الأحد، 28 أغسطس 2022

الصورة

"أنا من نفس القرية وأعرف هذا الرجل جيدًا، ونحن نشهد له جميعًا بالتقوى وحُسن الخلق .. كل ما ذُكر عنه في هذا الخبر كذب وافتراء .. الرجل لم يدخن سيجارة واحدة في حياته فكيف يكون مدمنًا للمخدرات؟ .. أين ضمائركم وخشيتكم من المولى عز وجل وأنتم تزيفون الحقيقة وتنشرون هذا الباطل؟ .. الرجل قتل ابنته ذات الـ 14 عامًا لأنها تغيبت عن المنزل عشرة أيام دون أن تخبر أحدًا من أهلها أين كانت .. هذا هو السبب الحقيقي الذي لم تذكروه في خبركم الكاذب، وهو ما دفع أباها لخنقها بالإيشارب حتى الموت .. كفاكم تشويهًا في خلق الله".

لم يكن يعنيه وهو يكتب هذا التعليق وينشره أسفل الخبر أنه ليس من أهل القرية، حتى أنه لم يكن يعلم بوجودها قبل قراءته، وبالتالي لا يعرف شيئًا عن الرجل وابنته .. كل ما كان يعنيه أنه حدّق بالصورة طويلًا .. إلى وجه ذلك الرجل الذي يبدو بملامحه المنهكة في منتصف الأربعينيات، ويتجمد في عينيه مزيج غائم من الغضب والحيرة .. أنه قرأ التعليقات المتلاحقة، الثائرة، والمطالِبة بالقصاص العاجل .. كل ما كان يعنيه أن ينقذ هذه الصورة بأي طريقة .. أن يحميها من الكلمات التي تحاول تمزيقها .. حتى لو كلفه الأمر ابتسامة اعتيادية مرتعشة بعد أن يطفئ الشاشة ويتطلع بشكل خاطف إلى سطحها المصقول المعتم.

اللوحة لـ Edvard Munch

الثلاثاء، 23 أغسطس 2022

نبوءات لا مرئية

أعود مع أبي وأمي من زيارة مسائية لعمتي في أحد الأعياد .. نصعد سلالم منزلنا، لكنني أتوقف أمام شقة خالي راغبًا في الدخول إلى أبنائه لكي ألعب معهم مثل العادة .. يحاول أبي إبعادي متعللًا بتأخر الوقت، لكنني لا أستجيب له وأصر على طرق الباب .. يمسكني من أذني بإبهامه وسبابته الغليظتين ليقرصني بشدة ويدفعني نحو شقتنا .. أنفجر في البكاء والصراخ مع الألم الحارق في أذني، بينما جسدي الصغير ينتفض بنحيب متلاحق أثناء عبورنا من الباب الذي فتحته شقيقتي نحو الصالة ثم إلى حجرتي ذات الضوء الأصفر .. تظل أمي واقفة بينما يجلس أبي فوق حافة السرير، وبنظرته الحادة المقبضة، وبملامحه الصارمة المتوعدة، وبصوته القوي المُرهب يوجّه لي تحذيرًا مروّعًا بأن عقابي سيكون أفظع لو تكرر عدم طاعتي الفورية لأوامره .. ثم يمد رأسه للأمام، ودون أن تتغير نظرته أو علامات وجهه، وبنفس اللهجة الوحشية يزعق بي قائلًا: (بوس) .. أشعر بازدياد الألم في أذني فيشتد بكائي المختنق وصرخاتي المنتفضة .. يكرر أبي الأمر التهديدي بصوت أعلى: (بوس) .. أتقدم نحوه، وأقبّل خده السمين البارد قبلة خفيفة للغاية فأشعر كأنني أبتلع دمائي ثم أتراجع مواصلًا النحيب بينما أتطلع إلى الابتسامة الصغيرة في وجه أمي والتي تظهر غائمة عبر دموعي وهي تغادر الحجرة بعد خروج أبي.

كتابة هذا الحدث تعني رصد الشعور العقلي لطفل لم يُكمل العاشرة بمشهد قادم .. إحساس هذا الطفل بنقصان فادح في هذه اللحظة سيتكوّن نتيجة له إدراك ما بأن الأمر لابد أن يكتمل في لحظة أخرى .. أنه في طريقه للاكتمال دون تحديد الموعد .. يشعر الطفل على نحو مراوغ بأنه محتجز داخل حافة مائعة، وأنه لابد من وجود صورة تكميلية لما يحدث الآن تحتاجها الدموع المكتومة في صدره، الأكثر شبقية دون شك من تلك التي تدفقت من صرخاته إثر الألم الموزع بين أذنه المتوهجة، وقبلته لخد أبيه.

