الأحد، 22 مايو 2016

العالم مهما حاول لا يستطيع إيذائي

لكل منا بداية.. وما أجمل البدايات.. محبة أول كتاب قرأناه.. وفرحة أول جائزة.. كُتاب تركوا فينا بصمة لا تمحى.. وكلمة شجعتنا على مواصلة الطريق.. أصدقاء وأفراد من الأسرة احتفوا بنا وآخرون تمنوا لنا الفشل.. وعبر رحلة الكتابة تولد طقوسنا ومزاجنا الخاص.(النهار) تحتفي هنا بتجارب المبدعين وبداياتهم.. وفيما يلي دردشة مع الروائي ممدوح رزق:
هل تذكر أول كتاب وقع في يدك؟

رواية (ديفيد كوبر فيلد) لـ (تشارلز ديكنز).
جائزة.. أو كلمة.. شجعتك على مواصلة الطريق؟
جائزة المركز الأول على مستوى محافظة الدقهلية في القصة القصيرة .. كان عمري حينها 13 سنة.
كاتب ترك بصمة مهمة عليك؟
إرنست همنغواي.
متى وكيف نشرت أول نص لك؟
نُشرت قصتي الأولى (انكسار) في جريدة (المساء) يوم الثلاثاء 29 يونيو 1993، كان عمري 16 سنة، وهي القصة التي ناقشتها الورشة الإبداعية لمركز الأبحاث في دار التحرير في المنصورة، وكان يُديرها د. فتحي عبد الفتاح.
كيف تفهمت الأسرة رغبتك أن تصبح كاتباً؟
عندما شاهدوا قصتي منشورة في جريدة «المساء»، وبجوارها صورتي، مع تقديم صفحة الإبداع لي برفقة اثنين من زملائي الكتّاب باعتبارنا «نماذج مشرفة»، وأننا كنا «مفاجأة الورشة الإبداعية»، وأن الحركة الإبداعية في مصر أضيفت إليها أسماؤنا التي لا يجب أن تُنسى.
هل هناك أصدقاء شجعوك؟
صديق واحد، وكان قارئي الأول طوال المرحلتين الإعدادي والثانوي: خالد حسني.
ما طقوسك مع الكتابة؟
لاشيء أكثر من مكان مغلق وهادئ تماماً، وطقس غير حار، وأحياناً موسيقى (الجاز).
تجربة أول كتاب نشرته؟
كان مجموعة من قصص البدايات الطفولية بعنوان «أصداء في واقع مرير»، ونُشر عام 1992، بفضل أبي الروحي في هذا الوقت، الشاعر محمد عمّار الذي تولى طباعته بطريقة (الماستر)، وكانت لوحة الغلاف لصديقي في قصر ثقافة الطفل (محمد صابر).
ماذا تعني لك الجوائز؟
تقدير مفرح، قد يتساوى ـ معنوياً ـ مع أي دعم آخر مهما كان بريقه، وأقل من أن يعادل متعة الكتابة ذاتها.
كتاب كنت تتنمى لو أنت كاتبه؟
(مدار السرطان) لـ (هنري ميللر).
عمل تخطط لإصداره قريبًا؟
مجموعة قصصية بعنوان «حروب منتهية»، بالإضافة إلى كتابين نقديين: «ترويض العزلة/ قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة»، و(النقد الإيروتيكي/ مدخل تطبيقي لمنهج جديد).
