الأحد، 31 ديسمبر 2017

2017 التي لا يمكن توديعها

(لطالما كانت حياتي صراعًا ضد الموت. أُنهي القصة، وأنطلق إلى صندوق البريد، لأضعها هناك، وأقول "حسنًا أيها الموت .. لقد سبقتك" .. أترى؟ .. في كل مرة أكتب فيها قصة قصيرة، أو مقالة، أو قصيدة، أو انتهي من رواية جديدة، أنا متقدم على الموت). راي برادبيري.
يجلس عازف الترومبيت ليشاهد لقاءًا مترجمًا مع إدواردو غاليانو بعنوان (الحياة بلا خوف) .. يرى الضحكة الساخرة لغاليانو في إحدى اللقطات وهو يقول (على الجانب الآخر، هنالك أبناء العاهرة) .. يعيد عازف الترومبيت المشهد ثم يثبّته. هو شخصية متخيلة في رواية نُشرت منذ ست سنوات .. في بداية هذا العام فقد عازف الترومبيت وخلال أقل من شهرين اثنين من عائلته كان يعتبرهما من أقرب البشر إليه .. لم يخبر أحدًا من أصدقائه، ولم يكتب إشارة ولو بسيطة عن ذلك على فيسبوك، حتى أنه كان يبدو من الخارج أمام نفسه وأمام الآخرين كأنه لم يختبر سوى جرح صغير فحسب .. شعر بالعتمة المقبضة للموت في داخله ومن حوله كما لم يجربها من قبل، كأنه لم تعد هناك ذرة وجود للحياة في أي مكان بالعالم، الموت فقط .. كل شيء مهما كان أصبح قابلا للفقدان في أي لحظة وبصورة حتمية أكثر من أي وقت مضى، ولهذا ظل طوال العام الذي افتتحه الموت بتلك القسوة المرعبة، ظل يُسمي كل أمر يتمكن من إنهائه بـ (الغنيمة)، كل حدث جيد يمر به، كل رغبة يحققها، كل أثر يتركه، كان بالنسبة له مكسبًا من الموت لا من الحياة .. الموت المهيمن، المتمادي في المباغتة، الذي جعل الأشخاص القليلين في حياة عازف الترومبيت ـ بالاحتمالات الطاغية لفقدهم ـ عذابات مؤجلة، يعرف تمامًا بعد عمر زاخر بالفقد أنه لم تعد لديه أي قدرة على تحمّل مواجهتها.
في نهاية 2017 سمع عازف الترومبيت قطتين (ذكر وأنثى) تموءان بعنف أسفل نافذته:
ـ (هذا كثير جدًا .. لابد أن الكثير جدًا في حد ذاته خاطئ .. الكثير جدًا بغض النظر عن أي شيء آخر هو أمر سيء .. أريد أن أفسر الكلمات مثلما أتمنى، وأن يكون تفسيري صحيحًا بشكل مطلق .. لا أريد أن أفترض تأويلات أخرى للكلمات .. لا أريد أن أفهم، أريد فقط أن أفسر الكلمات مثلما يحتاج ألمي، ومثلما يحتاج تاريخ هذا الألم الذي قد لا يبدو واضحًا للجميع، وربما لا علاقة له بالأمر أصلا .. سأتناسى اضطهاد المؤسسات والنقاد والمثقفين الذي كنت أملأ العالم بالصراخ ضده قبل أكثر من عشرين عامًا .. سأدعي عدم وجوده لأحكم الآن من لحظتي الحالية على معارك الآخرين التي لا أعرف عنها شيئًا .. سأعمم وأحرّف النوايا وأدعي معاني لم يقصدها أحد، ولا أريدكم أن تعايروني بهذا).
ـ (حتى لو كان في هذا تأكيد على أنك لا تشعر بنقص يقودك لتوجيه عداءٍ ما نحو شخص معيّن بينما أحتاج في المقابل لتوجيهه لك أنت بالذات؛ لا بأس أن أعيش الآن في دور المتحدث الرسمي باسم شِلل المثقفين .. حتى لو لم يصمد ما سأقوله، وسيتغير، ويتبدل لو عشت في مكان آخر وظروف أخرى، وأعطاني هذا التناقض مظهرًا مهينًا ومضحكًا .. حتى لو لم أتذكر أو تغافلت أو لو لم أكن على وعي بالتأثيرت غير المحدودة لسلطة مدينة ما، والتي لا يمكن حصرها في سياقات ثابتة؛ لابد أن أمنح مبالغات مقصودة لما تقوله، ولابد أن أرفض الاعتراف بأي حق يخالف ما أقتنع به، حتى لو لم يكن مصوبًا ضدي بشكل شخصي، كأنما هناك "بطحة" في "رأسي" لا أطيق أن يجبرني أحد على تحسسها).
يبتسم عازف الترومبيت كرجل أبيض القلب يريد ـ بصدق تام ـ أن يحصل الجميع على السعادة التي يستحقونها، وألا يُحرم أي قط أو قطة من التقدير اللائق به .. ينظر إلى اللقطة المثبّتة لإدواردو غاليانو ثم يضحك امتنانًا للموت.

السبت، 30 ديسمبر 2017

الساحر

كان يقف وسط الحلبة التي تظللها الخيمة الكبيرة وسط الأضواء المتراقصة والموسيقى الاحتفالية الصاخبة ذات الإيقاعات القوية .. سألت زوجتي: هل رأيتِ هذا الرجل من قبل؟
دققت في ملامحه وهو يشعل نارًا صغيرة داخل وعاء ويغلقه ثم يعيد فتحه لتطير حمامة بيضاء من فتحته الدائرية وتستقر على أرض الحلبة مع تصفيق الجمهور.
قالت: نعم، ولكن لا أتذكر أين؟
ـ أليس هو الرجل الذي كان يقطع التذاكر في الخارج؟
عادت للتمعن في وجهه ثم قالت: فعلا .. أعتقد أنه هو.
ابتسمنا معًا؛ إذ بدا الاكتشاف غريبًا .. أنهى الساحر فقرته ثم خرج بحركات استعراضية من الخيمة وأنا أفكر في أنه يستطيع بالطبع أن يُغلق الوعاء المعدني على حمامة بيضاء ثم يُعيد فتحه لتخرج نار صغيرة رغم أنه لم يفعل ذلك أمامنا .. تدخل الحلبة شابة جميلة، ترتدي بياضًا كاملاً كإبنة للغابة ثم تتراجع مذعورة بأداء راقص وهي تحدق في المدخل الذي عبرت منه حيث يقتحم أحدهم الحلبة ورائها في زي غوريلا ليحاول الإمساك بها .. يدخل المنقذ متنكرًا كرجل بدائي، وممسكًا بخنجر لتبدأ معركته مع الغوريلا التي تستلقي الشابة الجميلة المذعورة على الأرض مترقبة نهايتها .. نظرت أنا وزوجتي إلى بعضنا ثم ضحكنا في نفس اللحظة .. كان المنقذ هو قاطع التذاكر والساحر الذي قتل الغوريلا ثم احتضن سعادة الشابة الجميلة ليتعلقا سويًا بالحبال المطاطية التي ترتفع بهما إلى سقف الخيمة فوق رؤوس الجميع .. تتحوّل الموسيقى إلى النعومة الجارفة مع التعانق والتشابك والدوران بوضعيات رومانسية وشهوانية مختلفة للمنقذ والشابة الجميلة في الهواء .. كان تصفيق الجمهور يتخلل المشاهد الأكروباتية المتلاحقة التي تشكلها المرونة الفائقة لجسديهما داخل الفراغ العالي المضاء بتنويعات لونية متحركة .. يخرج المنقذ والشابة الجميلة من الحلبة وأنا أخبر زوجتي بالدعابة التقليدية التي أصبح تمريرها روتينًا في مصادفات كهذه: أعتقد أنني سأراه ممسكًا بعلبة المناديل الورقية عند باب الحمام.
تضحك زوجتي بينما ضجيج فترة الاستراحة يتصاعد من حولنا .. أنتبه بعد قليل إلى نقطة وسط الجمهور على الجانب الآخر يتجمّع عندها كثير من الأطفال .. كان هناك رجل يرتدي قميصًا وبنطلونًا تقليديين يعطي ظهره لنا، ويحمل كيسًا شفافًا كبيرًا يحوي كرات الأنف الحمراء التي يستعملها المهرجون .. قلت في نفسي إنني لن أندهش إذا ما اكتشفت عندما يلتفت الرجل ناحيتي أنه قاطع التذاكر والساحر ولاعب الأكروبات .. بالفعل لم أندهش ولكنني شعرت باستغراب حاد، وأنا أشير نحوه لتنبيه زوجتي دون كلمة واحدة فضحكت بصورة أقوى من المرة السابقة .. الآن لم يعد وقوف هذا الرجل ممسكا بعلبة المناديل الورقية عند باب الحمام دعابة .. أسمع زوجتي تقول: يبدو أنه لا يوجد في السيرك أحد غيره.
لا أرد على تعليقها بينما أراقب انتهاءه من بيع كرات المهرج للأطفال ثم عودته إلى الخارج .. يبدأ العاملون في نقل الأجزاء الحديدية الضخمة إلى الخيمة والتي ستكوّن مع تلاحمها قفصًا دائريًا يفصل الحلبة عن الجمهور تمهيدًا لاستعراض الأسود .. لم يكن عندي شك في أن المروّض الذي سيدخل الآن وراء الأربعة أسود الكبيرة التي تعاقب مرورها إلى القفص سيكون قاطع التذاكر والساحر ولاعب الأكروبات وبائع كرات المهرج للأطفال .. سمعت زوجتي تشهق معلنة وصول تعجبها إلى درجة من عدم التصديق مع دخول الرجل الذي توقعته إلى الحلبة مرتديًا تيشيرت أبيض بلا أكمام يكشف عن عضلات ذراعين مفتولة، وبنطلون رياضي خفيف بلون رمادي، وفي كل يد يمسك بعصا معدنية طويلة .. كان التتابع السريع للإيقاعات الموسيقية الثقيلة يضخ موجات الإثارة في هواء الخيمة مع استجابة الأسود الأربعة لإشارات المروّض بالقفز والاستلقاء والمعانقة والتقبيل وتناول قطعة الطعام من فمه والعبور فوق جسده الممدد قبل أن يمتطي ما يبدو أنه أكثر الأسود شراسة وهو يرفع ذراعيه للجمهور معلنًا بهذا التفاخر نهاية العرض.
انتظرت أنا وزوجتي قليلا حتى تتخفف الممرات من جموع الخارجين ثم بدأنا في التحرّك بينما الأضواء والموسيقى مازالت تتراقص وتصدح في عيوننا وآذاننا رغم توقفها .. أثناء اقترابنا من أحد أبواب الخروج رأيت قاطع التذاكر والساحر ولاعب الأكروبات وبائع كرات المهرج للأطفال ومروّض الأسود واقفًا ينظّم بملامح جامدة خروج الجمهور من الخيمة .. كان يرتدي نفس القميص والبنطلون اللذين كان يرتديهما وهو يبيع كرات المهرج للأطفال .. مررنا بجواره على نحو قريب للغاية ونظرنا إلى وجهه في حين كانت عيناه مركزتين على العابرين وراءنا كأنما كان لديه اطمئنان عفوي بأننا لسنا في حاجة لانتباهه .. عندما وصلنا إلى الطريق قالت زوجتي بما يشبه الذهول الذي يخلو تمامًا من المرح: أنا لا أصدق فعلا .. ما حدث أشبه بالحلم.
رددت عليها بحياد خافت ومقتضب، كأنها إجابة مبرمجة داخلي: إنه رجل متعدد المواهب.
ثم أضفت بعد برهة: ويجيد تغيير ملابسه بسرعة أيضًا.
انتبهت إلى سخافة هذا التعليق الإضافي وأنا أمد يدي لأوقف تاكسيًا .. حينما جلسنا في الكنبة الخلفية نظرت عبر المرآة التي تواجه السائق إلى ملامحه .. لم يكن بالطبع وجه قاطع التذاكر والساحر ولاعب الأكروبات وبائع كرات المهرج للأطفال ومروّض الأسود بل كان رجلا مختلفًا ومع ذلك ظللت أتطلع إليه بين حين وآخر حتى وصلنا إلى البيت .. فتحت الباب ثم عبرنا إلى الداخل كي نواصل الحياة بشكل طبيعي جدًا.
photo by beyzayildirim77
موقع (الكتابة) ـ 28 ديسمبر 2017

