذي لن يتنازل عن قلة الكلمات، وغياب الابتسامة في اللحظات المناسبة داخل الأحاديث الطويلة، والضحكات القوية بينه وزوجتي القادمة حيث يكمن الإبهار .. قارنت نفسي به .. أنا لا أمتلك كل هذه المعجزات .. هكذا بدأت أفكر مثل (بطوط) وهو يحترق بالغيرة من (محظوظ) في صراعهما غير المتكافئ للفوز بقلب (زيزي) .. أنا حتى لا أمتلك ما يحظى به الأطفال الآخرون الذين ينقصهم هذا السحر .. (ريهام) تعرف هذا جيدًا بالطبع .. تصورت أن (أبلة خلود) ستتخلى عن اتفاقها مع أمي، وتتعاهد هي و(أبلة عايدة) على تزويج (ريهام) من ابنها، لتُسعِد الولد المكلوم والأم المفجوعة .. تخيلت لو أن والديّ تطلقا .. أن يصيب أبي هذا المرض العضوي أو النفسي فينفصل عنا .. هل يمكن أن يعطيني هذا قامة أطول، وملامحًا تعيسة، وصوتًا حزينًا خافتًا، وعينين مهمومتين وحائرتين؟ .. هل يمكنني أن أصبح قليل الكلام، ولا أبتسم أبدًا، وأن أكون في نفس الوقت مسليًا ومضحكًا لـ (ريهام) دون أن يتطلّق أمي وأبي؟ .. كنت خائفًا في تفكيري من خطورة الطلاق على أمي، وإخوتي وأبي، وعلى نفسي بالتأكيد .. لم أكن أتمنى أن تصيبنا هذه الكارثة .. بدأت أفكر في أن (أبلة عايدة) جميلة بالفعل .. استرجعت كل المشاهد التي رأيت فيها بياض وجهها الباكي، وشعرت بأنني أريد أن أتزوجها .. أن جمالها الممتلئ بالدموع يستحق أن أعوّضها عن كل هذه الآلام.

الأربعاء، 14 يونيو 2017

رسائل فرناندو بيسوا ونصوصه ... توسيع العالم

إذا كان فرناندو بيسوا (1888 - 1935) لم يعتبر «شخصياته الأخرى» أقنعة له وإنما هي أنداد حقيقيون، فقد قرر إذاً أن يجسّد هذا التناثر الذاتي الأصيل والغامض ليس فقط من أجل أن يعيش بواسطة هذه الشخصيات حيوات متعددة بكامل واقعيتها، بل وربما بشكل أقوى، ليساعد كل شخصية منها عبر هذا الانفصال لأن تختبر طريقاً مختلفاً للخلاص، ربما سيؤدي بالضرورة الى إنقاذ الأنداد الآخرين.
في رسائل فرناندو بيسوا ونصوصه الصادرة حديثاً عن «الكتب خان» - القاهرة، بترجمة وتحرير وائل عشري في 407 صفحات، نحن نختبر هذا التناثر الذي يحرضنا بيسوا على الاستجابة له. يصير كل واحد منا متعدداً، ممراً لعبور شخصياتنا الأخرى نحو العالم الحقيقي، كي نتأمل في الوقت نفسه كيف يمكن لكل ذات أن تكون مستقلة، أي قابلة للانشطار، وللتجسّد أيضاً في أنداد مختلفين. كأن كل ندّ يفكك بنية الآخر أثناء هذا الانشطار الشخصي، وكأن لهذا التفكيك دوراً في تقويض الأفكار الكلية (الماورائية) التي أنتجت البنى الأخرى كافة.
(اليوم لا شخصية لي: لقد قسمت كل إنسانيتي بين المؤلفين العديدين الذين خدمتهم كمنفذ أدبي. اليوم أنا مكان لقاء إنسانية صغيرة تنتمي لي فقط).
