الاثنين، 21 مارس 2016

النقد الإيروتيكي

سأقتبس الآن فقرة من مقال سابق لي بعنوان (من الشعر إلى الواقع): (لكن الواقع يرتفع فوق حتمية الحدوث الفعلي؛ فالأكاذيب تساهم في إنتاج الحقيقة بضرورة مساوية لما تنجزه التجارب المدركة .. الإشارات التوثيقية هي آثار تتخطى الصدق والادعاء، فتظهر كمقاطع من مذكرات خاصة لحياة أُعيد تشكيلها على نحو لا يُراد التشكيك في صوابه .. من هنا يبدو الوجود كأنه غنائم من الخبرات المتصارعة التي يتم تمريرها داخل الشعر ثم إعادتها إلى العالم كحضور مغاير، طبيعة مختلفة، لكنها مؤكدة باعتبارها احتمالات لها صفة البداهة، أي تستعير إلزام الظواهر والمشاهد الملموسة).
وصفت (مها الجويني) نصها بأنه (بورتريه مستقبلي تخييلي)، وأنا لا يعنيني كيفية تصور المستقبل أو مساحة الخيال في النص لأن هذا البورتريه أصبح هو الواقع الذي أمتلكه عن (مها الجويني) .. الحقيقة التي تتجاوز الاستفهام حول إذا ما كانت أحداث النص قد وقعت جميعها بالفعل أو بعض منها أو لم تقع على الإطلاق، وإذا كانت هذه الأحداث في طريقها للوجود (مستقبلاً) سواء بكاملها أو بكثير أو قليل منها أو لن توجد أبداً .. لقد وقعت ـ بالنسبة لي ـ جميع أحداث هذا النص فعلاً بمجرد كتابته، أي بمجرد أن شكّلتها (مها الجويني) لذا أصبحت هي الحقيقة التي تعلو فوق الانشغال بمدى الصدق والزيف في متنها .. إن (مازال مقتنعا بأنه أول من افتضها) هو النص الذي لا يوجد شيء خارجه بحسب (جاك دريدا)، أي أنه الوجود الخاص بـ (مها الجويني) الذي يتجاوز حدوده الكتابية المعلنة ليشمل حياتها بأكملها، حتى التفاصيل التي بدا أنه لم يتضمنها .. لقد تعاملت مع هذا النص كأثر شخصي مدعوم بالتأكيدات المعرفية التي يمكن الحصول عليها من الأدلة المتاحة على الإنترنت عن (مها الجويني)، والتي تتطابق بشكل ما مع (المعلومات) الواردة في النص .. هذه الممارسة النقدية ستقودني إلى متعة حسية تتأسس على العلاقات الجمالية بين (الكتابة) و(الصورة) و(التناص)، والتي ستُخلق بالتالي على إثرها علاقات شبقية لانهائية، تتخطى الارتباطات التمهيدية التي تجمع النص الأدبي والفوتوغرافيا الشخصية والتفاعلات المشيّدة مع نصوص كتابية وبصرية أخرى .. هل يعيد النقد الإيروتيكي ـ بهذه الطريقة ـ تعريف النص الإيروتيكي؟ .. هذا مؤكد، ولكن ينبغي أن أكون أكثر دقة وأقول أن النقد الإيروتيكي سيحوّل تعريف النص الإيروتيكي إلى احتمالات لا يمكن تأطيرها، تزاوج بين الفني والشخصي والتاريخي حيث لا يمكن تعطيل (إعادة الكتابة) عند ذات معيّنة في لعبة التداول والإرجاء وتغييب المعنى.
من كتاب "النقد الإيروتيكي / مدخل تطبيقي لمنهج جديد" ـ يصدر قريباً.
الصورة: (نادية عبد الواحد بعدسة فان ليو).

السبت، 12 مارس 2016

صانع الساعات المُبصر

هناك استفادات عدة حققتها رواية (شواش) لـ (أحمد سمير سعد) الصادرة عن دار (ميريت) 2016 من التوظيف السردي لنظرية الفوضى، وكذلك لفكرة (الشواش) في العهد القديم .. ربما يمكن تحديد الاستفادة الأولى في إضاءة الصراع بين الترصّد الرقمي للعالم بوصفه طريدة رياضاتية يمكن الإمساك بطيشها وتوقّع مساراته، وتشريح الوجود ـ كطبيعة حية غير مضمونة ـ من خلال محاولة تفسير المشاهد المتشابكة، اللامنطقية بالرجوع إلى أصولها المحتملة .. هذا الرجوع ربما يقود إلى اكتشاف التغيرات ـ التي قد تكون ضئيلة ـ المؤدية إلى آثار مباغتة، ومتصاعدة التأثير بشكل متسلسل داخل ما يمكن أن يُعتبر نظام ما، أو ما يُسمى بـ (تأثير الفراشة).
(لا أحد أدرك تلك الحالة التي يكون فيها العالم على شفا الانزلاق، لحظة مفتوحة على كل احتمال، لحظة تستحيل فيها تيارات الحمل العادية في الماء الساخن إلى دوامات وفقاعات وغليان وانفجار وكأنها بلا سبب أو نظام أو نمط، لحظة حساسة جدا لكل مدخل، لحظة رياضاتية بامتياز).