بعد سنوات طويلة سيجلس أبوه فوق حافة سرير آخر داخل حجرة أخرى من نفس البيت .. ستظل أمه واقفة، أما الطفل الذي أصبح يمتلك جسدًا أكبر بالتأكيد فيراقب في صمت أصابع أبيه الغليظة وهي تمزق خطاب “نادي القصة” له .. كان قد سمع نداءه منذ لحظة واحدة، وحينما دخل الحجرة أمره أن يحضر الخطاب الذي وصله بالأمس .. ذهب الابن وعاد إليه بالخطاب دون تفكير في قسوة كاملة، لكنه رأى أباه يمزقه على الفور، دون أدنى تمهل، كأنما هي الطريقة الوحيدة للهروب من تردد خفي، من الإلحاح الذي يحوم حول رغبته في تنفيذ هذا الثأر من الحياة دون امتلاك سبب مقنع .. هذه المرة لم يكن هناك وجود للابتسامة القديمة في وجه أمه .. الأم التي ستسأل أباه بخفوت حذر، استرضاءً له في المقام الأول: (بتقطعهوله ليه؟) .. سيجيبها الأب بصرامة حاسمة ومرتبكة كأنما أصبح مطالبًا بالإفصاح عن عدم قدرته على تبرير ما يفعله لنفسه: (عشان هيفضل يرجعله ويقراه ويعطله عن المذاكرة) .. سيأمره الأب ابنه أن يذهب إلى غرفته، لكن الطفل الذي أصبح يمتلك جسدًا أكبر سيذهب إلى حجرة الصالون ويفتح شباكها بطريقة تجعله متواريًا خلفه ليشاهد كلمات “نادي القصة” إليه وهي تتناثر في هواء الشارع أثناء سقوطها من يد أبيه عبر سور الشرفة المجاورة لشباك الصالون .. سيفكر الابن في هذه القصاصات بوصفها هدايا غير منتظرة للعابرين .. لن يتذكر في هذه اللحظة قرصة الأذن، أو قبلته في خد أبيه، أو إحساسه السابق بأنه توقع بكيفية مجهولة حدوث هذا المشهد .. لن يتذكر شعوره بأنه عالق في مفترق طرق كان ينبغي أن يتخطاه للتخلص من الدموع المكتومة في صدره .. لكنه في لحظة شتائية قادمة، وبعد أن يكون كل شيء قد انتهى سيكتشف هذا، وسيتأكد من أن كل ما يحدث ليس أكثر من تنقّل قهري بين عتبات ضبابية، وأن كل حركة في اتجاه التخلص من الدموع المكتومة سوف تجعل هذه الدموع تتضاعف في صدره.