حكمتك التي لا تنساها ككاتب؟
(رغم ذلك أنا سعيد. نعم سعيد. أقسم أنني سعيد. فلقد أدركت أن السعادة الوحيدة في هذا العالم هي أن تلاحظ، تتجسس، تشاهد، تفحص ذاتك والآخرين، أن تكون لا شيء، مجرد عين كبيرة، زجاجية قليلا، محتقنة إلى حد ما ولا ترمش. أقسم أن هذه هي السعادة، ما الذي يهم في أنني حقير قليلا، مغفل قليلا، وأنه لا يوجد من يقدّر كل الأشياء المميزة فيّ .. خيالي، معرفتي الواسعة، موهبتي الأدبية، أنا سعيد لأنني أستطيع أن أحملق في نفسي، ولأي شخص هذا أمر ممتع جدا، نعم ممتع بحق..! فالعالم مهما حاول لا يستطيع إيذائي .. فأنا منيع / (فلاديمير نابوكوف من رواية "العين").
شريف صالح
جريدة (النهار) الكويتية
20 مايو 2016

الاثنين، 16 مايو 2016

درس الرعب

أحضرها (علاء الخيراوي) إلى المقهى بسيارته .. هو كاتب إسلامي ينشر مقالات كيتشية في الصحف، ويلقي أحياناً محاضرات بالدولار في البلدان العربية عن التسامح بين المذاهب الدينية .. كان اسمها (عديلة)، وهي ابنة سادسة على حافة العنوسة لأسرة فقيرة بلا أب، ألحقها (علاء) بالعمل الصحفي مقابل مص قضيبه أثناء القيادة على الطرق السريعة حول المدينة .. ضغطت على يدي مبتسمة وهي تصافحني بوجه طويل، نحيف ببياض باهت، وعينين واسعتين، وفم عريض تبرز أسنانه الأمامية .. لم أعثر في ذاكرتي على ممثلة بورنو تشبه ملامحها، وإن بدا هذا الاكتشاف في طريقه للحدوث .. كنت قد أعطيت النساء اللاتي أتمنى أجسادهن في حياتي أسماء نجمات البورنو بحسب قوة التشابه بين الوجوه .. الجدير بالانتباه أن هذا التشابه كان مقترناً دائماً بمماثلة، وأحياناً بمطابقة تامة بين امتلاءات أجسامهن .. كأن الملامح المتقاربة ـ كحتمية سكسية ـ ينبغي أن تُنشىء انسجاماً بين الأجساد التي تنتمي إليها، أو ربما تفرض الأجساد المتناظرة ـ وهي تبني تاريخها الجنسي ـ ثباتاً لازمنياً للوجوه .. على هذا كان لدى زوجتي شقيقتان؛ الكبرى (آفا لورين)، والصغرى (باتريشيا رومبرج) .. كان جاري في البيت المقابل متزوجاً من (جوي كارين)، أما جاري الآخر في الشقة المواجهة لشقتي فكان متزوجاً من (كاري مون)، وبالصدفة ـ التي ربما كانت امتدادا أعمق للتشابه ـ كان لديهما ابنة تمتلك نفس ملامح وجسم إحدى الموديلات التي أخذت دور ابنة (كاري مون) في فيلم لها، وشاركتها التعبّد لقضيب أحد الرجال .. لو قلت الآن أن وجه هذا الرجل في الفيلم وجسده يشبهان إلى حد كبير وجه وجسد زوج ابنة جاري؛ هل سيعد ذلك مبالغة لا يمكن تصديقها؟ .. ربما، ولكن أقسم بحياة طفلتي ـ التي مازالت تشبه أمي حتى الآن ـ أن هذه هي الحقيقة حتى لو كان قبولها يعني تحوّل هذا التناسخ العام إلى نوع من الغرابة المخيفة .. أن تكون هذه هي حكمة الحياة وحسب، التي ستفضي بعد الموت إلى لاشيء.
ذهب (علاء) إلى الحمام غامزاً لي من وراء ظهر (عديلة) وهي تجلس وتتابع نظراتي التي تتفحص تفاصيلها المنتفخة على نحو مقبول من وراء بلوزة وجيبة ضيقتين.
قالت بصوت ييدو كأنما استعارته من أمها المريضة بالكبد: كنت أريد أن أراك منذ زمن.
ـ  ليس أكثر مني.
