السبت، 31 ديسمبر 2022

"مألوف": الكائن مدموغًا بسرِّه

في ورقتي البحثية "اختصارات حول الفانتازيا" والخاصة بالمائدة المستديرة التي عُقدت تحت عنوان "الرواية والفانتازيا" بملتقى القاهرة للرواية العربية 2015 كانت هذه السطور:

"إذا كان الوعي بالغرابة في مقابل المألوف يمثل استجابة تلقائية لا يمكن تفاديها فعلى تلك الاستجابة أن تكون بداية التعارف وليس نهايته .. أتحدث عن مهمة النقد في الخروج بالعجائبي من الرواية إلى الوجود، أي تعيين غير الممكن ـ بحسب الظن السائد ـ في قلب الممكن المفهوم وليس مجرد الاكتفاء بلذة الوقوف عند ما تم الاعتياد على تسميته بـ (العوالم الموازية) .. أفكاري هنا لا تقصد المقارنة أو الاستبدال أو الإحالة إذ لا يزال كل ذلك خاضعاً لسلطة التنميط والفرز، وإنما أقصد إعطاء الفانتازي ثقل الحتمية، وإلزام المنطق، وسطوة القانون؛ فالغرائبية ـ وهو ما يفترض في تصوري أن يتكفل به جهد جوهري في عمل الناقد ـ يجب الكشف عن كونها ليست انصرافاً عن الواقع بل هدم لما يُعتقد أنها حدود له تحافظ على بقائه كمجرد (واقع)".

أعتقد أن مجموعة الكاتبة ابتهال الشايب الصادرة عن دار النسيم بما تختبره قصصها القصيرة، وبالعنوان الذي تحمله هذه المجموعة "مألوف"؛ أعتقد أنها تقع تمامًا في ما تطارده هذه السطور .. إنها تقدم سرديًا ما يشير إليه هذا التحريض النقدي .. الوعي بالغرابة لا يعني انسحابًا لذلك الذي لا يمكن تمييز حدوده بمسمى "الواقع".  

("الكتابة وسيلة لإثبات أن الإنسان غير موجود بشكل كامل"

إحدى الجُمل التي كتبها الشخص غير المرئي في دفتره .. الذي وُجد بداخل منزله مُغطى ببعض قطرات البول، وكلمتين طيبتين، وابتسامة واحدة لطيفة).

في قصة "خارج" ثمة نفاية مستبعدة من الوجود (دليلها الكتابة) .. نفاية بألف لام التعريف "الشخص غير المرئي" وليس "شخص غير مرئي" أي أنه في تجاوز أزلي لفرديته "هو / نحن"، خاضع لصيرورة الاختفاء باعتباره "الإنسان"، ومن ثمّ فإن الكتابة خاضعة بالضرورة للتخطي / التغير والاستبدال .. غير المرئي (محتجب داخل جسده / محتجب داخل السر الذي يسبق جسده ويمتد بعد فنائه)، ولكن المرئي: "قطرات البول ـ كلمتين طيبتين ـ ابتسامة واحدة لطيفة" ما يتحتم أن يُطبع كهوية للجسد بوصفه شيئًا "رديئًا، مضحكًا، ومثيرًا للشفقة" في العالم، وهو ما قد يستدعي الاستعمال الشبقي للبول والغائط عند جورج باتاي وتشاك بولانيك مثلًا  ... الشخص لا يؤكد حضوره "احتجابه داخل جسده" إلا بالجُمل المكتوبة في الدفتر وقطرات البول والكلمتين الطيبتين والابتسامة الواحدة اللطيفة .. الدلائل التي تصلح لأن تكون كل منها محل الأخرى / تنويعات على "نفاية من الغياب" .. الدفتر يجعل الجسد "برهان الغياب" .. نفاية تعرض تناغمها مع كونها نفاية، وبما يستدعي شعورًا بالثأر التهكمي لكونها نفاية، تكتب في دفتر "تشير إلى أنها أثر لعدم الوجود" .. نفاية في حالة امتزاج مع بصمتها المتحوّلة (الشخص والدفتر يصيران شيئًا واحدًا وفقًا لقابلية التفاصيل أن تشملهما عند مقاربتها حرفيًا ومجازيًا معًا"، مهانة مسالمة بشيء من الحميمية الساخرة  .. الإيجاد هنا إعلان لنهاية ما "لم يحدث في لحظة سابقة وإنما عند اكتمال محكم لـ "اختفاء" بين الجسد وسرِّه / بين الحاجز والمحتجب .. الإيجاد إعلان لإفاقة عابرة تجاه الموت .. الموت هو الذي وجد "الدفتر / الشخص غير المرئي"، وذلك عبر الموتى الذين كان موتهم يمر من خلال "لا مرئيته" قبل تتعيّن "الحياة / حياته التي لم تكن" أمام عمائهم  .. إثبات ما كان موجودًا "شكليًا"، ولم يكن منتبهًا إليه قبل لحظة العثور على دليل حضوره المتبدد .. إيجاد الحياة لا يتم إذن إلا بالموت، إيجاد غيابها.

"قرأت في إحدى الصحف التي اشتريها كي أضع عليها الطعام .. إن عددًا من الأشخاص باتوا لا يعرفون ما يقولونه أو يفكرون فيه أو يتبرزونه، يجهلون ماهية العرق، البلغم، المخاط، الدم، الدموع، والبول"

الدفتر / دليل الاستبعاد / الاحتجاب يصبح هو الحياة، لا شيء يحدث خارجه، النص المتناثر الذي تتبدل شخصياته وأحداثه بحسب الاستعمال اللغوي للغائب داخل جسده .. الغائب داخل السر الذائب في الكلام، البراز، العرق، البلغم، المخاط، الدم، الدموع، والبول، أي في ما لا يمكن التعبير عن "الكينونة" إلا بواسطته .. ما لم يسمح "الحضور" المقصي بالإشارة إليه إلا من خلال " فضلات الداخل" .. ثمة اتساق أنطولوجي "جمالي" هنا في اعتبار "الكلام" و"الدم" كذلك .. ما يفرزه السر كـ "ناتج كريه" زائد عن الحاجة .. كاستجابة لرجاء كشف غيبيته .. الفضلات التي حين أخذت موضع الكينونة صارت هي نفسها هذه الكينونة، أي أصبحت الكائن مدموغًا بسرِّه .. التي حين تتجسد في "الخارج" لا تتحوّل من "سر" إلى "نوع من المعرفة" وإنما تظل "فضلات" .. لا يتحقق الجسد إذن "يثبت وجوده" إلا بقدر امتهانه العفوي للذات المستبعدة .. الذات المحتجبة التي لا تعدو ـ كتصوّر للخلاص / احتياج عادل لاسترداد النجاة ـ سوى أن تكون محض قذارة فائضة عن ذلك الجسد، أي فائضة عن الموت.

 "علمت من صديق لي أن أحد أقربائه ذات يوم هبّ من مكانه فجأة وكأن شيئًا وخزه، ثم أخذ يصيح في منزله بصوت عالٍ، ويستنجد وهو يرتجف من شدة  الرعب، قال لزوجته وأولاده وهو يصرخ.. إن أصابع بشرية على هيئة أسياخ، تبرز من كل مكان حوله، تقترب منه لتنغرز في جسده، حتى بدأ يختفي تدريجيًا وهو يحاول أن يُريها لهم، كان يشير بيديه إلى الفراغ".

الفضلات لا يتم التخلص منها .. تتحوّل إلى أصابع بشرية مسنونة / أسياخ تبرز في الفراغ، من جميع الثقوب، كأنها تكافح بعنف الإخفاق أن تعاقب "الشخص" الذي توقع لها أن تكشف عن ما هو محتجب حين كانت بـ "الداخل" .. كأن "الأفكار" في "الداخل" حين أصبحت "كلامًا" في "الخارج" تحتم عليها ألا تكون زائدة عن الحاجة فحسب بل المقابل "التنكيلي" للاستبعاد .. دفتر الغائب هو ما يوثق ذلك التحوّل للفضلات إلى أشباح طاعنة في هيئة أصابع .. دفتر الغائب هو ما تُفصِح داخل صفحاته الكينونة التعذيبية عن نفسها .. الفضلات إذن هي (نحن) كرجاءات محطمة، عارية، حسرات ساطعة، النهايات الواضحة التي تحنطت أرواحنا داخلها من قبل أن تولد .. الأصابع هي الكلمات التي دائمًا ما تكوّن الجملة ذاتها "الكتابة وسيلة لإثبات أن الإنسان غير موجود بشكل كامل"، وما التفاوت بين الأصابع إلا تفاوتًا بين صياغاتها، نبراتها، الغايات الكامنة في تشكيلاتها .. هو دفتر للموت إذن من حيث أراد أن يكون سجلًا للحياة.

”تكوّنت بعض الشقوق على جسدي، ارتدتني الحوائط منذ زمن، بدأ النمل يغزوها، ويرسم شقوقًا منحرفة، تلتصق الأحجار بالأرضية فتصير خشنة قليلًا وغير مستوية، الورشة أشبه بكهف مظلم يُضاء من وقت لآخر بألسنة اللهب المنطلقة من آلات اللحام، مقاعد خشبية ذات مسامير بارزة. تنظر الماكينة في إمعان، يعتز بها صاحب العمل كثيرًا، لم يهتم بالمبلغ الكبير الذي اشتراه بها، يستخدمها بحرص ويصطحبها معه إلى كل مكان خوفَ أن تُسرق .. أو أن يُسيء أحد استخدامها".

هل الموجودات المحيطة بالماكينة هي التي تدوّن سيرتها من خلال حديث كل موجود عن نفسه في قصة "لا شعوري"، أم أن الماكينة هي التي تستنطق هذه الموجودات بصورة خفية لتكتشف نفسها عبر وعي كل موجود منها بذاته؟ .. لكن الموجودات لا تدوّن سوى ظاهر الماكينة، سطح طبيعتها الذي لا يضيء باطنها .. ما هو منذور دائمًا للمحو .. إلى أي شيء ينتمي هذا العجز عن الوصول إلى الجوهر؟ .. الماكينة أم الموجودات؟ .. كأنهم جميعًا يقولون "نحن لا نعرف سوى ما تبدو عليه وحسب" .. كأنهم يقولون أيضًا "ما تبدو عليه يجعل ما نعرفه عن أنفسنا ليس كافيًا أبدًا" .. إن الموجودات تدوّن عدم قدرة الماكينة على أن تتحدث عن ذاتها بقدر إدراك كل موجود ذلك عن نفسه .. غفلة متبادلة .. هل يذكرنا هذا بشيء عن اللغة؟ .. عن إنتاج اللغة لأجسادنا؟ .. عن تكوين ما تصمت عنه اللغة لأجسادنا؟ .. أي جسد؟ .. ليس فقط ذلك الذي يمكننا لمسه / رؤيته / التنقل به من مكان لآخر، وإنما ـ على نحو أعمق ـ ذلك الذي نحاول الانفلات من إكراهاته الكبتية المبهمة.

"يسخرون من الحقيقة، يُضحكني ذلك، أمر يدعو حقًا للسخرية، أضحك ضحكات عالية، أتنقل بين المكاتب لأرى من يضحك مثلي؟ من لديه استعداد؟ أنظر بعيدًا إلى نافذة غرفة الاجتماعات لعلني أجد شخصًا يضحك، ما يزال هناك بعض زملائي الذين أدخلوا رؤوسهم في المشانق والمعلقين فيها ثابتين، يعجبني ثباتهم .. كم هم أقوياء ليظلوا هكذا منذ أن وضعت المشانق لهم. الضحكة شيء وقتي، أتركها وأتجه إلى جوارهم".

في قصة "مألوف" لا نبصر ذلك المعرّف بالعجيب / "غير الممكن" دالًا / منفصلًا عن الوجود، وإنما ما يجدر فهمه كتمثيل غريزي للمنطق .. تجسيد عفوي وبديهي لـ "واقع"، مرئي بطريقته، ملموس كما يقتضي حاله، موثق خارج العماء المسيّج بتخوم استعبادية قاصرة .. "ألبير كامو" يبدو راويًا لهذه القصة: الشقاء السيزيفي أو الانتحار .. "المألوف" ـ مشتملًا ما يتجاوز قناعاتنا الحسية ـ الروتيني والعبثي أو إنهاء الحياة .. الصوت في القصة أشبه بإشارات متباينة النبرات إلى هذه "الحقيقة" .. "أمواج عالية" في مواجهة البطء / الرتابة .. لكن الصوت يشير بالضرورة ـ وفي المقام الأول ـ إلى نفسه .. إلى الوعي بالمأساة كتمرد على الشقاء والانتحار .. الانتباه "ولو مؤقتًا، متدثرًا بالضحكات" ـ في حد ذاته ـ و بالطبع مازال كامو برفقتنا ـ إلى التوحد بـ "المرارة" ومراوغة العزاء .. اليقظة ـ كسبيل للمقاومة لا الحماية ـ إلى اللعنة الأزلية: إما أن تستمر في حمل الصخرة المتدحرجة من الجبل أو أن تُدفن تحتها .. الصوت هو دفتر الشخص غير المرئي في قصة "خارج".

"يغرق لون جسدي في السواد. تتحرك الأشياء على رأسي وتتخبط معًا، أين هو الآن؟ بلطف يوجهون عيونهم بعيدًا .. كي لا يبدو أنهم غير قادرين على تحمّل رائحتي. تركني هكذا دون سبب، لم أقم بإزعاجه قط .. لأنني لا أعرفه في الأساس، ولا أعرف كيف هو شكله أو ملمسه أو رائحته، بالتأكيد له رائحة .. ورائحة مميزة، يجب أن أسألهم لأتأكد".