(حتى وإن سلّمت وأقنعت نفسي أنه تكفيني المعطيات البشرية والأرقام غير الدقيقة تماما، أعرف أنه مع استمرار التعويض في المعادلات بذلك المستوى من الأخطاء والتقريب، والذي لا أملك فكاكا منه، سيزيد الانحراف وتتباعد النتائج وتقل الدقة، بإمكاني فقط إحكام التنبؤ لأيام، ربما لشهور قليلة، من أدراك أنك حتى تملك دقة البشر؟!، ما الذي تعرفه عن هذه المجتمعات حتى تأتي بنتائج دقيقة؟!، كل نشاط بشري ولو ضئيل كفيل بتغيير كل النتائج).
الاستفادة الثانية ربما تكمن في التعرّف على هزائم الراصد، الذي يحاول التفسير والاكتشاف والتنبؤ عند الرغبة في تحويله إلى صورة أرضية للإله أو إلى إله بشري / نصف إله، يختبر الخيبة الناجمة عن استعارة الطبيعة المتعالية، اللامبالية للإله الكوني، غير المتورط في الخبرة الإنسانية، والقادر على السيطرة على (الشواش)، أي إعادة خلق الكون بالإتيان به من الشر والظلمة إلى البركة والنور مثلما جاء في سفر التكوين.
(كإلهٍ ملّ العالم، أنظر إلى كل شيء في غير اعتناء وبترفع العارفين، أو لعله يأسهم، أبشر بالنهاية وأحتفظ بالبشرى لنفسي، أهون من أن أتحدث إليهم وأوهن من أن أخبرهم).
(تجاربي صفر، شقي بحدودها الضيقة، لست ذلك المتحرك، المقدم، المخترق، الجريء، الكلمات جامدة على شفتي، ربما لا تتكون بالأساس، عاجز عن التلاعب بها والتعبير عنها).
(أرقامي لا تعني شيئًا، لا تعني إلا ذاتها، ليس بمقدوري أن أصير إلهًا أو حتى جنيًا يتقن التصنت على السماء، ليأتي بخبر الغد اليقين، كل ما أفعله هباء، عبثٌ كامل كحياتي).
يمكن تحليل الاستفادة الثالثة لهذا التوظيف السردي باعتبارها نتيجة ناشئة عن اندماج الاستفادتين السابقتين؛ إذ أدى هذا التزاوج إلى وقوع ما يُمكن تسميته بـ (الكوارث المتواصلة عند حافة النهاية) في مستوى غائم من الإدراك .. نطاق ضبابي يرتفع فوق إمكانية التعيين الحاسم: هل تنتمي تفاصيل هذا الجحيم إلى الواقع الموضوعي لزمن السرد حيث تُشكّل هذه التفاصيل المُفضية بتلاحقها المحموم نحو الفناء حقيقة ملموسة ومشتركة بين كافة شخصيات هذا الواقع، أم أن هذا الجحيم يتم كتصورات تنبؤية لها صفة البداهة، وتتمسك بحتميتها في وعي السارد / نصف الإله دون أن تتجسد خارجه، أم أن هذا السارد يرى ـ ببصيرة لازمنية ـ المشاهد المخبوءة (التي تمثّل الحقائق الكارثية) في الظلام المحيط بما يحصل فعلاً، الذي لا يطفو سوى سطحه الأقل عنفاً، ولا يرى الآخرون غير قشوره المضللة .. هل شخصيات هذا الواقع هي أجساد وأرواح مغايرة، ومستقلة فعلياً، أم أنها تمظهرات مرآوية متوهمة لشخصية السارد، ويتمثّل في بعضها الخصائص التي حُرم من امتلاكها.
(محمود نصار وبوحي منه أدرك أنه بصق على العالم بصقته الأخيرة، امتلك كل الشجاعة وتحدى ونفذ، لا يُبقي على حياة لا تستحق، استطاع أن يتخلى عن الابن، عن ميري، عن الخوف والرهبة وبجرأة بلا مثيل، ارتمى على ظهره وأخذ يضحك ويقهقه على العالم).
هذا المستوى الغائم للأحداث التي تبدو كتداخل من الاحتمالات المعرفية، والمقترن بتفحّص الذاكرة ليس مجرد إطار جمالي لتوثيق الفوضى، أو مُعادل انعكاسي للطيش الرقمي، بل على نحو أعمق هو اختراع للـ (شواش) بكيفية ذاتية .. إعادة خلقه، أي تنظيمه كما يليق بإله أو بنصف إله يسعى وراء اكتمال ألوهيته .. تتبع شخصي لفوضى العالم عبر خطوط انتقائية تتخذ ظاهرياً سمة التنقّل العشوائي .. لكن هذا التتبع ليس للأمام كما قد يبدو للوهلة الأولى .. لا يتقدّم السرد نحو النهاية أو الفناء بل على العكس، فوراء ما يبدو اقتراباً تدريجياً نحو الموت هناك رجوع قهري داخل الماضي ـ وهو ما يُعد المتن الأصلي للرواية ـ هذا الماضي ليس بداية تاريخ عالم الرياضيات وحسب، وإنما كافة البدايات الممكنة .. بداية التاريخ الكوني الذي يُمثّل تاريخ عالم الرياضيات جزءً من فوضاه، وبالتالي يحتوي ـ كموت هائل ـ  على موته الخاص.   