ـ أعتذر لأنني السبب في التأخير عن الموعد، كان على أستاذ (علاء) أن ينتظرني حتى أنتهي من صلاة العشاء في المسجد.
ـ هل تصلين في الجامع؟                                                                      
ـ أنا حريصة على الصلاة دائماً في (الجمعية الشرعية).
ـ ولماذا هذا المسجد بالذات؟
ـ ثوابه أكبر لأن الإمام يستغرق في الصلاة وقتاً طويلاً.
ـ ليس عندي شك في أنك تفضلين الرجل الذي يستغرق وقتاً طويلاً.
لم تمنحني عيناها الثقة في أنها ممهدة من أسفل، لكن (علاء) كان يصدّق قسمها بأن الحائط الصغير بين فخذيها لم يُهدم بعد .. على أي حال ـ ولحسن الحظ ـ كانت نفس العينين المراوغتين تمرران انطباعاً لا بأس في قوته بأنها سترحب باستقبال صرخاتي المدببة من الباب الخلفي إذا توفرت الفرصة .. كانت قد تركت العباءة السمراء التي ترتديها في الجامع داخل السيارة .. كرجل وقور، يكبرني بأكثر من عشرين عاماً، وككاتب إسلامي، وكمحاضر عن التسامح المذهبي رفض (علاء) أن أجلس مع (عديلة) في الكنبة الخلفية، ولكنه ظل جالساً في السيارة على بُعد خطوات قليلة وأنا أدعك مؤخرتها على كنبة أخرى في شارع فارغ، نصف مضاء .. فكرت أثناء مضغ طراواتها في أن (عديلة) اسم لامرأة ينبغي أن تكون ميتة منذ زمن بعيد، ولم يعد يتذكرها أحد .. قوة انتصابي كانت على وشك أن تدفعني لتعرية ثدييها أمام العابرين المحتملين، وكانت ملامحها المسترخية، والممتنة تحت المكياج الخفيف تقول لي: (إفعل ذلك الآن) لولا (كلاكس) حارس اللذة العجوز، وإشارته من وراء الزجاج بعدم التمادي نحو الفضيحة .. أنزلناها قرب منزلها ـ القريب من (الجمعية الشرعية) ـ ثم تمنيت أن أعض (علاء) في خده، وأنا أقبّله بعد أن أوصلني إلى بيتي.
كنت أكتب في تلك الأيام قصة قصيرة عن شخص يأتي السماسرة مع الزبائن إلى بيته حسب الموعد المتفق عليه في الخامسة مساءً .. يكون وحده في هذا الوقت حيث يبكي غالباً أو يرقص مع الموتى أو يغني بعينيه للغيوم البعيدة التي مازالت لا تشبه غيوم الثمانينيات .. يقود خطواتهم لمعاينة الحجرات مراقباً بقناع من البراءة عيونهم وهي تتفحص أسرار زوجته التي وزعها في أماكن واضحة قبل مجيئهم: الملابس الداخلية وقمصان النوم والمناشف الصغيرة التي تستعملها بعد المضاجعة وقضاء الحاجة .. يستمتع بالهياج المرتبك في نظراتهم التي يحاولون إبعادها بتردد شاق .. يجلسون دائماً في الصالة بعد كل جولة للتفاوض حول الثمن .. يتحدث بعفوية صلبة عن مزايا البيت، ويسخر من ضعف الأرقام التي يعرضونها كأنه غير منتبه للاستعراض الشبقي الذي فاجأهم، ومازال لمعانه الجائع يومض في عيونهم المبتسمة .. يستلقي بعد رحيلهم فوق السرير وسط المخبوءات المكشوفة ليستمني، مستعيداً كافة التفاصيل الدقيقة للحفل الجماعي الذي انتهى منذ لحظات .. يعيد الأسرار إلى أماكنها قبل أن تعود زوجته ثم يجلس أمام الإنترنت باحثاً عن رقم تليفون سمسار آخر كي يطلب منه إيجاد مشترين للبيت الذي لا يفكر مطلقاً في بيعه.