في قصة "احمرار" ثمة "حدوث" فعلي لما يمكن تسميته بـ "حياة الباطن" .. الحياة التي ليست في حاجة للدفاع عن "حقيقيتها"، أو الاستجابة للمطالبات "العقلانية" بتقديم حجج مشبعة لبصائر معطلة .. حياة تسرد ما يهيمن علي محاولاتها لرصد / تشريح "الجسد" أي صياغتها كنظام غير منضبط من "العفن"، "السواد"، "الشروخ"، "الخدر"، "الألم" .. ثمة معيار للسرد يرتبط بذكرى "الجرح" كموضع منفلت للمعاناة .. الأثر الذي يتركه الجرح في الماضي "البتر مثلًا" لا يبقى ملتصقًا بمصدره .. يشيع في الجسد كاملًا دون قدرة على تحديد مكانه .. "كلية الألم" تظهر كأنها في حالة نفي له .. كأنها تعمل بطريقة تناقض الشعور به؛ الألم الشامل يحررك من الخضوع لشروطه .. لكن هذا "التحرر" هو إثبات لـ "جثة" كل ما في الأمر أن ما "يؤلمها" ليس مرهونًا بما هو منتظر .. أنها تشعر بالألم على نحو آخر .. يؤلمها جهلها بالألم .. أن يديها لا تقبضان إلا على ذلك الخواء .. الحرية هنا تُقارَب بعدم الامتثال إلي يقين للألم .. الحرية التي قد تصلح لأن تكون حلمًا بالبطولة الخارقة في بُعد هازئ بمصدر الألم .. بكل الذين يعيدون إنتاج وتدوير الألم .. الحياة حين تُسرد بطريقة عكسية "التفسير المضاد للعنف أو البلادة الساخرة" فإن الجسد يكشف عن "الحقائق الاستفهامية" الكابوسية الكامنة في كل ما يتصوّر أنها "حقيقة واقعية" مؤكدة ووحيدة.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 31 ديسمبر 2022

ممدوح رزق يناقش “مألوف” في نادي القصة بالقاهرة

في السادسة والنصف مساء الإثنين 2 يناير 2023 بنادي القصة في القاهرة يناقش الناقد ممدوح رزق المجموعة القصصية “مألوف” للكاتبة ابتهال الشايب والصادرة عن دار النسيم للنشر والتوزيع .. يدير المناقشة الأستاذ شوقي عبد الحميد.

يُذكر أن ممدوح رزق يستعد لإصدار كتابه الجديد “وهم الحضور / مذكرات الكادر الضال” عن دار ميتا.

أسامة رجب

نشرة “المقام” الأدبية

31 / 12 / 2022

الخميس، 29 ديسمبر 2022

المرحلة الإلهية

ذات يوم سأعود آخر المساء إلى بيتي بوجبة عشاء شهية (مأكولات بحرية غالبًا)، كيس فواكه، زجاجة بيرة، علبة سجائر، ومكسرات متنوعة .. لن يكون البيت الذي أسكنه الآن برفقة زوجتي وابنتي، وإنما سيكون حجرة صغيرة على سطح بيت قديم في مدينة أخرى .. سأمر في الطريق بين السلالم والباب بأصص الريحان والفل واللبلاب والورد البلدي الكثيرة التي تمكنت من زراعتها أخيرًا  بعد أن وجدت المكان الجدير بها .. سأظل وحدي بلا أي رفيق حيث كل شيء يمنحني الطمأنينة: الجدران والغيوم، حتى الظلام سيتحوّل من رعب إلى أمان .. لن أعتبر نفسي منتقلًا من منزل لآخر، وإنما سأكون متيقنًا بأنني قد استرددت بيتي الأصلي، الذي كان مخصصًا لي من قبل أن أُوجد، وانتُزعت منه في لحظة بدائية يستحيل تذكرها .. النسائم العصرية الباردة لن تكون سببًا لمكابدة الحنين وإنما للانتشاء بما صرت إليه .. سآكل وأشرب وأدخن منصتًا لصرخات أطفال لا حصر لهم، تنبعث من وراء كل النوافذ والشرفات والحوائط المحيطة ببيتي، وتتدفق عبر الآماد اللانهائية من حوله .. سيتملكني الأسف تجاههم، وسأتمنى أن يتمكن أحد من إنقاذهم، بالرغم من أنني سأستمع إلى تلك الصرخات كما لا تتجسد في أذني كائن آخر .. عدا ذلك سأذهب إلى فراشي كل ليلة سعيدًا بما سأطلق عليها (المرحلة الإلهية) من حياتي بوصفها النهاية الأمثل لكل ما لم أعشه.

الأحد، 25 ديسمبر 2022

شاهد ماشفش حاجة

لم تكن شخصًا يعجز عن النوم بسبب ضحكاتنا المتواصلة في نهاية المساء أمام العرض التليفزيوني الأول لمسرحية “شاهد ماشفش حاجة” وهو ما جعلك تنهض من فراشك وتخرج من غرفتك وتتوجه إلى التليفزيون وتغلقه .. كنت شخصًا يكره ضحكاتنا .. صحيح أنك رددت على اللوم الخافت لأخيك الأصغر بصياح مُرهب وأنت تخبره برغبتك في النوم؛ لكنني شعرت بحقدك على البهجة المؤقتة التي يغتنمها إخوتك في ظلام الصالة أمام المسرحية .. كان استسلام أخويك وانسحابهم التلقائي إلى حجرة نومنا غريبًا ومنطقيًا في نفس الوقت بالنسبة لي .. لم يكن ينبغي أن نرضخ لخسارة متعتنا بهذه البساطة، وأيضًا لم يكن ينبغي أن تتسبب تلك المتعة مهما كانت في معركة فضائحية جديدة، خاصة في هذا الوقت المتأخر من الليل .. أشفقت على نفسي وعلى أخويّ كضحايا لك .. كنا نستحق هذه الضحكات العابرة التي حرمتنا منها .. كنا نحتاجها بشدة .. والآن أثبت مجددًا كم نحن ضعفاء أمامك .. أننا خائبو الأمل لأبعد مدى في مواجهتك .. كل ما كنا عليه لم يكن سوى تجسيدًا للإذلال: التمتمة الاعتراضية المقهورة لأخيك .. النظرة المفتتة التي تناقلتها عيوننا بين الشاشة المطفأة وملامحك التهديدية وأنت عائد إلى غرفتك .. الصمت المهين الذي نهض بنا من أمام التليفزيون وأدخلنا حجرتنا ووضع رؤوسنا فوق الوسائد وأغمض جفوننا على نقمة مضاعفة.

لهذا لم تحصل البنت الوحيدة على حجرة مستقلة بها كما يُفترض، وإنما شاركت أخوين لها إحدى الحجرات، كنت أنا أحدهما .. لهذا كنت الأخ الوحيد الذي حصل على الحجرة المستقلة .. كان الزمن يفهمني سر ذلك ويؤكده مع مروره البطيء، الذي أصبح خاطفًا بأثر رجعي بعد موتك .. لم يكن من الممكن ان تشارك أحدًا من إخوتك حجرة واحدة .. كان يجب أن تتحوّل الحجرة الثانية التي تضم إخوتك الثلاثة إلى سجن متقطع، يساقون إليه في اللحظات التي يحكم خلالها غضبك المتوعّد بهذا .. كان يجب أن أكره وجودك بما يعادل مقدرتك على ترويعنا وكسر خواطرنا.

كنت تكره ضحكاتنا لأنك لا تستطيع الحصول على ضحكات مماثلة .. يمكنك أن تضحك كيفما تشاء الأمور، وأن تضحك كثيرًا أيضًا، وربما بصخب بالغ أحيانًا، لكنها ستكون ضحكاتك أنت لا ضحكات الآخرين .. الضحكات الناجمة عن أرقك الخاص الذي يحرمك من الطمأنينة .. قد تكون ضحكات الآخرين أقل حدوثًا وأكثر خفوتًا، ولكنها ناجمة عن هموم مختلفة .. كنت تكره ضحكاتنا لأنك كنت تتمنى لو قايضت أرقك المزمن بتلك الهموم الغريبة عنك في أرواح الآخرين .. الهموم التي ربما تكون أخف وطأة من الأرق الذي تعجز عن تحمّله .. لهذا لم يكن عدلًا أن تسمع ضحكاتنا وأنت في تلك الحالة .. لم يكن عدلًا ألا تسمح تلك الحالة بأن تتوحد مع اللاطمأنينة الكامنة في نفوس الضاحكين أمام المسرحية بحيث تدرك أن إيذائهم موجهًا أيضًا إلى نفسك، وبالضرورة تتحاشى إذلالهم .. لكن قبل أن يجدر وجود ما يمنعك من الحقد علينا؛ كان يجدر وجود ما يمنع المهانة عنك .. كان يجدر ألا نعيش ونموت أمام “شاهد ماشفش حاجة”.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

السبت، 17 ديسمبر 2022

تأخُر الوقت

هل كنتِ تظنين أن “نعم” تعني أكثر من مجرد “نعم”؟

“نعم” الأخيرة تركتيها في البيت، متناثرة بين المطبخ وحجرات النوم. بالنسبة لهم؛ أصبحت في غيابك بلا معنى. ربما يتذكرونها الآن، لكنهم بعد قليل سيضطرون لنسيانها بحثًا عن تعويض.

“نعم” الأخيرة بقيت بدونك. معلقة بين الحوائط انتظارًا لصوتك الذي اختفى من هناك، ومع ذلك لم يظهر في الحجرة البعيدة التي تتمددين على سريرها الآن. حجرة لا تحتاج إلى تنظيف أكثر من طرد الذباب المتهافت عبر النافذة الزجاجية المغلقة. لو كنتِ تستطيعين الوقوف لفعلتِ هذا بنفسك. لم تنطقي بكلمة واحدة، كان ذلك يتطلب مقدرة أكبر مما تملكينه. بدلًا من هذا؛ رحتِ ترسمين الكلمة بعينيك الذابلتين فوق عتبة الباب التي يدهسها الأطباء والممرضات دخولًا وخروجًا بشكل متعاقب. هذه المرة لم تستطيعي إكمال “نعم”. ليس لأن الضعف قد أحكم احتلاله لبصرك، وإنما لأنكِ كنتِ تدركين تمامًا ما الذي يعنيه اكتمالها في هذه اللحظة بالتحديد.

هل كنتِ تظنين أن “نعم” ستجعلك تتفادين هذه الوسادة الصغيرة، الملاءة البيضاء، البطانية الخفيفة ذات الخطوط المتقاطعة؟ هل كنتِ تظنين أنها كافية لحمايتك من أي شيء؟ قلتِ “نعم” كثيرًا جدًا، قلتيها كما لم تتفوهي بأي كلمة أخرى، لكن النهار أتى مظلمًا اليوم كما وعدتك كل النهارات المضيئة السابقة على مدار ستين عامًا.

منذ يومين فقط كنتِ تقفين في الشرفة، تنشرين ملابس زوج وابنين حينما اخترق الألم بطنك للمرة الأولى. الألم الذي أعقبه تقيؤ ثم دوار ووهن ثم استلقاء بلا نوم ثم ألم جديد وتقيؤ جديد ثم أتى الطبيب وأمر بنقلك إلى المستشفى. “انسداد في الأمعاء”؛ هكذا أصبح أول أمس أبعد من يوم ميلادك.

قبل العملية الجراحية كانت كل الأشياء مرتّبة في حجرتك. مرتّبة على نحو مقبض. لم تدركي من قبل إلى أي مدى يمكن أن يكون النظام مرعبًا. أصبحتِ تعرفين ذلك الآن فحسب. مجرد معرفة.

بكيتِ كثيرًا. طوال عمرك بكيتِ كثيرًا عدا هذه اللحظات. كل ما فعله المرض بجسدك لم يجعلك تبكين. حتى عندما أخبروكِ بأنكِ ستخضعين لجراحة غير مضمونة بسبب حالتك الصحية والأمراض المزمنة التي تعانين منها؛ لم يجعلك هذا تبكين. حتى لو أتيحت لكِ رؤية الشحوب الذي تضاعف في وجهك خلال يومين ما كنتِ ستبكين. حتى لو علمتِ بأنكِ ستخرجين من غرفة العمليات إلى القبر ما كنتِ ستبكين.

ما الذي كنتِ تحتاجينه إذن خلال تلك الثواني؟ صمت تام؟ ضجيج أقل؟ ضوء أخف؟ ذاكرة فارغة؟

ثمة دعابة رومانسية شائعة تقول إنهم يصنعون ساعات صغيرة للنساء حتى لا ينتبهن إلى تأخر الوقت. لا أحد سيتذكر أنكِ فقدتِ الساعة الملوّنة التي أهداها لكِ أبوكِ في عيد ميلادك العاشر، وأنكِ بعد ضياعها ـ ودون قدرة على تبرير ذلك ـ لم يعد بوسعك ارتداء ساعة أخرى.

الجمعة، 9 ديسمبر 2022

سير بلا هدف

كنت أمر بالصدفة أمام مقهى “معروف” وأجدك أحيانًا جالسًا فوق رصيفه المقابل .. دائمًا وحدك، ودائمًا يكون هناك كرسي آخر غير الذي تجلس عليه، تضعه أمامك لتسند ذراعيك إلى ظهره .. لم أعرف هل كان ثمة أصدقاء لك يجلسون في المقهى حينها وتعوّدت أن تنعزل عنهم لبعض الوقت، أم أنك كنت بمفردك في كل مرة .. دائمًا تكون متجهمًا أيضًا، لكنه ليس نوعية التجهم التي تشيع الرهبة في قلوبنا داخل البيت، وإنما كان تجهم الحزن أكثر منه الغضب .. كنت تبدو شخصًا مختلفًا بتلك الاستكانة النقية التي غالبًا ما تقترن بالتعاسة، وقد أخمدت مؤقتًا الانفعالات التدميرية لروحك الناقمة .. كنت تتسم ببراءة غريبة وأنت جالس فوق ذلك الرصيف، وكان على هويتك كشرير في ذاكرتي الصغيرة أن تجعلني أكتشف عدم تماثلها مع أنماط المسالمة لدى الآخرين .. كأنك كنت ملاكًا استثنائيًا لابد أن تحرق نيرانه العمياء الطريق الفاصل بين المنزل رقم 54 في شارع محمد فريد، ومقهى “معروف” بالسكة الجديدة لكي ينفرد بآلامه في وداعة طفولية لا تشبه الانكسارات الصافية المألوفة لأصحاب القلوب البيضاء، المغلوبين على أمرهم .. كانت عيناك الساهمتين لمقتول، لا لقاتل .. لتائه مقهور تخلى عنه كل شخص وكل شيء وكل حل، لا لمن عليه أن يجعل الجميع يدفعون ثمن عذابه .. لمن ينادي معاتبًا في صمت، ودون أثر داخل ملامحه، على ذلك المصدر الحقيقي الخفي لليتم الملعون به حتى ينقذه قبل فوات الأوان، لا لمن يخوض حربًا لا تهدأ لإثبات أنه لا يوجد في الدنيا من يستطيع إذلاله ولو كان ….ها نفسه .. كانت عيناك تبدوان كأن الحياة غائمة أمام نظرتهما المتجمدة، وكأن شيطانك غير المرئي على وشك الاستيقاظ في أي لحظة من نومه الشكلي فوق الكرسي الآخر الذي تسند ذراعيك إليه.

