الاثنين، 31 يوليو 2017

ممدوح رزق: القصة القصيرة هي مكاني في العالم

أحمد أبو الخير
القصة القصيرة هي مكاني في العالم، هكذا عبر القاص والناقد والروائي ممدوح رزق عن علاقته بالقصة. ممدوح صدر له العديد من الروايات منها (خلق الموتى) و(الفشل في النوم مع السيدة نون)، له مقال نقدي ثابت في جريدة أخبار الأدب في مطلع كل شهر، وكذلك باب شهري في جريدة (القصة) بعنوان (قراءات)، بخلاف ما يكتبه في العديد من المواقع والجرائد والمجلات، صدر له مؤخرا بالقاهرة مجموعة قصصية جديدة تحت عنوان ( هفوات صغيرة لمغير العالم) وحول النقد والقصة والكتابة كان لنا معه هذا الحوار:
متى بدأت الكِتابة؟
أتذكر أن أول محاولة لكِتابة قصة قصيرة كانت بعد الغزو العراقي للكويت، وكاستجابة تقليدية لهذا الحدث، أردت أن أكتب نسختي القصصية من الحكاية المتكررة التي تم تداولها عن المصريين الذين سافروا إلى الكويت وجمعوا الثروات ثم أرغمهم الغزو على التخلي عنها أثناء الهروب .. كتبت قصة اسمها ( أرض الأمان) تعتمد كليا على العاطفة النمطية للتقارير الصحفية السائدة في هذا الوقت، وتتحدث عن رجل مصرى سافر إلى الكويت، وجمع ثروة، ولم يكن في ذهنه العودة لمصر، ثم وجد نفسه وأسرته داخل هذا الجحيم المفاجئ، فاضطر للفرار بأقصى سرعة ممكنة، تاركا ورائه كُل شيء .. كان عمري حينئذ 13 سنة، وربما سبقتها محاولات أخرى، لكنها منسية حتى الآن بالنسبة لي.
تلك كانت أول قصة كتبت، ولكن ما هي القصة الأولى التي نُشِرت؟
ما أعتبرها قصتي القصيرة الأولى هي التي نُشرت عام 1993 بجريدة (المساء)، وتحمل عنوان ( انكسار )، وكان النشر مقترنا بتقديمي من القسم الأدبي بالجريدة إلى الساحة الإبداعية باعتباري اسما أضيف إليها بقوة، وكان عمري وقتها 16 سنة.
أنت نشأت في حي شعبي، فهل يمكنك الحكاية عن طفولتك؟
نشأت في منطقة (ميت حدر) وهي حي شعبي بالمنصورة ومثل كثير من أسر الطبقة المتوسطة كانت أسرتي تمنعني بشكل صارم من أن يكون لي أي صلة بأبناء هذه المنطقة، لذا في الوقت الذي كان يخرج فيه الأولاد ليلعبوا في الشارع، كُنت أبقى في البيت معتمدا على الوسيلة الوحيدة للاتصال بهذا العالم الخارجي وهي الشرفة (البلكونة)، معظم الطفولة قضيتها في البلكونة، لدرجة أنني نقلت حياتي كلها تقريبا إليها: القصص والمجلات والألعاب وأحيانا كنت أنام فيها أيضا.
هل مِن الممكن القول أن ظروف النشأة قد انعكست على الكِتابة؟
بالطبع، كان لهذا الانزواء تأثيرا كبيرا، فقد كانت نتيجته الأهم هي خلق طبيعة شخصية لتأمل الآخرين من داخل العزلة، مراقبة الناس الذين لا أعرفهم، كنت أتخيل حيوات العابرين المجهولة، علاقاتهم، التفاصيل الغامضة للبيوت التي يعودون إليها .. كنت أراقب كل شيء، وأتخيل حياة له، حتى السيارات، تعاملت معها كبشر، تحمل كغيرها صفات الخير والشر، وتمتلك لغة سرية للتخاطب فيما بينها.
إلى أي مدى تفيد عملية مراقبة العالم؟
المراقبة هي حالة الاستعداد الدائم لانتهاز الفرص، أي اقتناص اللحظات الصغيرة المهملة، التي تجسّد احتمالات أصلية للحياة .. العزلة هنا تبدو كمخبأ تتطلب حمايته أن تصطاد العناصر الخاطفة لتشيّد جسرا لوجود يتجاوز الواقع الذي تنتمي إليه هذه الإيحاءات.
تنتشر دائما عبارة أن القصة القصيرة هي مراقبة للعالم فإلى أي مدى تتفق مع ذلك؟
نعم فتاريخ القصة القصيرة يدفعنا دائما للتفكير في المراقبة كقيمة جمالية، كفن، كغريزة إنتاج تاريخ لشخصيات لا تعرف عنها سوى وجه، تعبير ملامح، كلمة قيلت في مصادفة ما، فعل بسيط، لا يكاد ملحوظا، ويستحق أن تضعه في مفترق طرق ما.
قاص لا يزال في بداية الطريق فماذا يمكنك أن تقول له؟
