السبت، 1 يوليو 2017

حائط‮ ‬غاندي‮: ‬مجادلة الغدر

هناك مجموعات قصصية تتجاوز كونها قصصا قصيرة بين دفتي كتاب؛ فهي إلي جانب هذا تمثل ما يشبه شروحًا عملية للفن القصصي.. نماذج تأملية في ما يمكن اعتباره ملامحًا جوهرية لتاريخه: اقتناص اللحظة السحرية الصغيرة التي توقف الزمن، وتبقيه عاريًا أمام مرآة متصدعة بحجم المطلق.. التكثيف القائم علي التوازانات الدقيقة بين فخ المُعطَي، وغواية المحتجب.. النهايات التنبيهية أو تنويعات الصدمة التي تمنح جسد المفارقة حياة من الشكوك والتوترات الملهمة.. تُعد مجموعة (حائط غاندي) الصادرة حديثًا عن دار (كيان) واحدة من هذه المجموعات؛ فإلي جانب تأكيدها لـ (رسوخ الصنعة القصصية) عند عزة رشاد، والمتمثل في الوفاء المحنّك لهذه الملامح الجوهرية في تاريخ القصة القصيرة؛ هي أيضًا تثبت قدرتها علي توظيف هذه الملامح ليس كأنماط بل كحيَل لإنتاج حالات متباينة من الابتكارات المدهشة.
هناك لعبة تبدو أثيرة عند عزة رشاد، تتمثل في إعادة تجسيد الماضي علي نحو كاشف لمراوغات القهر التي تحكم علاقاته، وبكيفية تتحوّل معها مشاهده إلي حقول متغيرة لاستفهامات القدر.. لا يتوقف هذا التجسيد عند بعث الذاكرة في صور جديدة كطموح لترويض الطبيعة العدائية للماضي داخل الوعي، أو استعماله في خلق حياة معدّلة عبر تصحيح جذورها المفترضة، وإنما أيضًا لجعل هذه الذاكرة ممرًا لتجاور الاحتمالات المشتبكة مع الغموض الغيبي: التبادل.. المحو.. اليأس.. الاستدراك.. الهروب.. كل هذه الاحتمالات محاصرة بعلامات الإدراك الذاتي بأن العوامل التي كان يمكن للماضي من خلالها أن يكون مختلفًا ستظل لغزًا حصينًا، وأن الموت يكمن بضراوة في أعماق هذا اللغز.
في قصة (رسائل بظهر الغيب) لا تُعيد عزة رشاد البشر الذين كانوا يتبادلون الرسائل بواسطة بوسطجي يحيي حقي إلي الحياة، أو تكشف عن استمرار وجودهم في الحاضر عبر شخصيات أخري تشير بالضرورة إلي أن لهذا البوسطجي حضور (غيبي) متنقل فحسب، وإنما تخلق كذلك علاقات جديدة هي ربما الحكايات الأصلية التي كان يجدر بها أن تتكوّن بين البشر الذين كان البوسطجي يتجوّل حاملا الرسائل بينهم في الماضي، وفي نفس الوقت تحوّل هذه الحكايات أو الخطابات (الحقيقية) إلي وثائق لأزمنة، تتجاوز امتداداتها عبر التاريخ نحو الدوافع المجهولة للإرادة المختبئة فيما وراء الحياة والموت..فالشابة العشرينية التي تشتري حقيبة بيضاء، وتتنقل بين زبائن المتعة، والأم الأربعينية التي تبيع المناديل الورقية، وابنتها أم ضفيرتين طويلتين، والشاب الذي أعادت إليه حبيبته أشعاره وخطابات غرامه، والشيخ صاحب نوايا التوبة الزائفة، وحفيده الصغير هم تجسيدات مختلفة لبعضهم،كائنات في بداية الطريق، تواجه التحولات المتدرجة لملامحها قبل الخطوة الأخيرة، فضلا عن أنهم تمثّلات لأرواح أسلافهم الذين ربما يتبادولون خطابًا واحدًا بتفاصيل مغايرة، يزاوجون بين الحضور والغياب داخل أجسادهم، ويتشاركون دون إفصاح في محاولة الطمس والتعديل والتفاوض مع الغيب للحصول علي بدايات أخري.. لكنهم وبينما يحلمون ويجاهدون لحفر أثر بديل يجهزون لفنائهم أيضًا، كأن هذا الفناء أمنية غير مستوعبة.. كأن كافة الأحلام والمجاهدات هي في حقيقتها إعدادات متفاوتة التوقيت للتبدد..