ذات مرة كنت أمر من أمامك مع أصدقائي ظهرًا وأنت جالس على هذا النحو .. كان تظاهري بعدم الانتباه إليك عفويًا .. كنت أبعد ما تكون عن الشقيق الأكبر الذي ينبغي أن يصافحه أخوه الصغير أو يشير إليه بالسلام على الأقل حين يصادفه خارج البيت .. لكنك فاجئتني بعدما تجاوزتك بخطوة واحدة بندائك لي .. نطقت اسمي وكان هذا نادرًا، ونطقته دون غضب وكان هذا أكثر ندرة .. لم تكن المفاجأة في مناداتك لي بقدر الطريقة التي فعلت بها ذلك .. كان شقيق أكبر ينادي أخاه الصغير .. هكذا فحسب بصوت مجرد من الضغينة .. بدا أيضًا كأن شرود عينيك أثناء جلوسك أمام المقهى هو الذي شكّل تلك النبرة التي ناديتني بها .. نطقت اسمي بخفوت ودود، حزين، خائب الأمل، ومختنق بالحيرة .. تركت أصدقائي وتوجهت إليك وأنت تنهض من فوق الكرسي .. وقفت أمامك ونظرت في وجهك .. نعم، هو أنت، وثمة شيء غريب يجري الآن يستدعي بصورة تلقائية امتنانًا طفوليًا يتوارى في نفسي ممزوجًا بالحذر والترقب .. سألتني بالصوت ذاته ودون أن تتخلص ملامحك من تجهمها عن وجهتي مع أصدقائي .. أجبتك باقتضاب، وبلا إفصاح عن شعوري المباغت بالبهجة لكوننا نتبادل حوارًا طبيعيًا بأنني أسير معهم دون هدف .. كانت الكلمات القليلة محاولة لضمان عدم حدوث خطأ قد يفسد تلك اللحظة غير المتوقعة .. وجدتك تضع يدك في جيبك ثم تخرج خمسة جنيهات وتمدها لي .. أخبرتك بلهجة شاكرة أن معي نقودًا، لكنك وبهزة رأس داعمة طلبت مني أخذها .. وضعت الخمسة جنيهات في جيبي وانسحبت من أمامك بينما عدت أنت إلى الجلوس في صمت متزامن مع ابتعاد نظرتك عن وجهي .. كان ذلك إشارة لنهاية اللقاء العابر .. تحوّل الامتنان في داخلي إلى حسرة .. ليس على المصادفة التي لم يتم استغلالها كما يجب، ولا على عدم إنهائها بالحميمية المطلوبة، بل على حياتنا .. تذكرت وأنا أسير مع أصدقائي كرامتك المهدرة أمام أبيك وأنت تطلب منه خمسة جنيهات كتلك التي أعطيتها لي الآن .. تذكرت إبلاغك له في مشاجرة لاحقة بأنك مزقت خمسة جنيهات كانت في جيبك وأنت تنزل سلالم البيت بعدما رفض أن يعطيها لك .. ربما كانت آخر نقود معك، لكنك كان يجب أن تقدم قربانًا ممزقًا لكرامتك كي تعوّضها عما لحق بها من إهانة أبوية .. كان يجب أن تقدّم لها أبًا ممزقًا، ولكن لم يكن في يدك سوى صورة لسلطته ممثلة في ورقة نقدية منعها عنك .. كأنك أردت انتهاز مروري أمامك في تلك الظهيرة لكي تحميني من الوقوف أمام أبي وطلب نقود منه .. لكي تحمي كرامتي .. لكنني حينما أستعيد ذلك اليوم يلح في ذهني سؤالك الذي كان يبدو وقتئذ روتينيًا أكثر من أي كلمات أخرى .. سؤالك عن وجهتي مع أصدقائي .. كنا نسير دون هدف كما أخبرتك، وها قد وصلت إلى نهاية السير يا أخي .. سؤالك كان بدايته وهو الآن نهايته، ولو لم تكن في قبرك الآن بعد خروجك محتضرًا من بين رفاق مقهى “معروف”، ولو لم أكن وحدي في منتصف الأربعينيات بعدما تخلصت من جميع أصدقائي لما تغيرت حقيقته .. كان وعدًا وليس سؤالًا يا أخي.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

الأحد، 4 ديسمبر 2022

صورة ذاتية في مرآة محدبة: العالم مأساة لغوية

هناك شاعر قد يبدو لقارئ ما أنه يعيش حالة "تأليه" للغة، وفي المقابل هناك شاعر آخر قد يبدو أنه في حالة عداء "ساخر" معها. "جون آشبري" بالنسبة لي هو أحد هؤلاء الشعراء الذين يمتهنون تقويض اللغة. أحد الذين لا تعد صراعاتهم مع الكلمات ظواهر شكلية لقصائدهم بل جوهرًا لمضامينها. في مختاراته "صورة ذاتية في مرآة محدبة" التي ترجمها غسان الخنيزي وصدرت عن دار روايات يمكن لنا التعرّف على هذه الغريزة الأسلوبية / الفلسفية لدى جون آشبري لتفتيت ما يحتمل أن يكون "أثرًا لغويًا".

"لا تضمن الغضب في المسافة / التي يستلزمها الذهاب من هنا إلى التل وسط المدينة / حيث برج الياقوت. / آخرون غيرك قاموا بالرحلة، والقليل منهم وجد / ما يثير التعجب ما إن انقضى فعل الوصول. / كلماتك تحمل معاني كثيرة / بمجرد انطلاقها. احتفظ بقصيدة ساخرة / للجِرار بمجرد أن تنقضي / ستحملها كورقة اعتماد، / قطعة من الجلي لا تحقق شيئًا. / على طول النهر الصغير حيث وقفنا مرة / هناك أمور جديدة يجري استيعابها / وكشف أسرارها. هل يهمنا هذا؟ / أم أن الوقت قد حان بالفعل للعودة إلى الداخل؟ / "على الواجهة البحرية" كان فيلمًا جيدًا. / هل نُنهي الحديث ههنا؟"

يقوم "جون آشبري" بتخريب السياق بواسطة الإيحاء بدراما تسعى للاكتمال، أي تقبل التأويل كدلالة مستقرة، لكن القصيدة تقوم على "وهم المشهدية" أو التكوين "السرابي" لصور تدعي محاولة التجرد من نقصانها في سبيل إزاحة المشهد كموضوع أو محو الصورة كمعرفة استباقية. نلاحظ هنا أن آشبري يعيّن ما يشبه شفرة ـ مضادة للبلاغة ـ بين مفردات متقابلة لخلق مسافات مناقضة بين حضورها والرجاءات العفوية لهذا الحضور: "معاني ـ ساخرة"، "اعتماد ـ لا تحقق شيئًا"، "استيعابها، كشف أسرارها ـ هل يهمنا هذا؟". كأن المسافة / الرحلة هي مسار إفساد التناغم بين الخطوات وتوقعاتها حيث يمكن اكتشاف هذا الانسجام المهشّم في "الداخل" / الأنا "ككينونة شعرية"، أي حيث تقتل الكلمات وعودها.

"الحياة بأحزانها، الحياة بدموعها. / وأنت تعرف ما يعني ذلك: / السماء في جارور، / والملابس الداخلية العالم السفلي / على أرضية القمر. / تحت مصابيح الطوارئ ذعر صغير يتنامى، / منزويًا على نفسه، يدوي / أمام أضواء مركبتك، بتموّج. / أنت للتو غدوت صغيرًا جدًا / وليس بوسعي إلا أن أحيطك / بالمنشفة الكتانية التي استبقيناها لهذا الغرض. / الطبيب أوصى بالراحة. / البقرة الحلوب هي عمل فيه كسب، / غير أن الريع ليس عظيمًا بما يكفي / لكي تفرحوا أيها الناس / ليست هي الخلود، / هذه الأشجار الميكانيكية، أشجار الحور. / جيد معرفة أنك لا تفتك بها كلها بنفسك / في الجهة الأخرى من الشارع يا عزيزي".

مقاربة ما يعادل لطشات هذيانية في هذه القصيدة، تتدفق كحنين أعزل ومشرّد "ذكريات مفقودة وماض متأرجح من الاستعادات المبتورة والملتبسة"؛ هذه المقاربة تحيلنا إلى استفهام المتعة الحلمية الناجمة عن تأمل اللغة في هذه الوضعية من التشذر والتناثر. تكمن هذه المتعة في تخلي اللغة عن خداع التماسك "ثمة حق في مكان ما يبرر خطاب الصلابة" لكي تسترد منطقها "غير التفسيري" أو طبيعتها "اللاتبريرية" التي تراوغها وتنكرها طوال الوقت. تشير إلى تلك الذات المجهولة التي تتجاوز اللغة "العارية من التبجيل" في احتجابها القهري. الذات التي يومئ لها ويؤكدها الذعر الغاضب نحو السماء، والمشكّل من أحزان ودموع ووعي انتقامي بالفناء.

"عندما أفكر في الانتهاء من عمل، عندما أفكر في العمل المنجز، يغمرني حزن عارم، حزن ويا للمفارقة يشبه الفرح. ها وقد وضعت ظروف العمل بعيدًا، فكينونته تتملكني، مثل قاطن منزل مستأجر. أين أنت الآن، أيها القلب الشريد؟ قد علقت في مفصل، أو نفثت داخل طبقات الجدار، مثل أسلافك المغمورين وقد مُنحوا أسماءً الآن؟ من الأفضل ألا نسترسل في الكلام عن حالنا، لكن أن نفعل ذلك هو أمر ملهم للغاية. مثل خوان ملآن بالقناني والفاكهة. كما هي طائرة ورقية على شكل صندوق بالنسبة لطائرة ورقية. داخل التعثر. الطريق إلى التنفس. الرسم الكاريكاتوري على السبورة".

ينحاز "جون آشبري" إلى الوخزات المتلاحقة المستندة على نوع من الطيش. يستعمل المفردات كأشلاء أو شظايا مشيرًا إلى جسد ممزق أو بنية محطمة. الجسد الذي يكافح لأن يكون بديلًا لوجود محصّن تم تغييبه قسرًا، أو البنية التي تجاهد لأن تكون تعويضًا عن "كونية مستحيلة". بهذا الاستعمال "التعثر في الأشلاء أو الشظايا" يمكن التحديق إلى ما أجبرت الفردية أن تكونه: رسم كاريكاتوري. محض هزل مؤقت. التحديق الذي قد يُسمى ـ بالتهكم اللازم ـ "حرية معكوسة".

"الغرفة التي دخلتها كانت حلمًا بهذه الغرفة. / حتمًا كل آثار الأقدام على الأريكة هي لي. / الصورة الشخصية البيضوية / لكلب هي صورتي في عمر مبكر. / شيء ما يتلألأ، شيء ما قد امحى. / كنا نأكل المعكرونة ظهرًا كل يوم / ما عدا الآحاد، عندما يستجلب طائر سمان صغير / كيما يقدم إلينا. لماذا أخبرك هذا كله؟ / أنت حتى لست هنا".

كلمات في صيغة من العراء الرمزي حيث يهدم المعنى نفسه في اللحظة التي تحاول كل كلمة أن تحيل إلى برهانها الموثق. تنتج فكرًا يعاند الترابط، شبحيًا، مخلخِلًا، أقرب لموسيقى التفكيك التي تحوّل اليقين إلى دعابة هازئة. يتحوّل العالم إلى إرجاء جحيمي "لا أحد هنا" كحماية "حتمية" للمطلق. يتجسد الشعر كتجانس ثأري مع هذا الإرجاء، أي أن الشاعر يوطد دليلًا دامغًا على أن أكاذيب الحكمة تتجلى ناصعة في بصيرته.

"كما نفذّها بارمجيانينو، اليد اليمنى / أكبر من الرأس، تندفع نحو الناظر / وتحِيد بسهولة مبتعدة، كما لو أنها تحمي / ما تعلن عنه. بضعة ألواح زجاجية معشقة، عوارض خشبية قديمة، / فرو، قماش موسلين بطيات عدة، وخاتم من المرجان / كلها تتعاضد معًا / في حركة تسند الوجه، الذي يسبح / مقتربًا مبتعدًا مثل اليد / سوى أنه في سكون".

في قصيدة "صورة ذاتية في مرآة محدبة" التي كتبها جون آشبري عن لوحة الرسام الإيطالي فرانشيسكو ماتسولا "بارميجيانينو" تُحكى سيرة التقنية الفنية التي أنتجت اللوحة ودوافعها وبصماتها كممارسة أقرب لفانتازم شعري. التشكيلات الحسية وأداءات الباطن والحركة التشابكية للنظرة. يرسم "آشبري" اللوحة مجددًا بالاعتماد على عزل اللغة عن الرغبة المقموعة، المخاتلة من وراء القدر، حيث الأشياء "ليست هي نفسها".

"السر في الأمر أوضح ما يكون. الخيبة فيها تلذع بالألم. / تجعل الدموع الساخنة تفيض: لأن الروح ليست روحًا، وليس لها سر، ضئيلة، وتلائم تمامًا / تجويفها: غرفتها، ولحظة الانتباه خاصتنا. / ذلك هو اللحن وما من كلمات".

الرغبة المقموعة ساطعة في الشكل الكروي للحياة، واليد التي تريد الخروج من الكرة تحاول القبض على ما خارجها المعتم. تصفية الحساب مع الأسباب المقدسة لنفي الذات الأصلية "المستحقة للوجود" واستبدالها بألم دون معنى. بروح "ليست روحًا" لأنها مصنوعة من بلاغة خائبة. اليد تسخر من جُرم التجروء على "السحر غير العادل" حين تسعى لاختراق مسافاته الطاحنة "كما تبدو الصورة في المرآة المحدبة"، للانفلات من ديناميكيات القتل، نحو الحماية الإعجازية المحرمة.