الأحد، 24 ديسمبر 2017

سيد الوكيل: "إثر حادث أليم" أفضل رواية قرأتها في 2017

قال الناقد الأدبي سيد الوكيل إن رواية "إثر حادث أليم" لممدوح رزق من أكثر الأعمال الأدبية التي جذبت انتباهه هذا العام.
وأرجع "الوكيل"- في تصريحاته لـ"البوابة نيوز"- السبب لاختياره ذلك العمل كونه تجربة مختلفة عن كثير من الروايات التي تكتب حاليا والتى تميل إلى أنماط مختلفة مثل الخيال العلمي أو نمط تاريخي فالكثير من الكتاب الحاليين مشغولين بالكتابة عن هذه الأنماط، مضيفا أن هذه الرواية تلمس سيرة ذاتية وفيها معلومات لحياة طفل عاش فترة الثمانينيات ولأن من يقرأها سيتعاطف معها.
وتجري "البوابة نيوز" استطلاعا للرأي مع عدد من الأدباء والمثقفين حول أفضل عمل أدبي لفت أنظارهم في العام 2017.
يذكر أن ممدوح رزق صدر له هذه الرواية عن سلسلة إبداعات قصصية بالهيئة المصرية للكتاب، وكتب هذه الرواية ليؤرخ عن حقبة الثمانينيات ولمدينة المنصورة في تلك الفترة.
بهاء الميري ـ البوابة نيوز 23 ديسمبر 2017