يتعامل فرناندو بيسوا مع هذا التعدد أو الوفرة من الذوات بوصفها تفكيراً في العدم. في اللاوجود الخاص كعتبة نحو اللاوجود المطلق، المتنكر، والكامن وراء ادعاءات العالم وظواهره المعقدة. تمثل تعددية الذات هنا وفرة من المحاولات المتباينة لاكتشاف هوية هذا العدم، للعثور على احتمالاته المختبئة أي على حكمة أو معنى له، لو أمكن أن نعتبره كذلك. ليس الأمر إذاً يتعلق بهوية بيسوا نفسه بل بالآثار التي يتركها مع كل كتابة تقاوم رغبة أي هوية في فرض شروطها.
(أنا ضواحي بلدة غير موجودة، التعليق المسترسل على كتاب لم يُكتب قط، أنا لا أحد، لا أحد على الإطلاق. لا أعرف كيف أشعر، كيف أفكر، كيف أريد. أنا شخصية في رواية غير مكتوبة، أنطلق في الهواء، متناثراً ولم يحدث قط أن كنت، بين أحلام شخص لم يعرف كيف يكلمني).
بهذه التنويعات المجازية يحوّل فرناندو بيسوا الغياب التام للثقة في الحقيقة الذاتية إلى طبيعة طاغية للوعي بالحياة والموت، أسلوب مهيمن لرصد الأشياء. هو يستخدم البلدة، والكتاب، والرواية، والأحلام كأنه يشيّد جسوراً لهذا الغياب التام للثقة في ما بين الواقع وهوامشه، أو ما يدعي أنها هوامشه. بين المتعيّن في نطاق اليومي المستوعب، والخيالي أو الإيحائي الذي لا يخضع لقانون أو منطق. إنها الكيفية المثالية بالنسبة الى ـبيسوا التي تتخذ معها اللاطمأنينة الوضعية القدرية للوجود، أو بالأحرى المماثلة تماماً لانعدامه.
في رسالة إلى أمه بتاريخ 5 حزيران (يونيو) 1914، يكتب فرناندو بيسوا: «كل شيء حولي يغادر أو يتهاوى. لا أستخدم هذين الفعلين بغرض التجهم. أعني ببساطة أن من أرتبط بهم من الناس يمرون أو سيمرون بتغيرات، وهي علامات على نهاية فترات معينة من حيواتهم. هذا كله يوحي لي كما يشعر رجل عجوز، لأنه يرى رفاق طفولته يموتون من حوله، بالتأكيد من أن ساعته قد اقتربت».
يمكننا أن نعقد صلة بين هذه الرسالة وسطور أخرى لبيسوا كتب فيها: منذ كنت طفلاً شعرت بالحاجة إلى توسيع العالم بشخصيات متخيلةـ أحلام لي صيغت بعناية، متصورة بوضوح فوتوغرافي، وسبرت أغوارها حتى الأعماق.
إن توسيع العالم بشخصيات متخيلة يعد في جانب منه، يكاد يكون جوهرياً، مجابهة للتغيرات المؤدية إلى الموت. إشارات الفناء التي يعلنها الآخرون عن أنفسهم، وتؤكد بالتالي فناء بيسوا أيضاً. هنا يجب التفكير في أن العدم أو اللاوجود عند فرناندو بيسوا ليس خضوعاً لغياب الثقة بقدر ما هو نوع من الجهد التخييلي المبذول، بواسطة التعدد، لمنح الخلود، جمالياً على الأقل، إلى كل ما يتم تفتيته. أن يصبح الأمر واقعياً لأبعد درجة ممكنة من خلال الحضور الفعلي لشخصياته في العالم، كأنها الحقيقة التي ستزيح الحقائق العدائية الأخرى. يمكن للتناثر، لو تحوّل إلى يقين حياتي، أن يعطي بطريقة أو بأخرى فرصة للتفاوض مع المتغيرات والنهايات الحتمية.