"ذيول الحركة التي تؤرجح الوجه / في مرمى النظر تحت سماوات المساء، دون معمعة زائفة كزعم بالأصالة. / إنما هي الحياة مكنونة في شكل كرة. يود المرء لو يخرج يده / من الكرة، لكن امتدادها، وما يحملها، لن يسمحا بذلك".

نظرة "بارمجيانينو" هي الألواح الزجاجية، والعوارض الخشبية، والفرو، والقماش في قصيدة "آشبري". النظرة المترنحة بشبقية الحسرة، بموضوع اللذة المفقود داخل ما يكوّن فضاءً "ديستوبيًا" للجسد. بالشفقة تجاه الماضي الذي تم تضييعه ـ عمدًا ـ في مفارقات العنف والشروط الغامضة للعجز.

"لا تطلب مني الذهاب إلى هناك مرة أخرى / الأبيض موجع جدًا / نسيانه أفضل / النهر النائم تحدّث إلى الأرض اليقظة / عندما سحبوا الأسلاك أول مرة / عبر الحقل / استقر الهواء ببطء / على البحيرات / المرآة الزرقاء ظهرت للضوء / حينئذ خشى أحد ألا تكون / برك الماء درعًا كافيًا / فتستنفد السماء / الضوء انبثق / الإيماءة السابحة / في النهاية شفق لن يحرس أوراق الشجر / موت لن يجرب الصراخ / شواطئ سود / ومن أجل ذلك أرسلت بطاقة بريدية سوداء لن تكل سماعك قط / من أجل ذلك الأرض تناشد البئر. / الأبيض يسري في أخاديدها / النهر ينزلق تحت أحلامنا / غير أن الأرض تنساب في صمت أكبر".

العالم أقرب إلى مأساة لغوية عند جون آشبري، لذا فهو يضع "الشعر" في مواجهة الإرادة المتفاخرة للغة. ذلك أيضًا ما قد يجعلنا "نشعر" بأن قصائد آشبري تحاول التخفف من ثقل متعدد بينما تمثل / تفضح التشوش الذي يحاول مداراة نفسه وراء أخلاقيات "انتهاكية". التشوش كحاجز غيبي يفصل بين الصمت "الخارق" وعقابه اللازم. بين التعاسة وسرها "البدائي" (الذي لا يقع داخل الكلمات).

"ودائمًا في هاجس ابتلائها بظل اندفاعات الخبيثة التي هُيئت واستُنفدت بالفعل في خواء من الظلمة، مملكة يعرف أن ليس بوسع الأرض تحمّل عناء اجتنابها إذا تحيّن للدقائق ولكتبة مقدسين بصيحاتهم الضاحكة، المجيء في مساء التدبر وفي الليل الذي لا علاجًا، ولا طائر أكثر إلزامية، ولا موضوعًا يتقصد شيطان قلبه، بقادر على التكهن به حتى لو أضيئت بمثابرة الحقائق التي جاء بها واحدة بعد الأخرى، في تلك الغرفة الصامتة والمتسارعة ظلمتها".

إن النبرة "العدمية" التي تومض في شعر جون آشبري لا تنبع من "التلغيز" وإنما من تقمص اللغز نفسه. من التوحد بالشر المبهم "ماهية الوجود" في صوره المقطّعة والمدوّخة والأشبه بدوامات حادة من فتات أسطوري لفرديات "إلهية" مجهضة، لم يُسمح إلا لنسخ منها، قاصرة، معطوبة ووحشية بالمرور إلى الفكاهة الأزلية الجامدة "الحياة والموت" حيث يرعاها المجاز الاستعبادي ويضمن توالدها وتبددها.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 3 ديسمبر 2022

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2022

حصة لغة

أعزائي آباء اللغة العربية الغاضبين من “قام” و”تم”، ويوثقون طوال الوقت اعتراضاتهم الاستنكارية على استخدامهما  …

كان يمكنني ببساطة إخباركم بأن غضبكم قائم على قصور تقليدي في الفهم، وغفلة معتادة عن الإدراك، مثبتًا ذلك بالشرح النظري الوافي، ولكنني فضلت أن أعطيكم درسًا عمليًا في الأسلوب، مستعينًا بحياتي الشخصية، لكي يعرف كل منكم “حقيقة” ما يجهله …

أعيش وحدي منذ أعوام طويلة، وفي الشقة المجاورة لي يسكن رجل تجاوز الستين وزوجته الأصغر سنًا بقليل. لجاري وزوجته ثلاثة أبناء (بنتان وولد)، وسبعة أحفاد (أربعة أولاد وثلاث بنات) كما أن لهما أقارب كثيرون. طوال سنوات وجودنا في العمارة لم أتبادل مع جاري حديثًا يتجاوز التحيات الروتينية المقتضبة إذا ما تصادفنا على السلالم، أو رأى كل منا الآخر داخل الردهة القصيرة الفاصلة بين بابي شقتينا. ومع ذلك عرفت عنه كل شيء تقريبًا بواسطة استراقي السمع لحياته مع زوجته على مدار الأعوام الماضية، وبالتلصص أيضًا على العبارات المتطايرة عبر الشبابيك المفتوحة أثناء زيارات أبنائه وأحفاده وأقاربه له.

لكنني (أقوم) بمخاطبته كل يوم. أجلس وراء الجدار المنتصب بيننا، وبصوت أعلم أنه يستحيل الوصول إليه؛ استفسر منه عن صحته كمريض بالسكر، وعن أحوال ابنته الصغرى دائمة الشجار مع زوجها، وأسأله عن انطباعاته حول الجرائم التي تقع في المدينة، أو الإبادات المتلاحقة لمعالمها الأثرية. أثناء مبارايات الفريق الذي علمت أنه يشجعه مثلي، ولا تفوته متابعة لقاءاته،؛ أحرّك التليفزيون ليواجه الكرسي الملتصق بالجدار، كأننا نشاهد المباراة معًا، وأشير إلى الشاشة طالبًا منه بفرح وغضب وغيظ أن يتأمل جمال هدف، أو سوء تمريرة، أو إهدار لاعب لفرصة سهلة. لا أجد حرجًا في إطلاق الشتائم البذيئة تجاه حكم المباراة؛ إذ أن كلماتها تنفلت من لسان جاري أيضًا ـ وإن كانت بصورة أخف ـ للسبب نفسه. أفضفض له عن ذكرياتي، وأتناقش معه حول الأفلام والمسلسلات والأغاني الكلاسيكية، وأحيانًا ألقي عليه النكات، وأتخيل ردوده وضحكاته وشروده الصامت وسط الكلام.

لماذا كتبت (أقوم بمخاطبته) بدلًا من (أخاطبه)؟ لأنني لا أفعل ذلك بشكل مباشر محكومًا بالثقة. المخاطبة هنا باطنها التردد، الارتباك، الوعي التائه بأنها لا تحدث بطريقة طبيعية. استعمال (أقوم) في المثال ـ حيث يحضر هذا الفعل مستترًا بالتبعية قبل كل أداء لاحق أو ناجم عن “القيام بالمخاطبة”: الاستفسار .. السؤال .. المطالبة .. الفضفضة .. النقاش .. الإلقاء ـ هذا الاستعمال محاولة خفية لتأجيل النطق لفعل (أخاطب) بما ينطوي عليه من حسم. مراوغة اليقين الكامن في (المخاطبة) عندما يتطلب ذلك.

“أخاطب” جاري إذن يختلف تمامًا عن “أقوم بمخاطبته”، وسيصبح الفرق أكثر سطوعًا حينما تعرفون أنني أقوم بهذا على الرغم من أن جاري ميت منذ ما يزيد عن عشر سنوات. مات ذات ظهيرة غائمة، وبينما كان مشتري الأشياء القديمة يمر في الشارع كعادته اليومية، مناديًا بالميكرفون من فوق عربته الخشبية التي يجرها حمار هزيل منهك؛ خرجت جثة جاري من بوابة العمارة لتتلقفها سيارة الإسعاف، حيث (تم) توديعه وهي تتحرك مبتعدة به نحو المقابر. (تم توديعه) ولم (نودّعه). (تم) يعني هنا إنهاءً ماكرًا للأمر. تحققًا شكليًا مخادعًا، يدّعي الاستقرار، ولكنه يضمر غيابًا غامضًا للاكتمال. (تم توديعه) يفيد بأن (وداع) جاري حدث بصلابة زائفة؛ ذلك لأني وكل المطلين من شرفاتهم والواقفين في الشارع لحظة ابتعاد سيارة الإسعاف كنا نعرف أن جاري قد عاش وحيدًا.

الأربعاء، 23 نوفمبر 2022

“دون كورليوني” الكوني

داخل هذه الصورة التي التُقطت في بداية التسعينيات يوجد شخص توفي عام 2022 .. ليس ذلك الذي أراد أن يكون الصديق المقرّب لكل فرد داخل الصورة ولم ينجح في هذا .. الذي فشل في أن يكون القائد لهذه الجماعة من الأصدقاء .. الذي استعمل محاولات التقرّب والخضوع لأقرانه كي يتخطى سلطة الصداقة فظل عالقًا في هامشها الغائم .. شخص آخر هو الذي مات .. عرفت ذلك حين قررت بعد ثلاثين سنة من التقاط الصورة أن أبحث على فيسبوك عن أولئك الذين شاركوني تلك اللحظة القديمة من عُمر الصبا .. عرفت ذلك حين قررت أن أبحث عنهم متوقعًا دون سبب واضح أنني سأعثر على أحدهم ميتًا .. بالرغم من أنه لم يكن لدي علم بأي شيء عن أفراد تلك الرفقة وما صارت إليه حياة كل منهم طوال هذه السنوات .. لكنني أعرف ما يكفي عن الموت .. كنت أبحث عنهم مترجيًا أن يخيب توقعي .. مجرد التيقن من أنهم مازالوا جميعًا على قيد الحياة كان يُبقي ـ ولو بنوع من الفانتازيا الاستدراكية الخرقاء ـ على إمكانية وصول شهوة الاستحواذ والتدمير المبكرة إلى الأورجازم المستحيل .. حتى لو توقفت عن التواصل مع كل الذين يتزاحمون تحت لافتة “الصداقة” منذ أعوام طويلة .. حتى لو كان مستبعدًا تمامًا أن تعاود مد طرف خيط كلامي مقطوع تجاه أي من الأشباح التي تحيط بك في ذلك الكادر .. لكن الموت مبرمج على توطيد بصمته الذهنية عبر فناء جسد واقعي .. العفوية التي لابد أن تبدو مقصودة في روحك المرتعدة ولكنها هذيانية في حقيقتها .. بصمة لا تستهدف سوى تذكيرك مجددًا بأن حياتك مجرد فوات أوان لما لا يمكن القبض عليه أو إدراكه .. في المقابل ثمة لحظة قادمة محتملة قد يمكنك خلالها أن “تكتب” بضعة كلمات سرابية أخرى مما تعتبرها وصية ضمنية مفتتة .. “دون كورليوني” الكوني والعرض الذي لا يمكنك رفضه.

من كتاب “وهم الحضور” / مذكرات الكادر الضال

يصدر قريبًا

 

الأحد، 13 نوفمبر 2022

الرجل اللامرئي: موسيقى الاختفاء

تشتبك رواية "الرجل اللامرئي" للكاتب الأمريكي رالف أليسون مع مفهوم "العزلة" باعتبارها جدلًا فلسفيًا أو معضلة ذهنية لا يمكن ضبط حدودها اللغوية، وليس بوصفها يقينًا وجوديًا أو تجسيدًا مستقرًا لموقف حاسم من العالم. هذا الاشتباك في الرواية الصادرة عن دار المدى بترجمة أسامة منزلجي يتحوّل إلى محاكمة تأملية لإشكاليات الهوية والآخر، والإرغام على البقاء كتحايل على الطمس، ومنازعة الانتماء.

"وكوني غير مرئي لا يعود بالضبط إلى حادث كيميائي حيوي وقع لبشرتي. إن هذا النوع من الاختفاء الذي أشير إليه يحدث بسبب حَوَلٍ من نوع معين يحدث لعيون الناس الذين أتصل بهم. إنها مسألة تتعلق بتكوين عيونهم الداخلية، تلك العيون التي ينظرون بها من خلال عيونهم المادية إلى الواقع".

إن الحفرة ليست ملاذًا تعويضيًا أو حماية آمنة من "الإخفاء"، وإنما صراعًا مع الانعزال نفسه؛ حيث أن المخبأ أرق ذاتي، يسبق المكان الذي يمثله ويتجاوز تدابيره المغلقة على أشباحها. حفرة الراوي هي تاريخ المسافة الاستفهامية التي حاولت بصيرته أن تتخذها طوال حياته كفاصل بين "الوعي" و"القهر"، بين "اكتشاف الذات" و"التمييز" الذي جعل جسده "لا مرئيًا".

"إن حفرتي دافئة ويغمرها الضوء. نعم، مغمور بالضوء. إنني أشك في وجود بقعة أسطع ضياءً في نيويورك كلها من حفرتي هذه، ولا أستثني من ذلك برودواي. أو مبنى الإمباير ستيت في ليلة حالمة للمصوّر".

تتخطى "العزلة" دائمًا ما تحيل إليه من معان وتساؤلات، وبذلك تتغيّر باستمرار صورة "الأنا" في كفاحها للعثور على احتمالاتها المجهولة، ومراوغة هيمنتها في نفس الوقت، مثلما تتغيّر صورة المعرَّف بالاختلاف، المتسلّط والمهدِد والقاتل. "الأنا" إذن هي أشلاء غامضة لطيفٍ متعذّر، لا تكسبه بديهيات "العنصرية" حقيقة مُحصِّنة "مخلِّصة من الحياة والموت". ظل مفتت، كسراب عقلي من الإكراهات الكابوسية، وفي المقابل يدعي الحضور في هيئة بشرية متماسكة، بينما تطارده فردية ملغزة، وجذور "جماعة" عليه أن ينقذ "كينونتها" الغائمة.