الخميس، 21 ديسمبر 2017

ممدوح رزق: لا أعيش الدنيا بل الكتابة

حاورته- سماح عادل
“ممدوح رزق” كاتب وناقد مصري، صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية، كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة، حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي، ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
إلى الحوار:
“كتابات” كيف بدأ لديك شغف الكتابة وكيف تطور؟
* بدأ بالتأكيد قبل فعل الكتابة نفسه؛ فأنا لم أكتب قصتي الأولى كمحاولة غير متوقعة لاختبار أمر لا علاقة له بطبيعة ذاتية أستطيع إدراكها مثلما يمكن أن يحدث مع أي تجربة أخرى، بل ربما بدأ بالفعل قبل تعلّم الإمساك بالقلم ورسم الحروف فوق الورق. أعتقد أن هذا الشغف قد بدأ عبر كافة السمات الطفولية التي كان ينبغي أن تكون الكتابة نتيجة منطقية لها: الانطواء.. المراقبة.. التخيل.. التقليد.. التصورات المضادة للواقع.. الانفصال عن الحياة داخل الصور ثم الاختباء في الحكايات والقصص، أو بشكل أدق تمرير عناصر الوجود الضئيل المنكمش نحو العوالم الأخرى.. الانشغال باللغة، وكيفية بناء أحلام سرية داخل هيمنتها.
تطور شغف الكتابة اتخذ نسقًا بديهيًا بالنسبة لي بناءً على حقيقته كغريزة، أي كشيء غير مؤقت أو هامشي أو مرهون بدافع معين بل كروح أصلية تجعل في المقابل كل ما يخص الحياة والموت ليس أكثر من ادعاءات متغيرة. حتى لو كان في هذه الكلمات غرابة صعبة التصديق، لكنني أشعر أنه منذ اللحظات المبكرة في العمر أي بداية اكتشاف العالم بكل ما يمكن أن يتضمنه ذلك ويترتب عليه من أثر، مرورًا بالقراءات والتأملات وتحولات الوعي، وحتى أثناء كتابة أول قصة قصيرة كنت أعرف بطريقة ما أنني أخطو نحو ما أنتمي إليه. أنني أنسحب تدريجيًا باتجاه هذه العزلة التي أعيشها الآن، وعلى نحو لا يمكن تعريفه وفقًا لمكان أو زمن.
“كتابات” كتبت القصة والمسرحية والرواية والمقال النقدي.. علام يدل هذا التنوع؟
* يمكن أن يدل على أشياء كثيرة: أنني أريد تصفية حساباتي مع الحياة بكل الطرق الممكنة.. أنني أحاول اقتحام الموت بأي شكل، أو تضليله بمختلف السُبل.. أنني أريد للشياطين التي تسكنني أن تأخذ حريتها في اللعب الانتقامي مع الغيب كيفما تشاء.. أنني أريد أن أعوّض عدم استطاعتي أن أكون أخطبوطًا كونيًا يمتلك جميع الحيوات ويقبض على كافة الميتات.. أنني أريد أن أجرّب كل الحيل التي ربما تعطيني أسرار القدر، وتكشف لي مصائر ما بعد الفناء.. أنني أريد استرضاء الصمت المعتم وراء الوجود بالصور التي تروق لي.. أنني لا أعيش الدنيا بل الكتابة، وهذا يعني أن ما يعتبره الآخرون شروطًا للواقع هي بالنسبة لي خامات يُحتمل توظيفها لصالح العزلة التي ينشأ عنها بالضرورة تجسيدات مختلفة للاستمتاع بما تغتنمه من التواريخ الوحشية التي تحاصرها.
“كتابات” في رواية “إثر حادث أليم” تناقش مراوغات الذاكرة.. وفكرة أن استعادة الذكريات هي محاولة لمحوها حدثنا عن تلك الفكرة؟
* من ضمن ما تشتبك معه الرواية هو التكوّن المغاير للذكريات عند استرجاعنا لها، التعديلات المحتملة التي تطرأ عليها نتيجة تدخّل الوعي والمقاصد التي يضمرها التركيز اللحظي على ما يتم استعادته. تربط الرواية هذا الهاجس بالأفكار التي تُفقد أثناء الكتابة، التي نكتب عوضًا عن ضياعها بتعبير “باسكال”. هذه العلاقة يمكن أن تشير إلى تبدد الماضي عند تدوينه، وإلى تحوّل الكتابة من توثيق إلى محاولة غير مؤكدة لتعويض هذا الفقدان ـ هذا ما جعل فصول الرواية تعنوَن بالمسودات ـ تصبح كتابة الماضي ـ كما جاء في “إثر حادث أليم” ـ اكتشافًا للعالم المخبوء داخل الاستدعاءات القاصرة لذكريات غير مضمونة. في ضوء هذا الأرق تنظر الرواية إلى الماضي كحياة غامضة يطمسها الاسترجاع. الذكريات ـ كما حدثت بالضبط وليست كما تُستعاد ـ أشبه بوجود مجهول تمامًا، مغلق على ظلامه الخاص، تساهم كل محاولة لاسترداده بواسطة الكتابة في تغييبه، وأن هذا ما يُبقي الذكريات غير مروّضة، أي غير خاضعة لسلطة الوعي. الكتابة إذن ضد التذكر المثالي، ضد التوحد بالطبيعة النقية للماضي، أما (الذكريات) المكتوبة فهي المراوغات العاجزة التي تدعم المسافة السوداء الفاصلة بين الذات وبين بداياتها.
“كتابات” في رواية “إثر حادث أليم” تحضر فترة الثمانينات بحميميتها وزخمها من وجهة نظر طفل.. هل فترة الثمانينات تمثل حنين بالنسبة لك؟
* بالتأكيد ولكن هذا الحنين هو الغلاف المنطقي لاستفهامات الزمن التي جعلت الرواية فترة الثمانينيات مسرحًا لها.. الحنين هو بوابة اشتباك الحسرة مع الأسباب غير المدركة للمشيئة التي تقف وراء الطبيعة التعذيبية للزمن. الدوافع الغامضة التي تحتّم علينا الخضوع لهذا المزاج القاتل، غير المفهوم، الذي لا يمكن تصديقه ولا التفاوض معه لحركة الوقت. لماذا تمر أرواحنا وأجسادنا بهذا التعاقب التدميري، غير المبرر، الذي تحكمه الغفلة والوعود الخبيثة والخسارات المتراكمة. ما الذي يعيش على هذا الطغيان الأزلي من الآلام والهزائم الفادحة، التي يضمنها التتابع الذي لا يختل للحظات قصيرة نهايتها الموت. ما هو الثمن. الطفل في رواية “إثر حادث أليم” أو “المسرود عنه” بواسطة الرجل الذي صار إليه يُشهر مذكراته في وجه هذه التساؤلات التي كرّست لجحيمه الشخصي: ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟، لماذا جرت الأمور هكذا؟، هل هناك نهاية أخرى؟، هل ستحدث معجزة ما قبل أن يأتي دوره في الفناء؟.
“كتابات” ما هي الصعوبات التي واجهتك ككاتب؟
* القراءة والكتابة والسعي لإثبات الذات ككاتب داخل بيت لا يعترف سوى بالنجاح الدراسي.. شيوخ الأدب الذين يؤلم أعصابهم الهشة الإيقاع المتمرد لوجودك.. الكتّاب في محيطك الضيق الذين يعجزون عن الاقتراب منك.. النقاد الذين يريدون شفي الغليل من نجاحك النقدي عبر أعمالك الأدبية.. الإقامة خارج القاهرة حيث يُمنع عنك ما أنت جدير به كابن عاق، يحتقر المافياوات الثقافية ويسخر منها، ولهذا لا ينبغي أن يحصل من المركز على ما يعطيه لأبنائه الأبرار حتى لو كنت تستحقه أكثر منهم.. أبناء المركز الذين لا يطيقون أن تحصل وأنت في مكانك، بعيدًا عن القاهرة ورغمًا عنها على مثل ما لديهم وأكثر، حيث يبدو ما تفعله أقرب للمعجزات مقارنة بالمكاسب المتحيزة متناهية السهولة التي تنهمر على رؤوسهم دون تمييز.. معلمو اللغة العربية، ورجال الدين، وعناصر شرطة القواعد والمبادئ في هيئة كتّاب ونقاد، الذين يريدون دائمًا الثأر لخصائهم من جنونك.. هذه مجرد عناوين مختصرة، يمكنني أن أكتب تحت كل منها تفاصيل لانهائية، ومع ذلك لا أظن أنه من الملائم في سن الأربعين أن أطلق على ما سبق وصف (الصعوبات) بقدر ما يمكنني اعتبارها ظواهر تقليدية لحرب قديمة، تعوّدت منذ البداية على تحويلها إلى انتصارات مرحة، لكن ما أعتقد أنه من اللائق وصفه حقًا بالصعوبة بالنسبة لي الآن ككاتب هو ضيق الوقت، رغم أن كلمة (الصعوبة) تبدو هنا تحديدًا مفرطة التبسيط.
“كتابات” ما رأيك في حال النقد العربي وهل يواكب حركة الإنتاج الأدبي؟
* النقد العربي في أغلبه بائس، رجعي، نمطي وراكد، يطغى عليه التواطؤ والحسابات النفعية، فكثير جدًا من النقاد يختارون الأشخاص الذين سيكتبون عن أعمالهم، لأن الكتابة ليست هي المعيار. وكثير منهم مهووسين بفرض الوصاية، وتعويض خوائهم وسطحيتهم بإرهاب المبدعين صغار السن، وزرع السذاجة في عقولهم مما يحوّل هؤلاء الكتّاب منذ البداية إلى روبوتات متزمتة تقاتل بعضها داخل الواقع الافتراضي. النقد العربي بعيد عن التمرد والجموح، محكوم بالجهد الأقل، والاستسهال، والعجز عن الابتكار، والخروج عن ما هو مضمون وشائع ومسالم الذي لا يتطلب من التفكير والاطلاع والتحرر ما لا تقدر عليه العقول المتحجرة. بالطبع هناك استثناءات كما أنني أعرف نقادًا يحاولون التحرك خارج كل هذا العقم، وأعتقد أنهم يعانون بسبب هذا.
“كتابات” هل حال الثقافة مزدهر في مصر رغم انسحاب الدولة.. وهل تدعمها المبادرات والجهود الفردية للمبدعين؟
* بالتأكيد لا.. أقدر حقا المبادرات والجهود الفردية، لكن لا أستطيع بالطبع أن أسمي نتائج المقاومة التي تمارسها (ازدهارًا)، بل ربما هي أقرب للجدل مع سلطة الواقع بكافة مستوياتها وتنويعاتها، وبكل ما تمارسه من أشكال متعددة للقهر، وحتى مع كون هذه المبادرات في أحيان كثيرة جزءًا من المرجعيات المتخلفة لهذه السلطة.
“كتابات” هل مازالت مصر عاصمة الثقافة بالنسبة للبلدان العربية .. ولما؟
* في الحقيقة لا يعنيني إذا كانت مصر عاصمة الثقافة أم لا، وبشكل عام أعتقد أنه يجب علينا التعامل بحذر شديد ـ وهو ألطف ما يمكنني قوله ـ مع ما يمكن أن تعنيه كلمة (الثقافة) حينما تأتي مع مصر في عبارة واحدة.
“كتابات” حدثنا عن الجوائز التي حصلت عليها.. وهل مثلت دعما بالنسبة لك؟
* الأمر يتم على النحو التالي: أحصل على جائزة ما.. أشعر بسعادة بديهية ثم أنسى أنني حصلت على جائزة.. أتذكرها أحيانًا ثم أنساها مجددًا.. هي نوع من التقدير ربما يتساوى مع أي تقدير آخر لو استثنينا الامتياز المادي، وبالنظر إلى الطبيعة الانتقائية لأعضاء لجان تحكيم الجوائز الشهيرة، واختياراتها للأعمال الفائزة، وبيانات نتائجها فإن هذا يمكن أن يضيف نوعًا من الاعتزاز إلى السعادة المؤقتة التي أشعر بها مع كل جائزة أحصل عليها، وبافتراض النزاهة الكاملة فليس هناك فرق بين جائزة وأخرى، فأي محاولة لإكساب أعضاء لجنة تحكيم معينة قيمة تفوق ما تحظى به لجنة أخرى سيكون إقدامًا على خطوة لن يكون هناك أدنى صعوبة في إثبات فشلها. في نفس الوقت لا يستطيع أحد أن يزعم لنفسه مكانة أرقى وفقا لما ناله من جوائز، أو بناءً على وصوله إلى قوائم طويلة أو قصيرة؛ إذ ليس هناك أسهل من تحطيم هذه الفقاعات.
“كتابات” هل تجربة كتابة السيناريو تختلف بالنسبة لك عن كتابة الرواية وهل أفادتك؟
* بالتأكيد تختلف، ولكنه ليس الاختلاف الذي يحطم التشابهات العديدة بينهما، وبشكل أدق بين تجربة كتابة السيناريو والرواية عندي تحديدًا. كتابة السيناريو بالنسبة لي استفادت على نحو عفوي من الخبرة القصصية في تكوين الشخصيات والأحداث والمشاهد، ونسج العلاقات بين التفاصيل البصرية، وتوزيع الفراغات والأصوات، والتحكم في الإيقاع السردي، واللعب بالصمت والمونولوج الداخلي، وربط الأداءات الجسدية بعناصر الصورة والحوار لخلق الاحتمالات خارج الفضاءات الحسية. كنت محظوظًا بالتعاون مع مخرجين متميزين مثل “منال بن عمرو”، و”محمد صبري”، وحاليًا يتم التحضير لفيلميين قصيرين من إخراج “هاني مصطفى”، و”نواف الجناحي” عن قصتين قصيرتين لي.
“كتابات” ما تقييمك للصحافة الثقافية في مصر؟
* لا تختلف عن تعاسة الحياة النقدية باستثناء بعض التجارب المميزة والمعروفة للعديد من الجرائد والمجلات والصفحات الثقافية وبعض المواقع على الإنترنت، كما هناك أيضًا من الصحفيين والمحررين من يعمل خارج الشللية المركزيةـ أي خارج القوائم القاهرية المحنطةـ ويسعى لتجاوز حدود النمطية، والتخلص من الثوابت القديمة، ولكن اللحظات التي يُصادف خلالها ما يمكن اعتباره أفكارًا غير تقليدية ليست كثيرة بالتأكيد.
“كتابات” ما هو مشروعك النقدي الجديد؟
* مشروعي النقدي الجديد ليس مجرد كتاب في النقد بل اكتشاف تاريخي وسبق أدبي جمعت الأدلة والوثائق التي تثبته على مدار العامين الماضيين، وكل ما بوسعي أن أقوله الآن أن الأمر يتعلق برواية شهيرة جدا من القرن التاسع عشر.
موقع (كتابات) ـ 20 ديسمبر 2017

