الاثنين، 27 يونيو 2016

خيال الواقع

لاشك أن أسئلة التوثيق من الضرورات المحتملة عند التفكير في الرواية اليوم، بل وعند التأمل في تاريخها أيضاً .. يمكن للرواية أن تكون وثيقة تاريخية واجتماعية .. هذا صحيح، ولكن لعل التساؤل الجوهري هنا: ما الذي يعنيه التوثيق بالنسبة للرواية؟ .. هناك حقيقة تبدو بديهية بالنسبة لي الآن: يمتلك الواقع في المجتمعات العربية (فناً) أكثر مما يوجد في الروايات التي تحاول توثيقه .. يمكنك أن تعطي مرادفات عديدة لكلمة (الفن) في العبارة السابقة ولن تكون على خطأ: الانتهاك .. الغرابة .. الجموح .. في المقابل يظل معظم كتّاب الرواية مسالمين أمام هذا الواقع .. محكومين بالنمطية، وخاضعين لسلطة المقدس الديني، وللقيم الأخلاقية التقليدية .. ليس هذا وحسب، بل ويقف الخطاب النقدي العربي ـ والثقافي بشكل عام ـ في ظهر تلك الهيمنة البائسة كحماية تنظيرية، وكداعم محفّز ومرسخ لوجودها .. الواقع العربي أكثر خيالاً إذن من رواياته .. لم تعد الرواية العربية في تصوري نسخة من حياة مجتمعاتها، وهو ما كان يُنظر إليه كإدانة باعتبار أن الكتابة لا يجب أن تكون مجرد تكرار تسجيلي، أو ممر أعمى لانتقال المشاهد والأحداث اليومية من الواقع إلى صفحات الكتب، ولا ينبغي أن تكون إعادة صياغة لما يُنشر في الصحف من أخبار وحوادث ومشاكل البشر .. الرواية العربية لم تعد كذلك بل تأخرت بشكل أعنف مما يمكن تقديره عن الحياة التي كان التطابق معها يجردها عند البعض من الصفة الروائية .. إذا لم تكن هناك وصفة حاسمة أو منهج ثابت لجعل الرواية وثيقة تاريخية واجتماعية ـ وهذا أمر بديهي بالطبع ـ فإنه على جانب آخر توجد خطوات سهلة وتلقائية يمكن للقراء والكتّاب والنقاد ممارستها للترويض والعقاب في مواجهة التجارب الروائية التي يتم تصنيفها كجرائم نتيجة عدم امتثالها لليقينيات السائدة عن (التوثيق الروائي): الاعتداء اللفظي .. التحريض .. المحاكمات .. السجن .. التشفي بعد السجن .. لابد أن الكاتب المصري (أحمد ناجي) هو النموذج الأقوى والمثال الأبرز لما أتحدث عنه .. (أحمد ناجي) الذي حُكم عليه بالسجن سنتين بتهمة (خدش الحياء العام) بعد نشر فصل من روايته (استخدام الحياة)، والتي يمكن أن تُعد وثيقة تاريخية واجتماعية بجدارة .. نعم، يمكن للرواية أن توثّق، ولكن يجب ـ على الأقل ـ أن تحاول الاقتراب من شجاعة الواقع .. من خياله الذي لا يُحاكَم.
شهادتي ضمن ملف (الرواية تؤرخ بعيداً عن كتب التاريخ) للكاتبة (خلود الفلاح) في صحيفة (العرب).

ممدوح رزق يفوز بجائزة النقد الأدبي في المسابقة المركزية

عن مقاله ("خيانة الأثر" .. قراءة تفكيكية للمجموعة القصصية "زهرة البستان" لـ "فؤاد قنديل") حصل الناقد (ممدوح رزق) على جائزة المقال النقدي بالمسابقة الأدبية المركزية لعام 2015/2016 ..  يُذكر أن (ممدوح رزق) قد أصدر مؤخراً كتابه النقدي ("عتبات المحو" .. مقالات في النقد التطبيقي)، ويستعد لإصدار كتابه الجديد ("النقد الإيروتيكي" .. مدخل تطبيقي لمنهج جديد(.