"يعود الأمر إلى زمن ماض بعيد، يقارب العشرين عامًا. لطالما كنت أبحث طوال حياتي عن شيء ما، وأينما ذهبت يحاول أحدهم أن يشرح لي ما هو. وكنت أقبل أجوبتهم أيضًا، وعلى الرغم من أنها كانت في الغالب متناقضة بل وتناقض نفسها. كنت ساذجًا. كنت أبحث عن ذاتي وأطرح على كل شخص، ما عدا نفسي، أسئلة لا يمكن لأحد، غيري، أن يعرف إجاباتها. وقد استغرق مني وقتًا طويلًا والكثير من الإحباط المؤلم لتوقعاتي التوصّل إلى الإدراك الذي يبدو أن كل شخص آخر يعرفه بالفطرة: أنني لست إلا نفسي. ولكن كان عليّ أولًا أن أكتشف أنني رجل غير مرئي".

هل تتطلب "رؤيتك" لنفسك أن تكون "مرئيًا" للآخرين؟ ما الذي تعنيه الرؤية هنا وكما يستخدمها الراوي في خطابه كدافع أساسي للبقاء في "مأوى" تحت الأرض؟ أي رؤية يمنحها لك ذلك الانطواء شديد الإضاءة داخل قبو؟ أعتقد أنه من السهل خلق صلة بين حاجة رجل "أسود" إلى أن يكون مرئيًا واستعماله كل هذه الوفرة من المصابيح، لكن بما أن ذلك العجز عن الرؤية لدى المحيطين بالراوي ناجم عن "تكوين عيونهم الداخلية"؛ فإن الأمر يتعلق إذن بإضاءة  ما يختفي وراء تلك البشرة السوداء غير المرئية.

"مدحني أنصع الرجال بياضًا في البلدة. كانوا يعتبرونني مثالًا للسلوك المرغوب ـ تمامًا كما كان جدي. وما حيّرني هو أن العجوز اعتبر ذلك خيانة. وعندما كنت أتلقى مديحًا على سلوكي أشعر بالذنب بأنني بصورة ما أقوم بعمل هو في الحقيقة ضد رغبات البيض من الناس، وبأنهم لو فهموا الأمر لرغبوا في العكس، وبأنني يجب أن أكون نكدًا وخسيسًا، بأن ذلك سيكون ما يريدون حقًا".

يتعلق الأمر بإقناع نفسك عبر استعارة حسية ـ ربما كشرط لتأكيد ذلك عند الآخرين ـ بأن ثمة جوهرًا يمكن ملامسته بنوع من الفهم، بشيء من الإدراك للماضي الذي نشأ عنه هذا الجوهر. ومع ذلك؛ هل تريد حقًا أن يساهم هذا الفهم في أن تصبح "مرئيًا" ككل شيء آخر يتسم بنفس الصفات التي تتيح له أن يكون مجسّدًا في الأبصار، أم أنه يتحتم عليك أيضًا الانفلات من "المشابهة" التي ستؤكد ظهورك في العالم الواقعي؟ هل يمكن أن يكون الإدراك توطيدًا لضرورة "الحفرة"؟ بمعنى آخر؛ هل يمكن هكذا الحدس بما تقصده مقولة الراوي بأنه لم يصبح حيًا إلا أن اكتشف أنه غير مرئي؟

"لقد مر وقت طويل جدًا وها أنا أتساءل وأنا غير مرئي إن كان هذا قد وقع فعلًا. ثم أرى بعين عقلي التمثال البرونزي لمؤسس الجامعة، رمز الأب البارد، بيديه الممدودتين بإيماء رفع الخِمار الذي يرفرف بتضاعيفه المعدنية القاسية، عن وجه عبد راكع بوضعية تحبس الأنفاس؛ وأنا واقف مرتبك، غير قادر على التيقن إن كان الخِمار قد رُفع حقًا، أو أُرخي بتصميم أكبر على الوجه؛ ما إذا كنت أشهد رؤيا أم أنه عمى أكثر إمعانًا".

إن خطوات الراوي نحو قبوه يحكمها ذلك الوعي الملتبس بأن "لا مرئيته" تأكيد على اختفاء مرعب لمن لا يمكنهم رؤيته. أن عليه بالضرورة امتلاك القدرة على رؤيتهم حتى يستطيعون رؤيته. لكن ذلك لا يعني أنها عملية خاضعة للنجاح والفشل بما أننا نتحدث عن "إضاءة" غيبية بطريقة ما، وإنما يعني أنها ممارسة "جمالية"، تفكك زيف "الجمال" التقليدي والشائع، وتتخطى ـ بالسخرية اللازمة ـ عبودية السعي والبلوغ حتى مع كامل الانغماس في متاهاتها. تعني صياغة اللعنة كوسيلة وحيدة للحياة، يقودها الإيمان بأن الحرية وهم مبتذل، دون توقف عن مطاردته ولو من داخل "مأوى" الخيال.

"أنا رجل غير مرئي وهذا ما جعلني في حفرة ـ أو بيّن لي الحفرة التي كنت فيها، إذا شئت ـ وقد قبلت هذه الحقيقة على مضض. أي شيء آخر كان في استطاعتي أن أفعل؟ فما إن يتعوّد المرء على أمر، حتى يصبح الواقع حتميًا كضربة هراوة، وأنا تلقيت ضربة أنزلتني إلى القبو قبل أن أتمكن من فهم الفكرة".

لا يُشرّح الراوي عماء الآخرين أو عمائه الشخصي وإنما "العماء" ذاته كمطلق، كحضور ميتافيزيقي يستعمل "الأبيض والأسود" لمضاعفة نشوته. لذا كان منطقيًا أن تكون الموسيقى أداة هذا التشريح. مصدر "إضاءة" الباطن، كما تفعل المصابيح الساطعة مع الشكل. يود الراوي أن يسمع خمسة تسجيلات للوي أرمسترونج وهو يعزف ويغني "ماذا جنيت حتى أصبح أسود وحزينًا؟" في وقت واحد. هذه المضاعفة ليست ناجمة عن الوعي المبهم بالتراكم غير المهادِن للعماء فحسب، وإنما بمضاعفة نشوة العماء نفسه. يختلس الراوي نشوته المضادة من تسجيلات لوي أرمسترونج. يؤدي ما يقوم به أرمسترونج تمامًا "يجعل من كونه غير مرئي قصيدة شعرية". ولهذا تتحوّل الموسيقى إلى مكان، مأوى، حفرة شديدة الإضاءة، ويتحوّل الاختفاء إلى تكنيك فني، هوية مناقضة، أصل تهكمي للوجود.

"عندما يكون المرء غير مرئي يرى مسائل كالخير والشر، والصدق والخداع، ذات قوام غير مستق وتجعله يخلط بينها، اعتمادًا على الشخص الذي يتصادف أن يكون في تلك اللحظة ينظر من خلاله".

هل يمكن تشريح "العماء" دون التفكير في كونك تتقمص اختفاءً يتعدّى اختفاءك الخاص؟ الاختفاء الذي هو المصدر الممازِح للظلام وسره. الذي يقع داخل وخارج الحُفر جميعها؛ حيث كل جسد وكل فراغ مخبأ له. إن الراوي حينما يفكر في أن الحياة التي تُرى من حفرة الفردية عبث فإنه يخاطب فرديته أو أحكامها بصورة أدق بعدم الثقة. ذلك لأن ما تقرره هذه الفردية من دلائل وبراهين على الظهور والاختفاء، كما الخير والشر، الجمال والقبح؛ لابد أن تكون دائمًا محل تقويض. ما أعرفه فقط هو أنني أساير باختفائي، بالانتباه أو الإفاقة على هذا الاختفاء، غائبًا أشمل وأكثر سطوة؛ حيث لا يعدو جسدي ـ كسائر الأشياء ـ سوى بصمات على لا مرئيته. ما أعرفه هو أنني غاضب، كل تعبير فاسد عن الحب يدل على غضبي أكثر مما تثبته الكراهية المعلنة، لأنه ـ ببساطة ـ كل تعبير عن قبول "الإنسانية" هو كشف عن الألم يفوق أي صرخات أخرى، وبما يسمح به فقط الإذعان لشروط اللغة في تلك اللحظة؛ لذا فإن الأثر الذي أتركه من داخل عزلتي كمجابهة لآثار الآخرين التي شكّلت ملامحي لا يمكنه الاختفاء حتى بعد الموت.

"أكاد أسمعك تقول (آه، إذن كان الأمر كله توليفة لإثارة ضجرنا بثرثرته العفنة. إن كل ما أراد منا هو أن نُصغي إلى هذيانه!). لكن هذا صحيح فقط جزئيًا: فبما أنني غير مرئي وبلا جوهر، مجرد صوت بلا جسد، فأي شيء آخر كان في وسعي أن أفعل؟ أي شيء غير أن أحاول أن أحكي لك ما كان يحدث فعلًا عندما كانت عيناك تنظران من خلالي؟ وهذا بالذات ما يُخيفني: من يعلم غير أنني إنما أتكلم بالنيابة عنك، بنبرة منخفضة؟".

حينما أقارن رواية "الرجل اللامرئي" برواية "لون الماء" والتي تتجاوز كونها مجرد سيرة ذاتية للكاتب والمؤلف الموسيقي وعازف السكسفون "جيمز ماكبرايد" في عصر القوة السوداء ومالكولم اكس ومارتن لوثر كينج وأجواء التوتر بين البيض والسود؛ فإنني أفكر في أنه مع اختلاف الموقع السردي الذي تتم مراجعة "تاريخ رجل أسود" من داخله؛ لا تكتسب الوقائع والأشياء ذاكرتها إلا لحظة الكتابة، أي عند رصد كونها "فرضيات" لا معرفة. أفكر في أنه دائمًا ثمة اختفاء، حفرة، استعمال بصمات الغياب المطلق في ترك أثر على أن جسدًا "لا مرئيًا" قد مر في لحظة ما؛ فقط حين تقرر أن عليك توثيق ذلك.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 12 نوفمبر 2022

الجمعة، 28 أكتوبر 2022

الانعزالية والسكون.. مكان جيد لسلحفاة محنطة


  شوقي عبد الحميد يحيى

         لاشك أن التكنولوجيا، وما قدمته للإنسان من خدمات، تُيَسر له الحياة، إلا أنها أيضا قد زادت من انعزاليته، ووحدانيته التى –غالبا- ما تقوده إلى المرض النفسى، فتكثر الأحلام والهواجس والكوابيس، التى تطارد ذاك الإنسان، فى نومه، وفى يقظته، فكانت أرضا خصبة للمبدع كى تنبت فيها بذرة إبداعه، حيث تُيسر له، تخطى حاجزى الزمان والمكان. وهو ما لجأ له الكاتب “ممدوح رزق”، الذى توحى عديد ممارساته فى القصة القصيرة والرواية والمسرحية والشعر والسينما والمقال النقدى، برغبته فى التجريب، فمارس العديد من الأشكال داخل النوع الواحد، مسلحا بلغة إنجليزية، مكنته أيضا من الترجمة، مستعينا بعديد القراءات، ومختلف الثقافات. الأمر الذى فرض التصور بأن كل ساعات هذا الكاتب، كانت بين القراءة والكتابة، أى أنه يعيش مع نفسه، أكثر مما يعيشه مع الآخرين، وهو ما انعكس على أعماله- خاصة فى مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” والتى استدعى فيها الكثير من رموز الإبداع السينمائى والتليفزيونى والتشكيلى والموسيقى والشعرى والسردى، حيث اصبحوا هم عالمه. حيث جاء الكثير من القصص، تحمل البوح، وتتوجه إلى شخص غير موجود، وتعيش فى الماضى. لذا، وإن كانت لا تحتوى عنصر الحكاية، إلا انها تحمل حركية الزمن حيث تخلق المقارنة بين الماضى والحاضر، بين الطفولة، والشيخوخة، بين الإحساس الذى كان، والإحساس الكائن. أى ان هناك دائما حركية، أو ديناميكية، تسرى بين السطور، تُشعر القارئ بتلك الحركية، التى هى عنصر رئيس فى القصة القصيرة.

فإذا ما بدأنا بقراءة أولى قصص مجموعته “مكان جيد لسلحفاة محنطة”[1]، التى تنوعت فيها التجارب، وتباينت المعالجات –الشكلية- وإن ظلت الرؤية واحدة، فى أغلبها، إن لم تكن فيها جميعا، والتى نستطيع أن نتبين تلك المعالجات فى القصة المركبة، والقصة المقالية، والقصة الرسالة، حيث تباينت بينها المساحات الكتابية، لأغراض توصيل الرؤية، والحفاظ على ماهية القصة القصيرة، والتى تعتمد الزمن عنصرا هاما فى كتابتها.