جزء من رواية قيد الكتابة

الثلاثاء، 16 أغسطس 2022

غطاء أبيض

ترى الواحدة منا تسير وحدها، وتحمل كيسًا أسود .. نحن اللاتي تجاوزن الخمسين، لا تلفت دمامة الست منهن ولا بدانتها المترهلة انتباه أحد .. المرتميات في الشوارع بتجاعيد ذابلة وملابس قديمة وأحذية بالية .. لكن تعرف .. ربما يتوقف أحدهم ولو للحظة خاطفة أمام عيونهن المتحجرة، وربما يسأل نفسه دون تركيز كامل عما بداخل الكيس الأسود الذي تحمله كل منا .. أنت متأكد طبعًا من أننا كثيرات للغاية، وأننا قادمات من البيوت الفقيرة في الحارات والقرى .. هذا صحيح ولكنه آخر معرفتك .. المدينة بالنسبة لنا هي قضبان فقط .. كل رجل يسلمنا لآخر .. ندور بين الشقق وحجرات الأسطح والمحلات والمكاتب والسيارات وحمامات المساجد والعمارات تحت الإنشاء كموظفات سريات في مصلحة المساحة .. سأزيدك علمًا .. هؤلاء يضاجعوننا دون مقابل .. نحن يجب أن نضاجَع فحسب .. يجب أن نُمتع المسرتنين على الإنترنت أحيانًا، الذين لم نصل إليهم في الواقع، ونعرف جيدًا أنهم يتضايقون بشدة من رداءة الصورة وتطوّح الهاتف المحمول في يد النائك .. هؤلاء يظنون أن السبب الذي يدفع بعضنا لمحاولة إخفاء وجوههن أثناء التصوير هو تحاشي الفضيحة .. أي فضيحة؟! .. نحن حريصات على ألا تفسد ملامحنا الدميمة استمتاعكم بالفرجة والتخيل .. ملامحنا التي ينبغي علي كل منكم أن يقطع عضوه لو ظل منتصبًا بعد رؤيتها .. علينا أن نمر في الشوارع لنعطي الشبابيك والبلكونات الجمال اللازم .. ليس هناك في العالم ما يجعل الشبابيك والبلكونات جميلة ـ مهما كان قبحها ـ أكثر من امرأة دميمة وبدينة، تجاوزت الخمسين، وذاهبة أو عائدة من النيك .. لكن مرورنا في الشوارع ليس لمجرد الذهاب والعودة .. الواحدة منا تخفي وراء عينيها المتحجرتين ضوء كشاف صغير، تتحرك به فوق أجسامكم .. تحاول توقع اللحظة المفاجئة التي سيشعر فيها أحدكم بدوار أو تعب أو ألم .. بإشارات مرض لن ينجح تجاهله أو معالجته .. سأزيدك علمًا مرة أخرى .. ليس في الأمر أي شعور بالكراهية أو بالرغبة في الانتقام .. نحن فقط مشغولات ـ ربما أكثر من غيرنا ـ برصد هذه الإشارة الحتمية التي تُمهد للموت .. والآن، إن كنت مهتمًا، سأتركك لتحاول وحدك استنتاج ما الذي بداخل الكيس الأسود الذي تمسكه كل واحدة منا في يدها دائمًا. 

الجمعة، 12 أغسطس 2022

موقد الكيروسين

لا أتذكر هل كان هروبك من الجيش في اليوم التالي لالتحاقك به أم كان بعد عدة أيام؟ .. لكنني أتذكر جيدًا أنه كان هروبًا مؤقتًا وأنك عدت لاستكمال فترة تجنيدك، كما أتذكر أيضًا أن ذلك الهروب كان بسبب انفجار موقد الكيروسين الذي كنت تعد الشاي عليه في وجهك .. أعتقد أن آثار ذلك الانفجار كانت واضحة على الوجه الذي عدت به إلينا ولكنها كانت أكثر وضوحًا في الطريقة التي فسرت لنا بها سبب مغادرة كتيبتك سرًا وعودتك المفاجئة إلى البيت .. كان غضبك التقليدي المتوقع يشرح الأمر لعيونهم المحدقة في وجهك باستياء وقلق، ليس نتيجة ما أصابك وإنما تخوفًا من تبعات هروبك وربما حسرة على ضياع الوقت الذي كانوا سيأخذون خلاله هدنة صغيرة من شرورك .. لكنه لم يكن غضبًا فقط .. كان في عينيك وصوتك ما يخنق ذلك الغضب .. كان هناك ما يشبه نفاذ صبر متوسل تجاه الحظ العاثر الذي يلاحقك .. من خيبة الأمل التي تترصدك في كل لحظة .. من اللعنة المجهولة التي تسيطر على حياتك .. كنت تحكي ما حدث وتسب التجنيد بصلابة معهودة يعتصر حدتها في الوقت نفسه ذهول مستنجد .. صرخات مدفونة في باطن الشتائم بأنك لم تعد تدري ماذا تفعل تجاه كل هذه الهزائم غير المبررة .. كنت كمن يقرأ نبوءة سنواته التالية ومصيره المحتوم دون أن يعلم .. هل شعرت أنا بالشفقة عليك في تلك اللحظات؟ أم أن كل الشفقة التي ظلت محجوبة حتى عن نفسي الطفولية تجاهك قد عثرت على فرصة ملائمة للكشف عن وجودها؟ .. كان يريد أن يشرب شايًا فحسب .. إنه شيء يشبه أن ترفع يدك بالملعقة لتضع طعامًا في فمك .. يشبه أن تقضم لقمة من رغيف خبز .. هذه الأداءات في حد ذاتها مثيرة للشفقة حتى لو قام بها سفاح؛ فما بالك أن يسقط الطعام من الملعقة قبل وصوله إلى الفم أو أن يعض أحد لسانه وهو يقضم اللقمة .. ما بالك لو انفجر موقد كيروسين في وجه من كان يرغب في مجرد كوب من الشاي.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.