(الانهيارات الأرضية تزحف، اصطدام عربات المترو، سقوط شبكة الكهرباء بالكامل، تصدعات الكباري، انطباق الأنفاق، أخبار عن شقوق بمبنى السد العالي، زحف البحر، الانفجارات التي صارت كزقزقة العصافير أمام كل نافذة وأعلى كل شجرة وتحت كل مقعد عام وعلى كابلات التليفونات وفي كل منور، القتل اليومي بلا ضغينة والنهب والسرقة بلا نية وإفلاس البورصة والبنوك المقفرة كقبور، البشر الساعون كموتى بلا روح أو حياة؛ ينتظرون موتًا، قد يأتيهم عن يمينهم أو يسارهم بغتةً، أو بسكرات موجعة وصرخات مفزعة ملتاعة يغتالهم من أسفل أو يحوّم حولهم ثم يصرعهم ويخطفهم من أعلى).
يروق لي إجراء مقارنة بين فقرتين في الرواية ـ تتشابهان مع فقرات أخرى تحمل نفس المعطيات بصيغ مختلفة ـ ربما ستفضح ما أراه مواجهة مع مدلولات استفهامية جوهرية داخل النص .. الفقرة الأولى:
(كانت الطامة والهزة التي هيجت الدم في عروقي أن أعرف أن هناك من سخر من إله نيوتن ومعادلاته، وصفوا ربه الذي يتدخل ليعدّل من حركة الكواكب ويحفظ النظام بدفعات رقيقة من يده، وصفوه بأنه صانع ساعات أعمى، عاجز عن أن يجعل من الكون عالمًا منتظمًا بلا تدخل منه .. الكفرة لا يخلب عقولهم شيء وقد ضرب الله عليها غشاوة، متى كانت الساعة منتظمة دون تدخل منه ادعوا عدم وجوده أو موته أو تخليه عن العالم، ومتى تدخل، ادعوا عجزه عن خلق نظام لا يحتاج إليه).
الفقرة الثانية:
(أجلس إلى حاسوبي بالساعات، ظهري مصلوب، عيناي ملتهبتان، الوخزات بكل جسمي، أحاول أن أقرأ العالم، أستقرىء مستقبلي، أحمل البشارة أو أكتمها كنبي مقطوع اللسان أو رسول نغزه الشيطان فكفر).
هل نحن إزاء نوع من التحوّل الفكري أو الإنقلاب العقائدي للسارد أدى إليه الفشل في أن يكون صورة للإله؟ .. في أن يكون بديلاً له بعد التأكّد من غيابه؟ .. هل هناك فراغ كوني تم اكتشاف انفتاحه على هواجس غامضة لا يمكن حسمها، أخذت محل الاستقرار الإيماني، وبالتالي أفرز ـ منطقياً ـ شكلاً من المراجعة أو المحاكمة التي تعمل بنفس طريقة السرطان؟ .. هل كانت صفات الإله التي حاول السارد تقمّصها مكونات لقناع صلب يريد إخفاء عذابات هذا التحوّل أو ترويضها؟.
(ساعتها ترى كل شيء ممكن، لا يصدمك شيء وإن ارتجف جسدي البشري ولم يتحمل، ارتعد وخاف ودهش ولم يفهم وتألم وبكى وانتحب .. كل غريب يغدو منطقيا تحركه طاقة الاحتمال).

ربما كانت رواية (شواش) نموذجاً لكتابة الغضب التي تقف وراءها دوافع الثأر من اليقين مهما كان .. الثأر من خيانته .. من توسّل العثور على صانع الساعات .. إيجاده ولو ككيان بشري .. خلقه ببصر غير مفقود .. من الفوضى المتمادية التي لا يتدخل أحد ـ أي أحد ـ لإيقافها، أو لجعلها شيئاً قابلاً للتوقع، وبالضرورة متاحاً للفهم.

الاثنين، 7 مارس 2016

معبد أنامل الحرير‮:‬ إخفاء المؤلف‮..‬ قناع الموت

لا يتحدد المنجز السردي لرواية "معبد أنامل الحرير"، الصادرة عن منشورات ضفاف والاختلاف، في إطار الألعاب الكتابية التي شيدها إبراهيم فرغلي، بقدر ما يقوم هذا المنجز علي الفرص الغنية التي قدمتها هذه الألعاب للقاريء كي يمتلك حرية غير مروّضة في تأويل الرواية، والتي يمكن أن تتمادي إلي درجة الطيش اللازم لهدم أي منطق مفترض لها.