فإذا ما تأملنا أولى قصص المجموعة، والتى عنونها باللغة الإنجليزية (FACEBOOK). سنجده قد استعان بفن “الكولاج”، الذى يعتمد قصاصات متباعدة، ليشكل منها فى النهاية رؤية. رغم تباعدها –الظاهرى- ورغم أنها لا تعتمد (الحكاية) المتصاعدة، إلا أنها فى النهاية تعبر عن رؤية للحياة العصرية، تقوم على المواجهة، بين الماضى والحاضر، لينظر القارئ حوله، ويتحسس موقعه. حيث نعيش ونتعايش مع تلك الوِحْدة – المتسلطة على معظم قصص المجموعة- فيركب على جناح الخيال طاويا المسافات، والحواجز (الزمنية) التى تباعد بين البشر، حيث يسترجع تلك الأيام التى كان يشعر فيها بالدفء، والحنان، فيستدعى الجدة -من الزمن الماضى- التى يرى وجهها مماثلا لوجه السيارة الفولكس –فى الزمن الحاضر-. ويستدعى وجه “مجدى وهبة” فى فيلم “حنفى الأبهة” بما يمثله من شر، غير انه يسمو به ليصبح شبيها ل”سلفادور دالى”، بدوره – فى الفيلم- فى تغيير الرؤية، والوسيلة للتعبير عن الحياة، وكأننا أمام مواجهة بين طرفى التكنولوجيا. ثم يستدعى –من الماضى- وجه إسماعيل ياسين، ليقول عنه {المشهد الذى لم تره أبدا لإسماعيل ياسين. اللحظة التى لايريد فيها أن يكون عاديا أو حكيما أو مضحكا. ولا يريد كذلك أن يُخبر أحدا بطريقة ما أن وراء ضحكاته تعاسة هائلة. النقطة التى تقع خارج الزمن ويريد أن يعطى عندها إشارة غير ملحوظة ربما بأنه يتمنى فقط أن يتبخر دون أن يموت}. وهو ما يعكس رؤية المجموعة، أن الظاهر ليس كافيا للحكم على الباطن، وأن هناك دائما ماهو ظاهر، وما هو خفى فى الأعماق. حيث إنسان (الفيسبوك) يتعامل وكأنه (موجود) غير أنه غير محسوس، لذا يلغى –الكاتب- حاجز المكان، لنرى أنه يقيم علاقة مع كاتبة –عربية- للقصة القصيرة، وهو يُضمر أن يجتمع معها فى سرير واحد، غير انه يصطدم بها تسأله أن يرسل رسالة لحبيبها يخبره فيها أنها تريد مقابلته حالا، وكأنه يفاجأ بأن الاتصال، نظرى، غير محسوس، وأن العلاقة (الفيسبوكية) علاقة تسمو على المادى، وتنزع إلى السمو لعالم (باخ) –أحد عباقرة الموسيقى الكلاسيكية- {الشعور التقليدى بالعجز والفشل الذى كنت على يقين بأن آلامه المعتادة تتجهز لتعذيبى من جديد فى جميع الأحوال، سواء طال الوقت دون أن أصل لجسد القاصة العربية- كما حدث مع جميع من حاولت الوصول إلى أجسادهن-… وأننى سأكتم صوت فيلم البرنو لأستمع إلى (كونشرتو براندنبورغ)ل(باخ) أثناء الفرجة والاستنماء. لم أخبرها بأننى سأكون سعيدا جدا}. ليعود السارد إلى وحدته، ويكتشف أنه يعيش الخيال، لتكرار الفشل فى إقامة العلاقة (المادية). وليجد أنه يتحدث إلى نفسه، حيث يتصور أن أحدا كتب قصة قصيرة، وترك صفحات بيضاء ليكتب القارئ فيها عن حياته. وأنه استخدم تلك الوسيلة، لإقامة التواصل، والبقاء. ورغم أن السارد، انتقد تلك الوسيلة، إلا اننا نفاجأ فى النهاية بأن كاتب القصة –الافتراضية- ليس إلا كاتب قصتنا (الفيسبوكية)، أى تطابق كل من الكاتب والسارد {لم يكن يريد أن أرى وجهه. وأيضا لم يكن يريد أن يرى وجهى. ربما ليس لأن لدينا نفس الوجه….لا يستغرق ال sing out أكثرمن لحظة واحدة. لكنها كانت كافية لأن أتذكر أننى الذى كتبت القصة القصيرة ذات الصفحات الفارغة ولم أنشرها أبدأ}. ويكتمل الشعور بالإحباط عندما يكتشف أن وسيلة الصفحات الفارغة، أو اللاوجود المادى، لا يحقق إنسانية الإنسان، الذى يسعى لتحقيق ذاته، وما يتم ذلك إلا بوجود الآخرين {كاتب القصة لم يذكر شيئا عن نفسه. كل ما فعله أنه ترك صفحات فارغة دون أى اثر لملامحه. أنا كنت أريده أن يرانى بأى شكل، واعتبرت عدم رغبته فى ذلك إهانة تتطلب الانتقام ولو بكلمات لن يقرأها أبدا.إعتداء على حقى فى الألوهية، والذى لن أحصل عليه إلا بتثبيت ملامحى فى ملامح أخرى}. فهنا نعيش مآساة العصر، فعلى الرغم من أن الوسائل الحديثة، قد قربت المسافات، إن لم تكن قد ألغتها، إلا أنها –بذلك- منعت التواصل الإنسانى، والدفء الروحى، وقذفت به إلى برودة عالم الانعزالية، وتركته مع نفسه، ليُنشأ عالمه الخيالى وحده.

ويظل الفيسبوك حاضرا فى قصة “هومر سيمبسون”. وفى شكوى الفساد والازدواجية، مع الوهم، أو مع شخص ليس له وجود، معتمدا –أيضا- على أخد خواص الفيسبوك، أن أكلم من لا أراه، وغالبا من لا أعرفه. متسلحا بالوحدة والتأمل، والذى، غالبا ما يجد الإنسان فيه يبحث عمن يفضى إليه بمتاعبه. فتتمثل الوحدة فى قصة “هومر سمبسون” فيما يفضى به عن نفسه، لتلك الشخصية الكرتونية{ أنا مع كل مرة أغلق فيها الباب على نفسى، وافكر فى الماضى، يتحول الإذلال إلى أقوى داعم لوجودى… ولكن على أى حال –على أساس أنكِ لم تجدى أحدا بلا شكوى- ما أقوله الآن أريدك أن تعتبريه مجرد حكى لأزمة شخصية بسيطة، أو هو نوع من كتم الصراخ بكف البوح}. – ولا نغفل ما فى التعبير من جمالية تفيض بالإيحاء لشدة الضغط الداخلى (الصراخ) وأن (البوح) هو المخرج الآمن لتفريغ شحنات الغضب. والتى كما تصلح للتعبير عن الفرد، فإنها.ز أيضل.ز تصلح للمجموع-. فنحن إذن أمام عملية بوح وتنفيس نفسى، يلجأ بها الكاتب للتعبير عن ذاته المتوحدة، والمنطوية على ذاتها، مما يمارسه المجتمع، ويرفضه الكاتب –ممثلا فى شخص السارد-. ثم يضرب السارد مثلا لذلك الخداع، والازدواجية التى يعانيها المجتمع، بالحكى للمتحدَث إليها، عن شخص يعلق، مهاجما، على قصيدة نثر نشرها السارد، غير أنه وجد صورة ذلك الشخص تبين عن شخص أنيق على الطريقة الأوروبية، فوجد فى ذلك تناقضا، فأخذ السارد صورته، ووضعها بروفايل لنفسه، وتلقت عشرات الإعجاب على (صورته) الجديدة. {انتظرت حتى انتهيت من كتابة كل كلمات الفرح والإعجاب بوسامتى. كنت مستعدا لأن أرد على هذه الكلمات بقسوة، بعنف لفظى بالغ يهين أنوثتك، لمجرد أنك جميلة جدا كأحلامى التى لا يعرفها أحد، ولأنك لن تكونى قريبة منى أكثر من هذا الحد. كنت فى نهاية صفعاتى ولطماتى الكلامية ساخبرك بأن اسمى الذى يختبئ وراء short story هو فلان الفلانى/ اسم الشخص الذى هاجم قصيدة النثر}.ولا نغفل هنا أيضا {انتظرت حتى انتهيت من كتابة كل كلمات الفرح والإعجاب بوسامتى} وما بها من تعبير إنسانى جوهرى، حيث تنطق العبارة بسلوك إنسانى، يفرح بكلمات المدح، حتى أنه يسجلها(يكتبها). وهو السلوك الفردى، الذى يمكن أيضا أن يعبر عن السلوك الجمعى، حين يؤدى إلى إفساد، أى مسؤول. وهو ما يشير إلى خاصية تسرى فى أوصال المجموعة، الخروج من التعبير الفردى، إلى الجمعى، دون فواصل، أو خطابية، أو تصريح. وهى إحدى صفات الشعرية- فى السرد- التى تبوح، دون أن تُصرح. وبصيغة أكثر دقة.. القابلية للتأويل.

 وتتقاطع قصة “اللعب بالفقاعات” مع قصة “هومر سمبسون” فى رفض الزيف، وكل ما هو مرفوض. حيث نطالع هنا تحايل الكاتب ضعيف الموهبة. فإذا كنا قد رأينا القصة التى تحمل مستويين للحلم، فإننا نواجه هنا، القصة داخل القصة. وهو ما يمكن تسميته ب“القصة المركبة”، وحيث أن كتابة القصة –فى عمومها- تحمل الكثير من شخص الكاتب، من ذاته. حيث يخاطب السارد نفسه، فى قصة “اللعب بالفقاعات” –كما غيرها من القصص كثيرا- وهو يحاول كتابة قصة، عن أخته التى تصرخ فيه كثيرا، وتقذف (بقصص الأطفال) التى يقتنيها، وهو لا يستطيع مجاراتها، فيغلق عليه بابه، حتى يعترف لنفسه، وكأنه يبرر لنفسه {لا يمكنك أن تنكر أنك فكرت أكثر من مرة فى قتلها، ولكن الذى منعك ليس رفضك أن تدفع روحك ثمنا للتخلص من حنجرة فحسب، وإنما كان يعنيك أيضا بقاء هذه الحنجرة فى الحياة لتكون دليلا حيا وحاضرا دائما أمام عينيك على صحة الكوميديا الكامنة فى كراهيتك للفناء}.ونلاحظ هنا الرؤى المتفجرة من استخدام (الكوميديا) التى تحمل العبثية، والتناقض بين رغبة السارد فى مقاومة الفناء، الذى هو مصيره الحتمي، طالما أنه لا يملك الموهبة، أو حتى الشخصية، التى لا يعتمد بها على الآخرين. وحيث نشعر معها بحساسية الكلمة، وفاعليتها فى بث الإيحاءات، والإشعاعات.

 ثم يتصور-السارد- أن خطيبته توقع مجموعتها القصصية، في قصته المزعومة التى يحاول كتابتها{فى حفل توقيع خطيبته لمجموعتها القصصية كان الخط السحرى الفاصل بين ثدييها كريما فى ظهوره من ملابسها المفتوحة} و كان{ كل واحد تمنى لو زادت كلمات التوقيع ليطول وقت وقوفه أمام كنزها المهيب، وحينما تأتى لحظة انسحابه ممسكا بنسخته موقعة يحرص على توديع ذلك الكنز بنظرة طويلة مركزة وبإحساس قاتل باليتم}. حيث تترجم {الإحساس القاتل باليتم} إحساس الكاتب بأن أحدا لا يسأل فيه أو فى وجوده. ثم يتصور كاتب القصة (الداخلية) أنه تزوج، وأن زوجته لها صوت الضفدع، ولم يكن شكلها، بأقل قبحا من صوتها، لكنا نعلم أنها تعايره، لتُبرز الجانب الآخر، أو وضع هذا الزوج (المتَصور) {معايرتها لك على جلوسك فى البيت بدون عمل وإعتمادك على المساعدات الخارجية من أهلها، وأحيانا من أهلك}.

 ويسترجع ذلك السارد الداخلى، أنه يجلس على الكورنيش مع خطيبته، فيمر واحد ويطلب منه ولاعة، ثم ينقض عل ثدى خطيبته بيده، تحت ملابسها، ويهرب لتصير مطاردة بين السارد، وهذا المُغتصب، لحق يراها حصريا. { لكن كان فى داخله شئ خافت وغريب يجبره على الامتنان لهذا الاعتداء. لذة تشبه كثيرا تلك التى يحصل عليها الخارج منتصرا من معركة ما}. وكأن الفعلة رغبة دفينة عند السارد، عجز عن تحقيقها، وأشبعها له هذا الاعتداء. لنبدأ فى تلمس الرغبة الداخلية –المادية- للكاتب (المزعوم). وبعد الغيظ من ذلك الشخص.. شعر فجأة بإحساس متغير، بل {شعر مصدوما أن عينيها لم يكن فيهما نظرة فزع أو ذهول، بل على العكس، كان فيهما ما يشبه السرور الشهوانى رغم صرخاتها الباكية}. فينسى ذلك المغتصب الهارب، ويمد يده –السارد- ليستحلم. لتتكشف لنا عن شخصية، غير سوية، شخصية متوهمة، وهى لا تملك القدرة على التواجد الحقيقى. ولندرك أن العملية برمتها، ليست إلا حلم، أو رغبة مدفونة عند السارد، وأن شيئا من ذلك على أرض الواقع، لم يحدث. وقد نلاحظ أستخدام الكاتب – ممدوح- لضمير المخاطب (أنت). وكأنها المواجهة. وكأنه يواجهه بعيوبه، مباشرة، مستخدما تلك الصيغة فى كتابة الكاتب الضمنى، وكأنها –أيضا- عملية مواجهة الذات، أو البوح الداخلى، بالحقيقة –المُرة-. ولنصبح فى ذات الآن أمام قصة نفسية، وأن السارد – لزال- فى حالة فردانية، يعيش الداخل، ويواجه مقاومة الواقع – الذى لا يستطيع أن يعيشه- والرغبة –التى لا يستطيع تحقيقها. ولينفتح النص إلى الرؤية العامة، إنسانيا، ومجتمعيا، على الرغم من ظاهرها.. الفردى.

 ويبدأ الكاتب فى الخروج من الذات، إلى النظرة الكلية، الجمعية، فى قصة “ماريا نكوبولوس”. والتى استخدم فيها الكاتب التواريخ، والمراجع التى تحيلنا إلى الواقع المعيش، وكأنه يقتطع جزءً منها، ليغرسنا فى وحل التجربة الحية. فيعرض لنا حياة تلك الفتاة التى مُنحت القدرة على السير بظهرها، بل وتجرى، وتمارس الحياة بظهرها، ولا تستطيع ذلك عندما يتم تغمية عينيها، أى انها تستخدم عينيها بالفعل، ولكنها تسير للخلف – لتبرز مباشرة الرؤية الرمزية، التى تُخرجها من الرؤية الفردية إلى الرؤية الجمعية-، وكأنها تسعى للعودة إلى الطفولة – فى الرؤية الفردية، أو البراءة، التى ترى فيها الخلاص من العلم الآنى بكل شروره، ودمويته. حيث رفضت ماريا استغلال موهبتها –السير للخلف – فى أى عمل تجارى أو دعائى، ولكنها وافقت فقط فى أحد الأفلام {حيث اقتصر دورها على المشى الصامت بظهرها لثوان قليلة فى مشهد النهاية الذى جمع بين النجمين وهما عريانان وسط نافورة فى ميدان عام ويتبادلان قذف أشلاء وعظام بشرية على بعضهما بفرح}. وكأنها وافقت على الاشتراك، رفضا لذلك المنظر الدموى، وكأنها دعوة للعودة إلى البراءة والطهر. والحالة الثانية كان فى قصة فيلم كارتون. حيث جسد الفيلم قصة حياة الطفلة (كارولين) التى تعانى من الوحدة والاضطهاد الأسرى والمجتمعى بسبب إصرارها المتواصل على تقمص شخصيات الحكايات الخيالية القديمة}. وهو ما يفهم منه –أضا- رفض تلك المعاملة، والدعوة للعودة إلى الإنسانية. وهو ما يعنى الرفض فى كلا الحالين، خاصة وأن رفضها المطلق لاستغلال ما وهبها الله فيما يضر البشرية.