(حزن غامض، غير محدد يثقل على رأسي/ ويغمر عقلي الجبان بمخاوف لا حدود لها/ ومع هذا بين الأسى، والغضب والدموع/ فلا بد لعقلي أن يدرك هبة كل لحظة/ وينفض الضحك الوقح مع أنّة يحسها القلب/ لا يخلو من أمل أقصى ضروب اليأس/ لا أعرف الموت ولا أعتقد أن فيه راحة/ الشيء البائس أفضل، بكل تأكيد، من المجهول).
إذا كان فرناندو بيسوا لم ينته تقريباً من أي مشروع كتابة بدأه أو خطط له، وإذا كانت كتاباته، وفق كلمات المترجم والمحرر الذي يؤكد الكتاب مدى التفاني «الإبداعي» الذي قام به، قد أخذت (الشذرة) كوسيطها الدائم تحت أسماء عدة ولغات متعددة، فينبغي التمعن في هذا بناءً على نفي اليقين الذي يقف وراء تعدد شخصياته المستقلة. كأن الاكتمال مرادف للنهاية أو الموت الذي لا يعتقد أن فيه راحة. كان بيسوا يعرف أن تأجيل المجهول قد يتحقق في عدم استبعاد أي من المتناقضات الموزعة بين أنداده في تناثرهم، في «الشذرات» التي تتجاوز حدود الواقع والخيال لتكوّن جميعها عالماً ملموساً لا يغلق باباً ممكناً، ولا يطمس أي ملامح عسى أن يكون السر متوارياً فيها.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 13 يونيو/ حزيران 2017

السبت، 10 يونيو 2017

صدور (هل تؤمن بالأشباح؟) لممدوح رزق

عن دار ميتا للنشر والتوزيع صدر كتاب (هل تؤمن بالأشباح؟) للناقد ممدوح رزق .. يقع الكتاب في 61 صفحة، ويضم جميع مقالات الباب الإسبوعي (كلاسيكيات القصة القصيرة)، والتي كتبها ممدوح رزق عام 2015 لموقع الكتابة الثقافي .. يشتمل الكتاب على قراءات في أعمال لهمنجواي، وتشيكوف، وموباسان، وكاثرين مانسفيلد، وجيمس جويس، وكافكا، ودوستويفسكي، وفوكنر، وفرجينيا وولف، وغيرهم .. يُذكر أن ممدوح رزق قد صدر له مؤخرًا المجموعة القصصية (هفوات صغيرة لمُغيّر العالم) عن منشورات بتانة، كما تصدر قريبًا روايته الجديدة (إثر حادث أليم) عن الهيئة المصرية للكتاب.

الثلاثاء، 6 يونيو 2017

الجندرية الذكورية .. حدود المقاومة

حينما شاهد أشرف المدني بطل رواية (الوشم الأبيض) لأسامة علام فيلم (كلب أندلسي) لسلفادور دالي ولويس بونويل، لم يكن مشهد قطع عين البطلة مفهومًا بالنسبة له، لكننا حينما نفكر في هذا الفعل بوصفه تخريبًا لبنية النظر، أي تدمير السلطة المفاهيمية للوعي البصري تحررًا من تاريخه فإننا سنكون أمام شخص يشاهد في الفيلم ممارسة مقاربة إلى حد ما لما يقوم به في الرواية دون أن يدرك ذلك .. ما هي بنية النظر التي حاول أشرف المدني أن يقطعها؟ .. إنها السلطة الرمزية للذكورة في كافة أشكالها العنصرية، والتي تحتل ما يمكن تسميته بأبوة التاريخ المجسّدة في شخصية (جون) .. لا يمثل أشرف هنا الرجل المتمرد على قطيعه الذكوري بقدر ما يمثل الذات التي تسعى للتحرر من طغيان التمييز، واسترداد الدمج الإنساني بين الذكوري والأنثوي كجوهر أصيل للوجود عن طريق إنقاذ الأنثى من عذابها الأزلي، والتي تمثلها الفتاة (مود) .. الذات التي تتأمل وحدتها، وتفكر في هزائمها كمعاناة بشرية، وليست انتهاكًا لقداسة الكائن الأرقى، أي الرجل الذي يحمل الخصال الازدرائية، بقوة تفوقه الجندري.