نحن أمام مخطوطة لرواية بعنوان "المتكتم" تحكي (حياة) كاتبها المختفي رشيد الجوهري بالتزامن مع قراءة صديقه (قاسم) لصفحاتها.. كيف تتحدث المخطوطة؟ رشيد الجوهري يتكلم بواسطة مخطوطته (وهو ما يُفسر حيازتها للأبعاد والصفات الإنسانية) التي تتجاوز حدودها الخطية لتسرد (الحياة الكاملة) كأنها تحقق مقولة جاك دريدا: (لا شيء خارج النص)، أي أن الوجود هو نص، ولا شيء خارج الوجود؛ لذا فالمخطوطة ليست مجرد انعكاس جمالي، جزئي لحياة كاتبها، وإنما تحتوي  ضمنياً ـ تفاصيل ذاكرته كلها، وهي الطريقة الوحيدة التي ينبغي التعرّف علي سيرة الكاتب من خلالها، حتي تلك المشاهد والأزمنة الشخصية التي يبدو أن الكتابة لم تتضمنها .. رواية رشيد الجوهري هي ذاته الحقيقية بالضرورة، التي تجعل من ذاته الأخري التي كانت تتحرك في العالم نسخة زائفة منها، أو الصورة الملوثة التي لا يجب أن تكون جديرة بالاعتبار مقابل (أصله) الكتابي .. رشيد الجوهري لم يختف إذن بالمعني الحرفي للاختفاء، وإنما حدث هذا التوحد بين كينونته والكتابة الأمر الذي أدي إلي تغييبه كجسد، وتحوّله إلي نص.. رشيد الجوهري الذي يتحدث بواسطة (المتكتم) ليس بالتالي رشيد الجوهري الذي كان قبل كتابة الرواية.. لقد صار خيالاً منذوراً لكافة الاحتمالات.. أصبحت سيرته متاحة للمراوغة والادعاء وإعادة الخلق وهذا عمل الرواية الذي يقودنا لسؤال آخر: هذه المخطوطة تخاطب من؟ إنها تخاطبني أنا، رشيد الجوهري يتحدث إلي (القاريء) الذي يحصل علي معرفة تدريجية عن حياة واختفاء هذا الشخص  بواسطة مخطوطته.. لماذا يجب عليّ تصديقه؟ أو بالأحري ما الذي يمنعني من تخطي ثنائية الصدق والكذب فيما تسرده المخطوطة؟
"قد تقولون عني إنني أكذب، فمن أين لي أن أري وأنا مجرد رواية ملتبسة الهويّة، بين دفتر مكوّن من بضع أوراق وفكرة مكتوبة في أحشائي، لكن قولوا ما شئتم فربما أكون بمنطقكم عمياء، لكني في الحقيقة بصيرة حدسي ومعرفتي يمثلان جزءًا من حواسي التي أترجمها وفق ما يمكن أن تفهموه".
رشيد الجوهري  بعد تحوّله إلي كتابة ـ لم يعد يمتلك السيطرة علي المخطوطة ـ مع كل محاولة لتأويلها ـ أي أنه لم يعد يمتلك السيطرة علي حياته التي يُعاد خلقها، وهو ما يعد ربما طموحاً رئيسياً عند الكاتب.. هذا ما يقودني للتعامل مع الشرح التبريري لـ (اختفاء) الكاتب كـ (حجة إخفاء درامية) ـ بُنيت علي أساسها كافة الادعاءات الأخري كضياع المخطوطة، وإنقاذ الصديق لها، وما تبع ذلك من أحداث ـ أما الفرق بين (الاختفاء)، و(الإخفاء) فهو التعمّد.. لقد قصد رشيد الجوهري تغييب جسده (خيالياً) بواسطة ترتيب إيهامي للأحداث ليتمكن (كذات خطية تنوب عنه بوصفه حاضراً مستتراً فيها) من الدخول (ككائن كتابي غير مسيطر علي حدوده التفسيرية) في علاقة مع القاريء / صديقه (قاسم) عبر طقوس شبقية متعددة.. لنتأمل مثلاً كيف كان يتكرر أن تتحدث (المخطوطة) ـ للقاريء ـ عن مقطع من حياة (رشيد الجوهري) ثم يصبح هذا المقطع هو موضوع السرد الذي سيقرؤه الصديق (قاسم) من المخطوطة في اللحظة التالية بشكل يدعي  ظاهرياً ـ وقوعه عن طريق الصدفة .. نقرأ:
"ربما لهذا السبب اختار لبطل روايته ذلك الحلم الغريب؛ الذي يقود فيه شاحنة في طريق سريعة لا وجود لها إلا في خيال رشيد الجوهري. وربما أيضا لأنه كان يعبر في ذلك المشهد عن إحباطه الشخصي. انفتح باب الغرفة فانتبهت. دخل منقذي، وأغلق الباب. اقترب من الدُرج الذي وضعني به، وتناولني بين يديه متأملا غلافي: صفحة بيضاء عليها كلمة واحدة "المتكتم" ثم اتجه صوب الفراش الصغير في إحدي زوايا الغرفة الضيقة. تأملته، ببصيرتي، لأول مرة. بدا لي رياضياً قوي الجسد، وسيم الملامح، عيناه واسعتان تطلان علي العالم بنظرة متذاكية، أهمل حلاقة ذقنه وشاربه منذ أيام، شعره طويل أسود وكثيف، معقوص في ضفيرة تتدلي خلف رقبته وتتناثر بها شعيرات بيضاء كثيرة. ألقي بنفسه علي الفراش منهكاً، يحدق شارداً في السقف، بعد دقائق التقطني واعتدل جالساً، وفتح إحدي صفحاتي، ليقرأ من حيث انتهي: "استعدتها في الحلم. جاءت مندفعة، متدفقة بحيوية، متألقة باللون الأحمر كشهاب، متعملقة كماردة أسطورية، كلما اقتربت تراءي لي مدي وحشية الجمال الذي تتمتع به، يتردد زئيرها في الأرجاء فيختلط توتري بتيار دفين من الإثارة يكاد يطفر من روحي. شاحنة الحلم. قمرة فسيحة لشاحنة عملاقة، فخمة، تلتمع بالأحمر، شامخة وحدها من دون مقطورة. تقف مستأسدة علي إطاراتها العشرة في شموخ".
