الأحد، 16 يوليو 2017

البصيرة القصصية والحشو الروائي


يمكن لناقد تقليدي خصوصًا من أولئك الذين بُنيت سمعتهم على التوزيع الانتقامي للأحكام الإلهية، يمكن أن يتعامل ودون تردد مع ما يبدو له أنها صفحات زائدة في رواية ما بوصفها ثرثرة مُعيبة تؤخذ على كاتبها .. في السنوات الماضية قرأت وكتبت عن كثير من الروايات سواء عربية أو مترجمة، معظمها سيفقد نصف حجمه تقريبًا لو أعدت كتابته، وهذا أمر ليس له علاقة بإعجابي المؤكد بهذه الروايات .. الصفحات التي بدت زائدة بالنسبة لي في كل رواية من هذه لم تكن بالوصف السهل والساذج مجرد (حشو) مسيء للعمل، وإنما مادة روائية تقع دائمًا في نطاق الاحتمال بأن هناك قارئ آخر في حاجة إليها .. هذا القارئ الآخر ليس فردًا بل ممثلا لكل من يشابهه أو يتوافق معه في هذا الاحتياج، فضلا عن أنه كذلك القارئ الوحيد الذي قد لا يشاركه أحد في ضرورة وجود هذه الصفحات، ولكنه يستحق ـ باعتباره مجردًا من حصانة الآلهة ـ أن يحصل على هذه المادة الروائية، وأقصد بهذا القارئ الوحيد الكاتب نفسه، الذي كان لديه يقين ما في لحظة معينة بأن وجوده في العالم يتطلب هذه الصفحات داخل الرواية حتى لو تبدّل موقفه من هذه الحتمية في لحظة أخرى.
أتذكر إحدى المفارقات الطريفة التي حدثت في التسعينيات حينما اكتشفت أن النسخة الأولى التي حصلت عليها من رواية (الصقّار) لسمير غريب علي، ممتلئة بالصفحات الخالية نتيجة خطأ في الطباعة، ولكن هذا الفراغ المتناثر لم يعطّل استمتاعي بالرواية، بل واعتبارها واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها في حياتي .. بعد مصادرة الرواية تمكنت من الحصول على نسخة أخرى كاملة، تحتوي على كل ما كان مفقودًا، ومع ذلك ظلت النسخة الأولى ذات الصفحات الفارغة هي الأجمل بالنسبة لي.
في إحدى شهاداتي السابقة عن الكتابة كتبت هذه السطور:
(إن كل ما أكتبه هو قصة قصيرة .. في كل رواية من رواياتي الثلاث كنت أجرّب واكتشف كيف يمكن لقصة قصيرة أن تكتب رواية .. لا أتحدث عن توسيع الحدود الشكلية لمنطقة كتابة صغيرة أو استثمارها للارتفاع بطوابق بناء شاهق، وإنما أتحدث عن استخدام البصيرة المقتنِصة والإيقاع اللعوب المتوتر للقصة القصيرة في كتابة رواية .. أن تنسج هذياناً مقتضباً من اللحظات الشاحبة والمشاهد المخبوءة والأحداث الهامشية التي تحافظ فيها القصة القصيرة على طبيعتها المنزوية الساحرة، التي تخلق العالم من ثقب ضئيل مهما زادت الصفحات .. ما أقوله الآن شخصي جداً، أي أنه خبرة تبقى حقيقية حتى لو كان من العسير أن يدركها غيري .. يمكن كختام لهذه النقطة القول أنني في تجاربي الروائية كنت أبتعد بتلقائية خالصة عن الحشو الروائي الذي ذكر "بورخيس" أنه مصدر الإحساس بالملل رغم أنه قد يكون جزءًا جوهريًا من الرواية).
هذه السطور يمكنها أن تلخص أفكارًا كثيرة، منها أن بصيرة القصة القصيرة التي كتبت رواياتي بها لا تتخذ وضعية عدائية تجاه ما يعتبره الآخرون (حشوًا) لأن ما يبدو كذلك ـ مثلما وصفه بورخيس ـ قد يكون جزءًا جوهريًا من الرواية .. أن السخرية من أي معيار يدعي الشمولية لتحديد المادة الروائية الزائدة في كل عمل هو جانب أصيل من حرية القراءة .. هناك من اعتقد مثلا أنني أنهيت روايتي (خلق الموتى) مبكرًا، وأنه كان
يجب مواصلة التشييد فوق الدعائم التي أرسيتها عبر صفحاتها القليلة .. لم أعتبر هؤلاء مخطئين، بل رأيت فقط أنهم كانوا في احتياج لهذا الإشباع البنائي، ولذلك كانوا يتمنون تحقيقه، وأن هذه الأمنية ليست سوى شيء آخر يختلف عما أردته أنا، وهي أن تُقرأ الرواية على أساس هذا الاقتضاب المراوغ، الذي لا يُراكم معطيات مهما كان غموضها، بل الذي يمنح الخيال أقصى ما يمكن من الظلام المناسب للمرح، أي أن تُقرأ الرواية كقصة قصيرة.
جريدة (القصة) / العدد الثامن ـ يوليو 2017