(الجميع فى لحظة مريرة سيرحلون و يتركوك تجتر ذكرياتك معهم. ليرحلوا هم أيضا فى طريق وحدتهم و ذكرياتهم. البشر تعساء جدا لأنهم لا يملكون سوى الذاكرة و الوحدة و جنون الدوران الدائم فى متاهة البحث عن المؤانسة. أحيانا كثيرة أحسد مرضى التوحد ربما لأنهم الأصدق فى رؤية العالم على حقيقته.  بلا ضجيج تخبرهم عقولهم ، التى نصفها لسذاجتنا بالمريضة، بأنه ليس هناك مايحتاجونهم سوى أنفسهم فقط. لتبدأ رحلتهم الأهم الى الداخل. فيصلوا سريعا الى جوهر الحقيقة. ربما أسرع من العجائز أنفسهم بعد عمر طويل لايسمح لهم بالوقوف مرة واحدة، مرة واحدة فقط، للنظر الى الداخل).
إن أشرف المدني ليس إنسانًا مثاليًا بقدر ما يبحث عن المثالية الغائبة، والتي تعني في تصوره إزاحة العوائق الأنانية من طريقٍ يمكن للسلام الأخوي أن يقطعه نحو الكمال .. التعويض المناسب عن انفصال آدم وحواء .. ربما نشعر أيضًا أثناء هذه الرحلة لتحرره الذاتي أنه يمتلك إيمانًا ـ حتى لو لم يكن مدركًا بالنسبة له ـ بأن هذا التحرر لا يتعلق به وحده، وإنما يتعلق كذلك بالموتى الذين حطمتهم هذه السلطة، ولن نكون مخطئين لو تعاملنا مع رسالة صديقه (نواز) ورسالة أبيه كدليلين دامغين على هذا .. كأنه يعيد للموتى الأنثى التي فقدها كل منهم مثلما سيفعل هو نفسه في نهاية الرواية، وأقصد هنا ما ستصير إليه علاقته بزميلته الطببية (هناء محمود).
(أشعر بأن الأرض تحتضنى، أحس بنفس الآمان الذى كنت أشعر به فى حضن والدي، الذى لابد و أن عظامه تحولت الى رماد مثل هذا الرماد فى مقابر أهلي بسيوة. أعطاني هذا الشعور راحة استطعت معها التخلص من كل ألمي. و كأنني أعود بسلام الى جوهري الأرضي. متحدا مع كل أرواح من سبقونى منذ بدء الخليقة. لألامس لأول مرة معنى السلام الأبدي. أتصل بروح الخالق الذى أحب أن نكون من التراب، لأنه ربما أكثر قيمة من كل المعادن التى تخيلنا أنها نفيسة. مجرد ارتمائي على الأرض كان كأنه عودة حقيقية لسلام حياتي السعيدة فى رحم أمي. وفي غمرة كل هذه السعادة كان جسدي يزيد من التحامه بالأرض. وكأنه باستطاعتي الذوبان كلية فيها. والتحول الى مجرد نبتة صغيرة تحمل زهرة لا أعرفها. كان من الممكن أن أمكث هكذا لسنوات لا يهمني أن أعرف عددها. لولا يد تيكانا التى أيقظتني من حلم سلامي الذي بلا حدود. لتذكرني بوجودها و بكينونتي البشرية المريعة).