وقد عينت “ماريا” كسفيرة لللأمم المتحدة وهى لا تزال طفلة، فزارت مصر حيث إلتقت {بالرئيس (جمال عبد الناصر) وبالمستشار (حسن الهضيبى) المرشد العام للإخوان المسلمين، وبالبابا (كيرلس السادس) بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وأنها اصطحبتهم إلى طريق مصر اسكندرية الصحراوى} ليجربوا المشى بظهورهم، لكنهم فشلوا. كما جربت نفس التجربة مع الرئيس الأمريكى نيكسون، والسوفيتى بودجورنى، والفرنسى بومبيدو، وفيصل ملك السعودية، لكنهم –أيضا- فشلوا. وبتأمل تلك الأسماء، والمناصب، نعلم أنهم جميعا من سعوا إلى الحروب والدمار، والقتل. كما أنهم –تقريبا- من يسيطرون على مجريات الحياة على ظهر الكوكب. لذا فإنها صرحت لصديقتها المقربة قبل وفاتها و-دون مبرر واضح- وكأنها الرسالة إلى البشرية. بالكشف عن سر الحياة على الأرض {بأن الحياة كان من الممكن أن تكون جميلة حقا لو أتيحت لكل إنسان القدرة على التفحص الدائم للنقطة التى ينطلق منها تحركه داخل العالم، وأن المشى بالظهر حينما يعتبر معجزة، فهذا دليل على مدى بشاعة النوايا التى وقفت وراء الوجود البشرى، لأن الغيب لو كان يريد بنا خيرا لجعلنا جميعا قادرين على المشى بظهورنا}. وكأن الحروب والقتل والدماء، قدر مُقدر على الإنسان على الأرض، منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل، عند بدء الحياة على الأرض. حيث نرى أن المشى على الأرض، يعادل أن يعطى الإنسان ظهره لكل ما يحمل الضمار للبشرية.

وتأتى قصة “ظهور الأسنان” لتضيف إلى قصة “ماريا نكوبولوس” بعدا حاضرا على أرض الواقع، وكأنها استكمال لها، حيث تظل ثورة الخامس والعشرين من يناير باقية فى الذاكرة حية، مهما حاول البعض طمس معالمها، إلا أن كاتبنا يسترجع تلك الفترة فى قصة “ظهور الأسنان”. وإذا كانت المجموعة قد ظهرت فى العام 2013، ما يعنى أن القصة ولدت قبل ذلك التاريخ، اى أنها ولدت فى سخونة الحدث، لذا جاء التعبير عنها سهل المنال، حيث تتحدث عن السارد الذى يجلس على المقهى مع صديقه الذى يرى أن ثوار يناير ليسوا إلا بلطجية مدفوع لهم لنشر الخراب والفوضى فى البلد}. ثم يحكى الصديق عن ابنته الرافضة للزواج(التقليدى) أو زواج الصالونات، فيسأله السارد {لكننى سألته عن الدافع الأعمق للغضب بداخله الذى قد لا يكون له أى علاقة بمظاهرات إسقاط المجلس العسكرى} وهو ما يلقى بظلاله على تحولات تلك المرحلة. ثم يفاجأ -السارد- بأن الصديق قد اصطحب ابنته إلى الميدان، ربما لتجد هناك –من بين البطجية- من تختاره عريسا لها، {خصوصا مع ثقته فى قدرة ابنته على الاختيار السليم، وعلى حماية نفسها من أى تجاوز أخلاقى يمكن أن تتعرض له}. ليحدث الإسقاط بين الحياة (المدنية) وبين ما يجرى من أمور عسكرية بالميدان. وهو ما يخشى معه –السارد- أن يحدث الصدام، فليست القوتان متساويتان {قلت له إن أهم شئ، وهو لم يكن فى حاجة للتأكيد عليه، هو ألا يحاول إجبارها على أى أمر، وأن يحرص على عدم بلوغ المناقشة بينهما إلى مستوى الحدة والصدام}. ثم يعود السارد إلى بيته، {فى هذه الليلة كانت ابنتى نائمة حين رجعت من الخارج. وقفت أتمعن فى وجهها متحاشيا النظر إلى ذلك الشئ الأبيض الصغير جدا الذى بدأ يبرز داخل فمها}. لتصل رسالته التى ترى فيما يحدث إنبثاق الأسنان التى تستطيع مضغ الطعام، وإختياره، وبداية القدرة عل الاختيار، وأن النظرة إلى تلك الثورة المغدورة، كان بداية البداية.

وقد نتلمس الإيحاء بمصير تلك الثورة –الخامس والعشرين من يناير – فى قصة “نهاية العالم” والتى لم يغادر فيها- الكاتب- عالمه الداخلى الأثير. فقد عمد فيها الكاتب إلى الإيحاء، خاصة ما جاء بنهاية القصة، حيث أنه لم يصرح بسقوط الإبنة. فهنا نرى الزوجة، وممارسة الحياة معها، والإبنة التى صنع لها سفينة من المكعبات، وكأنه يصنع لها سفينة نوح، غير أنها لم تكن كإبن نوح- فى المصير-(فكان من المُغرقين). حيث أنها لم ترفض ركوب السفينة، لكنها سقطت من الدور السابع، وكان لسقوطها دوى هائل، وإن كان السارد ينفى أن هذا لم يكن نهاية العالم، إلا أن ذلك كان نهايته بالنسبة للأسرة –على المستوى الفردى-، رغم استمرار الحياة على الأرض. وأن الدوى الكبير الذى أيقظ (الشارع والعمارة)، لم يكن إلا فى الأثر النفسى للسارد، وهو ما لم يبتعد به –الكاتب- كثيرا عن عالمه النفسى الداخلى. كما لم يبتعد عن تلك الرؤية الكلية، والتى تؤكد مقدرته على خلق العام، من الخاص، حيث تعتبر القصة إمتدادا، وتحديدا لمصير الإبنة، التى رآى أسنانها تنبت… ولكن…….

وقد لا تبعتد قصة “بالإصبع الصغير لقدم أعمى” عن تلك الرؤية. حيث يستمر الكاتب فى ظل الأجواء السارية فى المجموعة- بصيغة مباشرة أو غير مباشرة- فى هذه القصة التى يثير عنوانها – كغيره من العناوين، الكثير من التساؤل والدهشة، حيث يبحث القارئ خلال القصة عن ترجمة للعنوان، أو إشارة إليه، فلا يجد. الأمر الذى يدعونا لمتابعة القصة، لعل شيئا يدلنا على دلالة للعنوان.

 فتبدأ القصة بالفيسبوك –أيضا-، والحلم {حلمت بأننى قضيت ليلة فى بيت إحدى الصديقات على فيسبوك. كان كل ما أعرفه عنها أنها جميلة وشاعرة وخفيفة الدم وثورية}. فإذا كانت تلك هى الصفات التى أثارت حفيظة الكاتب، وجعلت تلك الصديقة، محط فكره. حيث ينبع الحلم من الواقع، أو أن الحلم يكشف عن أجواء الحالم وتفكيره، قبل النوم. خاصة إذا ما تأملنا نهاية القصة التى استيقظ فيها الحالم من حلمه، على صوت إيمان البحر درويش يغنى:{ فى البحر سمكة. بتزق سمكة. على الشط واقف. صياد بشبكة. ونونة تضحك. وتقول يا بابا هات لى بسكوت ونوجة). وليستيقظ الحالم من نومه {لحظتها أدركت أننى أحلم، وقررت الاستفادة من ذلك لتحقيق أمنيتى القديمة: الطيران وسط الغيوم وقت الغروب بصحبة أغنية “فرانك سيناترا” noon river. رفعت ذراعى وأنا فى السرير محاولا البدء فى التحليق لكن صوت أغنية “إيمان البحر درويش” ظل يعلو دون توقف حتى فتحت عينى مستيقظا من الحلم. فالتَفْتُ إلى السرير الآخر حيث طفلتى ما زالت نائمة وبيديها الصغيرتين باكو بسكوت وقطعة نوجة}. فإذا كانت رغبة الحالم القديمة، هى الطيران وسط الغيوم وقت الغروب، فهو ما يعنى، الرغبة فى الهروب، من واقع غير محبب( الغيوم ووقت الغروب) أو وقت الأفول… فما هى تلك الأجواء؟

تبدأ تلك الأجواء، حين نام الحالم مع صديقته الفيسبوكية، وبعد أن انتهيا، كتب، كل على صفحته بالفيسبوك “ستاتوس” بذات الشكل، وبعد الاستيقاظ- بينما ظل هو فى الحلم-.- حيث نعيش أيضا هنا الحلم المركب- وجد ألا لايك واحد على صفحته، ووجد عشرات اللايكات على ذات الاستاتوس على صفحتها، مما اغضبه كثيرا. فاستمر فى الحلم ليجد الشقة قد مُلئت بالأصدقاء الذين يعرفهم، وقد ناموا جميعا فى الحجرات والصالة وفى كل مكان، وكان يحمل مسدس صوت، وجهه إليهم جميعا، حتى أماتهم عن آخرهم. ورغم أن الصديقة أخذته إلى الحجرة إلا انها أبلغته بأنها ستلغى صداقتهم على الفيسبوك، ليسألها {وأظن كمان هتعمليلى بلوك}. فيستنتج من نظرات عينيها الهاربة أنها ستفعل ذلك.. إذن فقد حدث شقاق بين الصديقين، أو الحبيبن. وحدث فراق. فإذا عدنا إلى وصف السارد أو الحالم بوصفه لها ب { أنها جميلة وشاعرة وخفيفة الدم وثورية}. ثم استكمال السارد عنها {لم أر فى الحلم أى مشهد جنسى بيننا. رايتنى فقط مسترخيا فى سريرها، ومستمتعا بإشباع ما بعد الممارسة}. حيث تخرج الصديقة، أو الحبيبة من الوجود المادى، إلى الوجود الرمزى، أو الوجود الروحى، والذى قد لانكون مبالغين إن تصورناها المعادل الموضوعى لمصر، وليخرج منه السارد إلى الهم العام، هم الوطن، وهو ما نتصور معه أن السارد أطلق الرصاص على الزيف، أو الانحراف عن السلوك السوى، الذى رفضه السارد. وهو الفعل الذى قررت معه الصديقة إنهاء الصداقة {أنا هفضل معاك على طول، وهنفضل ننام مع بعض لغاية ما نموت بس بعد اللى انت عملته النهارده أنا مضطرة أحذفك من قائمة أصدقائى على فيسبوك}، حيث ينتقل الحالم من حلم أول إلى الحلم الآخر، أو مستوى آخر من الحالة الحلمية، وكأننا أمام مستويين من الرؤيا {لم أدر إلا وأنا أمد كفى نحو رقبتها محاولا خنقها، لكننى وجدت نفسى أستيقظ من هذا الحلم عائدا إلى الحلم الأول، كان نفس السرير الذى أخذت فيه صديقة فيسبوك بين ذراعى واستغرقنا فى النوم، لكن تحولت الحجرة إلى زنزانة داخل سجن طره أثناء الحقبة الناصرية}. ولا تختلف تلك الرؤية عن المشهد الذى رآه السارد فى الزنانة، والتى فيها كان يجلس عضوان من جماعة الإخوان المسلمين. يقول أحدهما للآخر: { اتصلت بمدير أعمال (أوكا وأورتيجا؟) فرد عليه الآخر: ايوه الهضيبى إداله كلمات المهرجان واتفق معاه على كل حاجة}. ولينطق أحدهما –السنانيرى- مغنيا{الإسلام معايا وروحى فيه. شايله معايا وبحكم بيه}. ولنرى الوجه الثانى للمعادلة، أو الطرف الثانى الساعى للحكم {وبحكم بيه}، حيث تبينا الطرف الأول يحبس فى –سجن طره- كل معارضيه، والذى أصبح السارد واحدا منهم. وليصبح السارد، بإلإصبع الصغير لقدم أعمى ضائع بين جناحى الاقتتال، وكأنه القدر الأعمى، أو الأحمق الخطى، سحقت هامته خطاه[2]. وهكذا نجد أن العنوان، تم نثره فى ثنايا القصة بطولها، فكان مُعَبِراً، وكان مَعَبَراً، إلى الرؤية المستترة بين ثنايا الحلم الضائع. فى الوقت الذى استكر الكاتب فيه، يخترق أعماق سارديه، ووحدتهم، التى تُنشئ الأفكار ليحولها إلى إبداع.