هنا يجب ملاحظة التشريح الحسي، المفتون بالسمات الذكورية الذي قامت به (المخطوطة) لجسد الصديق قبل أن يبدأ في قراءة نفس الفكرة التي كانت تتحدث عنها قبل دخوله الغرفة.. كأنها كانت تتجرد من غموضها، أو تُمهد للاتصال الشهواني بينها و(القاريء) عند مساحة التقاء مكشوفة، ومدبّرة.. تجرّد المخطوطة ليس تعرياً لـ (كيان) كمعادل روائي لشخصية رشيد الجوهري بل هو تعرٍ لرشيد الجوهري نفسه كحياة كتابية غير خاضعة، لذا فالطقس الشبقي يتخطي حتمية أن يكون بين (الأنثوي) و(الذكوري) ليشتمل أيضاً علي أن يكون بين (الذكوري) و(الذكوري).. لنقرأ:
("كنت أتبرع حتي بشطب صورة أي رجل يظهر صدره عارياً، رغم ما أثارته مجموعة من الزميلات المحجبات من نميمة حول الموضوع وصلت إلي مسامعي في وقت لاحق كالعادة، عن ارتيابهن في كوني مثلياً").
إن (المخطوطة) أو (رشيد الجوهري) كذات خطية غير مُسيطر عليها عندما يكون بإمكانها ـ نتيجة لغياب الجسد الراضخ ـ أن تحقق هذه الصلات الشهوانية المتعددة مع القاريء فهي تتجاوز الأُطر الجنسانية لصالح الانفتاح غير المحكوم علي المتعة الشبقية المطلقة التي توازي لانهائية التأويل للرواية .. هي لا تكتفي بذلك بل إن المتعة / التأويل لا تتوقف عند حدود المخطوطة وحسب، وإنما تمتد كأثر داخل حياة القاريء (قاسم) باعتبارها جزءًا مراقباً، أي مساهم بواسطة السرد في وجوده الأبعد من فعل القراءة، وهذا إلهام في غاية الأهمية بالنسبة لـ (لانهائية التأويل) لأنه يتيح الانشغال بكيفية تحوّل الكتابة من (خلق حياة الكاتب) إلي (خلق حياة القاريء) بعد غياب السيطرة عليها، حتي دون أن تُنجر نصها الخاص، أي دون أن تتجسد ككتابة ملموسة عن حياة هذا القاريء:
(هويتنا في الحالة هذه تكون موزعة ما بين كوننا روايات ذكورية النزعة أو نسوية النزعة، أو روايات إنسانية لا تتحيز إلا للإنسانية). 
هل هناك نتيجة أخري يمكن أن تنجم عن (الإخفاء المتعمّد) لجسد رشيد الجوهري، وتتلاءم في نفس الوقت مع (المتعة الشبقية المطلقة) بين المخطوطة والقاريء ؟ هي نتيجة (فصامية) تلك التي تفترض أن رشيد الجوهري هو (قاسم) في حالته (القرائية) أي التي توفر له الحصول علي لذة الامتزاج بحياته الكتابية (التي لا يمكنه السيطرة عليها) من موقع المشارك أي محاولاً استرداد هذه السيطرة عن طريق تقمّص مصدر التأويل اللانهائي (القاريء / قاسم) في حياة أخري مختلفة، بعد أن كان مصدر الكتابة .. في هذه الحالة تتحوّل القراءة إلي فعل استمناء بعد اندماج الكاتب والقاريء (فاقد الذاكرة ككاتب طبعاً) في شخصية واحدة تدعي اختفاء الكاتب وتنشط في الحياة وفقاً لهذا الادعاء .. لكن الفصام لابد أن يتسع إذن ليشمل المخاطب الذي تتحدث المخطوطة إليه عن حياة رشيد الجوهري، ويقرؤها أيضا كنص يحمل عنوان (المتكتم)، ويتفحص علاقتها بصديقه (قاسم) .. المخاطب الذي يُكمل الحفل الجماعي عندما يكون الثالث المتداخل مع المخطوطة (الأنثوية) و(قاسم) .. عندما يكون الثالث مع (رشيد الجوهري) (الذكوري الحاضر في الأنثي غير المروضة) و(قاسم).. عندما يكون الثالث مع (رشيد الجوهري) و(رشيد الجوهري) الآخر الذي يحمل اسم (قاسم) .. الذي يتحوّل إلي ذات غير مسيطر علي هويتها، وتستغرق في المتعة الشبقية المطلقة، والتي تغيب كحياة / سرد لانهاية لتأويله .. المخاطب الذي هو الأنا القارئة لـ (معبد أنامل الحرير) أي التي تكتبها، وهذا ما جعل كل ما سبق من علاقات يمثل جوهر (النسخ)، أي الاستراتيجية التي لا يمكن أن تخضع لأي رقيب داخل (مدينة الظلام) .. المتاهة التي نظمّها (رشيد الجوهري) بغيابه المتعمّد لينجو في النهاية بـ (سفينة الأشباح) في نهاية الرواية.