الخميس، 16 يونيو 2016

حظيرة الأدب العربي

في مقاله عن رواية (الحريم) لـ (حمدي الجزار) كتب (الناقد الكبير الدكتور) (صلاح فضل): (لكن أعتب عليه بشدة طريقته فى وصف أمه عندما علمت بسقوط أبيه مغشياً عليه فى ورشته «كان ثدياها الكبيران اللامعان بماء الغسيل يهتزان بإيقاع متناغم مع هزة فردتى ردفيها» فلا يمكن للصبى أن يتحدث عن أمه بهذه الطريقة، ولو كنت من أبيه وقرأت هذا الوصف لأعدت كىّ أصابعه بحرص هذه المرة كى يتأدب) .. هذا مجرد مثال بسيط.
هناك انسجام منطقي بين الكتابة الأدبية العربية ونقدها .. الكتابة الأدبية العربية كتاريخ من المسالمة والنمطية الخاضعة لسلطة المقدس الديني وللقيم (الأخلاقية) الحاكمة للوعي الجمعي عند الشعوب العربية، والنقد الأدبي كخطاب داعم ومُرسّخ لهذه الهيمنة المعرفية .. (المنجز الأدبي) إذن هو مراكمة وتكاثر من النسخ المروضة الناجمة عن سيطرة الخطاب الاستبدادي العام الفائض باليقينيات القهرية المطلقة عن (الثوابت الأصلية للوجود الإنساني) .. النقاد العرب ـ عدا استثناءات نادرة ـ من الأكاديميين وغيرهم وحتى كتّاب الريفيوهات (الملقبين بالنقاد) بانطباعاتهم المباشرة وقراراتهم غير المكلِفة، المتباهية بعدم بذل الجهد اللازم لاختراق القشور النصية هم قطعان داجنة تتوالد عبر الزمن لخدمة هذه المرجعية الشمولية .. إذا كان معظم ما تنتجه الكتابة الأدبية العربية أقرب إلى تراص المتشابهات الأليفة وتكرار القوالب الآمنة وإعادة صياغة الأفكار والأطر التقليدية حيث لا تصادف انتهاكاً فعلياً أو تمرداً مخرباً يتسم بالغرابة الصادمة حقاً إلا في شكل مفاجآت عسيرة فإن النقاد العرب هم المعينون والمنذورون لحماية سلطة المقدس الديني وقيم الوعي الجمعي داخل هذه الكتابة .. موظفو الأمن، الأوصياء على (اللغة) و(البناء) و(المعنى)، الذين تستقر في أدمغتهم كافة الحقائق المؤكدة، والإجابات الحاسمة، غير القابلة للشك على جميع الأسئلة (الجوهرية): ماهي الكتابة؟ .. من الذي يمكنه أن يكتب؟ .. متى يكتب؟ .. ماذا يكتب؟ .. كيف يكتب؟ .. من الذي لا يمكنه أن يكتب؟ .. ما هو العقاب العادل لعدم الامتثال للشروط والأحكام؟ .. هؤلاء النقاد فضلاً عن دورهم في ترسيخ الهيمنة المعرفية عند القراء الذين تربوا على الطاعة العمياء لبديهيات الثقافة العربية نجحوا بامتياز في تحويل هؤلاء القراء (خاصة مع انفتاح فضاءات التصارع الاجتماعي على الإنترنت) نجحوا في تحويلهم إلى قبائل مُرهبة، يمارسون الترويع ضد بعضهم، وضد الكتّاب، وضد من يحاول منهم أن يكون كاتباً: (الكتابة ليست شيئاً هيّناً) .. (كم كتاباً قرأت حتى تكتب؟) .. (لا تتعجل النشر) .. (لا تفكر في الكتابة ثانية) ..  (ما كتبته لا يمت للإبداع بصلة) .. (هذا ليس شعرا) .. (ما كتبته يفتقد لكل "عناصر" الرواية) .. (المنجز الأدبي) الذي يتسارع في البلدان العربية إذن في (توافق) تام مع النقد الأدبي وهي فضيلة تتجاوز فكرة (الملاحقة) كما أنه ـ أي النقد ـ يجيد استثمار الوجاهة الكامنة في كلمة (العلم)؛ فالناقد الأكاديمي ـ كما سبق وذكرت في مقال سابق ـ يستغل هذه الصفة في تقوية قدرته على الهجوم والإرهاب خصوصاً لو كانت مدعومة بقدر ولو بسيط من التزمت الديني .. الأمر لا يدعو لأي نوع من القلق ففي مقابل كل فرد تعلّم الكتابة وامتلك المال لكي يطبع نتاجاً هناك الكثيرين من مصاصي الدماء في انتظاره.
شهادتي ضمن ملف (مع زيادة الانتاج الأدبي في العالم العربي .. هل تمكن النقد من ملاحقة المنجز الأدبي أم أن النقد حالة فوقية) للكاتب (علي لفتة سعيد) في جريدة (المدى).
http://www.almadapaper.net/ar/newsdetails.aspx?newsid=511640