أظن ـ بجانب كافة النصائح الأخرى ـ أن قراءة الأدب البوليسي ـ وفقا لتجربتي الشخصية ـ لها أهميتها، فهي بمثابة تدريب على مهارات الإخفاء والكشف، وأتصور أن كاتب القصة القصيرة ـ نظرا لتعامله مع مساحة كتابة أقل ـ يحتاج إلى التركيز مع هذه الخبرة أكثر من الروائي الذي يمكن أن تتعدد المخبوءات وأماكن التواري في متنه، بينما يبدو الأمر عند القاص كأنها مقامرة لإصابة هدف وحيد من المرة الأولى: ما هو هذا السر؟ .. أين ستخفيه؟ .. كيف؟ ولماذا؟ .. ما الذي ستكشفه ليقود إلى هذا السر، ولا يتوقف عنده؟
هل تذكر أول نص نقدي كتبته؟
أظن أنه كان عن كِتاب( قصائد امرأة سوداء بدينة ) لجريس نيكولز الذي صدر عن سلسلة آفاق عالمية.
أنت تكتب النقد، وتكتب أيضا القصة والرواية وغيرها، فكيف تتعامل مع الحس النقدي وقت كتابة العمل الإبداعي؟
المسألة تتخذ طبيعة عكسية بالنسبة لي؛ فكاتب القصة هو الذي يكتب النقد، أي أن الكتابة النقدية هي التي تنجم عن بصيرة القصة القصيرة.
كيف يكون النقد قصة قصيرة؟
بأن يتم التفكير في العمل الأدبي بحساسية القصة القصيرة، بالاشتباك مع فراغاته وفقا للإلهام الذي تثيره عادة روحها المقتضبة، بنسج أواصر بين هذه الفراغات في إطارها المكثّف للقلق، كباب ضئيل يُفتح على صور لا نهائية .. القصة القصيرة هي طريقة مثالية عندي لاستدعاء الافتراضات المختلفة في النقد ـ وهو بالضبط نفس التحريض الذي يمارسه الشكل الاختزالي لهذا الفن ـ واللهو بهذه الافتراضات كمن يقاوم دائما الوصول إلى مشهد مكتمل ونهائي في لعبة (بازل). من أكثر الأشياء التي تسعدني وأعتز بها حينما يتحدث كاتب عن قراءتي النقدية التي أضاءت اكتشافات لم تكن ملموسة له عند كتابته للعمل، أو حينما يصف الآخرون مقالاتي النقدية بأنها نصوص أدبية أكثر من كونها دراسات بالمعنى التقليدي.
إذا، فكيف تقيم العلاقة ما بينك وبين العمل الذي ستكتب عنه مقالة نقدية؟
هناك العديد من الخطوات، منها التعايش والجدل مع التصورات المباشرة، والإشارات الخفية وتطويرها، ثم زرع الألغام في هذه الانطباعات، وتتبع مسارات التفتت الناشئة عن توزيع التساؤلات، وربط المتناقضات، وتجاوز القرارات التأويلية ببصمات من الشك، والتي تُبقي النص مراوغا للتوقعات، حتى مع استخدام منهج أو نظرية نقدية محددة.
ما الحافز الذي أدى بك إلى كتابة النقد؟
ربما لأنه حينما تتحول الكتابة إلى الحياة، أي أن تأخذ الكتابة مكان الحياة على نحو تام، وتصل إلى مرحلة لا تستطيع معها أن تشير بثقة إلى شيء ما خارج الكتابة وتقول أنه يخصك، حينئذ لن يمكن للقراءة وحدها أن تصل بك إلى ذروة اللذة، بل يجب أن تعيد كتابة ما تقرأه بطريقتك، أي أن تمنحه حقيقة أخرى من حياتك أنت، التي ليست يقينية طبعا، وإنما مؤقتة، ولا يمكن محوها في الوقت ذاته.
كُتاب تقرأ لهم وأثروا بك؟
أفضل دائما وصف هؤلاء الكتّاب بأن أعمالهم كان لها إسهام يفوق الدور الذي أدته أعمال كتّاب آخرين في دعم (صوتي المنفرد) بتعبير (فرانك أوكونور)، منهم من كان مرتبطا بزمن معين، ومنهم من حافظ على ثباته مثل إرنست همنجواي، تشيخوف، كافكا، إدجار آلان بو، وليم تريفور، فولفجانج بورشرت، كورتاثر، بورخيس، ريموند كارفر، وغيرهم.
ناقد مُبتدئ، بماذا تنصحه؟
أن يكتب دائما عما يثير شغفه، وألا يقمع هذه الرغبة أو يؤجّل تحقيقها خضوعا لقهر الآخرين من فارضي الوصاية، وواضعي الشروط والقواعد، ومطلقي الأحكام الثأرية، وألا يتوقف عن تكوين العلاقات، وخلق الصلات بين النصوص التي يكتب عنها وبين حياته، تفكيره، أرقه وانشغاله بالعالم، وأن يستعمل في سبيل الكشف عن الاستفهامات والهواجس الممكنة كل ما يجده ملائما وجديرا بالاستعادة من القراءات والمشاهدات وخيالات الذاكرة.
قارئ سيقرأ لك لأول مرة، فماذا ستقدم له من أعمالك؟ 
المجموعتان الأحدث بالتأكيد: (هفوات صغيرة لمغيّر العالم)، و(دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير)، وبالنسبة للنقد الأدبي كتاب (هل تؤمن بالأشباح؟)، قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة.
ما مشاريعك الجديدة؟
رواية جديدة، وكتاب نقدي بعنوان (النقد الإيروتيكي) وهو مدخل تطبيقي لمنهج جديد.
جريدة (النهار) الكويتية ـ 30 / 7 / 2017