لكن الرواية تطرح أيضًا استفهامين أراهما ضرورين للغاية: هل تمثل هذه السلطة الرمزية أساسًا يمكن خلخلته فعليًا، أم أنه طبيعة تخضع لأبوة تتجاوز التاريخ نفسه، وأقصد هنا الأبوة الإلهية؟ .. هذا التساؤل هو ما سينجم عنه الاستفهام الثاني: إلى أي مدى يمكن لـ (ذات) أن تتحرك خارج ذكورتها، أو بالأحرى خارج ما يفترض أنه حدود هيمنتها المحكومة بإرث لم تتدخل في إنتاجه، كما أنها ليست إلا ممرًا مؤقتًا له؟ .. لنفكر جيدًا في التناقض بين (التراب الأكثر قيمة من كل المعادن التي أحب الخالق أن نكون منها)، و(كينونتي البشرية الوضيعة) في الفقرة السابقة .. إنه الفصل التقليدي بين (الطهارة) التي أنتجت أجسادنا، و(الدنس) الذي صرنا إليه .. كأن هذا لا يمكن أن يؤدي إلا ذاك .. هكذا يمكن التفكير في إجابة للاستفهامين حول الأبوة الإلهية، وحدود التحرك خارج الذكورة.
(ربما أدركنا أن انصهار الوقت لا يؤدي إلا لإعادة تكوينه. فالانصهار لا يؤدي أبدا الى فناء المادة الخام. لأنه يعيد تشكيلها. تماما كالوشم الذى لا يفني الجلد و لكن يعيد تشكيله برسم مختلف. و تبقى اذا ذاكرتنا التي تصهر الوقت و تحتفظ لنفسها دائما بمادته الخام. ذكرياتنا عن الوقت نفسه الذى ينتهى بفنائه الذاتي. الآن فهمت لماذا أرسلت لى كارما هديتها الجميلة).
لو وضعنا عدم فهم البطل لمشهد قطع العين في فيلم (كلب أندلسي) بجانب تحليله (المسالم) للوحة (إصرار الذاكرة) لسلفادور دالي فإننا سنكتشف معنى آخر للبحث عن المثالية الغائبة عند بطل الرواية، والتي تتجاوز السلام الأخوي بين البشر .. إنه الحد الذي سيتوقف عنده أشرف المدني، حيث العودة الحتمية إلى (الرجل)، كأنه كان طوال الوقت يعمل على إنقاذ السلطة الذكورية بأن يجعلها ضامنًا للاندماج المنتظر مع الأنثى .. إن أسامة علام لم يقترب من المطلق الذي قطع لويس بونويل عينه في (كلب أندلسي)، وسخرت منه ساعات سلفادور دالي الذائبة في (إصرار الذاكرة) بل كان يسعى لتصحيح نتائجه فحسب .. أن يعالج الخلل الذي انحرف بالطبيعة ضد إرادة هذا المطلق .. كأن الوشم الأبيض قرار غير مرتبط بالغيب، أي لعنة طارئة يمكن محوها في يوم ما.
موقع (زائد 18) ـ 5 يونيو 2017

الأحد، 4 يونيو 2017

٧٧:‬ كأنها أربعون سنة أخرى

هناك وظيفة جمالية في قصائد ديوان 77 لأحمد شافعي الصادر حديثًا عن الكتب خان يمكن التفكير في طغيانها علي المدلولات الشائعة للإيجاز الشعري، دون استبعادها: تمرير الضجر.. تثبيت وعي الذات بالخصومة مع الزمن.. الإيحاء بالوهن الذي لا يتحمّل إلا أقل الكلمات.. توسيع الرؤية، أو زيادة معني العالم بالإمساك به في شبكة علاماته المختصرة بتعبير "بول ريكور".. هذه الوظيفة يمكن تحديدها في إعطاء صورة للمنطق الذي لا يتطلب استدعاء وفرة من الإشارات التي تؤكد الثقة في امتلاكه.. كأنه بعد وقت ما من الميلاد في عام 1977، وفي سن الأربعين مثلا الذي يصل إليه الشاعر هذا العام، يمكن لشخص ما أن يحصل علي انتباه استثنائي تجاه حصيلته من لامنطق العالم، وأن يكون بوسعه استعمال هذه الحصيلة كخامات بنائية في خلق مسايرة لانضباطه الظاهري.. أن يشيّد وهمًا موازيًا لما يدعي أنه نظام محكم من البراهين الحاسمة أو الإجابات المتاحة.. هي نبرة كاشفة لا تتخلي عن الرصانة مع كامل تنويعاتها المقتضبة.. يصبح لامنطق العالم هو اللامنطق الشخصي مستعيرًا صلابته المخادعة، أي متخذًا وضعية الفضح دون ضجيج.. كأنه في سن الأربعين يمكن القبض علي مفترق طرق داخل صيرورة الحياة والموت، أي داخل عُمر الذات التي ربما تتمكن حينئذ من تأمل معاركها بنقاء غير مسبوق.. أن يجرّب البهلوان حيلة منتظرة للحبل الذي لم يصر مشنقة، وأن تظهر قصيدة منقذة لاستيعاب الترمّل من بقايا كلمة مكشوطة في المعجم.. الذات المعادية لنفسها كظل يتعثر في أشياء لا توجد في ذاكرته.. الذات كعقبة أمام نفسها بوصفها الوجود الكلي الذي صارت إليه، وقد تجردت عناصره من ميوعتها.. كأن الأربعين هي فرصة لرؤية الحرب من زاوية جيدة.