بعد أسبوع اتصلت (عديلة) بي، وطلبت أن تُجري معي حواراً للجريدة التي تعمل بها .. قابلتها في نفس المقهي، وسألتني أسئلة تافهة عن الكتابة أجبرتني على إجابات كاذبة للسخرية منها ومن الجريدة ومن قرائها .. في نهاية الحوار سألتني:
ـ ماذا كنت تتمنى أن تكون، لو لم تكن كاتباً؟
ـ جامع أثداء.
ـ كيف؟
ـ لا يروقني أن تُدفن الأثداء الجميلة مع صاحباتها من النساء الميتات .. كنت أتمنى أن تكون لي هذه المهنة: أن أتوصل إلى طريقة للاحتفاظ بهذه الأثداء على حالها، ثم أمتلك متحفاً يضم حصيلتي الإعجازية، ويتاح للآخرين دخوله والاستمتاع بمحتوياته وفقاً لشروطي الخاصة.
ـ لقد حاولت الانتحار من قبل، وأشعر أنني سأكرر هذه المحاولة قريباً.
وضعت الأوراق والقلم في حقيبتها ثم نهضت وغادرت المقهى دون أن تنتظر رداً .. كان هذا مريحاً لأنني لم أكن أعرف الرد الصحيح .. لم أكن راغباً في الإجابة على هذا السؤال الذي يدعي أنه ليس استفهاماً.
آخر هذا المساء فكرت في أن عينيّ ربما تعيدان خلق البشر كما يحلم بهم موقع (Xhamster)، أي أنهما تصححان العالم بشكل تلقائي .. قبل أن أنام جاءتني رسالة على (الواتس اب) من (عديلة) .. كانت صورة لثدييها العاريين فقط.
ربما سأوقظ زوجتي ذات ليلة .. أخبرها بأنني أشعر بألم في الإصبع الأوسط ليدي اليمنى، وأنني سأموت الليلة بسبب هذا .. يمكن لأي رجل أن يوقظ زوجته في الليل، ويخبرها بأنه يشعر بألم في صدره، حيث لن تمر تلك الليلة إلا وينتقل إلى المستشفى ليعالج من أزمة قلبية، ثم يعيش بعد هذه اللحظة عمراً طويلاً جداً .. لكنني عندما أوقظ  زوجتي في الليل، بسبب الألم الذي أشعر به في الإصبع الأوسط ليدي اليمنى، سوف أموت بالفعل في تلك الليلة.
اللوحة (August Night at Russell’s Corners, 1948
George Ault)

الأحد، 15 مايو 2016

زرقاء في النهار .. سوداء في الليل

كان ينظر في وجهي بذلك النوع من الاستياء المُقبض، الذي يُجهّز هدوءه عنفاً وشيكاً .. كان ينظر لأسفل حيث لم أكن قد كبرت بعد حتى يتجاوز جسدي قامته .. لكن وجهي كان كما هو الآن .. وجه رجل في الأربعين، يحمله جسد قصير في السابعة من العمر، وينظر لأعلى .. أمر متكرر يحدث، لكنه هذه المرة أكثر قسوة بفضل ذقنه التي لم يُحلق شعرها الأبيض منذ فترة طويلة، وملامحه المرهقة، وعينيه اليائستين أكثر من أي وقت مضى .. حتى بيجامته الكستور المنطفئة بدا كأنها تتسع تدريجياً أثناء وقوفه كعملاق بائس، بما يؤشر لنحافته المتسارعة .. كان يطلب شيئاً لم أنفذه .. شيء لم أفهمه أصلاً .. أمر متكرر جداً لدرجة أنه يصلح كعنوان صلب للحياة .. لكنه هذه المرة ظهر كأنه يحتاج بشدة أكثر مما