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2017

تحضير الأرواح

خرجت من البيت في الصباح الباكر، أحمل الحقيبة القماشية الكاروهات الكبيرة ذات اليدين الخشبيتين، وبداخلها الساندويتشات وترمس الشاي .. قابلت صديقة أمي عند ناصية السوق حسب الموعد ثم توجهنا إلى بيت جدتي الذي يقع في حارة ضيقة من حي شعبي حيث صعدنا سلالمه المتهدمة وطرقنا باب جارتها العجوز التي كانت في انتظارنا .. صعد ثلاثتنا إلى سطح البيت وجلسنا هناك لنأكل الساندويتشات ونشرب الشاي ونتحدث حتى الظهيرة .. نزلنا جميعًا إلى الشارع ثم ذهبنا إلى المقهى المطل على النيل حيث يجلس أصدقاء أخي الكبير .. شاركناهم لعب الطاولة والدومينو حتى العصر، ثم ذهب أحدهم لإحضار وجبة الغذاء لنا .. خرجنا من المقهى بعد تناول الطعام كي نتوجه كلنا إلى منزل صديقة أختي الكبرى .. رأيناها تنتظرنا في شرفتها، وبعد لحظات نزلت إلينا ثم ذهبنا معها إلى أحد المحلات لشراء بعض الأقمشة .. كان المساء في بدايته حينما خرجنا من المحل في طريقنا أنا وصديقة أمي وجارة جدتي وأصدقاء أخي الكبير وصديقة أختي الكبرى إلى بيت صديق أبي .. استضافنا الرجل العجوز داخل ما يشبه استراحة واسعة في الدور الأرضي من منزله .. كانت مضاءة بالنيون الأبيض الساطع، ومؤثثة بالمقاعد والأرائك الناعمة، وتطل شبابيكها المفتوحة على الصمت المظلم لأرض زراعية كبيرة، والذي يتخلله الصفير المتواصل لصرصور الليل .. كانت هذه الأرض تفصل البيت عن طريق السفر الملوّن بالضوء الأصفر لمصابيح أعمدة الإنارة المتراصة على امتداده، وهو ما جعلنا نشاهد الشاحنات العتيقة الضخمة التي لم يتوقف عبورها من هذا الطريق .. أمضينا الوقت في الكلام والضحك وشُرب القهوة حتى التاسعة تقريبًا ثم خرجنا من منزل صديق أبي لنتوجه جميعًا إلى مطعم أحد الفنادق الذي يجلس أصدقاء أخي الأكبر تحت أضوائه الخافتة في انتظارنا .. ظللنا هناك حتى الواحدة بعد منتصف الليل حيث تناولنا العشاء وشربنا (ستلا) مع سجائر (المارلبورو) والفول السوداني ثم خرجنا من الفندق أنا وصديقة أمي وجارة جدتي وأصدقاء أخي الكبير وصديقة أختي الكبرى وصديق أبي وأصدقاء أخي الأكبر .. كان الظلام يمطر بقوة متأرجحة بينما نخطو داخل سكون الشوارع القريبة من الفندق ثم نصعد سلالم البيت القديم إلى شقة امرأة جميلة كانت مقصدًا دائمًا لأخي الأكبر وأصدقائه .. فتحت لنا المرأة الجميلة بابها، وحينما دخلنا وجدنا العديد من رفيقات الليل في انتظارنا .. كانت فروع الزينة الورقية المزركشة تتعانق في سقف الصالة، وتتدلى من كثافتها بالونات غزيرة تلتصق بألوانها المختلفة ابتسامات لوجوه صغيرة .. كان صوت (وردة) ينبعث من المسجّل الكبير المستقر داخل المكتبة العريضة وهي تغني: (دي كل حاجة اتغيرت، آآآه قدام عينيا .. وكل شيء في الدنيا حلو، حلو حلو بأقول دا ليا .. وأي حاجة ألمسها تحلو في إيديا ودا من نهار حبك ما جه ما جه، وسلم عليا .. آ يا حبيبي كنت واحشني، من غير ماشوفك وتشوفني، والقدر الحلو آهو جابني .. الحلو الحلو جابني، وجابك علشان تقابلني، وجابك علشان تقابلني، واتارينا، كنا تايهين ولقينا .. أحلى أيام ليالينا .. واحنا فيها لوحدينا).
أطفأت المرأة الجميلة أضواء الشقة ثم فتحت شرفتها الواسعة عن آخرها ونحن نتجرد جميعًا من ثيابنا ونجلس أمامها في الظلام المتوحد بالعتمة الممطرة في الخارج .. كان كل ما في المدينة ينكمش ويتحوّل إلى نسائم باردة تتدفق عبر الشرفة كي نتنفسها وتغتسل بها أجسادنا العارية التي سلمناها لرفيقات الليل .. كافة الحكايات تعبر إلى دمائنا بينما نحدق في الغيوم الكثيفة ونراقب المطر فنرتعش أنا وصديقة أمي وجارة جدتي وأصدقاء أخي الكبير وصديقة شقيقتي الكبرى وصديق أبي وأصدقاء أخي الأكبر بدفء من نوع آخر، أو كأن لذة هذا البرد الجارف هي الجوهر الحقيقي للدفء .. مشاهد للبشر في كل الشوارع والبيوت تتلاحق برقة متناهية وتتجمع داخلنا .. جميع ذكريات المدينة تسكن أرواحنا بتدرّج ناعم مع جلوس المرأة الجميلة المبتسمة على الأرض أمامنا .. بين الأفق السماوي الممتد بغيومه الداكنة عبر الشرفة وعيوننا .. نتمعن في ملامحها فنجدها تتقلّب بتناغم حنون بين وجوه أمي وجدتي وأخي الكبير وأختي الكبرى وأبي وأخي الأكبر .. نرى سعادتهم الكاملة داخل هذا التبادل لملامحهم في وجه المرأة الجميلة .. يبدأ هذا الوجه في الامتزاج بالأفق السماوي الممتد ورائه لحظة بعد أخرى .. يصبح جسدها العاري كله جزءًا من هذا الأفق وهي تتمدد على الأرض أمامنا بينما تصل بنا رفيقات الليل إلى ذروة النشوة .. نرى خيالات متباينة لجسد المرأة تتراقص من حولنا ثم تتلاشى ومعها يختفي كل شيء: المرأة الجميلة ورفيقات الليل وفروع الزينة والبالونات والشرفة بينما بقي الظلام والبرد والغيوم الداكنة الكثيفة كما هم .. تستغرق المدينة الموزعة داخلنا في النوم كطفلة آمنة على صوت المطر، وغناء وردة وهي تُعيد (في يوم وليلة) دون توقف.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 18 ديسمبر 2017

السبت، 16 ديسمبر 2017

حميد الشاعري

مساء الخير يا حميد ...
ذات ظهيرة في منتصف الثمانينيات، تسلل طفل الابتدائي إلى حجرة أخيه الأكبر .. كانت عيون الـ (Abba)، و(Boney M)،(Dolly Dots)و  تراقب حركته الحذرة من داخل البوسترات الكبيرة على الحائط .. امتدت يده لتفتح خزانة شرائط الكاسيت كي يلتقط أحدها ـ كالعادة ـ  ويستمع لأغانيه بصوت واطيء جداً تفادياً لغضب (الكبار)، ولدقائق قليلة قبل رجوع أخيه إلى البيت .. هذه المرة لم تخرج يده من الخزانة بـ (شبابيك)، أو(علموني عنيكي)، أو(بحبك لا)، وإنما وجد فيها شريط (رحيل) .. كانت أول مرة يرى صورتك، ومنعه الفضول من إعادة الشريط إلى مكانه، والتقاط واحد آخر من الشرائط الأخرى التي أحب أغنياتها .. لم يسمح الوقت لأن يستمع لأكثر من (يا بنية خشيتي بالي) لكنها كانت تكفي .. يتذكر الآن ابتسامته حينما فاجئته النشوة الغريبة التي أرسلتها إليه، وانت تكرر (للللللا لللا لالا) .. في هذا اليوم يا حميد بدأت حياة امتزجت فيها البيوت القديمة، والليالي، والشرفات، والحقول النائمة بجوار طرق السفر، والبحار، والأسطح العالية، والسماوات الممتدة أمام البصر، وألوان، وروائح، وبرودة الغروب، والشوارع الخالية، شاحبة الإضاءة .. بدأ السحر يا حميد، الذي ـ حتى الآن ـ يوفر للعذاب ما يحتاجه من اللعب بالحرير.
* * *
لم تفارقني طوال فترة التسعينيات الرغبة في التوصّل إلى ما يشبه صوتك .. كنت ـ ولازلت ـ أضحك بيني وبين نفسي كلما سمعتك، أو قرأتك وأنت تؤكد ـ وهو ما صار من أشهر الأقوال المأثورة عند أجيال متعاقبة ـ أنك لست مغنياً، ولا مطرباً وإنما مجرد مؤدٍ .. لازلت استمتع  بسخريتك ـ حتى لو لم تقصدها ـ من كل الذين لم يستطيعوا تحمّل ما ترتكبه .. تأكيداتك هذه التي لم تتعطل خلال عشرات السنوات كانت تعطيني في كل مرة فرصة للاستمتاع برؤية معاني، وتعريفات الطرب، والغناء وهي تتهاوى، ويتناثر غبارها محترقاً في أعمق جحيم متخيل تحت الأرض .. لماذا كنت في احتياج للتوصّل إلى ما يشبه صوتك؟ .. لأنني منذ اللحظة الأولى التي سمعتك فيها يا حميد، وأنا ازداد يقيناً بأن صوتك جعل كافة المغنيين ـ بالنسبة لي ـ يتكدسون في منطقة واحدة، بينما تعيش أنت في منطقة أخرى .. جميع المطربين بكل اختلافاتهم، وتنوعاتهم أصبحوا منذ (يابنية خشيتي بالي) ينتمون إلى عالم خاص، مقفل، تقف وحدك خارجه .. كان عجيباً، وبديهياً في الوقت ذاته أن اقتنع تماماً، وبشكل مباغت بأن صوتك لا يشبه سوى الهمس .. الفعل البسيط، العادي جداً، الذي بوسع أي شخص تأديته حتى وهو صامت أحياناً! .. هل يمكن تصديق أن هذا أساس تميزك، وتفرّدك بالنسبة لي؟! .. نعم يا حميد؛ فصوتك عندي هو إضاءة لكل الاحتمالات الممكنة للخفوت، ليس باعتباره مساراً ينتهي بك إلى مكان وسط أصحاب الحناجر الاستثنائية، وإنما حقق صوتك ما هو أكثر إعجازاً في تصوري .. أنك جعلت من (الدندنة) كأنها تمرير مختلس للأسرار .. تشكيلات متجاوزة، مدهشة التعدد من الارتجال للـ (الهمس) ـ وهو ما ينطبق بدقة على موسيقاك ـ جعلت منها تنغيماً غير متعالٍ، بل قادم من شعور كل كائن لا يمتلك (صوتاً جميلاً) بالمعايير التقليدية، ولكنه يريد أن يغني، أو يحاول أن يغني .. غناؤك يا حميد لا ينوب عن إحساس، أو فكر من يسمعك، ولكنه ينوب عن خفوت صوته حرفياً، لأن الكل قادر على الهمس، والكل لديه أسرار يريد تمريرها لآخرين، وفي الهمس كل الأصوات تصبح صوتاً واحداً، وأنت هذا الصوت الواحد يا حميد ..  حتى (الكحة) .. الفرق الخارق بينك، وبين أي (مطرب) أنك لم تعرّف البشر بالمتعة التي لا يقوون على انتاجها، وإنما عرّفتهم بالمتعة التي في استطاعتهم أن يمنحوها لأنفسهم دون وصاية حتى من (الفن) ذاته .. الهمس الذي يعلن بحدة أكثر عن ذاته كلما سعى للارتفاع بنبرته .. هذا شديد الوضوح في صوتك يا حميد.
بعد ثلاثين سنة، وحينما أحاول ـ وهذا صعب للغاية ـ أن أضع أوصافاً لموسيقاك، ربما أول ما يخطر في بالي أنك الموسيقي الوحيد الذي يبدو أنه جمع كل الألحان التي أعشقها من التاريخ الشرقي، والغربي، ثم كوّن منها ذاكرة أشبه بقبعة الحاوي التي يخرج منها كل ما هو غير متوقع .. لكن ما عندك يا حميد يتخطى ما في قبعة الحاوي ..  أنت تأتي بما يلمس أفق من الإبهار لم يكن مرئياً، بل كان ـ ياللعجب ـ واضحاً، وملموساً دون انتباه .. هذا هو الجوهر الذي يمكن أن أكتب عنه إلى ما لا نهاية .. أن موسيقاك يا حميد تنجز ما يؤديه صوتك؛ فإذا كان صوتك (الدندنة الخافتة للهمس التي تنوب عن صوت من يسمعها)، فإن موسيقاك هي الافتراض المتجسد لنغمات كل شخص توحد مع تلك الموسيقى ، وأراد، أو حاول أن يبتكر موسيقاه الشخصية وفقاً لما يعرفه من تجارب، وخبرات سابقة .. كل شخص متعلّق بأنغامك يحلم بموسيقى متخلصة مما قد يبدو له تعقيداً تراثياً لا يمكن خلقه إلا بأيدي اصحابه، ويستحيل أن يتصدى له (العاديون) .. موسيقاك يا حميد هي موسيقى كل مؤمن بك لو نجح في تحرير هواجسه بواسطة جيتار مثلاً.
* * *
أنت لا تعرف يا حميد
هناك من لا يزال يطفيء ضوء غرفته كل ليلة، ويتمدد في سريره ثم يضع سماعتين في أذنيه، ويغمض عينيه، ويسمع (باجيلك من ورا الأحزان)، و(ضلاية شجرتنا)، و(مشينا)، و(مرّات)، و(ليلي طويل)، و(جيت الدنيا)، و(جيت يا شتا)، و(بروي)، و(بعد ما كان الحب)، و(عاتبيني)، و(عودة)، و(وين أيامك وين)، و(رسالة)، و(ياريتني نسمة صبا)، و(يا غالي) .. كل ليلة يا حميد يسمع هذه الأغنيات، ويبكي .. أقسم لك أنه يبكي، ولكنه ليس ذلك النوع من البكاء الذي تنهمر فيه الدموع للخارج .. أنت بالتأكيد تفهمني يا حميد .. أنا لم أعد كما كنت منذ ثلاثين سنة، ولا منذ عشرين، أو عشر سنوات، ولا حتى منذ أمس .. كل ما تدفعني أغنياتك لاستدعائه كل ليلة أصبح ميتاً .. حتى الغيوم الشتوية في العصر، والمساء التي كانت تعوم فوق الحجرات، والمقاهي، وصالات الفنادق، ولم يعد لدي سوى صورها .. حتى الغيوم الشتوية أصبحت ميتة يا حميد.
موقع (قل) ـ 29 يونيو 2015

الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

الرمزية السحرية عند نجيب محفوظ

أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن تأثيرات نجيب محفوظ هو السبب الذي يمكن أن يقع ضمن أسباب أخرى ويدفعني للنظر إلى أعماله كتاريخ لا يزال يُكتشف من دهاء الكتابة. أتحدث تحديدًا عن القيمة الرمزية لأعماله أو سر الغواية الدائمة التي لا يتوقف تحريضها على الانشغال بما تنطوي عليه الحيل السردية لمحفوظ وحسب، بل أيضًا بالكيفية التي خلق بواسطتها هذه الحيل، بأساليبه في تكوين العلاقات الملتبسة، واستثمار الخامات الحسية كحضور بشري، وتوظيف الصراعات بين العناصر المشهدية بوصفها جسورًا للإحالات المتغيّرة. حينما أستعيد الآن على سبيل المثال (خان الخليلي)، (الحرافيش)، (بداية ونهاية)، (أولاد حارتنا)، (اللص والكلاب)، (ثرثرة فوق النيل)، (الثلاثية)، (ميرامار)، (السمان والخريف) فإنني أفكر في رموز لم تسلّم نفسها، في تلاعب ماكر بين الفردية والوفرة من خلال المكان، أسترجع هذا التشييد المحكم والمهموم لحيوات ثقيلة، مراوغة، تنفلت الأزمنة كخيال غامض عبر صدوعها المتناثرة والمتشابكة رغم تدفق الأقدار والمصائر داخل ما يمكن أن يُعد أكثر أشكال البناء الروائي التزامًا. ربما يوصف تأثير كتابات نجيب محفوظ بهذا الاستلهام الممكن للبصيرة التي تتأمل حركة المكان داخل الذات. الحدس الذي يراقب كيف يمكن للتقاطعات الزمنية أن تكون تعريفًا استفهاميًا بأرواح مزاجية للمكان. كيف يمكن للانشطارات والتبادلات الذاتية بين الشخصيات وبعضها، وبين الشخصيات والتفاصيل البصرية المتحوّلة أن تكون هوية ملغزة للزمن. كيف يمكن لأكثر النماذج نمطية أن تمتلئ بطاقة رمزية تحوّلها إلى فكرة مجسدة من الغرابة المخاتلة فتصبح هذه الغرابة هي عنوان خصوصيتها داخل كل احتشاد أو تشابه. إن تأثيرات نجيب محفوظ تتجاوز الطبائع الصلبة الجاهزة للحارة والبيت القديم والمقهى والبنسيون والعوّامة والبار والخرابة، وكذلك للفتوة والموظف وفتاة الليل والمتشرد والراقصة والشيخ والطالب. تتعلق بصمة محفوظ بهذا الدعم الجمالي الذي تقدمه للغريزة المستقرة في الوعي. العين الباطنية التي يشكّل رصدها للعالم نسيجًا من الأحلام الخبيثة والتدابير المعقدة والمفارقات المنتهكة للبراءة أو الحياد السطحي الذي تبدو عليه أيقونات وعلامات الواقع. هذا التفتيت للجمود التقليدي المدرك والمحسوس حيث يمتزج الضجر بالضجيج يتخطى فكرة التناقض المألوفة بين المعاني والأشياء؛ فشخصيات وأماكن نجيب محفوظ لا تتنازعها الازدواجيات الشائعة بقدر ما هي خاضعة للإبهام، للثمن الفادح لهذا الإبهام حتى مع عبورها بين نطاقات ثابتة كالحب والخرافة والجمال والواجب والسذاجة والمعرفة والجُبن والحرية والعجز والشجاعة والتشوّه والتضحية والخلاص. هذا الثبات هو قشرة التيه الذي لا تحكمه أضداد بل تعددية سائلة بسحر وحشي يمكن معه أن توقن بأن شخصيات محفوظ حاضرة في أماكنك الشخصية، وأن أماكنه تعيش في شخصياتك، وبالضرورة فإن لحظاته الروائية تمر في مشاهد عالمك الخاص، ولذلك فهي لا تزال تُكتشف مع كل خطوة داخل تاريخك باعتباره مسيرة للعب بكافة البصمات الممكنة.
شهادتي ضمن ملف (أدباء مصريون عن نجيب محفوظ: لم يكن مجرد ناقل أمين للواقع) للكاتب (السيد حسين) في مجلة (الأهرام العربي).
11 ديسمبر 2017