الثلاثاء، 25 يوليو 2017

«غرباء» لتايشي يامادا ... ما بعد الأربعين

في رواية «غرباء» الصادرة عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع في دمشق في 223 صفحة، بترجمة خالد الجبيلي؛ يحاول الكاتب الياباني تايشي يامادا إثارة شغف قارئه بهذا الاستفهام: لماذا يحتاج رجل في الثامنة والأربعين من عمره، الى استرداد أبويه اللذين فقدهما وهو في سن الثانية عشرة؛ بعد أن طلَّق زوجته، وانفصل عن ابنه الوحيد، ثم اكتشف أن صديق مهنته على وشك الزواج من طليقته؟ ليس الأمر مجرد عودة إلى ما يتم النظر إليه من داخل اليأس المحكم لهذه اللحظة الفارقة من الزمن بوصفه أماناً أبوياً فحسب، ولكنه أيضاً حلم بإعادة ولادة، تستدرك جحيم الذاكرة.
(«لا أنا لست كذلك»، قلت محتجاً، «فأنا لست ذاك الرجل الذي يبدو أنكما تظنان أنه أنا. فقد فشلت كزوج، ولم أكن أباً جيداً أيضاً. أنتما شخصان طيبان – أما أنا فلا. إنكما شخصان ودودان، رقيقان إلى درجة كبيرة إلى درجة فاجأتني. يجب أن يكون لكل شخص أب وأم مثلكما، حتى ابني. ومع أنني لعبت دور الابن المخلص معكما، فلا يعرف أحد كيف كان من الممكن أن أعاملكما لو كنتما تعيشان كل هذه السنوات. أما بالنسبة إلى مهنتي، فأنا لم أنجز شيئاً عظيماً حقاً. أنا مجرد كاتب من الدرجة الثانية).
الاعتراف هو الضرورة العفوية التي استخدمها بطل الرواية لبعث ذاتي جديد، كأنه يسعى من خلال الإقرار بخيبته الأسرية والمهنية إلى الحصول على الغفران من أبويه، كطفل مذنب، لم ينجح في رحلة تحتم أن يخوضها وحده مبكراً. سيمنح الوالدان (طفلهما) هذا الخلاص، ولن يكون مجرد إنكار مُطَمئِن لهذه الخيبة التي اعترف بها ابنهما فقط ـ وهو دعم للإنكار نفسه الذي ربما يكمن في وعي البطل وراء اعترافه وإنما سيكون أيضاً محاولة إعجازية للتفاهم مع الموت.
(«كلّ شيء سيكون على ما يرام يا بني»، قال أبي، «لا تقل كلمة أخرى». «إننا فخورون بك كثيراً» قالت أمّي. «إننا فخورون جداً بك»، ردّد أبي، «إصنع لنا معروفاً وتوقّف عن أن تكون قاسياً على نفسك. يجب على الرجل أن يعتمد على نفسه، كما تعرف. لن يفعل ذلك أحد غيره»).
إن تأمل بطل الرواية لإنكسارات الماضي عند هذه الخطوة المتقدمة من العمر، هو مراقبة للموت باعتباره طغياناً متصاعداً بدأ في الإفصاح القهري عن وجوده منذ الحادث الذي قتل أبويه، ويمر الآن بواقع اختتامي أشبه بخلاصة فاجعة من الأخطاء، تتجلى بحدة ناصعة، كظلام ثقيل على وشك الاكتمال.
يأخذ الأمر صيغة أشبه بالتبادل؛ فعودة الشبحين الأبويين إلى العالم هي منح الحياة مجدداً لزوجين حرمهما القدر من ابنهما، وبالتالي إعطاؤهما القدرة على التعويض لما فقدته أبوتهما نتيجة هذا الحرمان. في الوقت نفسه؛ هي تجاوز استباقي للحد الفاصل بين الحياة والموت الذي أصبح الابن قريباً من عبوره فعلياً، أي أنها استكشاف للعالم الآخر يختبره الابن بواسطة والديه للتأكد من أمانه، أو من صلاحيته كفضاء يمكنه الحفاظ على انتماء ما للحياة، وبالتالي يكون مهيئاً لأن تحصل أسرة هالكة على طريق بديل، غير قابل للضياع.
تقترن هذه التجربة بعلاقة يخوضها بطل الرواية مع شبح جارته التي عانت من حرق بشع شوَّه صدرها، والتي حاولت ذات ليلة أن تروض وحدتها بدعوته إلى شرب الشمبانيا فأدى رفضه إلى انتحارها. يرتبط بطل الرواية بشبح الجارة كرجل وامرأة؛ إذ لا يتمكن من اكتشاف حقيقتها إلا في النهاية، وبعدما أصبح معتلاً بمرض لم يقدر على استيعابه.
تنبهنا هذه العلاقة إلى هاجس قد يكون أكثر ما في الاغتراب من قسوة، وهو الغفلة المعتمة التي يساهم شخص وحيد من وراء أبوابها المغلقة، ومن دون قصد، في قتل أحد الغرباء الآخرين الذين يحتضرون داخل وحدة مماثلة. ليس هذا أكثر ما في الاغتراب من قسوة وحسب، ولكنه الأكثر عبثية أيضاً؛ إذ إن الحياة تكشف حينئذ عن نفسها، وبأبلغ صورة ممكنة كحشد عشوائي ومتكاثر من الاحتمالات البشرية التي تنظم إرادتها تلقائياً، كي تظل للأبد مجرد لعبة مشوّقة للموت.
لم يكن للتجربتين اللتين مرَّ بطل الروية بهما طبيعة عقابية، بل على العكس، هي أشبه بتجسيد حلم خارق، موزَّع بين أمنيتين: استرداد أبوين، والحصول على شريك مخلص، يخفف من آلام الوحدة، والدليل على ذلك استمرار بطل الرواية في الذهاب إلى بيت والديه، وتمسكه ببقاء الجارة معه حتى بعد اكتشافه أنها شبح. (بأمل أن أبطل مفعول قوة السحر، رفعتُ أنا أيضاً صوتي، وقلتُ: «كي، سنكون معاً، أنا لا أعبأ بما يمكن أن يحدث لي عزيزتي كي»).
هذا ما يجعل في الغربة، أو في هذا الحلم الناجم عنها حقيقة كونية مضادة للعالم تتخطى حدود استعادة ابن لوالدين ميتين، والعيش برفقة شبح امرأة متفانية، أثقلتها خيبة الأمل حتى اللحظة الأخيرة. إن يامادا صنع في روايته هذه ما يمكن أن نطلق عليه تاريخاً مغايراً للغرباء، يستند إلى تأمل انكسارات الماضي في منتصف العمر، وانتحار امرأة وحيدة مشوهة. كأن هذا التاريخ يقوم على نوع من التخاطر المبهم بين الغرباء. تواطؤ لبدء حياة من الوهم السحري، لها ركائز العالم الواقعي نفسها: أب؛ أم؛ ابن؛ رجل وامرأة؛ علاقات تعيد بناء الدنيا منذ البداية، ولكن على نحو صائب، أي وفقاً لخبرة الاغتراب، حتى لو كانت هذه الحياة موقتة، أو تستلزم دفع ثمن خطر كالمرض الجسدي مثلاً. حتى لو كان عدم الاستمرار في الوجود داخل هذا التاريخ، والبقاء في عالم الألم والفقدان هو رغبة راسخة، لا يمكن التخلص منها.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 24 يوليو 2017