الأربعاء، 8 يونيو 2016

أن ترى الفراغ

بعد موته لن يتغير الأمر كثيرا .. ستظل تنظر كل ليلة إلى صورته المعلقة على الحائط أمام السرير وتقول لنفسها: كان طيبا ورقيقا، لكنه الآن لم يعد كذلك ...
ما سيتغير فقط أنها لن تظل تقول هذا بسبب توقفه عن احتضانها برومانسيته القديمة؛ بل لأنه أصبح ميتا ...
ربما ستفتقد أيضا إصراه كل ليلة قبل النوم على أنه يسمع صوت دقات ساعة قوية، ورغم أنها كانت تقسم له بأنه لا توجد أي ساعة في الحجرة، وأنها لا تسمع شيئا؛ إلا أنه كان يصر على كلامه حتى تتوقف عن الرد عليه فيصمت ويحاول النوم رغم الصوت الذي لا يعرف من أين يأتي.
جريدة (الأخبار)
30 مايو 2017
اللوحة لـ Rene Magritte

الاثنين، 6 يونيو 2016

جنوب بلا شمال لبوكوفسكي‮:‬ حكايات القاع الثملة

ربما يكون الانطباع الأساسي الذي يطغي بقدرٍ كبير من البداهة أثناء قراءة قصص (تشارلز بوكوفسكي) (1920ـ 1994)، أن صاحب (مكتب البريد)، و(نساء)، و(الحب كلب من الجحيم) يكتب بنفس بالطريقة التي يمكن أن يسرد بواسطتها حكاياته آخر الليل داخل حانة نصف مظلمة لغريب يشاركه الشُرب والضحك، والتواطؤ علي حماقة وشيكة سيمر عنفها عبر جسد امرأة ما .. في مجموعة (جنوب بلا شمال) الصادرة عن (منشورات الجمل)، ترجمة (أماني لازار) لا يكتب (بوكوفسكي) عن الثمالة والشبق والفساد الساحر لـ (قصص الحياة المدفونة)؛ أي أنه لا يستعيد أو يفكر أو يصوّر العالم من مسافة ذاتية فاصلة، بل يكتب وهو سكران، وهائج، ومنتش بالانحطاط .. قصص (بوكوفسكي) لا تقوم علي استرجاع المتعة الكابوسية للماضي، بقدر ما يخلقها التوحد الملعون بين هذه المتعة والجسد الذي تكوّن تاريخه بفضلها .. الاندماج بين اللذة المرعبة للذاكرة، والجسد الناجم عنها، المأخوذ كليا بشهوانيته لحظة الكتابة.
(عندما يعرف زوجان بعضهما جيداً جداً ويتحولان إلي شريكين، فالمشاعر علي الأقل لديها فرصة؛ علي سبيل المثال لنقل إني أعجبت بزوجة مايك، وراقبت مشيتها في الغرفة مدة أشهر، أحب حركاتها التي تجعلني فضولياً، وأتساءل: ماذا يجري مع هذه الحركات؟ رأيتها غضبي وسكري وهادئة. وعندئذ المقايضة، أنت في غرفة النوم معها، أخيراً تعرفها، هناك فرصة لشيء ما حقيقي، بالطبع، مايك مع زوجتك في الغرفة الأخري، حظاً سعيداً يا مايك، أتمني أن تكون عاشقاً جيداً مثلي).
> > >
تتشابه كتابة الثمالة مع الحكي الشفاهي السكران في خاصية جوهرية وهي التأكيد الظاهري علي أن السارد ليس في احتياج لانتقاء ما يتأمله، أو لامتلاك المعني أو الغرض المعرفي الذي تتضمنه بنية القص التي يُشيدها، أو لصياغة الرموز والعلامات التي تنظم الحركة الدلالية داخل السياقات المختلفة للحكي .. تبدو الخطوات السردية المعلنة لـ (تشارلز بوكوفسكي) كأن الثمالة تكفيها وحسب .. الشبق الذي سيتكفل بتوثيق تلك القصص المدفونة؛ فربما يكون هذا التوثيق في حد ذاته هو المتعة الجمالية القصوي التي لا تتطلب ضرورة إضافية .. الثرثرة الفاضحة للفساد الساحر.