اللوحة لـ jean rustin

السبت، 6 أغسطس 2022

"الرجل الذي كان الخميس": حيوات ملفقة

لا تبدو رواية "الرجل الذي كان الخميس" للكاتب البريطاني جي كيه تشستيرتون أنها تقوم على موضوع المقارنة بين "النظام" و"الفوضى" أو المراوغة الدائمة لمعاني "النقيضين" بقدر ما تتوغل في اتجاهات وفضاءات عدة لمساءلة العلة المحتملة ـ الأبعد من كل يقين ـ التي تُشكل التصورات المختلفة والمتبدّلة عنهما.

("بل أنت من تفتقد إلى الشاعرية"، أجابه الشاعر سايم. "إذا كان ما تقوله عن الموظفين صحيحًا، فلن يسعهم إلا أن يكونوا مبتذلين تمامًا كشِعرك. الشيء النادر، الغريب هو أن تصل إلى هدفك؛ والشيء الواضح، البشع أن تفوّته. نشعر وكأن الأمر قد غدا ملحميًا عندما ينجح رجل بسهم جامح واحد في إصابة طير بعيد. أليس ملحميًا أيضًا أن يصل محرّك جامح واحد إلى وجهته في محطة بعيدة؟ الفوضى تبعث على الملل؛ لأنه في الفوضى قد يصل القطار حقًا إلى أي مكان، إلى بيكر ستريت أو إلى بغداد. لكن الإنسان ساحر، وسحره بالكامل يتمثل في هذا، أن يقول مثلًا فكتوريا، ثم انظر! إنها فكتوريا. لا تناول كتبك من النثر والشعر المحض؛ دعني أقرأ جدول رحلات، بدموع الفخر. خذ بايرون الذي يخصك، الذي يحتفل بهزائم الإنسان؛ وامنحني برادشو الذي يخصني، الذي يحتفل بانتصاراته. امنحني برادشو بالتأكيد!").

إن المناظرة التي تبدأ بها الرواية الصادرة عن مركز "المحروسة" بترجمة عماد منصور بين الشاعرين لوسيان جريجوري وجابرييل سايم حول القواعد والفوضى هي جدل ذاتي أقرب للغريزة بالنسبة للوعي المتعيّن في الحياة متسمًا بالصفة البشرية، أي أنه أقرب ما يكون إلى مونولوج داخلي يُجسّد العُمر السري للفرد متخذًا أشكالًا تنازعية متعددة ما بين الحضور والتغيّر والتخفّي، تنتج تمثلات قهرية متباينة تعادل المهام الوظيفية للبقاء.

("حتى وإن كان الأمر كذلك"، قال، "فإننا نحن الشعراء دائمًا ما نطرح السؤال "وماذا تمثل لك فكتوريا الآن وقد وصلت إليها؟"، تظن أن فكتوريا هي أورشليم الجديدة، نعلم أن أورشليم الجديدة لن تكون إلا فكتوريا بالنسبة لك. لكن نعم، سيستاء الشاعر حتى وإن كان في شوارع الجنة؛ فالشاعر دائمًا في حالة ثورة").

هذه المناظرة تخاطب أو تستهدف ما يتخطى حدودها اللغوية الظاهرة والملموسة؛ إذ أن الجدل بين الشاعرين حول "القواعد" والتدمير" تمتد ظلاله المخبوءة نحو "الماهية" متجاوزًا باتجاه "سرها": هل ثمة حقيقة غيبية لـ "النظام" و"الفوضى"؟ .. لماذا كان عليها أن تتحصن ـ كحكمة ـ بتلك الإرادة الخفية القائمة على ما يُعتقد أنهما "الخير" و"الشر"؟ .. بمعنى آخر: لماذا تحتم على هذه الحقيقة ألا تعبّر عن نفسها إلا من خلال المفاهيم / الأجساد المتصادمة أو المتقاتلة؟ .. هل تتحصّن حقًا كحكمة أم كوهم (تخريبي) ما ورائي مكلف بإنتاج السراب العفوي للنقائض؟ .. ما هي تلك الطبيعة المتعالية المفترضة التي يُنسب لوجودها الرمزي هذه الإرادة الخفية وبالضرورة تتم مجابهتها على جانب آخر؟.