الأحد، 16 يوليو 2017

مع نادي كتاب رامتان في Arkade


البصيرة القصصية والحشو الروائي


يمكن لناقد تقليدي خصوصًا من أولئك الذين بُنيت سمعتهم على التوزيع الانتقامي للأحكام الإلهية، يمكن أن يتعامل ودون تردد مع ما يبدو له أنها صفحات زائدة في رواية ما بوصفها ثرثرة مُعيبة تؤخذ على كاتبها .. في السنوات الماضية قرأت وكتبت عن كثير من الروايات سواء عربية أو مترجمة، معظمها سيفقد نصف حجمه تقريبًا لو أعدت كتابته، وهذا أمر ليس له علاقة بإعجابي المؤكد بهذه الروايات .. الصفحات التي بدت زائدة بالنسبة لي في كل رواية من هذه لم تكن بالوصف السهل والساذج مجرد (حشو) مسيء للعمل، وإنما مادة روائية تقع دائمًا في نطاق الاحتمال بأن هناك قارئ آخر في حاجة إليها .. هذا القارئ الآخر ليس فردًا بل ممثلا لكل من يشابهه أو يتوافق معه في هذا الاحتياج، فضلا عن أنه كذلك القارئ الوحيد الذي قد لا يشاركه أحد في ضرورة وجود هذه الصفحات، ولكنه يستحق ـ باعتباره مجردًا من حصانة الآلهة ـ أن يحصل على هذه المادة الروائية، وأقصد بهذا القارئ الوحيد الكاتب نفسه، الذي كان لديه يقين ما في لحظة معينة بأن وجوده في العالم يتطلب هذه الصفحات داخل الرواية حتى لو تبدّل موقفه من هذه الحتمية في لحظة أخرى.
أتذكر إحدى المفارقات الطريفة التي حدثت في التسعينيات حينما اكتشفت أن النسخة الأولى التي حصلت عليها من رواية (الصقّار) لسمير غريب علي، ممتلئة بالصفحات الخالية نتيجة خطأ في الطباعة، ولكن هذا الفراغ المتناثر لم يعطّل استمتاعي بالرواية، بل واعتبارها واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها في حياتي .. بعد مصادرة الرواية تمكنت من الحصول على نسخة أخرى كاملة، تحتوي على كل ما كان مفقودًا، ومع ذلك ظلت النسخة الأولى ذات الصفحات الفارغة هي الأجمل بالنسبة لي.
في إحدى شهاداتي السابقة عن الكتابة كتبت هذه السطور:
(إن كل ما أكتبه هو قصة قصيرة .. في كل رواية من رواياتي الثلاث كنت أجرّب واكتشف كيف يمكن لقصة قصيرة أن تكتب رواية .. لا أتحدث عن توسيع الحدود الشكلية لمنطقة كتابة صغيرة أو استثمارها للارتفاع بطوابق بناء شاهق، وإنما أتحدث عن استخدام البصيرة المقتنِصة والإيقاع اللعوب المتوتر للقصة القصيرة في كتابة رواية .. أن تنسج هذياناً مقتضباً من اللحظات الشاحبة والمشاهد المخبوءة والأحداث الهامشية التي تحافظ فيها القصة القصيرة على طبيعتها المنزوية الساحرة، التي تخلق العالم من ثقب ضئيل مهما زادت الصفحات .. ما أقوله الآن شخصي جداً، أي أنه خبرة تبقى حقيقية حتى لو كان من العسير أن يدركها غيري .. يمكن كختام لهذه النقطة القول أنني في تجاربي الروائية كنت أبتعد بتلقائية خالصة عن الحشو الروائي الذي ذكر "بورخيس" أنه مصدر الإحساس بالملل رغم أنه قد يكون جزءًا جوهريًا من الرواية).
هذه السطور يمكنها أن تلخص أفكارًا كثيرة، منها أن بصيرة القصة القصيرة التي كتبت رواياتي بها لا تتخذ وضعية عدائية تجاه ما يعتبره الآخرون (حشوًا) لأن ما يبدو كذلك ـ مثلما وصفه بورخيس ـ قد يكون جزءًا جوهريًا من الرواية .. أن السخرية من أي معيار يدعي الشمولية لتحديد المادة الروائية الزائدة في كل عمل هو جانب أصيل من حرية القراءة .. هناك من اعتقد مثلا أنني أنهيت روايتي (خلق الموتى) مبكرًا، وأنه كان
يجب مواصلة التشييد فوق الدعائم التي أرسيتها عبر صفحاتها القليلة .. لم أعتبر هؤلاء مخطئين، بل رأيت فقط أنهم كانوا في احتياج لهذا الإشباع البنائي، ولذلك كانوا يتمنون تحقيقه، وأن هذه الأمنية ليست سوى شيء آخر يختلف عما أردته أنا، وهي أن تُقرأ الرواية على أساس هذا الاقتضاب المراوغ، الذي لا يُراكم معطيات مهما كان غموضها، بل الذي يمنح الخيال أقصى ما يمكن من الظلام المناسب للمرح، أي أن تُقرأ الرواية كقصة قصيرة.
جريدة (القصة) / العدد الثامن ـ يوليو 2017