يطلب برغبة عادية، رغم التأنيب الذي تتصاعد وحشيته .. فجأة ـ كالمعتاد ـ ارتفعت قبضته أمام وجهي بأصابعها الغليظة المضمومة لأعلى .. العلامة التقليدية التي أحسنت تربيتي، حيث يقترن اللوم الذي بلغ ذروته بتهديد مخيف قد ينفجر كصفعة حارقة على الخد الأيسر .. لكنني ـ للمرة الأولى ـ اقتربت بوجهي من يده، ثم ألصقت خدي الأيمن ببطنه الذي فقد قدراً كبيراً من ضخامته .. قلت له بتحدٍ مرتبك ونفاذ صبر خائف: (إذا أردت أن تضرب فلتفعل) .. شعرت ـ للمرة الأولى أيضاً ـ وأنا أنطق بهذه الكلمات أنني أعني بالضرب المضاجعة القهرية .. كأنني أخبرته بأنه إذا أراد اغتصابي مجدداً فليس هناك داع لذلك الرعب التمهيدي .. تفاصيله المزرية كانت تزيد من قوة شعوري بهذا المعنى: ذقنه البيضاء، وملامحه المرهقة، وعيناه اليائستان .. أما ذراعه السمينة التي أصبحت ممدودة فوق رأسي فكانت أشبه بعضو هائل متعدد الأطراف لم يعد قادراً على الانتصاب كما يجب .. تحوّل الشعور إلى اكتشاف للتاريخ .. لم تكن صفعات على الوجه، بل كانت مضاجعة قهرية .. لم يكن اغتصاباً مجازياً بل إخضاع جسدي لفحولة ربما لم يكن بالإمكان إدراك مدى شراستها إلا وهي تتضاءل .. كنت أحس بفظاظتها العاتية بينما يخطو ضعفها نحو زوالها التام .. لم أعرف ماذا حدث بعد ذلك .. حينما استيقظت كان لا يزال ميتاً، وكان هذا مؤلماً ومهيناً .. فكرت في أنني لم أضربه قبل موته سوى مرة واحدة فقط، ولم تكن تلك اللكمة البسيطة في الكتف تمتلك حتماً الجبروت المنتشي لصفعاته .. الأسوء أنه وقتها لم يكن يتذكرني، ولا يعرف من يكون، وكان ينزلق نحو الفناء كطفل أعمى بلا ذاكرة .. كنت أريده أن يكون حياً الآن .. لاشك أنني كنت سأنتهز كافة الفرص لأرفع عضوي في وجهه، وربما كنت سأصفعه ولو برفق، كلذة شبقية مختلسة في ظلام ما .. لكن للأسف ـ وهو المهين في الأمر ـ فات أوان الانتقام .. لست متأكداً حقاً من أنني كنت سأقدر على ذلك لو كان حياً، لكن غيابه منعني ـ وهو الجانب المؤلم ـ من تحقيق ما كنت قادراً عليه فعلاً .. أن أحاول مجدداً فهم ما هو الشيء الذي كان يحتاجه بشدة .. ربما كي أبحث عنه .. ربما كي أحاول إقناعه بأن جميع الأشياء تتساوى في الحقارة، ولا تستحق أن نتحسر على ضياعها .. لماذا لا يكون أبي هو الذي استيقظ من الموت خلال هذه الثواني التي تصورتها حلماً ثم عاد إلى المجهول؟ .. لماذا لا أكون قد مت خلال هذه الثواني ثم عدت إلى الحياة بعد انتهائها؟ .. حينما استيقظت كان لا يزال ميتاً، وكانت الحياة لا تزال في انتظاري كي أستمر في طلب الأشياء من الآخرين .. الأشياء التي لا ينفذونها .. الأشياء التي لا يفهمونها أصلاً.