فالقنبلة منزلية الصنع التي حوّلت هذه الشخصيات إلي أشلاء ستكون بمثابة قرار (غيبي) بانعدام الفرصة بعد وصول كل شخصية ـ من خلال هذا التواطؤ الضمني داخل مشهد المنتزه ـ إلي حافة وجودها فيما بين الظلام وفقدان الخلاص.. ربما كتب الأسلاف بواسطة أشلاء هؤلاء الذين مروا في الحاضر رسائلهم الأخيرة كخلاصة لم يسمح الماضي لها بالتحقق..لنفكر جيدًا في أن من تسلل ووضع بين صفوف المقاعد الخشبية (حقيبة نيرون) التي تحوي القنبلة ـ وتخطيًا للإدانة الأخلاقية التقليدية المقترنة برواية يحيي حقي هو البوسطجي نفسه كفعل معادل لاشتباك الحكايات وتداخل المصائر في الرسائل التي كان يقرأها للتسلية أي إعادته لتشكيل هذه القصص كما تستلزم آلامه؛ فالبوسطجي لم يكن بوسعه تغيير الأقدار لو ترك الخطابات مغلقة، كما أن اختلاط الأسرار بعد استعماله لهذه الرسائل لن يعطل فناء أصحابها، فقط سيكون عندئذ شاهدًا علي الاستفهامات العالقة فيما بين الذاكرة وموتها، بين ذاكرته نفسها وموت الآخرين؛ فالتسلية بقراءة الخطابات أي إعادة تنظيم سياقاتها هي رغبة في الثأر، في مطاردة تحرر يقع خارج العالم، ولذلك يبدو كأنه وزّع هذا الانتقام في أشلاء كل من كانوا يحملون نفس الرغبة، وكانوا يظنون ـ مثله ـ في ذات الوقت أنهم قادرين علي حيازة هذه البدايات خصوصًا عندما ينجو أحدهم من الخطر المفاجئ لسيارة مسرعة مثلا، أو يعتقد أن الحمامة التي طيّرها غاندي ستبلغ هدفًا صحيحًا، أو يظن أن الشغف بالغرام في رسائل (جوته) يناقض عدم الإيمان به.. هنا يمكن لكل منا أن يشعر حينما يتحدث عن نفسه أو بالأحري عندما يكتب خطابه إلي آخر بأن الغيب يمرر رسائله من خلال أجسادنا وعلاقاتنا.. القهر المتبادل، والتضامن في القتل.
(اقترب الولد يلملم بقايا وجبته المُغبرة ويجري، بينما الشيخ يشنهف بدموعه كلمات عن ندمه لأنه لم يكف عن خداع الله. وراح يهز الحقيبة ليتخلص مما تبقي فيها، ويدعو الله أن يتوقف عن دعمه حتي لا تثقل كفته الداكنة، توقف الشاب أبو نظارات عن تمزيق رسائله ضاربًا كفًا بكف، ثم نهض واقترب من الشيخ يربت كتفيه بحنان، فالتقت عيناه في تلك اللحظة بعيني الشابة الممسكة بحقيبتها البيضاء).
ماذا لو لم يحدث انفجار في المنتزه؟، ماذا لو تعرّفت الشابة ذات الحقيبة البيضاء علي الشاب الذي يمزق رسائل غرامه السابق؟، ماذا لو كبرت البنت أم ضفيريتن طويلتين، وحفيد الجد صاحب نوايا التوبة الزائفة؟، ماذا لو استمرت أم البنت، وجد الولد في الحياة؟..إن البوسطجي يعيش داخل كل شخصية من تلك التي تركت بقايا أشيائها عند الانفجار؛ فهو حينما امتلك الأسرار أصبح متوحدًا بكينونة الذين يحملونها، أما الانفجار نفسه فليس ناتجًا عن قنبلة، وإنما هو حدث متواصل منذ البداية، وداخل الخطوط التي تربط بين كائن وآخر.. نبوءة تمهيدية تتم في كل لحظة علي مدار العمر مع اشتباك الحكايات وتداخل المصائر داخل كل شخصية تتصور أنها لا تزال علي قيد الحياة، وتخبئ وردًا لن يُسمع تكسيره،وستدهسه الأقدام حينما تتلاشي كدليل علي أنها كانت مجرد رسول ضئيل للغيب مثل أي بوسطجي آخر.