السبت، 8 يوليو 2017

الفشل في النوم مع السيدة نون: مهارة الحفر في مستويات السّرد النرجسي والفلسفي

ثمة محاولات روائية حدثوية، يري مبدعوها إن الغوص في حفائر السّرد، يبدأ من رسم الشخصيات، وتقديمها في نصيّة الرواية من خلال رؤية فنية، تري أنّ الشخصيّة الواحدة لا تنطوي علي ذات واحدة، بل مجموعة من الذوات التي غالبا ما تكون متعارضة ومتنافرة، وفق الأحوال التي يضعها المبدع فيها مما يجعل السرد قادرا علي التشظيّ في كل مستوي من مستويات الدلالة، في واقع كل شخصية، والدخول في مستوي علاقاتها التبادلية مع الآخر، الذي يبرز من خلال مواقفه، ولذلك كان من البدهي أن تصل إلي التعارض، أو التناقض أو التنافر، لاسيما إن كان شغل الفعل الكتابي الروائي معنيًّ بالدخول إلي عوالم كثيرة، من خلال أزمنة متناقضة تاريخيا وإبداعيا، فيأتي إسقاطها ليس نوعا من المحاكاة أو استخلاصها للعبر، وإنما كتجريب إبداعي يساعد الراوي علي الدخول في تفاصيل حياتية يغلب عليها الطابع النرجسي والنزوع الفلسفي، من خلال عقدة تلّبست البطل في مراحل طفولته الأولي، وعاشت معه هاجسا نفسيا لم يفارقه.
هذا ما اشتغل عليه الروائي المبدع (ممدوح رزق) في روايته اللافتة للانتباه، والمثيرة للجدل (الفشل في النوم مع السيدة نون) الصادرة عن دار الحضارة للنشر. وحرف النون في الرواية حرف مستعار، يشير إلي نون النسوة جميعهن، علي أن هذا لم يفقد الرابط بين هذه النون وأم الراوي نفسه:»لكن الأهم هو أن أمي يبدأ اسمها في الواقع بحرف النون أيضا  » ص194 لتحفز هذه النون أبعاد عقدة الراوي الأوديبية التي بدأت بعشقه لثدي أمه: » ثديا أمي كانا ثديي أم تقليدية في أواخر الأربعينات، ضخمين ومترهلين بحلمتين كبيرتين، تشبهان نصفي إصبعين سمينين، ويبرزان بقوة من خلال عينين واسعتين، لونهما بني غامق، ثديان عريضان، أقرب إلي مستطيلين يتدليان بالطول، ويبدو عليهما جمال الامتلاء المتـماسك» ص5
ويتكرر تعلقه بالأثداء من خلال ثديي جدته وثديي أخته »أختي ما رأيت جسمها إلا مرتين تقريبا.. كانت تُغير ملابسها، ورأيتها تخلع سوتيانها بقوة لأعلي، فاندفع ثدياها بعنف لأسفل، لم يكونا صغيرين» ص12، وتتعمق عقدة الأثداء عنده والذي سرعان ما تحوّل إلي هوس عندما بدأ يلعب لعبة عريس وعروسة مع ابنتي خالته »جسمان جميلان وممتعان، تحت أمري مختبئتين وراء سوتيان ويفكران في، وينتظران الفرصة حتي يخرجا من أجلي أمسك بهما وألعب فيهما» ص29.
في عشقه للأثداء التي لم يستطع مقاومتها بدأت مشكلته النفسية، التي أفضي بها علي شكل اعترافات سردها إلي طبيب النفسي، الذي لم يكن أكثر من مستـمع صامت ولم يقف موقف المحاور أو السائل، أو المتسائل، وهذا ما يضعنا أمام افتراض يشير إلي أن هذا الطبيب لم يكن إلا:
1
ـ شخصية متخيلة استعان بها الراوي للكشف عن أسراره الحياتية والنفسية والجنسية، حيث من المستحيل أن يكون حقيقة لانتفاء دوره الوظيفي في معالجة مريضه.
2
ـ لم يكن سوي الأخر النفسي الذي يعيش في أعماق الراوي والذي يشعر تجاهه بقلق أو خوف من ممارساته الخاطئة فينصب أمامه ضميرا نفسيا يعيش في داخله، وهذا ما يؤكده امتداد الاعترافات علي مسافة خمسة عشرة هامشا، ارتبط كل هامش بلازمة وإحالة.
لازمة واحدة لم تتكرر، تقول:(هامش الرجل الذي تمني أن يكون طبيبا نفسيا، أو)
في تحليل الأزمة إلي عناصرها نجد أن:
1
ـ المفتتح: هامش والهامش مجرد إضافة إلي النص، ليس متناً له أو جزءا منه.
2
ـ الرجل الذي لم يكن في الواقع المحايد ليس الراوي نفسه.
3
ـ تمني الفعل الذي يشير إلي التـمني في أن يكون طبيبا نفسيا.
4
ـ أو الحرف العاطف والرابط مابين اللازمة والإحالة التي تغيرت مع كل هامش.
ـ هامش الرجل الذي تمني أن يكون طبيبا نفسيا أو:
1
ـ طفلا يلعب (river raid).
2
ـ أو صائغًا في البصرة ص26.
3
ـ أو مونولوجست في كازينوهات عماد الدين ص39.