(أخيراً، خرجت أول ثلاث أو أربع متعريات ثانية، كان لكل منا متعريته المفضلة ووقعنا في الحب؛ اختار بالدي فتاة نحيلة فرنسية مصابة بالربو لها تغضنات داكنة تحت عينيها، أعجب جيمي بالمرأة النمر "النمرة للدقة"، والذي لفت انتباهه إليها أن نهديها أكبر من نهود الأخريات قطعاً، أما متعريتي فكانت روزالي. كانت لروزالي مؤخرة عريضة تهزها وتغني أغاني مسلية قليلاً، وبينما تمشي وتتعري تتحدث إلي نفسها وتقهقه، كانت الوحيدة التي تستمتع بعملها، أحببت روزالي وفكرت أحياناً بالكتابة إليها وإخبارها عن مدي عظمتها لكن لسبب ما لم أقدم علي ذلك).
إن ما يبدو عدم احتياج لانتقاء ما يتم تأمله هو إثبات لهيمنة الهذيان في الواقع؛ حيث إن كافة مشاهد العالم لا تنتظر عيني سكران حتي تحصل علي جنونها، بل إنها فعلياً ودون استثناء لا تنقصها الغرابة القاسية التي تعطي الهائج الذي يعيشها الانحطاط اللازم للانتشاء .. الهذيان هو المعني إذن، أو الغرض المعرفي لسرد (بوكوفسكي) .. الجنون هو الذي يصوغ الرموز والعلامات مثلما تنظم الغرابة القاسية الحركة الدلالية داخل السياقات المختلفة للحكي.
("هيا قولي لي إنني عظيم" .. "حسناً، أنت عظيم" .. "حسناً، هذا يروقني أكثر"، مشي نحوها وقبلها مجدداً. "أشعر بارتياح كبير، الملاكمة عمل فني، إنها حقا كذلك، تحتاج إلي الشجاعة كي تكون فناناً عظيماً وأيضاً لتكون ملاكماً عظيماً" .. "حسناً يا جاك" .. "حسناً يا جاك، هل هذا كل ما بمقدورك قوله؟ كانت باتي تسعد دائماً عندما أفوز، كنا نُسرّ طوال الليل، ألا يمكنك أن تشاركيني عندما أفعل شيئاً جيداً؟ اللعنة، هل تحبيني أم أنك تحبين الخاسرين من أنصاف المواهب؟). 
يمكن ملاحظة الآثار الشكلية للثمالة في قصص (جنوب بلا شمال) والتي تتطابق بشكل أو بآخر ـ كما سبق وأشرت ـ مع الأداء الشفاهي المتخيل للسرد .. لعل الأثر الأبرز هو الإيقاع السريع للحكي، الذي يشبه التلاحق غير المرتب للقصص التي يمكن أن يرويها (بوكوفسكي) بلسانه عن حياته الخاصة .. لكن هذا الإيقاع ليس مجرد تكنيك أو آلية كتابة وإنما طبيعة أساسية للتوثيق .. يمنح هذا الإيقاع السريع الشعور بأن التوثيق السردي للعالم مؤسس علي غضب ما .. علي نوع من الانتقام .. أن الحكي بهذه الكيفية الثملة هو أكثر ما تتطلبه قصص الحياة المدفونة لو أرادت أن توجد حقاً .. يجب التفكير إذن في أن كافة التوظيفات اللغوية داخل المجموعة تتم لصالح التوثيق: المعاني والرموز والدلالات .. ليس عليك أن تتخيل أو تعرف، بل ينبغي أن تلعب بالرسائل التي يتم تمريرها إليك لتكتشف هذيانك الشخصي، ولتعيد كتابة هذه الرسائل، أي تخلقها من جديد.
(شرع الأمريكي سليم البنية في الكلام. عرفت أنه الفتي السمين الذي جلس في الصف الأول في فصل الكتابة المسرحية، لم أثق قط بهذا النوع من البشر؛ وضيع، وضيع تماماً، بدأ: "يجب إيقاف الخطر الشيوعي، لقد اجتمعنا هنا كي نتخذ خطوات بهذا الاتجاه، سوف نتخذ خطوات قانونية وربما خطوات غير قانونية لفعل هذا"، لا أتذكر الكثير من البقية، لم أهتم بالخطر الشيوعي ولا بالخطر النازي. أردت أن أثمل وأضاجع، أردت وجبة جيدة، أردت أن أغني علي كأس بيرة في حانة قذرة وأدخن سيجاراً. لم أكن واعياً. كنت ساذجاً، كنت أداة).
> > >