موقع (ثقافات)
2016/05/08
اللوحة لـ (jean rustin)

الخميس، 12 مايو 2016

موتى عند الحافة

تدفعني قصص مجموعة (تراب النخل العالي) لـ (فكري عمر)، الصادرة عن سلسلة (إشراقات جديدة) بالهيئة العامة للكتاب إلى التفكير في تلك الذات التي تقاوم المسالمة، وتتعدد مستويات ظهورها داخل القصص .. هذا التعدد تختلف معه آليات المقاومة التي تريد البصيرة الكتابية استخدامها في التحرر من ضرورة التصالح مع العالم أو حتمية ترويضه .. في قصص المجموعة نحن نقف مع (فكري عمر) عند حافة الانتهاك دون ملامسته أو دون التقدّم نحو التورط في عنفه .. نراقب محاولات تلك الذات للانفلات من الخضوع للرغبة في تنظيم الواقع، والتي تأخذ أحياناً ـ أي المحاولات ـ طبيعة الحلم.
إن فعل المقاومة ليس مجرد انشغال شخصي أو ممارسة مغلقة داخل الحدود الفردية بل إعادة تكوين للحياة بشخصياتها وأماكنها وأحداثها بما يعني إيجاد صورة جمالية للزمن يمكن من خلالها تأمل صراعاته كما لم نفعل من قبل .. لم يكن مشهد الشاب والفتاة في قصة (اختيار) اختباراً شهوانياً لإمكانية التمرد وسط مجتمع بشري متسلط بأقداره المظلمة بقدر ما كان فعل مقاومة يتسم بشيء من الطفولية التي تفضح العبث الجماعي لأولئك الذين يراقبون ويحاكمون ويسعون وراء العقاب .. هذا المشهد لا يحتمل أن يكون واقعياً وحسب، وإنما يحتمل أيضاً أن يكون ارتكاباً للفانتازيا .. حلم ينسجه خيال تلك الذات التي تقاوم المسالمة بطريقة أو بأخرى، وتقود الآخرين الذي يراقبون ويحاكمون ويسعون وراء العقاب إلى الوقوع في هذا الفخ .. أن يشترك هؤلاء البشر في حلم الولد والفتاة؛ فربما تكون هذه فرصة (طفولية) لتأمل أقدارهم المظلمة .. الرجال الذين لم يتمكنوا من الوجود مكان الشاب، والنساء اللاتي لم يتمكن من الوجود مكان الفتاة .. الذات إذن التي تختبئ هنا، كأنما تتلصص بعين من الداخل التي يُحاصرها المتجمعون أمام المشهد، وأخرى من الخارج التي تتفحص الصراع من مسافة أبعد، هذه الذات تستعمل الكتابة ليس لتوثيق رغبتها في التمرد فقط، وإنما لدفع البشر نحو المقاومة أيضاً .. الحرب التي لن ينجو منها أحد.
(الوجوه يعلوها تراب الغضب والخوف .. المواجهة تسكت في مكان، وتشتعل في آخر، الشاب، والفتاة اختفيا عن الأنظار وهما يهبطان من الممشى العالي للحديقة؛ ليدخلا من إحدى الممرات، ويتواريا بعد ذلك خلف حوائط خشبية، بينما أصوات ضحكات الفتاة ترج حوائط الجميع. تفتحت مسارات الغضب والشهوة التي وجدت لها طريقاً في معركة حامية دخل الجميع فيها .. ولم يخرج منها أحد ممن وقفوا في الأسفل سالماً).
في قصة (الحقيبة السوداء) نعثر على ظهور أكثر وضوحاً لهذه الذات من خلال شخصية كاتب القصة الجالس في المقهى، ويختبر الرعب الناجم عن وجود الحقيبة في هذا المكان .. لنقرأ هذه السطور التي تصلح كتعريف للذات الممتدة عبر قصص المجموعة:
(إنه يشاهد الأخبار كل يوم، وبرامج التوك شو. يقرأ روايات التشويق البوليسية، ليغذي ذلك الجانب المحرض على الجريمة من نفسه، لكن ما يحدث هناك على الشاشة، لن يحدث له بالتأكيد، ولن يصير رقماً في عداد المفقودين في الحادث الإرهابي).