لو أن (معبد أنامل الحرير) تقوم علي تصور رولان بارت عن (موت المؤلف): (يجب قلب الأسطورة، فموت الكاتب "المؤلف" هو الثمن الذي تتطلبه ولادة القراءة) لكان تركيز الرواية مقتصراً علي (المخطوطة) من حيث هي نص لا من حيث هي سارد لحياة مؤلفها .. لظل موضوع الرواية هو (الكتابة) و(القاريء) فقط دون أن تعمل حياة الكاتب ـ التي ترويها المخطوطة نفسها ـ كخلفية اندماجية هائلة للنص .. كان ينبغي ألا يكون هناك سوي (المتكتم) و(قاسم) وحسب بينما تظل سيرة رشيد الجوهري معمية تماماً .. لكن إبراهيم فرغلي قام باستغلال الفكرة أي (موت المؤلف) وتطويرها بتحويل هذا الموت إلي (ادعاء) .. (تنكر) كي يتمكن الكاتب من العودة إلي مخطوطته كقاريء بعد أن تولي تدبير اختفائه داخلها حتي ينقذها ـ أي المخطوطة ـ من الحرق ويحولها إلي نص منشور / معلن .. لقد أحيا إبراهيم فرغلي المؤلف من حيث ادعي موته أو اختفاءه بأن جعله كتابة.. بمنحه أقنعة عديدة هي في الحقيقة سرديات تراوغ الواقع والخيال لتحويل البشر إلي نصوص، الأمر الذي يدفعني لاسترجاع تساؤل من مقال سابق لي بعنوان (من الشعر إلي الواقع): "هل يمكننا مقاربة العالم كنص هائل تؤلّفه حصيلة لانهائية من النصوص؟"
إن رواية "معبد أنامل الحرير" تبدو إجابة بارعة لهذا التساؤل، حققها هذا (الإخفاء الخبيث) للمؤلف، في حين أن إبراهيم فرغلي كان حاضراً منذ البداية وحتي النهاية.
أخبار الأدب
5 ـ 3 ـ 2016

الأربعاء، 2 مارس 2016

ورشة الكتابة

إلى محمد عبد النبي (نيبو(
خرجنا من مناقشة التعريفات والآثار الضمنية لسلطة المفاهيم إلى دراسة النماذج التاريخية المختلفة، وتحليل الأفكار الناشئة عن تأويل هذه النماذج ومقارنتها بالتفسيرات السائدة في ذاكرة القصة القصيرة .. كانت هناك مشاريع مرتبكة تنمو ـ رغم ذلك ـ بإصرار بالتزامن مع الجدل النظري .. أحياناً كان يبدو لي أن الحياة تتدفق داخل تلك البدايات السردية بفضل هذا الجدل، وفي أحيان أخرى ـ دون تغيير حرف واحد ـ كانت تبدو معادية له تماماً .. في كلتا الحالتين كنت أشعر بالضياع إذ لم أكن حينئذ أكثر من أعمى يقتلع عيون طلابه ليجدد ثقته في الظلام .. كأن النصائح الكلاسيكية كانت تنتقم من أسلوبي الذي يحاول الاقتراب من تهكم الـ (ستاند أب كوميدي) في شرحها .. أرى مسدساً خيالياً مصوباً لرأسي يخرج من مخطوطات أبناء الحرفة الجدد يدفعني إلى إعادة الهيبة فوراً إلى القواعد العامة في عقولهم:
اجعل التكثيف ضميراً متقداً، يرفض التسامح .. لا تبالغ في استعمال المجاز .. قاوم رغبتك في التحليل والاستسلام للتأملات والاستغراق في الخواطر المجردة عن الزمن .. دع المشاهد والأحداث تتكلم نيابة عن لسانك .. ابتعد عن الصيغ الصحفية والتعبيرات الشائعة والبلاغة المستهلكة .. لا تتورط في الاستطراد، واستبدل الاستدراك بالتوتر الكامن في الصمت .. الفراغ أهم من الكلمات .. اغلق الأبواب والنوافذ جيداً كي لا تتسلل الكليشيهات إلى وليمتك .. لا تسرف في الوصف أو في إعطاء المعلومات أو في رسم الملامح .. كن غامضاً أكثر من كونك معترِفاً .. تجنب العبارات الطويلة خاصة المكونة من تسلسل مفرط للاستعارات المتداخلة .. امنح الشخصيات والأماكن والأفعال ما يلزم من فضائل الأشباح .. لا تضع صوتك الخاص في المكان الخاطئ أو في الوقت غير المناسب .. احذر من طغيان العاطفة .. لا تختبىء أبداً من الاستجواب الذاتي: هل أتحرك بطريقة ما كنسخة من خطوات كاتب آخر؟ .. لا تتمسك بغنيمة.