من ضمن الآثار الشكلية الأخري للثمالة هي أن قصص (تشارلز بوكوفسكي) تبدأ متخلية عن ذلك اليقين بأنها تبدأ بالفعل ..  تبدو بدايات القصص كأنها استكمال لحديث سابق .. كأنها مواصلة لحوار لم يكن قد اكتمل في لحظة سابقة .. ليست البدايات فقط وإنما النهايات أيضاً .. تنتهي قصص (بوكوفسكي) دون إدراك بأنها تنتهي حقاً .. تنتهي فجأة دون مفارقة أو صدمة أو إضاءة خدعة ما .. تنتهي كأن شيئاً لم يكن، أو علي نحو أدق كأن (بوكوفسكي) يحرضك علي ألا تأخذ حكاياته بنوع من الانتباه الجاد، المرتبط بسلطة شائعة كـ (الإلهام) مثلاً، وإنما بجنون مماثل .. كأنه يخبرك بأنه علي الرغم مما في هذه القصص من غرابة قاسية إلا أنها لا تعدو أكثر من أن تكون فقرات متناثرة من الحياة التقليدية التي يمكن أن تعادل شراستها المألوفة أي شراسة أخري .. أما ما يمكن أن يعد من أكثر السمات الفاتنة في مجموعة (جنوب بلا شمال)، والتي تتوافق دون شك مع الثمالة هو الإحساس بأن كل قصة تستطيع أن تعبر داخل قصة أخري دون إحداث خلل .. يمكن لأي مشهد أو حدث داخل أي قصة أن يقطع مشاهد أو أحداث من قصة أخري قبل أن تسترد مجراها الأصلي دون أن يسبب هذا فجوة أو ارتباكاً.
(عادت إلي السرير معي، وضعت المجلة جانباً، سألتني: "هل تظن أن بإمكاننا أن نفعلها معاً؟". "ماذا تقصدين؟". "أقصد، هل تظن أن بإمكاننا أن نفعلها معاً في أي حين؟". "لا أعرف، هذا ممكن، البداية دائماً هي الأسهل". بعدئذ تناهت إلينا صرخة من الصالون "أو...أوه" قالت داون، قفزت راكضة خارج الغرفة، تبعتها وعندما وصلت إلي هناك كانت تمسك بجورج بين يديها. "أوه، يا إلهي!". "ما الذي حدث؟". "آنا فعلتها به". "ما الذي فعلته؟". "لقد خصته، جورج مخصي").
> > >
في إحدي قصص المجموعة يهزم الراوي (هنري تشيناسكي) (إرنست همنجواي) في مباراة ملاكمة .. كأن (بوكوفسكي) يثبّت تفوقاً يؤمن به علي (همنجواي) يتجاوز مباراة الملاكمة نحو التقنيات الكتابية المشتركة: نقاء اللغة .. حوار المخمورين .. جبل الجليد .. ستار اللامبالاة .. الحياد العاطفي .. كأن (بوكوفسكي) يخبر (همنجواي) بواسطة اللكمات الفتاكة أن نقاء اللغة في قصص (جنوب بلا شمال) أعظم شراً مما في (قطة في المطر) مثلاً، وأن حوار المخمورين في هذه المجموعة أشد مكراً مما في (تلال مثل الفيلة البيضاء)، وأنه لا يوجد ستار شيطاني من اللامبالاة يتخطي ما في هذه الحكايات حتي لو كان (رجل عجوز علي الجسر) .. كأن (بوكوفسكي) يقول لـ (همنجواي) أنه خالق الجحيم الذي تأتي منه كل جبال الجليد.
(تراجعت إلي الخلف وسقط السيد إرنست همنجواي علي وجهه مغميّ عليه. فككت قفازاتي بأسناني وخلعتهم، ثم قفزت من الحلبة وذهبت إلي غرفة ملابسي، أعني غرفة ملابس هيمنجواي).
تبدو مجموعة (جنوب بلا شمال) كأنها يوميات هائلة عن اللامنطق الذي يتجه دائماً لأسفل .. نحو القاع .. دون صعود .. الجوهر الذي يتم الاحتفاء به دون انشغال بإثبات فكرة أو طرح سؤال أو الإيحاء بغاية .. لاشيء سوي هذا العمل الشاق: أن تستمر في التداعي الحر الذي تقوده الثمالة .. التدفق المفتوح علي الملاحظات الهازئة، والتعليقات التي لا يمكن أن يقف عائق أمام سخريتها .. هذا التدافع الذي يُظهر طوال الوقت أنه لا يمكن أن ينتج إلا من روح الصلبة لديها من الجبروت ما يجعلها تعترف وتنتهك وتتهكم وتلهو وتُدنّس كأنها تتنفس .. لكنها الروح التي لا تكمن صلابتها ربما إلا في ذلك التصديق الذي يبدو طافحاً في المجموعة بأنك لابد أن تصل بجسدك إلي الحافة حيث النشوة في صورتها الضارية، وأنك لابد أن تكتب حتي تؤجل سقوطك منها.
أخبار الأدب
04/06/2016