"رحلة طويلة علي الحبل/ وها هو في منتصف العمر/ وسط أرامل مجهدات/ في أذرعهن آثار خدوش قديمة/ صامتٌ صمتهن/ أرمل مثلهن/ يمتنّ للحظ وحده/ أن حبلا تحت رجلي البهلوان/ لم يصر له مشنقة/ وقد يفتح المعجم/ بين الحين والآخر/ ليكشط كلمة/ راجيا أن تظهر له من البقايا/ قصيدة".
> > >
القبض علي مفترق الطرق، والناجم عن امتلاك علامات اللامنطق التي تكمن وراء التماسك "المنطقي" هو دافع لتكوين مفاصل.. اقتحام فجوات.. تأطير مناطق عازلة.. حيازة ارتقاءات لاختبار التدمير كهوية من وراء مسافة آمنة.. التدمير الذي قد يعني إرسال وخزات مبتورة من ضوء خافت، لا يريد أن يبدو كومضات ألم فحسب، بل كفكرة جادة.. حياد حقيقي تستطيع أن تتحرك الذات بالاعتماد علي ضلالاته المقتصدة.. أن تتنقل داخل تلك الغايات المبهمة، التي تجعلها قادرة علي أن تُعري سجنًا ملتصقًا بعينيها في كل مكان.. يريد هذا الضوء أن يبدو كمعرفة كي يمكن رصد تظاهرها بالثبات في مواجهة الثبات الأكثر شسوعًا وقِدمًا، ولكنه ليس الأكثر شجاعة.
"كلَّما سكنت في منزل/ تبيَّن أن هناك سجنا علي مقربة/ لا أنني سييّء الحظ بالضرورة/ إنما غلطتي كلَّ مرةٍ أنني/ أمعن النظر".
لا يأخذ الديوان طبيعة المسيرة بل التناثر.. قد نفكر مع هذه القصائد في حركة غير مشغولة بالهيمنة بقدر ما هي راغبة في توزيع اتجاهاتها، بالضبط كانتشار النور والظل فوق اللوحة.. هي حركة داخل الجسد، أي من الوعي وإليه، عبر فوران العالم.. لكن ما يبدو أنه عدم انشغال بالهيمنة هو جزء من لعبة الادعاء؛ إذ أن هناك تحت هذه القشرة المتنكرة في هدوئها المستقر يعيش هاجس شبق للفيض، للتدفق والإحاطة، ليس في حدود الواقع الذي بدأ عام 77، وإنما بما قبله وبعده.. عند هذه النقطة يمكن الاشتباك مع الديوان بوصفه خالقًا لأحمد شافعي في لحظة ميلاده الفعلية عام 77، ولكن علي نحو يتيح لذاته أن تمتد داخل الزمن الذي سبقها، والزمن الذي سيعقب نهايتها، أي أن يتوحد بأزليته وأبديته عبر هذه اللحظات الصغيرة، والطارئة.. هنا ستبدو الحياة المنقضية كأنها أربعون سنة أخري.