لا أحد منهم يشعر بعذابك .. ربما ـ بدافع الشفقة لا أكثر ـ يفسرون وجومك المفاجىء بأنه اضطراب داخلي مفهوم يمكن أن يصيب أولئك المطالبين بتقديم استعراضات الثقة عن خرافة لم تكتمل بعد قدرتهم على فهمها .. نعم .. أنا لا أستوعب حتى الآن كيف أفسر لهم ـ بإيمان كامل ـ ضرورة التعامل مع التقنيات الأساسية كرمال متحركة، وأطالبهم في اللحظة التالية ـ بنفس الإيمان الكامل ـ أن يشيّدوا بواسطتها قلاعاً حصينة .. لا أحد غيري يسمع هذا الصوت الذي يخاطبهم: (أعزائي القادمين إلى الحفل الذي غادره "تشيكوف" و"همنجواي" و"كافكا" و"فرجينيا وولف" و"كاثرين مانسفيلد" أعرفكم بنفسي: أنا الكاذب الذي يدعي أن مراجعاته لمسوداتكم لا تعدو سوى مجرد تصور شخصي في حين أنه يؤمن بها كحقيقة مطلقة .. وظيفتي هنا هي زرع الحرية في بصائركم، ولكنني مع الأسف أعرف أنه ليس المكان ولا الزمن الملائمين كي أحرّض شاباً على اغتصاب حبيبته في موعدهما الرومانسي الأول(.
لم يكن أمامي سوى الانتظار حتى الانتهاء من جميع التمرينات: الكتابة ككائنات غير بشرية (حيوانات .. جمادات .. ظواهر طبيعية .. إلخ) .. لعبة (الجثة الفاتنة) التي بدأها السيرياليون الفرنسيون في أوائل القرن العشرين، وكانت نتيجتها (الجثة الفاتنة سوف تشرب الخمرة الجديدة): (يقوم أحد الطلبة بكتابة أول سطر على صفحة من الورق ويمررها إلى شخص آخر لكتابة السطر التالي، وعن طريق طي الصفحة، لا يرى كل واحد من الكتّاب التالين إلا السطر السابق، وليس بقية القصة) .. سُبل تجاوز عُسر الكتابة أو سكتة الكتابة .. بداية النص ونهايته وأنواع الرواة .. بناء الشخصيات والمشاهد .. تطوير الحوار .. اللعب بالحبكة .. نسج المفارقات .. تنظيم واستخدام عناصر الزمان والمكان .. كيفية وضع علامات وملاحظات في صيغ استفهامية لإضاءة الخطوات داخل البنية .. الحماية من التشتيت بإمكانية الرجوع المتوفرة دائماً إلى عناصر السرد الأصلية .. كيفية استغلال صور معينة أو لحظات حاسمة أو صدمات منتقاة لتثبيت مزاج أساسي للنص .. اكتشاف الصوت الصحيح أو وجهة النظر الملائمة للسرد والأوقات اللائقة بتواجدها، والعثور على المهام المناسبة للضمائر .. تدبير خطط لقراءات ومعاينات ومشاهدات للبحث في المادة المعرفية للعمل إذا تطلّب الأمر ذلك مع وضع حد ملزم كي لا يتحول البحث إلى مختبر أبدي .. الوصول لعلاقة تفاهمية بين التركيز والإيقاع خلال مرحلة العمل
في اليوم الأخير من الورشة أخذتهم عصراً إلى بيت في كل دور منه شقتان متقابلتان، وتفصل بينهما ردهة صغيرة مضاء في سقفها مصباح أصفر .. صعدنا إلى الدور الثالث حيث كانت الشقة المجاورة للسلالم مفتوحة على مصراعيها ويجلس فوق عتبتها رجل يبدو في منتصف الخمسينيات، يرتدي جلباباً بياضه منطفىء.. تقابلت جميع العيون في صمت تام خلال اللحظة الخاطفة التي عبرت فيها مع طلابي أمام الرجل .. فتحت البابين المتلاصقين للشقة المواجهة وطلبت من ذوي العيون المترقبة إحضار كراسي من الداخل وتنظيمها لجلوسهم أمام الرجل.. كانت الشقة خالية إلا من الكراسي، ولم تكن هناك حاجة لنور كهربائي إذ كان هناك شباك ألوميتال كبير مغلق ينبعث ضوء العصر من خلاله بوفرة .. تحركوا ببطء حذر يكاد يلامس التردد، وزادت حدة دهشتهم حينما أيقنوا أنها ليست دعابة وأنني أريد منهم فعلاً الجلوس فوق عتبة الشقة ووجوههم صوب الرجل مشدداً على عدم تبادل أي كلمات، والامتناع عن تدوين الملاحظات مع خلع الساعات وإخفائها وبالطبع إغلاق الموبايلات .. كان الرجل ينظر إليهم بوجه فارغ من التعبيرات .. وراءه كان المنظر عادياً: حائط بيج فاتح، يكشف ضوء النيون الفاتر، والقادم من زاوية غير مرئية عن بقع رمادية ضئيلة متناثرة فوق سطحه .. مرآة دائرية كبيرة مؤطرة بزخارف طولية سميكة ومضفّرة ذات لون ذهبي، يتضح من خفوته مرور عمر طويل على وجودها فوق الحائط .. دولاب خشبي أسود متوسط الارتفاع، به عدة أدراج عريضة، ولكل درج مقبضين دائريين لونهما نحاسي شاحب، وفي قلب كل مقبض نقوش بارزة تشبه أوراق الورد المتعانقة .. فوق الدولاب فازة زجاجية زرقاء، شفافة، بداخلها زهور بلاستيكية تُبيّن ألوانها الخامدة انتماءها إلى وقت قديم.