4
ـ أو طفلا في إعلان لافاش كيري ص49.
5
ـ أو ملحنا، وعازف جيتار في الثمانينيات ص65.
6
ـ أو ناقدا فنيا لبنانيًا في السبعينيات ص76.
7
ـ أو مصورا في مجلة بلاي بوي ص87.
8
ـ أو مؤلف jazz ص101.
9
ـ أو كاتبا مسرحيات في الستينيات ص113.
10
ـ أو محررا أدبيا في التسعينيات ص125
11
ـ أو ممثلا كوميديا ص137.
12
ـ أو مخرج افلام بوليسية ورعب ص146.
13
ـ أو باحثٍ في التراث الشعبي ص157.
14
ـ أو خالق شخصيات كارتون ص171.
15
ـ أو: صاحب مقهي باريسي في الثلاثينيات ص195.
من يتأمل في البدائل المطروحة لأمنيته بأن يكون طبيبا نفسيا يلاحظ أنها تشير إلي:
1
ـ العودة للطفولة تلعب علي الريفر ريد أو يظهر في إعلانات البقرة الضاحكة لافاش كيري.
2
ـ العمل في الفن كـ:
أ ـ مونولوجست في كازينوهات عماد الدين.
ب ـ ملحنا وعازف جيتار.
ج ـ مصورا في مجلة بلاي بوي.
د ـ ممثلا كوميديا.
هـ ـ مخرج أفلام بوليسية ورعب.
و ـ خالق شخصيات كارتون.
ز ـ مؤلف جاز.
3
ـ وفي مجال الإبداع أن يكون:
أ ـ ناقدا فنيا: لبنانيًا وبالتحديد، ومتي في السبعينيات.
ب ـ كاتبا مسرحيا وفي الستينيات.
ج ـ باحثا في التراث الشعبي.
أما بدائل العمل الحرّ فكل ما كان يتمناه أن يكون إما.
أ ـ صائغا.. وأين؟ في البصرة تحديدا، أو.
ب ـ صاحب مقهي، أين؟ في باريس، ومتي في الثلاثينيات.
وبغض النظر عن طبيعة البدائل المتنافرة، فان تحديده للزمن الذي راج بين الثلاثينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات ثم التسعينيات، إنما له ارتباط في شيوع تلك البدائل في تلك الأزمان، وهي إشارة تشكل كل واحدة منها عتبة تُدخل قارئها إلي الفصل الذي عنوّن به والذي انقسم بدوره إلي مساحتين سرديتين كان من أهم السمات المشتركة في المساحة الأولي التركيز علي القرون الوسطي ففي الهامش الأول »يمكن لنا تبادل الشخصيات باستـمرار داخل لوحات (ادموند بلير ليتون) عن القرون الوسطي» ص24.
وفي الهامش الثاني:»كأن الجلسة تحدث عن هامش المعركة الكبري التي دارت بين (الاثنيين) والنساء المحاربات (الأمازون) ذلك لانني اضطررت لمناقشته في آراء (اريك فروم) حول التأمل الفكري، والشعور ووظيفة المجتـمع في زرع الوهم داخل الذهن لحجب الحقيقة» ص26.
في الهامش الرابع: » يقرأ أمامي فقرة قصيرة عن العلاقة بين روما القديمة والقوط الغربيين في أسبانيا، استـمع إليه متأكدا من أنّ الـ(هو) لديه قد بلغ أقصي درجات الرّغبة في قتل (الأنا) و(الأنا العليا) وتحنيطها» ص49.
في الهامش الحادي عشر: »أنا فلاح العصور الوسطي الذي يعيش في كوخ فقير، وينام علي كيس مملوء بالقش، ويأكل الخبز الأسمر، والبيض والدواجن والخضروات، لا يشتري اللحم إلا نادرا، ويستـمني كل ليلة علي نساء السيد صاحب الأرض» ص137.
في الهامش الثاني عشر:» يتخيل حكايات بين الاستقراطيين، والكهنوت والعمال في العصور الوسطي، مستدعيا (حكايات كانتربري) و (جفري تشوسر) يقول: انه لا تكفي رواية واحدة ولا أكثر من رواية لتناول القرون الوسطي» ص46.
ويبقي السؤال.. هل العودة إلي العصور الوسطي خدم نصيّة الرواية؟ هل كانت إحالات إسقاط تاريخي أو لغوي أو اجتـماعي؟
في الحقيقة نجدها مجرد إضاءات عادية أشارت إلي:
أ ـ أسلوب التناول المعتـمد علي الفلسفة والغموض في خفايا النفس وهي تشتغل علي بدائل التـمني التي لها علاقة بالإبداع والفن والعمل.
ب ـ عتبات تناولية أفضت إلي المستوي السردي الثاني الذي شكل محور الرواية والدخول في أعماق الراوي وهو يعيش عُقد الأم، الجنس، المرأة، الأثداء وبالتالي مزج الأدب بالسياسة وبالفن»أنا أرفض وبشدة مصطلح (الفن المسيحي في القرون الوسطي فيه من التضليل ما يفوق الإهمال الذي لاقاه تحليل (هيجل) عن الديالكتيك في القُبلة (اختلاط الأفكار والرغبات المتناقضة في التقاء شفاه الرجل بشفاه المرأة )» ص50