"ها أنت والقصيدة انتهت/ لست محبطًا/ لأنه لم يكن طائرا بالأساس/ لست محبطا وحسب/ هناك سعادةٌ أيضا/ حين تكتشف كنزًا/ كنت تجهل دائما/ أنه لديك/ حين تعرف أن عندك طائرًا/ هو أرقُّ من يمامة/ وأدقُّ من هدهدة/ هو رِمْشٌ/ في غير موضعه".
في ديوان "77" لا نقرأ قصائدً عن الحب، بل نتتبع الأثر التشريحي لموضوعه.. نتفحص طبيعة الانتماء كجوهر أصيل له.. لكن هذا الانتماء هو في نفس الوقت علامة المقاومة لحتميته.. دليل رفضه.. تحريض علي التمعّن في ضرورة هذا الرفض.. تشكيل هوية له باستخدام كوابيسه.. كأن الحب هو طريقة مثالية لمراقبة الانفصال كسرٍ ثمين.. للتعرّف علي الضرر الفادح لأن تكون منتميًا لآخر.. لملامسة القتل كتسمية صحيحة لأسلوبك في مقاومة هذا الانتماء.
> > >
"كلما أحببت/ رأيت نفسي مع امرأةٍ/ واقفين في شباكٍ،/ أو شرفةٍ/ علي شاطئ بحرٍ/ أو في/ محطة في الفضاء/ ومن كل تلك النوافذ/ تظهر الأرض كرةَ بلياردو/ تنتظر دفعةً/ تتدحرج/ ساطعةً إثرها/ نحو ثقب أسود".
"كلما أحببت/ فكرت أنني يوماً ما سأعيش/ أعتني بماعز/ هذا ليس رأيي في المرأة/ هذا رأيي في نفسي/ راعٍ غير متمرِّس/ يعتني في إخلاصٍ/ ثم يذبح بلا ضغينة".
كأن الحب وسيلة ناجحة لاستبصار خواصه كمحرّك للهلاك الذي يتجاوز عاطفة بين اثنين يقفان عند حافة.. لإدراك التوهان الناتج عن الفشل في العثور علي الكلمة الصائبة، والقاطعة والمحصنة، الملائمة للقتل، والتي لا أثر لها في المعاجم.. هذه الكلمة هي خواء المنضدة، والقبلة التي فيها شغف كل القبلات التي لن تكون، مثلما كانت الثقب الأسود الذي تتدحرج الأرض نحوه.
"كلما أحببت/ فكرت في منضدة خاوية/ وفي محل زهورٍ/ وفي قولي للبائع أيَّ شيءٍ/ عدا الحقيقة:/ أبحث عن إكليل ذابل/ لمنضدة يانعة".
"كلما أحببت/ فكَّرت في القبلات/ في خدِّي بين يدين/ ولساني بين شفتين/ وفي رموش أخري
تمسُّ ما لا تمسُّه/ إلا رموشي./ في أن أبدأ قصة حبي/ بما يرجأ عادة للنهايات: قبلة فيها شغف كل القبلات/ التي لن تكون".
"كلما أحببت/ أشركت بنفسي/ وعلمت أنه كان ثمة كلمة/ لا أثر لها في المعاجم/ كلمة هي العابد والمعبود معاً/ لكنني كلما أحببت/ ضيّعتها".
يبدو ديوان "77" كأنه يطالب بعدم إهمال هذا الحضور للنظرة في قصائده.. التقاء العينين بغيبٍ ما.. هناك دائمًا نظرة تشاهد من بعيد كرؤية فعلية، أو تخيّل، أو رجاء، وعلينا الانتباه إليها جيدًا حتي في لحظات اختبائها.. حتي في لحظات تفاديها الواضح للنظر.. النظر إلي السعادة والخيبة في تماثلهما.. في علاقتهما بالانضباط المزيف.. باللامنطق.. بالحب كفرصة لألوهة مضادة، تبدأ التاريخ مرة أخري، تكشف ماهيته، ثم تدفعه لنهايته "المنطقية".. هذه النظرة الدائمة توجد في كل قصيدة، أي أنها داخل كل مكان وزمن، ولكنها أيضًا وبشكل أساسي ليست إلا سنة "77" تشاهد من بعيد.. تدوّن ما تقتنصه بهذا الإيجاز الملتزم بالمزاج الشكلي للسقوط، كأنها ترسم شعريًا مخططًا لبصيرتها المنهارة.