)إنه مجرد رجل .. ما الغريب في هذا؟) .. كانوا يمررون الاستفهام إلى بعضهم بأطراف العيون المستغربة، وحواف الابتسامات الساخرة، وأنا واقف وراءهم لا أفعل شيئاً أكثر من المراقبة .. مع مضي الوقت تحوّل هز الأرجل وطرقعة الأصابع وهرش الخدود وقضم الأظافر وتقشير الشفاة وعقد الأذرع وفكها إلى صرخات وضحكات مكتومة: (من هذا الرجل؟ .. هل هو أبوه؟ .. هل اتفق معه خصيصاً ليكون هذا المشهد الممل درساً من دروس الورشة؟ .. لماذا اختار هذا الترتيب العجيب للمشاهدة؟ .. متى ستنتهي الورطة الثقيلة والسمجة التي أوقعنا فيها؟، وما الهدف المهم الذي يمكن أن تحققه في النهاية؟ .. هل يعرف ذلك الذي أحضرنا إلى هنا شيئاً عن القصة القصيرة؟ .. ماذا لو أطلقنا الآن جيصاً جماعياً في وجهه(.
ظل الرجل ينظر إليهم بملامح خالية من الانطباعات .. لكن ضوء العصر انسحب تدريجياً، ولم يعد هناك سوى نور النيون الفاتر في شقة الرجل، والضوء الأصفر للمصباح المعلّق في سقف الردهة الفاصلة بين الشقتين .. ما هذا البيت الذي لم يُسمع أي صوت لسكّانه، ولم يصعد سلالمه أو ينزلها أحد كأنه بناء مهجور عدا شقة الرجل الخمسيني .. حتى ضوضاء الشارع التي كانت تمزج بين أصوات البشر والسيارات، وتأتي من النافذة الكبيرة المفتوحة في جدار السلم اختفت تماماً مع غياب ضوء العصر .. لم يعد هناك أي صوت .. استمر ذهولهم في التصاعد مع مرور زمن طويل لم تتغير خلاله نظرة الرجل حتى أن عبور الهاجس داخل أرواحهم بكونه ميتاً كان فيه شيء من المنطق .. هل كان غياب عنصر الحسم الدقيق للوقت سبباً في شعور متوهم بانقضاء فترة هائلة .. هل كان لغرابة الوضع دوراً في هذا الوهم، أم أن فترة هائلة قد انقضت بالفعل .. في اللحظة التي اكتمل فيها تحوّل الضجر إلى قلق عظيم وصلت رغبتهم ـ عكس المتوقع ـ في الالتزام بعدم التحدث إلى أقصى يقين ممكن رغم ما كان في ذلك من عبء قاس يصعب تحمّله.
فجأة نهض الخمسيني من فوق الكرسي بهدوء ثم بوجهه الفارغ من التعبيرات تقدم نحو الطلاب وهو يمد يده إليهم بغرض المصافحة .. انتفضوا بفزع من أماكنهم وأسرعوا إلى داخل الشقة وهم يتعثرون ببعضهم وبالكراسي التي كانوا يجلسون عليها .. ظل الرجل يتقدم منهم ماداً يده، وهم يحاولون بارتباك مذعور إزاحة الكراسي التي ظل عدد منها في الخارج حتى يتمكنوا من غلق بابي الشقة قبل وصول الخمسيني إليهم .. كان هناك مزيج من الأنفاس المتسارعة والصرخات وخفقات القلوب المرتعشة والعرق والظلام الكامل .. حاولوا العثور على مفاتيح الكهرباء في الشقة بعد نجاحهم في غلقها لكنهم لم يجدوا أياً منها .. حتى الشباك الألوميتال الكبير اختفى، وعلى أضواء الولاعات اكتشفوا أنه لا توجد شبابيك أخرى مثلما اكتشفوا أيضاً أن موبايلاتهم لا تلتقط إشارات .. مجرد جدران صلبة مقفلة .. سمعوا دقات يد الرجل فوق باب الشقة .. دقات متواصلة .. ليست ثقيلة ولا خفيفة .. عادية كأي دقات فوق باب تُطالب من بالداخل بفتحه .. لكنها متواصلة، والرجل لا يتكلم .. بالطبع تأكدوا من عدم وجودي، ومع ذلك ظلوا ينادون عليّ برعب يشتد مع استمرار دقات الخمسيني عسى أن أكون قريباً وأسمعهم .. لكنني كنت بعيداً .. في بداية كتابة قصة قصيرة جديدة.
الصورة من فيلم "The Rewrite"