لذلك كانت المرأة بجسدها هاجسه الأساسي الذي نما وارتفع مع السيدة (ن) الشاعرة المتفوقة ذات القوة التي انفردت بها شخصيتها، ابتدأت العلاقة بلكمة كتبتها تعلق من خلالها علي نص شعري كتبه قالت فيه(لسّه فيه شعر وحش كده) ص51 »شعرت بغضب هائل يا دكتور لأنني اعتبرته - وقتها - تعليقا مهينا - رغم كونه تافها ولا علاقة له بالشعر، ولا بالكتابة، ولا بأي شئ سوي بخراء البيض» ص21. لتتحول الحكاية إلي عقدة نفسية تُضاف إلي عقده علي الرغم من أنه عرفها عن قرب والتقي بها أكثر من مرة إلا انه لم يستطع أن ينام معها كما فعل مع كثيرات لتبقي عقدة متحفزة في داخله، ومع ذلك لم تكن قصصه مع (نون)  محور الرواية ومتنها الرئيس إنما إضافة نفسية اشتغلت علي استفزاز الراوي المبدع (الذكر) القوي النشيط الذي لم يستطع النوم معها ليتشظي السرد بين المستويين السرديين يبتعدان زمنيا ويلتقيان إبداعيا في نسقين اثنين هما:
في النسق الأول ضم مجموعات من الإحالات التي لها علاقة بتواتر النفس وانفعالها وشدة شبقها الجنسي ومن ذلك:
1
ـ هدم الكتابة والكتاب الذين يزيدون جرعة البذاءة في كتاباتهم ويخقونها بناءً علي المزاج الحاضر لوقاحتي ص102.
هذه الوقاحة التي اعترف بها ربما تجاوزت حدود اللياقة الأدبية مما أدي إلي:
2
ـ ذلك التوصيف الجنسي المقزز بحجة أننا نعيش »مراحل الفمية والشرجية والقضيبية، والكمون والتناسلية بتجاوز وتلازم وتداخل، نحن نزاوج التثبيت والنكوص، وتحول الطوّر التطور الجنسي إلي لعبة بينج بونج» ص128.
وفي الصفحة 174 نقرأ حول الموضوع الانتقادي نفسه الذي دخل إليه في معبر السينـما ودورها لاسيـما من هزيمته 67 وذلك من خلال الفيلم المعروف (أنف وثلاث عيون)، الذي أنتج عام 1972، وهي الفترة التي كان علي السينـما المصرية أن تولي جانبا من اهتـمامها بالخطاب السائد عن الانحياز الأخلاقي الناجم عن اليأس بعد هزيمة 67 وموت عبد الناصر، وعن الانتـماءات الوطنية، والقومية التي تمت خيانتها في ظل فوضي اقتصادية، ومراعاة سياسية، وبداية صعود طبقة جديدة من البورجوازيين المتحالفين مع بيروقراطية القطاع العام ص275، وأيا كانت الدوافع لاختيار ذلك المستوي السردي الفاضح والمضلل فانه لم يخدم الرواية إلا في إظهار نرجسية الراوي التي هي نرجسية المؤلف نفسه والتي دفعته لان يكون شريكا في النص نفسه، في الصفحة 176 نقرأ:»خلال مناقشتي لروايتي (خلق الموتي) بنادي أدب المنصورة، وتعليقا علي احدي المداخلات، رفض (د/يسري عبد الله)، وضع اسمي في قائمة واحدة مع الأسماء الساردة القاهرية المعروفة - لنا - مؤكدا أنه بعد قراءته للرواية ومجموعتي القصصيّة (قبل القيامة بقليل) يعتبرني متجاوزا لهم.هذه الأنا النرجسية الإبداعية تداخلت بشكل قسري في نهاية الرواية التي خصص معظمها للحديث عن نفسه بلغة الأنا »أريد أن يقال عن هذه الرواية (لقد وقف ممدوح رزق عاريا في ميدان مزدحم، ثم أطلق من فوّهة عضوه العفاريت كي يعذبها ـ للحظات ـ بالخروج منه، قبل أن ترتد إلي داخله ثانية» ص196.بالطبع كل من يقرأ الرواية سيقول ذلك وأكثر في ذلك فهو أمام نص روائي مختلف جدا حدثوي إلي أبعد حدود الحداثة، تقني إلي أرفع درجات التقنية.
نصٌ إبداعي جرئ تماهي فيه الإبداعي السردي المتقن مع النرجسي والجنسي والفوقي والدوني في الوقت نفسه، مقدما المؤلف من خلاله أنموذجا فنيا علي قدرة الرواية علي الاحتضان والتجاوز لخلق سمة فنية خاصة بها وبمبدعها الذكي الذي يتحدث الناس عنه كما يقول في روايته. أنه »الناقد الذي يتحدثون دائما عن براعته في الحفر داخل النصوص» ص197، وبالفعل كان حفارا سرديا بارعا في نصيّة هذه الرواية التي تحتاج إلي أكثر من قراءة ومن خلال أكثر من مستوي نقدي حتي تبدي إحالات إبداعها علي المستويين الشكلاني والمضموني.
فرج مجاهد عبد الوهاب
جريدة (أخبار الأدب) ـ 8 / 7 / 2017