سنجد اللعبة تتكرر بأسلوب آخر، وبشكل واضح جدًا في قصة (قطار)، من خلال إعادة إخراج المشاهد الظالمة للذاكرة علي نحو تعويضي، تتوقف فيه المعالجة عن أن تكون تصحيحًا لتاريخ ذات أنثوية واحدة بل استدراكًا لرحلة العالم نفسه بدفعه للوراء.. سنكتشف هذه اللعبة أيضًا في قصة (حكاية لوحة) حيث يتم نوع من التناسخ الواقعي مع شخصيات لوحة (العشاء الأخير) فيعاد استخدام (القتل) لأولئك الذين يجسدون (الإرث)بوصفه غدر من النوايا الحسنة..كأن هذه اللوحة هي تمثيل آخر لمشهد المنتزه، وبالضرورة للصور القائمة داخل كافة العناصر الإنسانية التي تواطأت في تشييده..يُعاد أيضًا وفقًا لهذا التجسيد تكوين الحضور الأصلي أي لوحة (العشاء الأخير) نفسها، والتي تُساير تأويلات معينة لما يُفترض أنها رسائل ليوناردو دافنشي السرية في هذه اللوحة.
(وفي الجانب الآخر من اللوحة يظهر أبي، أمي، والجد الهَرِم الذي ينهض بحراسة الحقول، وبوضع الإشارات علي الطريق المُشجر بالسرو. أنا التلميذ الخائن.. كل الذين لعقتهم بصقتهم. وزّعت عليهم زعيشي وملحيس ثم غدرت بهم).
هذا التمثيل الرمزي يثبّت الفكرة العائلية للبشر باعتبارهم كيانات لأسطورة واحدة، يحمل كل منها مسيحًا خاصًا يحاول الانفلات من الأبوة أو تحديدًا من سلطة الخلاص في موضوع الأبوة، كأن الإنقاذ الفعلي يشترط التجرد من أوهامها، حتي لو كان ذلك يعني أيضًا أن يكون لكل منا ـ وهو يخوض هذه المعركة ـ نصيب من السم ـ غير المقدس ـ الذي سيستخدمه في هذا القتل.
تبدو قصص المجموعة كأنها تتحرك فوق الرمال الملغمة كالتي في قصة (خوذة روميل)، بين تعميق الأثر الخفيف، ومحوه أو استبداله بخطوات أخري.. محاولة لتحسس الفراغات التي تخلفها الأشياء الملغزة بعد بترها.. كأن في هذا استشراف أيضًا لما سيكون عليه الموت تفاديًا للمزيد من الغدر.
(أتكون هي الأسلاك الشائكة! أتجمد مكاني، هل أنا داخل المربع المحظور؟ أخشي إن حركت قدمي ينفجر لغم، قد تنفجر ذراعي، قدمي، تصبح نتف لحم مشوي، أسيتركونها للجوارح؟ أسيستخدومونها كوقود؟).
ربما هي الطريقة التي يفهم بواسطتها الغيب حاجة أولئك الحفاة الذين يتراكمون عبر الزمن لعناق استثنائي لم يحدث قط كما في قصة (عراء) مثلا..لكن المجموعة كذلك تبدو كخريطة للسرطان المتكرر في أكثر من قصة.. مساراته المتعددة داخل السرد، والتي ينجح هذا السرطان من خلالها في جعل الغرباء أكثر قربًا مما لو كانوا يعرفون بعضهم حقيقة؛ إذ يبدون أحيانًا في وضع الاستعداد لتحقيق حلم ما كما في قصة (السِن الذهبية) علي سبيل المثال ثم يُكشف عن طبيعة هذا الحلم بوصفه تدبير للماضي، حينئذ يتحوّل إلي غريزة للإنتقام..هناك أقنعة مختلفة لهذا التدبير تتخطي صورها الأبوية والذكورية والسياسية، لكننا لا يجب أن نخطئ في رصد هذا الإلحاح علي إعادة الميلاد.. النبات الذي ينمو بعد فناء ما كان أصلا له.. النبات الذي تسكنه الأرواح أو الدماء أو دموع الشعر المتساقط بسبب السرطان حيث سيختبر هذا النضال مع كل ما يمكن أن يطرحه من حيوات جديدة نفس الأشكال الثابتة للقهر، والتي لن يخدشها أي اقتراب للفهم بأن رغبة الثأر في حقيقتها نبرة توسل لكابوس أزلي.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 1 / 7 / 2017