(ورغم أنني شخص محسن محب للإنسانية بطبعي، لكنني أتمتع، آمل ذلك، باتساع أفق كاف لفهم موقف الرجال، أمثال نيتشه، الذين يعجبون بالعنف ـ الحرب المجنونة المتغطرسة للطبيعة وكل تلك الأشياء. ألقيت بنفسي في دور ضابط الجيش. كنت أسحب سيفي من غمده وألوّح باستمرار، وأصيح قائلًا "أريد دماءً!" بشرود ذهن، كرجل يطلب نبيذًا في مطعم. كثيرًا ما قلت "ليَفنَ الضعفاء؛ إنه القانون". حسنًا، يبدو أن ضبّاط الجيش لا يفعلون ذلك. اعتقلوني ثانية. في النهاية انطلقت يائسًا إلى رئيس مجلس الفوضويين المركزي، وهو أعظم رجل في أوروبا قاطبة").

تلك التساؤلات يمكن مخاتلتها عند إدراك ـ وهو ما تعتمده الرواية تحريضًا جوهريًا ـ أن "الشرطة" ليست كيانًا مستقلًا خارج الفكر، وإنما تنويعات من الأسس الرقابية والعقابية النشطة بصورة واعية وغير شعورية داخل الذات .. أن "التجسس" ليس ممارسة وقائية بين فرد وآخر أو جماعة وأخرى، وإنما استكشاف ترويضي تؤديه النفس تجاه أشباحها سواء الذين يشملهم الوضوح والمعرفة كما يبدو لها أو الذين يغيبون في عتمة العالم المتجذرة داخلها .. من ثمّ فـ "المؤامرة" تسبق "القواعد والتدمير"، أي أنها المشيئة الأصلية لـ "الحياة والموت" وليست جانبًا منها أو وجهًا لها.

("يا رفاق!"، صاح قائلًا، بصوت جعل كل رجل يقفز خارجًا من حذائه، "هل أتينا هنا من أجل هذا؟ هل نعيش تحت الأرض كالجرذان حتى نستمع إلى حديث كهذا؟ هذا حديث قد نسمعه أثناء تناولنا الكعك في وجبات المدارس الدينية. هل نحشو هذه الجدران بالأسلحة ونسيّج ذلك الباب بالموت خشية أن يأتي أحد ويسمع الرفيق جريجوري يقول لنا، "كن صالحًا، تكن سعيدًا"، و"النزاهة هي السياسة المثلى" و"الفضيلة مكافأة في حد ذاتها"؟ لم أسمع بكلمة في خطاب الرفيق جريجوري لن يستمع إليها قسيس بكل ابتهاج (صيحات استحسان). لكنني لست قسيسًا (هتافات متجددة)، الرجل المناسب لأن يكون قسيسًا صالحًا لا يمكن أن يكون خميسًا ذا عزم وتصميم والتزام (صيحات استحسان)").

أن يكون أعضاء "المجلس الأعلى للفوضويين" في الرواية من البوليس السري فكأنما يتكشف أن السلطة لا تسعى لترسيخ "النظام" وحمايته أكثر من كونها تحاول فهم نفسها عبر ما يصنّف كنقيض لها .. أن تراقب "فوضاها" كاستراتيجية لسد ثغراتها الأكيدة والمبهمة .. إن السلطة تتقمص ما تظن أنها الروح المضادة لها، لا كتلصص وتدبير للتخلص من "أعدائها" بقدر الرغبة في العثور على ما يعطل حلم الهيمنة الغامض الذي يكمن في باطنها وليس في ما يحاصرها وتحاصره .. الحلم المفخخ من قبل أن تتعرّف السلطة على كونها لغزًا توجب عليها مطاردته بينما تجابه كل ما يهدد بقائها وشموليتها .. أن يكون أعضاء "المجلس الأعلى للفوضويين" من البوليس السري فذلك يعني أن السلطة تتعقب خرافاتها.

(لم يكن جابرييل سايم مجرد محقق سري تظاهر أنه شاعر؛ كان في الحقيقة شاعرًا تحوّل إلى محقق سري. كذلك لم تكن كراهيته للفوضوية مدّعية وغير صادقة. كان واحدًا من هؤلاء الرجال الذين اندفعوا في بداية حياتهم في اتجاه محافظ للغاية لا يناسب الحماقة المذهلة لأغلب الثوريين. لم يحقق ذلك عبر أي تقليد لترويض النفس. كان طابعه المحترم عفويًا ومفاجئًا، ثورة ضد الثورة. جاء من عائلة من المهاويس، يتسم العجائز فيها جميعهم بأفكار جديدة تمامًا. واحد من أعمامه كان دائمًا ما يمشي بلا قبعة، وآخر حاول ذات مرة بلا نجاح أن يسير بقبعة ولا شيء آخر. كان أبوه يشجع الفن وتحقيق الذات، وأمه نصيرة للبساطة والنظافة الجسدية).