الأربعاء، 5 يوليو 2017

ممدوح رزق: "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" سخرية من فكرة تغيير العالم

القاهرة ـ آية ياسر
ما الذي قصدته بعنوان  مجموعتك القصصية الجديدة (هفوات صغيرة لمغيِّر العالم)؟
المقصود بعنوان المجموعة هو السخرية من فكرة تغيير العالم، ومن المحاولات التي تقصد تغييره، وكذلك من المبررات التي تدعي أنها تقف وراء الفشل في تغييره.
كتبت قصص المجموعة الـ31 على مدار 3 سنوات .. فما الخيط الدرامي الرابط بينها؟ وما هو المحور الذي تدور حوله؟
لا يوجد خيط درامي محدد يربط بين القصص، فلكل قصة طبيعة مختلفة، وإن كانت تتقارب في انتمائها إلى مرحلة الدنو من سن الأربعين ثم بلوغه، وهو ما يعني ـ من ضمن ما يعني ـ التفكير في العُمر كحصيلة مرعبة من الأخطاء التي تراكمت بصواب مثالي، وأيضًا في الكيفية التي حاولت الكتابة من خلالها طوال الماضي أن تكون مقاومة لليأس الناجم عن الخضوع لسلطة الخطأ والصواب.
حصلت على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي .. أيهم الأقرب إلى  قلبك؟
جائزة المركز الأول في الشعر من ملتقى مدد عن نص (نار هادئة) عام 2007، وكذلك أول جائزة حصلت عليها وكانت المركز الأول في القصة القصيرة على مستوى محافظة الدقهلية وكان عمري وقتها 13 سنة.
ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية .. ما الذي أضافته الترجمة لإبداعك الأدبي؟
هذه الترجمات كانت تقديرًا مميزًا من المترجمين لي، أرادوا من خلالها التعبير عن محبتهم لنصوصي، وهو أمر أعتز به للغاية، وهناك مشروع لإصدار مختارات من قصصي القصيرة بالإنجليزية يتم الإعداد له حاليًا.
 يحتوي كتابك النقدي الجديد "هل تؤمن بالأشباح" على قراءات في أعمال أشهر الأدباء العالميين.. ما السمة التي جمعت بينهم من خلالها في كتابك؟
لكل كاتب من هؤلاء عالمه الخاص، وبالتأكيد هناك تشابهات عديدة، لعل أبرزها هو الإخلاص للفرد المنعزل داخل اللحظة الصغيرة التي تكشف عن جحيمه الشخصي، وهو ما عبّر عنه (فرانك أوكونور) في كتابه (الصوت المنفرد) كتعريف للقصة القصيرة بعبارة: (الوعي الحاد باستيحاش الإنسان).
ما الذي دفعك لجمع مقالاتك الخاصة بالباب الأسبوعي (كلاسيكيات القصة القصيرة) في كتاب؟
لأنني أردت ـ مثلما ذكرت في مقدمة الكتاب ـ أن يكون تتويجًا منفردًا للفترة التي قضيتها في اختيار قصة قصيرة كل أسبوع من الكلاسيكيات، والكتابة عنها لموقع (الكتابة) الثقافي.
ماذا عن روايتك الجديدة "إثر حادث أليم"؟
لا يمكنني بالطبع إعطاء وصف مختزل لها، وإن كانت على المستوى الشكلي تدور عن ابن ينشر مذكرات أبيه الذي تعرّض لحادث أليم، قبل عن يُعلن هذا الأب عن نفسه، وعن علاقة ابنه بهذه المذكرات في نهاية الرواية.
لماذا استخدمت تقنيتي «ما وراء السرد» واللعب بالأزمنة في روايتك "خلق الموتى"؟
لأن الرواية تقوم على هذا التجاور والتقاطع بين الأزمنة، ومن ضمن المهام التي تحققها تقنية (ماوراء السرد) هو جعل القارئ شريكًا في لعبة تبادل الأدوار بين شخصيات الرواية، أي فاعلا أصليًا في تكوين علاقات هذه الشخصيات بالمسارات المتغيرة لحركة الزمن.
عصفت بكثير من التابوهات الجنسية والدينية في روايتك سوبر ماريو .. فهل تعمدت ذلك؟
بالتأكيد لا؛ فالرواية تتناول في جانب أساسي منها الحياة العائلية والمهنية لبلطجي في صورته المألوفة، وكان من الضروري ـ بديهيًا ـ الالتزام بالحقيقة كما أعرفها عن هذه الشخصية وعلاقاتها، كما أن هذا الالتزام هو الدافع الجوهري الذي خلقت الرواية من خلاله استفهاماتها، ومحاكماتها للحياة والموت، ولكل معرفة تقدم نفسها كحكمة للوجود.
في كتابك "السيء في الأمر" لماذا تبدو غير متحيز لأىٍ من الأنواع الأدبية؟
أردت أن أجرّب في هذا الكتاب سبيلا لتحريض القارئ على التحرر من سلطة التصنيف، أي تضليل ما يمكن اعتباره مبادئ جمالية للقصة والشعر، ولهذا اخترت كلمة (نصوص) كتعريف له، بالإضافة لكتاب آخر بعنوان (بعد كل إغماءة ناقصة) .. كما سبق وذكرت قبل ذلك فهذا الوصف كان وقتها بمثابة حيلة لمواجهة ورطة الرفض المسبق الشكلي من القارئ لما لا يتوافق مع انحيازاته القصصية والشعرية، أي أنه كان سعيًا لتفادي المأساة التي أخبرنا عنها (لويس دوديك): (وبينما كنت أحتضر/ أنزف حتى الموت / كانوا يقولون / "لكن هذه قصيدة نثر / هذا ليس شعرا ، هذا نثر"  / وهكذا مت أنا).
ما هي ملابسات نشر كتابك "النمو بطريقة طبيعية" وفوزه بمسابقة إحدى دور النشر؟
(النمو بطريقة طبيعية) هو اسم القصة التي فازت بهذه المسابقة، وتم اختياره كعنوان للمجموعة القصصية التي اشتملت على جميع الأعمال الفائزة، وهذه القصة من ضمن نصوصي التي تُرجمت للفرنسية.
تمتاز لغة كتابك "بعد صراع طويل مع المرض" بالجرأة الشديدة في المعالجة الجنسية داخل النص .. كيف حافظت على جمال اللغة بعيدًا عن  الإسفاف والفجاجة؟
ليس هناك تعمّد في هذا، ولست مشغولا بالحفاظ على جمال اللغة أو الابتعاد عن ما يُسمى بالإسفاف والفجاجة .. أنا أكتب اللغة الجديرة بالنص في لحظة معينة، دون حذر تجاه أي أوهام كلية أو ثوابت مطلقة تضع الجمال كحالة مناقضة للإسفاف والفجاجة.
ماذا عن ملابسات ترشيح روايتك "الفشل فى النوم مع السيدة نون"  للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" ؟
تم اختيار هذه الرواية من ضمن ترشيحات دار (الحضارة) للجائزة، وهو شيء أسعدني، ولكنني بالطبع لم أنتظر ما يتجاوز ذلك، فتلك النوعية التقليدية من الجوائز لا يمكنها مجاراة روايات كهذه.
كيف تقييم المشهد الأدبي المصري والعربي؟
لا أعتبر نفسي جزءً من المشهد الأدبي المصري والعربي إلا شكليًا؛ فأنا منفصل تمامًا عن تحيزاته وحساباته، وعن شبكات المصالح التي تديرها عصاباته. اسمي لا يقترن إلا بكتابتي فقط، وليس بصداقات وعلاقات وامتيازات وظيفية، وهو اسم لم يُصنع خارج المركز القاهري فحسب، وإنما رغمًا عنه أيضًا.
ماذا عن مشاريعك الأدبية المستقبلية؟
رواية (إثر حادث أليم) التي ستصدر قريبًا عن الهيئة العامة للكتاب، وكتاب (النقد الإيروتيكي) بالإضافة إلى مشروع نقدي آخر أعد له منذ فترة طويلة عن (جورج باتاي).
صحيفة (السياسة) الكويتية ـ 4 / 7 / 2017