السبت، 9 ديسمبر 2017

تفكيك القصة البوليسية.. العاطفة مقابل الحبكة

تدور قصة (الكلب المفقود) لأجاثا كريستي وهي إحدى قصص مجموعة (أدلة الجريمة) حول مس كارنابي التي تقوم مع عدد من الوصيفات الأخريات باختطاف كلاب مخدوماتهن .. اعتمدت مس كارنابي في هذه الحوادث على الكلب أوغست الذي سبق أن أهدته لها إحدى السيدات اللاتي كانت تعمل لديهن قبل وفاتها ثم ادعت موت هذا الكلب كي تتمكن من استخدامه بحرية؛ إذ كانت تخرج بكلب مخدومتها ـ وهي نفس الخطة التي كانت تتبعها الوصيفات الشريكات لها ـ وبدلا من الذهاب إلى المنتزه تحضره إلى شقة شقيقتها العجوز المريضة وتستبدل به أوغست، وفي المنتزه وبعد أن تقطع الطوق الخاص به ليعود الكلب المدرّب على الرجوع بمفرده إلى الشقة تدعي مس كارنابي لحارس المنتزه أن مجهولا قد سرق منها كلب مخدومتها أثناء انشغالها بطفل ظريف ترافقه إحدى المربيات، وسيقرر حارس المنتزه ـ الذي لا يستطيع أن يفرّق بين الكلاب المتشابهة ـ أن هذه الوصيفة كانت تصطحب بالفعل كلبًا مدللا.
وفقًا لما جاء في القصة فقد وصل عدد حوادث الاختطاف إلى ستة عشر حادثًا خلال عام واحد أي منذ أن حصلت مس كارنابي على الكلب أوغست من مخدومتها المتوفاة مدام هارتنجفيلد قبل أن تدعي موته، وتدرّبه في الخفاء على العودة وحده إلى البيت.
التطابق المتكرر الذي لا يثير الريبة
ستة عشر حادث اختطاف كلاب خلال عام واحد جميعها تتم بنفس الطريقة (الخروج للتنزه) مع نفس الشخصيات (الوصيفات) في نفس المكان (المنتزه) بنفس رد الفعل (تسأل الوصيفة حارس المنتزه بهلع إذا كان قد رأى الكلب مدعية أن مجهولا قد سرقه منها) مع نفس القصة التبريرية الملفقة (انشغال الوصيفة بطفل ظريف مع إحدى المربيات)، ومع ذلك لم يشك أحد في أي وصيفة .. لم يتم منع أي وصيفة من الذهاب إلى المنتزه مع تكرار هذه الحوادث التي يعرفها الجميع، والتي وصفها السير جوزيف وهو الرجل الذي طلب مساعدة بوارو بالمهازل التي يجب وضع حد لها .. لم يتم التنبيه على أي وصيفة ـ على الأقل ـ كي تأخذ حذرها.
ما الذي تريده الحجة العاطفية حقًا؟
استخدمت أجاثا كريستي في هذه القصة حجتين عاطفيتين: الأولى جاءت على لسان مس كارنابي حينما قالت لبوارو بأن العوانس مغرمات بالأطفال، وأنه ليس بدعًا أن تنسى الوصيفة كل شيء إذا صادفها طفل ظريف، ولن تُتهم أبدًا بالتواطؤ والإهمال .. هذه الحجة كان يمكن أن تكون مقبولة لو استُعملت مرة واحدة، أو اثنتين أو حتى ثلاث لو افترضنا أننا نتجوّل في مدينة للحمقى، لكن أن تُستخدم هذه الحجة ست عشرة مرة؟! .. لنتخيل: ست عشرة وصيفة يُسرق منهن ستة عشر كلبًا، كأنه وباء مختص بالوصيفات أو تنويم مغناطيسي جماعي لا يقصد سواهن، ولا يمتلكن سوى قصة تبريرية واحدة لا تتغير للخروج من دائرة الاتهام، ومع ذلك لا تتوجه إليهن أصابع الشك لمجرد أنهن عوانس ومغرمات بالأطفال .. ألا يمكن ـ ولو كنوع من التسامح للمخيلة البوليسية ـ أن يتساءل أحد ما في هذه القصة لماذا لا توجد بينهن وصيفة واحدة على الأقل عانس ومغرمة بالأطفال ومتيقظة في نفس الوقت لحماية كلب مخدومتها خصوصًا مع الإدراك التام بأنها في مكان أصبح موطنًا لخطف الكلاب؟
ولو افترضنا جدلا أن هذه الحجة قد استُعملت على نحو منفصل، أي أن كل عائلة خُطف كلبها لم تعرف أن الإيضاح الذي قدمته وصيفتها كان هو نفسه الذي قدمته جميع الوصيفات الأخريات اللاتي خُطفت منهن كلاب العائلات الأخرى؛ ألم يحدث ولو مرة واحدة خلال الستة عشر حادثًا، وأثناء تداول حكايات الخطف المتعاقبة أن تم الكشف عن هذا التطابق في أقوال الوصيفات بأي طريقة؟ .. ماذا عن حارس المنتزه؟ .. الرجل الذي جاءته ست عشرة وصيفة خلال عام واحد كي تسأله كل واحدة منهن باضطراب إذا ما كان قد رأى كلبها الذي فقدته؛ كيف لم يثر هذا ارتيابه؟ .. ألم يصادف ولو مرة واحدة هذا التكرار في وصف اللحظات السابقة للخطف التي تسردها الوصيفات؟ .. لماذا لم يذكر حارس المنتزه في حواره مع بوارو شيئًا عن بقية الحوادث، واكتفى بتلك التي تخص مس كارنابي فقط؟ .. لماذا لم يسأله بوارو نفسه عن هذه الحوادث؟
تتعلق الحجة العاطفية الثانية التي استخدمتها أجاثا كريستي في هذه القصة بالحالة البائسة لمس كارنابي العانس التي تخشى من مستقبل مظلم مع شقيقتها الكبرى العجوز المريضة، وإذا كانت هذه الحجة قد أسفرت عن ما قام به بوارو من تسوية أخلاقية مع هذه الوصيفة تقتضي بإعادة نقود الفدية الخاصة بالليدي هوجين زوجة السير جوزيف، والتعهد بالتوقف عن الخطف في مقابل ضمان عدم إدانتها قانونيًا فإن هذه الحجة تجاهلت تمامًا استفهامين جوهريين في هذه القضية: ماذا عن نقود الفدية التي دفعتها بقية النساء لاسترداد كلابهن؟ .. ماذا عن بقية الوصيفات اللاتي شاركن مس كارنابي في اختطاف الكلاب وفي الحصول على مبالغ الفدية من مخدوماتهن؟
هاتان الحجتان العاطفيتان اللتان استخدمتهما أجاثا كريستي لم يكن الغرض منهما إعطاء دوافع منطقية لأحداث القصة، وإنما مثلتا معًا ما يشبه محاولة لتغطية ثغرات الحبكة البوليسية التي تتضمن هذه الأحداث؛ فالحجة العاطفية في قصة (الكلب المخطوف) بشكل عام لم تكن أكثر من برهان متعسف ومزيف من الشفقة، تبدو معه أجاثا كريستي كأنها لا تطالبنا بأن نغفر لمس كارنابي بسبب فقرها وعنوستها أو للوصيفات الأخريات بسبب أوضاعهن السيئة بل أن نغفر لأجاثا كريستي نفسها غياب المعقولية في قصتها.
حماية حارس المنتزه
هل كشفت الاستفهامات السابقة عن الثغرات الأهم في القضية؟ .. ربما ينبغي علينا التفكير في أن هذه الاستفهامات أيضًا قد كشفت عن ما يتجاوز هذه الثغرات أي التعتيم الكامل على شريك أساسي في حوادث الاختطاف وهو حارس المنتزه.. الشخص الذي ظل طوال القصة مجرد شاهد، وتغافل عنه بوارو تمامًا ذلك لأن أجاثا كريستي قامت بالتضحية بالمعطيات التي ستقود لإدانته في مقابل تركيزها على الأسباب (الإنسانية) التي جعلت مس كارنابي والوصيفات يقمن باختطاف الكلاب، والتي بالضرورة عليها أن تعفيهن من الإدانة.
لو تأملنا جيدًا شخصية حارس المنتزه سنجد أنه الرجل المسؤول بحكم وظيفته عن المراقبة والحماية، الذي لم يتخذ أي تدابير إضافية مع تكرار حوادث الخطف في المكان المكلف بحراسته، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يثبت صدق القصة التبريرية الملفقة الواحدة التي لا تتغير، والتي تكررها كل الوصيفات لمخدوماتهن دون حاجة لوجود مربية معها طفل ظريف بالفعل داخل المنتزه، وسيكون الغرض من وجود أوغست هو أن يراه الآخرون بصحبة الوصيفة وليس لإثبات هذا الوجود للكلب أمام الحارس.. هو الذي لم يشك في الوصيفات مع تعاقب ستة عشر حادث اختطاف لكلاب خلال عام واحد، ولم يقم بأي تصرف يشير إلى الحذر والانتباه تجاه القصص المتطابقة للوصيفات.. حارس المنتزه هو العنصر الموضوعي في القضية، الذي لا ينتمي إلى العائلات التي تُخطف كلابها، أو للوصيفات اللاتي تدعين عدم التورط، أي أنه المركز المحايد بين صاحبة الكلب والخاطفة، ولولا تواطؤه ما كان للقصة التبريرية الملفقة أي معنى، وما كان في وسعها ـ منطقيًا ـ أن تحقق هدفها .. بالعودة إلى تساؤلين سابقين سنتأكد من أجاثا كريستي قد تعمدت حماية حارس المنتزه من الإدانة:
لماذا لم يذكر حارس المنتزه في حواره مع بوارو شيئًا عن بقية الحوداث، واكتفى بتلك التي تخص مس كارنابي فقط؟ .. لماذا لم يسأله بوارو نفسه عن هذه الحوادث؟
لماذا قصدت أجاثا كريستي إبعاد حارس المنتزه عن القضية؟ .. ربما لأن إدانته كشاهد زور مشارك في الخطف ـ مع تغيّر الحبكة الذي يمنح القصة معقوليتها ـ كانت ستفسد العفو عن مس كارنابي؛ فحينما يتم توجيه الاتهام إلى هذه الوصيفة وحدها سيكون من السهل على بوارو أن يعقد معها ذلك الاتفاق الذي يبقيها خارج السجن، وحتى مع مشاركة وصيفات أخريات في اختطاف الكلاب سيكون من الوارد التوصل إلى تسوية مشابهة سواء كان ذلك صعبًا أو يسيرًا .. أما إدانة حارس المنتزه عن طريق اعتراف مس كارنابي والوصيفات الأخريات بدوره في تأمين الحكاية الملفقة للوصيفات التي لا يمكن لأحد تصديق تكرارها بهذا الشكل، والإقرار بحدوثها ـ لاسيما لو كان حارسًا ـ إن لم يكن كاذبًا ومتواطئًا نظير جزء من نقود الفدية مثلا، إضافة إلى التهمة التقليدية المتعلقة بالتقصير والإهمال في عمله؛ هذه الإدانة التي تغافلت عنها الكاتبة بإصرار ربما كانت ستدفع بجميع المتورطين للخضوع إلى سلطة القانون حيث سيتعذر ـ أو على الأقل لن يكون هناك ضمان كاف ـ لاستثناء أحد من العقاب نتيجة أوضاعه البائسة، وستعجز أجاثا كريستي بالتالي عن إنقاذ مس كارنابي.
 بتانة نيوز ـ 8 ديسمبر 2017

الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

عن (إثر حادث أليم)