يبدو "تدمير الأماكن" كمجاز يتخذ صورة الواقع .. ذلك لأن الأماكن لا يلزم تدميرها ـ بما تتضمنه من عابرين ـ نتيجة غرض تغييري أو ارتقائي أو حتى انتقامي بشكل مباشر وإنما لأن المكان لا يطابق ما يبدو عليه في المخيلة الفردية سواء أفرزت هذه المخيلة مسمّى كـ "الفوضى" أو وجدت ضالة إجبارية ومؤقتة في تواطؤها مع خيالات أخرى .. بمعنى أدق لا ينقذ المكان المتعيّن خارج الجسد صورته الأصلية الغائمة في الخيال .. لذا لزم تدميره بذرائع متنكرة .. ذرائع مصدّقة تمامًا لدى المختبئين داخلها .. ذلك ما يجعل التدمير تنقيبًا عن خلاص "المكان الذاتي" المدفون في العدم وليس الحيّز التقليدي القابل للاستبدال .. الفضاء الإلهي المخصص ـ منطقيًا ـ لفرد عالق في فنائه.

(حينها استولى عليه الإغواء العظيم الذي كان مقدّرًا أن يعذبه لأيام طويلة. في حضور هؤلاء الرجال الأقوياء والمثيرين للاشمئزاز، أمراء الفوضوية، كان قد نسي تقريبًا الشكل البشري الهش والعجيب للشاعر جريجوري، المعجب الأول بجمالية الفوضوية. بل إنه فكر فيه الآن على نحو قديم، كما لو أنهما قد اشتركا سويًا في ملاعب الطفولة).

إن "رئيس المجلس" في الرواية قد يحيلنا إلى مقاربته كـ "ذات مبدعة"، تخلق نصوصًا (لا يقبص عليها بقدر ما تستحوذ عليه) من الشخصيات الثأرية .. نصوص تقوّض المسارات الأرضية الممكنة على نحو فعلي باستعمالها كأبدان من لحم ودم .. أبدان تجسد امتدادًا تلقائيًا للشبق الذهني الذي لا يعنيه سوى تحطيم فكرة "الوجود" عمليًا .. انتزاع "الطبيعة" من أسطوريتها باعتبارها البرهان الحسي المخادع للشر .. ليس هذا بحثًا عن هوية الثائر وإنما تفتيشًا عن الكينونة التي ينبغي تصفية الحساب معها .. الكينونة المطلقة التي تستقر في القناعات وتلتف حول المتاهات وتمر عبر سياقات التبدد إلى خارج الزمن دون خسارة.

(لم أرغب سوى في الالتحاق بخدمة المحققين السريين، لمكافحة مفجري الديناميت بالتحديد. لكن بسبب ذلك أرادوا شخصًا ما قادرًا على التنكر كمفجر ديناميت؛ وأقسموا جميعًا بالجحيم أنني لن أبدو أبدًا كمفجر ديناميت. قالوا إن مشيتي تبعث على الاحترام، وأنني أبدو متمتعًا بصحتي جدًا ومتفائل جدًا؛ وخيّر وجدير بالثقة على نحو أكثر من اللازم).

"الرجل الذي كان الخميس" هي رواية تأمل الكآبة التي لا يُعرف لماذا كان عليها أن تظل دائمًا غير مفهومة، عجيبة كشيء خارق رغم بداهتها وبساطتها وطيشها كأنها دماء تتراقص في مرحها الطفولي الخاص داخل كل جسد منذور للعماء والتلاشي .. الكآبة الناجمة عن أدوار يتم انتقائها ظاهريًا وفقًا لتمعن وإيمان، ولكنها في حقيقتها توحدًا إجباريًا بأدوات التعذيب غير المرئية التي أردنا الانفلات من قيودها الماكرة .. خضوعًا لما يقتلنا بكيفية تزيف انفصالنا عن أنساقه المتشابكة .. تزيف سيطرتنا على مصدر الانتهاك الذي يمتلك أرواحنا .. لهذا ليست هناك حركة أو إمكانية للتنكر .. هناك جمود وفضح، كأنما جثث هامدة، عارية، تلفق حيوات، مبادئ، رسائل، قرارات، قدرات حاسمة لا تنجح في ستر دموعها الوداعية التائهة والمتحسرة، المتلاحقة بغضب شهواني عاجز وراء كتمان مرتعش في كل لحظة منذ ما يُعتقد أنها البداية.   

جريدة "أخبار الأدب" ـ 6 أغسطس 2022