القصة المقالية

          كما ذكرنا، تنوعت صيغ الكتابة فى المجمعة، بين القصة المركبة، التى عايشنا بعضها، لنجد صيغة أخرى، وشكلا آخر لكتابته، وهى القصة المقالية، التى تدفعنا مباشرة إلى أشهر من كتب تلك القصة “بورخس”، والذى يقول د. محمد أبو العطا فى مقدكته ل(كتاب) الألف لبورخس[3]، حيث يقول عن المؤلف :{وهو من نخبة مفكرى هذا القرن ومبدعيه نظرا إلى ثقافته الموسوعية واطلاعه على ثقافات الشرق والغرب. وقيل أنه لو لم يتجه إلى الإبداع الأدبى لكان من كبار المفكرين المنهجيين فى العالم} كما يذكر د أبو العطا، أن بورخس كان يعانى من ضعف البصر، الأمر الذى أدى إلى حياة العزلة فى المنزل. وهو ما يدعو لاستشعار الشبه بينه، وبين كاتبنا “ممدوح رزق” الذى عنون إحدى قصصه ب”بورخس”، رغم أن ذكر بورخس مباشرة لم يأت ذكره، وإنما استغل الكاتب الإسم –العنوان- لعملية الإيحاء. وكأنه يكتب عن نفسه. خاصة إذا ما قرأنا رؤية أبو العطا لقصص بورخس {وتظهر بدايات بعض قصصه كما لو كانت دراسة علمية خالصة، وأحيانا، على شكل فكرة فلسفية أو طرح جدلى، وفى أحيان أخرى، على شكل إعتراف بضمير المتكلم}[4]. خاصة أننا نرى السارد- فى قصتنا-، يتحدث بضمير المتكلم، كما وأنه اختار صيغة الحلم – وهى الشكل الذى يبقيها فى القالب القصصى- ليعبر به عن إنقسام الذات، الواقعة تحت تأثير الأفكار والقراءات المتعددة والمتنوعة مثل “مى التلمسانى” و “فرانك أوكنورو” مؤلف “الصوت المنفرد” وشبنهاور ونيتشة وكيركيجارد وفوكو وبارت ودريدا وليوتار و رورتىن وغيرهم، ممن كتبوا عن النظرية النقدية، أو الفكر النظرى. الأمر الذى معه تحول القصة إلى ما يشبه المقال، أو المحاورة النظرية. وهو ما يتطابق مع استمرار قراءة المقدمة – المشار إليها- {جاءت أعمال خورخى لويس بورخس القصصية متأخرة، وتجريبية أولا، برغم أنها أهم ما يميز أعماله عامة، حيث نلاحظ هيمنة إسلوب المقال الأدبى على قصصه القصيرة}. والتى يمكن أيضا أن نقرأ عليها مقالات “محمد مستجاب” فى عدد من المجلات المصرية، فضلا عن مقالاته –القصصية- فى مجلة “العربى”. ونرى قناعة الكاتب ممدوح رزق، ووعيه بما يفعل، فى قول أحد طرفى النفس فى المحاورة بينها وبين الأخرى فى قصة “بورخس” {توقفك عن كتابة برامج الحياة والكتابة والعلاقات. يا ريت كل بنى آدم يتحول مثلك إلى شخصين، واحدة تعيش والأخرى تتفرج طوال الوقت بمتعة واطمئنان على الفيديو كليب الخاص بالأولى. أليس هذا حلمى الذى ما زلت أعيد كتابته مرارا وتكرارا بأشكال مختلفة وحققته أنت أخيرا؟}. حيث ينحصر الحلم فى مراقبة الذات والكتابة عنها، وهو ما يؤكده فى القصة نفسها {ولكن يبدو أن المسافة الذهنية التى تصورتها قائمة بينى وبينه لم تكن بالحدة التى تظهر عليها، الأمر الذى لم يجعلنى غريبا عنه}. فتطابقت نظرة الطرفين، فى الرؤية النظرية، لا العملية. وفى النهاية،يتبخر الحلم، ولا يتبقى منه إلا المادة الأولية، التى يحاول القاص أن يخلق منها قصة، لتدعو القارئ أن يتأمل أحوال الحلم، واثر الخارج عليه، واثره على الخارج {أنت غالبا تنسى الأحلام-كعادتك-، وهذا الحلم أنت لن تتذكر سوى تفاصيل مبتورة وشاحبة منه، ولن تمتلك تأكيدا على وجودها. مثل كل مرة خيالك هو الذى سيكتب هذا اللقاء}.فتنحصر القصة- الحلم- إلى تصور شخصى، يجرى فيه السارد حوارا نظريا، بينه وبين نفسه فنقرأ القصة وكأننا نقرا مقالا. وهو ما نستيطع أن ندرج فيه أبضا، القصة الرسالة، والتى تفيض بما تحمله الذات للآخر، وإن كان هنا، شخص معلوم. مثلما فى “تاريخ الأدب” إلى أشرف أبو زينة و “العود الأدبى” إلى مجدى رزق.

القصة ولعبة الزمن

         لا يتطلب الأمر كثير بحث لإدراك لعب الزمن، بصفة عامة، والماضى، بصفة خاصة، دورا رئيسا فى المجموعة ككل، حيث نجد أن الحنين للماضى، أو فتح خزائنه، والاستفادة من مواده فى صنع عصب لقصصه. حيث تجلى ذلك – بصورة مباشر- فى قصة “سرير” ذلك الذى يشهد مسيرة الأجيال، حيث يتحول السرير إلى آلة الزمنـ تشهد عمليات بدء الخلق ” المعاشرة الجنسية”، ويشهد تتابع الأجيال عليه { بينما الطفل الذى قابلها صدفة بعد عشرين سنة تعود مراقبتها دون أن تشعر، عرفت اليوم أن الطفل صار زوجا وأبا وملحدا، وأن الطفلة صارت زوجة وأم ومومس ومنقبة}. والسرير يضحك لتصور الجميع، أن الحياة ممتدة، وبلا نهاية، ولكن ينتهى فيلم “إخفاء العالم”. فالأشخاص يختفون، لكن الحياة باقية، فيضحك الزمن منهم، وعليهم، المتجسد فى السرير، الصامت، الباقى عبر الأجيال {وإلى أى مدى نجحت شيخوختى فى جعل الحياةعبئا قاسيا على. لكنه بعد أيام وبينما كان يشاهد الفيلم أدرك أننى خدعتكم جميعا، النجار وأنت وزوجتك والممثل، رآنى فى الفيلم أكتم ضحكاتى بشغف طفل يراقب من مخبأه السرى حيلة دبرها لكبار غافلين. الحقيقة أنه رآنى ميتا أكثر مما كان يتوقع}.

وقصة هروب أخرى من الحاضر، وسعيا نحو الماضى، نقرأ فى قصة “أشياء الزمن” ما يُجسد الزمن. موجودا، ورامزا لذلك الماضى الذى يخشاه كل المتجمعين بلا عدد فى الحجرة الضيقة، وكأنها الحياة، باتساعها، وكلهم يخشى الماضى.

وأيضا نجده حاضرا بقوة فى قصص:

رسم الهوا، المرض، تخفيف العمى، عيد الأم، وردة، لاشئ بعد الموت، البحث عن كوخ

 وحكاية الرجل الذى كتب قصة قصيرة. حيث نرى لعبة الزمن، ونتعايش معها فى الوحدة التى تؤدى –غالبا- للمرض النفسى، لذا لم تخلو المجموعة من معالجة بعض تلك الأمراض.

القصة والمرض النفسى

وكأنها النتيجة الطبيعية لكل تلك الحالات، الانعزالية، والحديث مع النفس، وكأن شخصا وهميا يحادثه، فكان المرض النفسى، هو النتيجة، والذى هو أيضا لا يبتعد كثيرا عن الشعور الداخلى. وهنا أيضا نستطيع القول بغياب (الحكاية). إلا أننا ندخل إلى العالم الداخلى، فنرى إنسانا يحمل “الحقد على الآخرين، خاصة من يملكون مواصفات، لم يحظ بمثلها. فأصبحت متعة السارد أن يراقب الجميلات وهن ينتظرن التاكسى بكبرياء الجمال الذى يحملنه، و{ما زالت متعته تزداد كلما زادت صلابة الكبرياء الذى يغلف جمالها بثقة، وكلما زادت ملامح السائق قبحا وشقاء، بالطبع تبلغ لذته أقصى مدى حينما يرفض الجالس خلف عجلة القيادة أن تركب البنت الجميلة معه ويتركها مواصلا طريقه. لو سمحت الظروف بالاستمرار فى مراقبتها، فإن سروره يتضاعف كلما استمر وقوفها المذل فترة طويلة، وتحول طلبها لكل سائق يمر عليها إلى ما يشبه التوسل لأن تستقل سيارته}. وكأنه يستلذ بمعاناة الآخرين. ثم يتصور أنه تزوج إحدى هذه الجميلات، وكيف ستستمر ساديته معها {لكن أضيفت إلى حياته متعة جديدة حينما يتصور شجارا يحدث بينهما وهما متزوجان، وكيف سيرميها على السلالم بملابس البيت، ومعها علبة مكياجها فقط}.

ويتبدد التساؤل عن سر تلك الحالة، عندما نعلم –بعد زواجه (الوهمى) من إحداهن {غير قادر على تصديق كيف أحبته، رغم الكلام المتلجلج المثير للتهكم والشفقة التى كان يقوله لها، ورغم الأنف الكبير الذى ورثه عن أبيه، لا يعرف كيف قبلت العيش معه}.

كما نستطيع تلمس حالة المرض النفسى فى قصة “إعادة التدوير”. حيث نرى المرض النفسى، يكمن فى اختيار لقطتى التصوير التى أصر السارد على أخذهما لزوجته، مستحضرا الماضى {لأنها أرادت أن ترضيه، وافقت أن يصورها وهى معصوبة العينين ويداها مقيدتان وراء ظهرها إلى لوحة رمبرانت (هندريكا تخوض ماء الجدول). وافقت أيضا على أن يصورها وهى ترتدى السواد، وفى يدها باقة زهور، بينما تنظر من النافذة إلى البيوت والشوارع. سمى الصورة الأولى خطيئة رمبرانت، والثانية مقبرة جماعية. كان يعرف أنها لا تشعر بأى خطيئة، ولا ترى أى مقبرة، وأن كل ما أفهمته لها السنوات أنه عدو لأحلامها}. ونستطيع تصور هذه الأحلام فى أنها –كفتاة، وكزوجة- تنظر للغد، للمستقبل، وتأمل فيه الفرحة والتفاؤل. بينما هو ينظر للماضى وللمقبرة والخطيئة، ويحاول إحياء الماضى، أو تدويره لإعادة إنتاجه، بمحاولة إحياء “رامبرانت” ولوحته من جديد. الأمر الذى يستدعى رؤية الصراع القائم بينهما، وهى التى تسعى لإرضائه، تقبل ما لم تكن ترضاه، إلا لذلك. ولم يخرج من تلك الحالة إلا عندما جاءت ابنته إلى الحياة، وابتسمت فى وجهه للمرة الأولى، حيث نعيش مراحل الزمن الثلاث: الماضى (رامبرانت)، والحاضر(الزوجة)، والمستقبل (الطفلة). حيث يصبح المستقبل هو الأمل الباقى، والحالة الوحيدة التى أخرجت السارد من تلك الحالة. وهنا أيضا تفتح القصة وتخرج من الحالة الفردية، إلى الحالة المجتمعية، بكل ظلالها، وعوائقها، الحالة دون ذلك الأمل.

العناوين

“مكان جيد لسلحافة محنطة”، هو العنوان الرئيس للمجموعة، رغم أن المجموعة لا تحمل أى قصة فيها، بذات العنوان، – وهى الصيغة التى تُتبع كثيرا فى عنونة المجموعات القصصية، والتى غالبا مالا يحمل الكاتب فيها رؤية كلية للمجموعة، وإنما هى تجميع لعدد من القصصية، أراد نشرها فقط- ولكنا هنا، يمكن القول بأن العنوان يحمل روح القصة، وهى الطريقة – وهى الوسيلة التى يلجأ إليها الكاتب عندما يسرى فى صلب المجموعة رؤية كليه، أو يسيطر عليه فيها روح واحدة، أو هم واحد، وهو ما نجده بصورة واضحة فى هذه المجموعة-. ولنتخذ من قصة “بالأصبع الصغير لقدم أعمى” نبراسا نتحسس فيه الطريق. حيث الرؤية المستترة، للتعبير عن الهم العام، المغلف بالهم الخاص، والذى قاد السارد، إلى تلك العزلة –النفسية- التى جعلته لا يتآلف مع الواقع المعيش، حيث أصبح الوطن فى إحساس السارد، ورؤيته “مكان جيد لسلحفاة”..تلك التى تميزت بالبطء الشديد، والعجز عن الحركة السريعة، بل ليتها سلحفاة تمشى، فمهما كان البطء، إلا أنها يوما ستصل، غير أن السلحفاة “محنظة” أى ميتة، وكأن الكاتب يزيد من شحنة الوقع لكلمة “ميتة”، وما تحمله من سكون، قد يمثل حالة السارد السارية فى القصص، وأيضا حالة المجتمع، الذى رأى فيه الثورة، او الإبنة، تهوى من حالق، ليسمع دويها كل سكان العمارة، والشارع، فانعدمت الحركة، أو انسد طريق الأمل، فحق على السارد أن يعتزل هذا الموات، وأن يهجر العالم المرفوض، فقد يجد فى الحوار مع النفس، أو فى الحلم، ما قد يعوضه عن ذلك الفقد.. وهى نفس الطريقة التى إتبعها الكاتب فى العديد من القصص التى لايوجد للعنوان ذكر مباشر بالقصة، وإنما هى قد تكون دللالة فى مثل “ظهور الأسنان”، أو الإيحاء فى مثل “”بورخيس”.        

وما نستطيع قوله بعد قراءة هذه المجموعة، المرهقة فى تجريبها، وتغريبها – فى بعض الأحيان- تنوعت فيها الصيغ، وتحول بعضا منها إلى صورة أو لوحة، وإن لم تشمل الحركة، فإن الزمن وتغيراته ومروره، يخلق الحركية الداخلية فتتحول الصورة إلى فعل. وحيث تبدأ القصص جميعا من تأمل تقدم البشرية، المدمر، والقاتل، ماديا ومعنويا، فإنه إن كان الشكل القصصى قد تنوع، إلا أن الرؤية سرت بين سطورها، ناطقة برفض الواقع، الحاضر، والبحث عن الخلاص بالعودة إلى الفطرة، التى تعنى البراءة. ودعوة الوطن للخلاص من الماضى، ليبدأ المستقبل بروح ملؤها البسمة والأمل. وقد نستثنى من المجموعة، وجود قصة مترجمة للكاتب نفسه، ومجموعة القصص القصيرة جدا. ليكون لها حديث آخر. مع إبداعات ممدوح رزق.

…………………………………………..

[1] – ممدوح رزق – مكان جيد لسلحفاة محنطة – الهيئة العامة لقصور الثقافة- ط1 2013

[2] – وحيث كانت الأغانى حاضرة فى القصة، فكان منطقيا العودة إلى كلمات كامل الشناوى والتى غناها عبد الحليم حافظ (قدر أحمق الخطى سحقت هامتى خطاه).

[3] – بورخيس – الألف – ترجمة د. محمد أبو العطا – سلسلة كتاب شرقيات للجميه (51) – ط1 1998.

[4] – بورخس – المصدر السابق.