"أريد أن أكون ولو مرة/ علي الشاطيء الآخر./ أن ألقي ولو نظرة واحدة/ من هناك".
تؤلف العلامات المختصرة ما يمكن اعتباره لغة خاصة تتسق مع الصلابة المخادعة للامنطق.. هذه اللغة هي الأساس لهوية التدمير، لحركة الهيمنة، ولمقاومة الانتماء.. إن لغة أحمد شافعي تجعل الأفعال والأشياء مرادفات لبعضها بكيفية غير مباشرة.. تضع كل موجود كمعني محتمل لأي موجود آخر، وفي هذا نوع من المجاهدة لإزاحة الذات من أمام نفسها بوصفها عقبة.. إذن هي ليست لغة خاصة فقط بل صيرورة خاصة أيضًا.. مطاردة للكلمة المستحيلة عبر استمرار نهم للاستعارة والاندماج والتكامل والتخطي.. بهذا يمكن لأي (منطق) أن يصبح مخذولا، أي فاضحًا لنفسه.. يصبح خيطًا ناصعًا منفلتًا من نسيج هائل بما يشبه قبلة فيها شغف كل القبلات التي لن تكون.
"سنوات/ وهو يجلد المعجم/ كي يعطيه عشرة مرادفات/ لـ أنا،/ ويجوِّع كلمة في بئر
إلي أن تعني ما لم تعن من قبل/ سنوات وهو يغتصب أفكاره/ فيخرجن في الليل بأذرع دامية/ وحلمات مقطوعة".
> > >
أفكر الآن في شخص ولد عام 1977 . كان يعتقد وهو طفل صغير جدًا أن الدنيا ـ لسبب مجهول ـ خلقت خصيصًا من أجله، وأن كافة البشر: أسرته، وعائلته، وجيرانه، وكذلك الناس الكثيرة جدًا، الذين يسكنون البيوت والمدن الأخري، ويسيرون في الشوارع، ويتحركون داخل التليفزيون، ويسمع أصواتهم في الراديو، وتظهر صورهم في الصحف والمجلات، ويتظاهرون بأنهم لا يعرفونه، هم في حقيقة الأمر ينفذون مهمة سرية تجاهه، تم تكليفهم بها من الله لغرض خفي.. كان يعتقد أيضًا أن لهذه المهمة وقت محدد حينما ينتهي سيتمكن حينئذ من أن يفهم الحكمة الغامضة التي تكمن وراءها.. هذا الشخص وهو في الأربعين الآن لا يزال مستغربًا  من نفسه، لكونه تمكن من التوصّل لهذه الحقيقة المؤكدة مبكرًا هكذا، ودون مساعدة من أحد.
"في طفولتي / كنت أرثي لكلِّ من ليس أحمد شافعي/ وليست هذه نرجسية/ مهما بدا الأمر/ غير هذا".
كل من لم يفكر في أن الماضي ينبغي أن يكون إعدادًا استشرافيًا مناسبًا للقبض علي مفترق طرق في الأربعين يستحق الرثاء حتي يبدأ في هذا.. ينبغي أن تكون الذاكرة استجابة تمهيدية للحظة المستقبل التي ـ رغم كل شيء ـ ستظل غير متوقعة، والتي سيتم تأمل المعارك من خلالها بنقاء غير مسبوق.. كأن الموت قد تردد طويلا في الإفصاح عن نفسه كما يجب، ثم قال كل شيء دفعة واحدة.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 6/3/2017