أن تقوم رواية على ادعاء مكشوف .. أن تُبني على حدث يعلم كل قارئ منذ البداية أنه كاذب .. يتحوّل التساؤل مبكرًا جدًا وبشكل مقصود من (هل مات الأب حقا؟) إلى (لماذا يستعير الأب الذي هو بالتأكيد على قيد الحياة ابنًا وهميًا لينشر مذكرات طفولته؟) .. يمتد هذا التساؤل طوال الأحداث حتى الفصل الأخير (لغز كاتب المسرح) حيث تكمن الإجابة داخل لعبة عجائبية من المفاجآت التي يمتزج فيها الواقعي والخيالي والسيريالي .. يُستعاد (الحادث الأليم) الغامض من خلال لحظة أعقبت نهاية الثمانينيات بسنوات طويلة، لتكشف الاستفهامات الجوهرية لكل ما في الرواية عن نفسها: الابن، والأب، والحادث، والمذكرات التي تؤرخ لحقبة الثمانينيات ولمدينة (المنصورة) المصرية في تلك الفترة:
(كان قد ترك قبل هذا الحادث العديد من الأوراق التي دوّن خلالها ما حدث له يوم الإثنين 2 يناير  1984 .. كان متواجدًا في المساء داخل المسرح القومي بـ (المنصورة) حيث العرض الأول لمسرحيته (دفة المركب الصغيرة)، وهي ميلودراما من فصل واحد تقوم على تحليل لوحة (إلحاح الذاكرة) من خلال علاقة (سلفادور دالي) بوالديه، مدموجًا بتجسيد لصراع فصامي متخيل مع (هاملت)، وشخصية الكاتب نفسه .. اعتمدت سينوغرافيا المسرحية بشكل أساسي على خلفية متحركة، مكوّنة من تداخل الشذرات المماثل للعبة (بازل) بين زوايا وقطع مجتزأة من لوحة (دالي)، ومن صور لممثلين عالميين على مسارح مختلفة أثناء تأديتهم لدور (هاملت)، وأيضًا من لقطات فوتوغرافية لطفولة الكاتب، والتي تم أخذها داخل صالون بيته في أحد أعياد الميلاد، أو مع أسرته في اليوم التالي .. كانت هذه الخلفية تتبدل أحيانًا ليحل مكانها جثث وأشلاء صور كاملة للمصوّر (جويل بيتر ويتكن) بالأبيض والأسود، تحت تركيز راقص لمزيج ضوئي من الدوّامات الذهبية، والحمراء، والزرقاء، تقترن بانبعاث الدخان في الفراغ السفلي للمسرح بما يقارب التشكيل البصري لأغنية (Leila The Queen of Sheiba) لفريق (Dolly Dots) عام 1981 ولكن مع السيمفونية السادسة لـ (تشايكوفسكي)، وقصائد (ديلان توماس(.
كتابة المذكرات في الرواية ــ وبحسب ما ورد في متنها ـ لم تكن بريئة تمامًا من الرغبة في الانتقام من الذكريات كسبيل لمواجهة الطغيان المذل للتشويش على مشاهد الماضي، أو الضوضاء التعذيبية الثقيلة، والمتراكمة التي حرمت كاتبها من الحضور الحاسم لتفاصيل تلك المشاهد في ذهنه، أو التي مرت كومضات برق ضعيفة وخافتة، تعمّدت بخبث أن تترك أثرًا شاحبًا سرعان ما تبدد كل مرة بتشفٍ سادي. كأن كاتب المذكرات كان محكومًا بالثأر من الصور المختبئة في النسيان، أو التي رفضت المرور إلى يقظته، وهو يعرف تمامًا أنها مستقرة داخل ظلام لا يستطيع اختراقه. الانتقام من اللحظات المراوغة التي تهرب وتضيع، ومن الأحلام المشكوك في واقعيتها، وقبل كل شيء من تلك الأضواء البيضاء الضعيفة التي تسطع تدريجيًا بداخله، كأنها تتهيّأ للاستجابة لاستغاثاته، بينما يحاول كممسوس تفارقه الروح جذبها نحو الوضوح الكامل فتتبخر فجأة:
(كتبت هذه المذكرات مقررًا المضي قدمًا دونما انشغال هل ستطاوعني الذكريات أم لا .. هل ستساعدني على استردادها أم ستواصل قهري .. كأنه في حقيقة الأمر ليس انتقامًا بل على العكس كان خضوعًا بديهيًا لسحرها، الذي يقودني بالضرورة للرقص مع أشباحها بالخطوات اللائقة .. الرضوخ لحكمة الفردوس القديم، الذي يأبى التنازل عن غموضه كي يبقى خارج العالم).

السبت، 2 ديسمبر 2017

أيام ما كنا لبعضنا: الإنصات للضحك

كان وصف (المتوالية القصصية) هو الأكثر دقة عندي لمجموعة (أيام ما كنا لبعضنا) لنهلة أبو العز، الصادرة حديثًا عن دار روافد؛ فالقصص تدور داخل مكان واحد (الحارة) كما أنها تتناول حياة مجموعة محددة من الشخصيات المتكررة التي تعيش فيها، والأهم من هذا أن القصص لا تنتهي بأحداث ختامية قاطعة تفصل كل قصة عن الأخرى وإنما تأتي نهاية كل قصة بما يشبه التعليق التقريري أو الإشارة الوصفية التي تجعل من هذه القصة مجرد فصل لم يُغلق أو (حالة اجتماعية) على سبيل المثال ضمن سيرة أكثر اتساعاً وهي الحياة داخل الحارة التي تمتد عبر قصص المجموعة.
لكن بعيدًا عن التصنيف أتصوّر أن التصدير الذي افتتحت بكلماته نهلة أبو العز مجموعتها وهو من الحكاية رقم 77 من حكايات حارتنا لنجيب محفوظ؛ أتصور أن هذا التصدير أشبه بالعين الداخلية أو البصيرة التي لها دورها الهام في قراءة القصص، وبالشكل الذي يتجاوز الارتباط بين التفاصيل المشتركة لعالم الحارات المصرية .. أتحدث تحديداً عن القيمة الجمالية للضحك التي يؤسسها هذا المقطع:
"تذكرتُ أنني طالب بين طلبة متنافسين، في مدرسة تجمع بين طلبة الأزقة المتخاصمة، في حارة وسط حارات متعادية، وأني كائن بين ملايين الكائنات المنظورة وغير المنظورة، في كرة أرضية تهيم وسط مجموعة شمسية لا سلطان لي عليها، والمجموعة ضائعة في سديم هائل، والسديم تائه في كون لا نهائي، وأن الحياة التى انتمى إليها مثل نقطة الندى فوق شجرة فارغة ، وأن على أن أسلم بذلك كله ثم أعيش لأهتم بالأحزان والأفراح، لذلك لا أتمالك نفسي من الضحك."
إنه الضحك الذي يمكن بل من الضروري الإنصات إليه داخل الحكايات المختلفة: حينما يرقد (فيشة) في المستشفى مريضا بفيروس سي، والذي لم يعطه وقتاً لأكل تفاح عم (سيد) الذي جاء به إليه في زيارته. حينما تعود (يسرية) التي تنظف سلالم العمارات إلى طفلها الصغير الجائع بكيس شيبسي كهدية إضافية ثمينة مع إفطاره. حينما تضحك (أم شلبي) وهي تتساءل بتفاخر (هو فيه نسوان في الحارة في حلاوة الداية؟) بعد أن اكتشف أهل الحارة زواج (أبو علا) بها على زوجته.
(الذهول يسيطر على الموقف والرجل لا يرد ويكتفي بوضع وجهه في الأرض، خرجت «أم شلبي» من المنزل ترتدي قميص نوم ستان أحمر طويلًا وعليه روب ستان مفتوح، شعرها مفرود على طوله، وجهها أبيض مُشرب بحُمرة، تهادت وسط الزحام برشاقة وثقة نجمة على سجادة مهرجان كان الحمراء، ووقفت وسط الجميع وبدأت الحديث والعيون عالقة بها:
- فيه إيه؟ متجمعين في الخير دايمًا، أحب أطمنكم، «أبو علا» كان عندي وكنا بنتعشى سوا، طابخة له فتة ولحمة زي ما طلب، ما هو من حقه يطلب، مش جوزي؟!).
يُعرّف الضحك نفسه هنا بوصفة أكثر ما في الألم من مرارة، وأكثر ما في الغرابة من دهشة، وأكثر ما في الاستسلام من خضوع للقدر. إنه الإدراك الثابت داخل الصور المتغيرة للعالم لتلك الضآلة الشخصية التي قصدها نجيب محفوظ في تصدير المجموعة. أن الضحك ببساطة هو كل ما في وسعك القيام به كاستجابة لائقة بحقيقتك (الكوميدية) كنقطة ندى فوق شجرة فارغة.
(سمع صوت «أم فتحي» ومعها أحد تطرق الباب، فتح وهو غير مرحِّب بأي شخص يأخذه منها، دخلت، هرب من نظراتها، قالت وهي تجلس على الكنبة:
- اسمع بقى، انت زي ابني وهي بنتي، من يوم ما جت الحارة واشتغلت في الحضانة وأنا نفسي أفرح بيها، هي مقطوعة من شجرة، وأبلة «عفاف» صاحبة الحضانة بتخليها تبات في الحضانة.
كان يسمعها وهو يعد الشاي، متمنيًا أن تكف عن الكلام، فجأة سقطت صينية الشاي من يده، هي «رحمة»، نفس خجلها ونفس رقتها، وقامت هي من جنب «أم فتحي» وألقت بنفسها في حضنه).
يمكننا ملاحظة أيضًا أن طاقة الضحك الذي يتوجب الإنصات إليه تصل ذروتها في نهاية القصص، وهي بطريقة إيحائية تعادل الوصول إلى نفس الذروة في نهاية حياة كل شخصية .. كأن هذه الدرجة القصوى هي الختام المنطقي لسلسلة من المفارقات الحتمية غير المعقولة التي تمثل التاريخ (الهزلي) لهذه الشخصيات، وحينما نستخدم صفة (الهزلي) هنا فكأنما نحاول أن ننتج تحديداً أو هوية ملائمة لمعاناة غير قابلة للإحاطة أو التفسير أو حتى الرؤية.
(قبل ما تضربيني اسمعيني، أنا بكره الحضانة خالص.. العيال هناك ريحتهم وحشة وأبلة «عفاف» على طول بتزعق، وكل يوم تحفَّظنا نفس الكلام وساعات بتسيبنا وتتكلم مع واحد في التليفون، قلت لها أنا عاوزة أرسم ضحكت عليَّ وهي بتقوله في التليفون بنت «علية» فاكرة روحها فنانة، وكمان هترسم بالعشرين جنيه.. مش كفاية متحملة قرفكم؟! خليني يا ماما أستنَّاكي في البيت أو عند ستي لغاية ما ترجعي، أنا هاعلِّم نفسي ومش عاوزة أروح تاني).
تستخدم نهلة أبو العز الراوي العليم في قصص المجموعة وهو ما يدفعنا للتساؤل حول الشخصية التي تتقمص دور هذا الراوي داخل الحارة، والتي يمكن الشعور بأنها ظلت متوارية طوال الوقت .. إن من ضمن ما يمكننا استنتاجه عن هذه الشخصية هو المسافة الفاصلة التي تتخذها بين وجودها المبهم وكافة الحكايات والمشاهد البصرية التي ترصدها .. المسافة الآمنة التي تتيح لها عدم التورط بوصفها جزءً من لعبة القهر اليومية لأهل الحارة حتى لو كانت عنصرًا جسديًا منها، وفي نفس الوقت يجعلها نسخة دالة من جميع الشخصيات الأخرى، لديها القدرة على تخطي الحيز الضيق لحركتها. إنه أمر شبيه بما كتبه هنري برجسون في كتابه (الضحك):
(ابتعدوا بأنفسكم ، شاهدوا الحياة كمتفرج لا مبالٍ.. الكثير من المآسي تتحول الى كوميديا يكفي أن نسد آذاننا بوجه صوت الموسيقى في صالون فيه حفلة راقصة حتى يبدو الراقصون سخفاء في الحال).
إن تساؤل (من يراقب؟) هو استفهام يتعلق بالكيفية التي يمكن معها أن تتحوّل الفرجة اللامبالية إلى انحياز في أعظم صوره. بالطريقة التي يمكن من خلالها أن يصبح الحياد المنعزل هو الشكل الأقوى للتعاطف. إن الراوي العليم هنا بمثابة تجسيد مختبئ للإيمان المتحسّر بضرورة ألا تمر كل هذه الآلام ثم تتلاشى دون ثمن ولو كبصمة كتابية للضحك.
(رفع وجهه فانهمرت دموعه.
- ما لك يا أبو ولادي؟ فيه حاجة حصلت؟
رد عليها وهو يُجفف دموعه بُكم جلبابه:
- «عبد الوهاب» مات.
- «عبد الوهاب» مين؟
- «عبد الوهاب» يا ولية! المغني، موسيقار الأجيال.
- آه.. الله يرحمه، وانت بتعيط عليه ليه؟ كان من بقية أهلك؟
- طول عمرك جاهلة، «عبد الوهاب» هو الراجل اللي لما أسمعه تتغير أحوالي، هنسمع مين بعده).
يمنحنا عنوان المجموعة ملامح للراوي العليم الذي يتنقل من قصة لأخرى .. يعطينا إلهاماً بطفولة ما لهذا الراصد المتواري، ويمكننا بالعودة إلى الملاحظة الافتتاحية لهذه القراءة عن أن القصص لا تنتهي بأحداث ختامية قاطعة تفصل كل قصة عن الأخرى وإنما تأتي نهاية كل قصة بما يشبه التعليق التقريري أو الإشارة الوصفية التي تجعل من هذه القصة مجرد فصل لم يُغلق أو (حالة اجتماعية) على سبيل المثال ضمن مشهد أوسع وهو الحياة داخل الحارة التي تمتد عبر قصص المجموعة؛ يمكننا بالعودة إلى هذه الملاحظة اكتساب دعم إضافي لهذا الإلهام الخاص بالطفولة وفقًا لانسجام هذا الطريقة في المراقبة والتدوين مع الذات الطفولية .. قد يكون الراوي هو الطفل الذي تعمّد الغياب عن جميع القصص، وقد يكون واحدًا من الأبناء الذين تعاقب حضورهم قصة بعد أخرى، وهو في جميع الأحوال يخاطب في العنوان (أيام ما كنا لبعضنا) هذا الآخر الذي بمقدرونا اعتباره كل شخصية داخل المجموعة حيث تستطيع أي من هذه الشخصيات بدورها أن تخاطب أي آخر على هذا النحو كأنها تخاطب الزمن أو بالأحرى تخاطب هذا الهامش القديم المتبدد الذي كان يمكن من داخله أن نتأمل العالم ونضحك بصورة أُجبرت على المحو.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 2 ديسمبر 2017

الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

الروائي ممدوح رزق بين فرحتين

تم اختيار ابنة الروائي ممدوح رزق الصغيرة لتكون مطربة الحفل الدينى الذى ستقيمه مدرستها للاحتفال بالمولد النبوى وقد عبر الروائي الذى صدر له حديثا روايته الجديدة "إثر حادث أليم " عن الهيئة العامة للكتاب عن سعادته باختيار مطربته الصغيرة لتغني فى حفل مدرستها.
 ممدوح رزق هو كاتب وناقد مصري. صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة. حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
جمال فتحي
بتانة نيوز ـ 29 نوفمبر 2017

مناقشة مجموعة (مزيد من كل شيء أو لا شيء على الإطلاق) لحازم عزت سعد بالمكتبة العصرية









الاثنين، 27 نوفمبر 2017

البرد

لا ينامون في الليل بسبب صوته .. الصوت الذي كان مرعبًا جدًا حينما سمعوه للمرة الأولى منذ عدة أسابيع .. الذي لم تكن كلماته مفهومة ثم أصبحت مستوعبة بالتدريج .. الذي صار مألوفًا ولكنه لا يزال مزعجًا .. صوت الطفل الخفي الذي يتحرك في الشقة آخر كل ليل، ويقول بحروف متكسرة وشبه مطموسة إنه يشعر بالبرد رغم ملابسه الثقيلة، وإنه يحتاج فقط ليدين كبيرتين ترتبان الثياب الكثيرة التي يرتديها فوق بعضها، وتحكمان إدخال أطرافها تحت بنطلون بيچامته .. لا ينامون في الليل لأنه طفل مزعج، ولا يستطيع أن يفهم رغم محاولاتهم المتواصلة لإخباره بأنهم موتى.
اللوحة لـ arthur bianchini
موقع (الكتابة) 26 نوفمبر 2017

السبت، 25 نوفمبر 2017

الناقد المخصي

في روايتي (خلق الموتى) الصادرة عام 2012 كتبت هذه الفقرة:
(يؤكد "أمبرتو إيكو" على أننا نكتب لقاريء، وأننا بالكتابة نريد أن نقول شيئاً ما لشخص ما، وهذا ما يدفعني للتفكير دائماً في أن الكتابة ليست ـ ولا يجب أن تكون ـ فعلاً مسالماً أبداً، بل تمثّل طريقة مضمونة لاكتساب أعداء جدد بقدر الآخرين المحتملين الذين سيعتبرون النص صديقاً يمكن قبوله في حياتهم بشكل ما. على الكاتب أن يعتبر العداوة مكسباً يتساوى أو قد يفوق أحياناً الصداقة).
أثناء كتابة (الفشل في النوم مع السيدة نون) كان بديهياً بالنسبة لي تحديد أعدائها .. النوعية المعروفة من القراء والكتّاب والمحررين الأدبيين الذين تستفزهم كتاباتي عموماً، بالإضافة إلى نماذج أخرى ستنضم إليهم بفضل تفاصيل خاصة بموضوع الرواية .. ماذا عن مدرسي اللغة العربية، وشيوخ الجوامع، وأمناء الشرطة؟ .. الذين ينقذون العالم بقدر موضوعات التعبير التي يصححونها، والخُطب التي يلقونها من فوق كل منبر، وتشوهات الحياة التي يعالجونها في أقسام البوليس؟ .. ماذا عن النقاد؟ .. يبدو أنني قلت ما فيه الكفاية عن هذه الفصيلة التي كان متوقعاً بالطبع أن تحرق دماءهم (الفشل في النوم مع السيدة نون).
يكاد يكون من باب القانون الأدبي أن (الناقد) ـ خاصة لو كان أكاديمياً ـ هو كائن أعلى شأناً، وأرقى مكانة، وأرفع منزلة ممن يسمى بـ (القاريء العادي) .. فلتذهب الجذور التاريخية التي رسخّت لهذه السلطة إلى الجحيم؛ فما يعنيني الآن أن هناك كتابة أدبية يضاف لمنجزاتها قدرتها على فضح الوهم الفاصل بين (الناقد)، ومن يسمى بـ (القاريء العادي) .. بين رسول كليات الآداب، المنتفخ بفاشية قيم وأخلاق (السيد أبو العلا البشري)، والمكلف بإخضاع البشرية للثوابت التي لا صحيح غيرها للسمو والجمال، وبين الشاب الذي يعتبر نفسه (قارئاً عادياً)، ولم يخطر في باله وهو يكتب ريفيوهات للكتب على (جودريدز) أو (أبجد) أن يسمي نفسه (ناقداً)، رغم أنه يبحث أيضاً في كل رواية عن (الحكاية)، وعن (المغزى النبيل)، ويرفض (البذاءة).  
لكنني لو أردت تعيين فروق ـ ربما لن تكون جوهرية مقارنة بالحد الأساسي الفاصل الذي لا وجود له ـ فإنني سأضع الانتقام من الكاتب كاحتياج مركزي في سلطة الناقد .. الشعور بالدونية الذي يعاقب الكاتب لكونه كاتباً .. ماذا لو كان الكاتب ناقداً أيضاً، وتناول في عمله الروائي ما حققه من نجاحات نقدية؟ .. هل يمكن تخيّل أي سواد سيواجه به الناقد هذه الرواية؟! .. إن فرص ظهور هذه الحالات بين من يسمون بـ (القراء العاديين) أجد احتمالاتها أقل ولسبب بسيط في تصوري، أنهم لا ينتمون أصلاً إلى هذا الجزء من المرحاض العمومي.
الفرق الآخر هو امتلاك الناقد الأكاديمي لما يظنه قوة تخدمه في الهجوم على (خصومه)، وإرهابهم، وتحميه في نفس الوقت من شرهم .. القوة التي يسميها (العلم) خصوصاً لو كانت مدعومة بقدر ولو بسيط من التزمت الديني .. كأنه لا توجد معرفة أدبية أخرى يمكن للكاتب أن يُدرسها لذلك الناقد، وكأنه لا توجد معرفة نقدية أخرى يمكن لناقد آخر أن يُدرسها له، وكأنه لا يوجد روائي وناقد ـ مثلاً ـ يمكنه أن يُدرس لذلك الناقد نفس المقررات التي يحشرها داخل عقول طلبته في المحاضرات والكتب، ولكن بشكل لم يسبق له استيعابه من قبل .. من يُسمى بـ (القاريء العادي) لا يمتلك سكين داعش الهزلي المعروف بحرف الـ (د) قبل اسمه.
ذات يوم طلب مني الأصدقاء في نادي أدب المنصورة إعداد دراسة نقدية عن مجموعة قصصية ستتم مناقشتها في النادي .. لم أجد منذ الصفحة الأولى ما يدفعني لتكوين أي علاقة مع ما أقرأه .. رغم ذلك أكملت المجموعة منتظراً العثور على طرف خيط لكن هذا لم يحدث على الإطلاق حتى الكلمة الأخيرة .. اتصلت بصديقي المسؤول عن الندوة، واعتذرت عن الحضور، ولم أتحدث عن هذه المجموعة أبداً.
هناك في رصيدي كناقد ما يستحق أن أتباهى به، ولكن يكفيني القول الآن أنني لم أحكم من قبل على عمل أدبي بعد ثلاث صفحات، وأن أطلب من صاحبه ألا يحاول الكتابة ثانية، متعللاً بمنطق (مزاجنجي) في فيلم (الكيف) حين قال للريس (ستاموني): (الجواب بيبان من عنوانه) .. لم أعيّن نفسي وصياً على القراء، وأحذرهم من قراءة كتاب ما .. لم أطلب من كاتب أن (يتعلّم) مني، ولم أقل في يوم من الأيام أن نقدي هو (الحالم والصادق الوحيد في هذا العالم، يطمح لبناء عالم واسع جميل) .. يالضحك السنين.
موقع (الكتابة) ـ 31 أكتوبر 2014