أريد هنا شرح التوحد بين كاتب القصة، والذات التي تقاوم المسالمة، والبناء السردي الذي تنحاز له هذه الذات .. لو تصورنا أن الكتابة من ضمن أشكال المقاومة (دون تغافل عن تفردها البديهي) كمشاهدة الأخبار وبرامج التوك شو وقراءة روايات التشويق البوليسية فإنها بالمثل تعتبر من ضمن الطرق المختلفة التي يميزها الأمان اللازم .. حافة الانتهاك التي يقف عندها (فكري عمر) كما ذكرت في البداية .. أنت لست موضوعاً للأخبار ولبرامج التوك شو كما أنك لست شخصية من شخصيات الروايات البوليسية وإنما هذه هي سُبلك (الآمنة) للمواجهة .. بالاتساق مع هذا لابد أن يكون أسلوبك في التمرد على هذا الواقع (أي الكتابة) محكوماً بما يفرضه ذلك الجوهر المسالم حتى أثناء التحرك ضده، بالضبط مثلما لا يمكنك أن تكون من ضمن ضحايا حادث إرهابي داخل مقهى بسبب حقيبة .. الترتيب الجمالي للسرد في قصص (تراب النخل العالي) يُعد مرآة صادقة تماماً في تجسيد هذه الرؤية؛ حيث التشكيل الحكائي الذي لا يريد المقامرة ولكنه يحاول الاقتراب من مكامن الخطورة في حين تبقى هذه المساعي المتوالية راضخة لطمأنينة ما.
يندرج تكنيك (النسخ) ضمن استراتيجية المقاومة، وهو ما يعني أن تخلق صوراً عديدة للكيان الواحد تضمن استمراره رغم الشروط المضادة .. لكن هذا الضمان ليس الفائدة الوحيدة التي يمكن أن تحصل عليها المقاومة بل يمكن للتمرد أيضاً أن يضمن المسالمة التي انطلق منها .. يضمن الاحتفاظ بها .. هذا ما نصادفه مثلاً في قصة (ظل العطار) حيث العطار الذي يحمي الصبي (أي يحمي العطار نفسه في بداية تاريخه) ليتمكن من الإبقاء على قوته التي أصبحت عجوزاً .. أما الصبي فربما هو الذي سيصبح ذلك الشاب الذي يواجه المحقق في قصة (التحدي) ـ وهي قصة ترتفع فيها نبرة المقاومة مع اختفاء الذات المسالمة إلى حد ما، ثم هناك هذا التناسخ الملفت: لماذا لا نفكر في أن البشر الذين كانوا يراقبون الشاب والفتاة في قصة (اختيار) هم صور متماثلة للركاب في قصة (الباص) ـ التي تحيلنا لمسرحية (سكة السلامة) لـ (سعد الدين وهبة) ـ وأنهم صور أيضاً لأهل القرية الذين يتحاربون بسبب النخل المتساقط في قصة (تراب النخل العالي) .. إن ما يجمع كل هؤلاء في تلك القصص المختلفة هي المواجهة المتعددة والمرتبكة مع الماضي .. الخبرة التي لا تنقذ أمام ما يبدو أنها أبسط المآزق .. التاريخ الذي على استعداد دائم للسقوط .. حصيلة الزمن التي من الوارد أن تأخذك في أي لحظة إلى الموت .. الثوابت التي سيتمسك بشر آخرون ببقائها حتى لو اضطروا للقتل من أجل ذلك رغم أنها ستبقى كأسباب للجحيم أو للظلام كما في قصة (صيد النجوم).
أريد الآن أن أطرح هذا التساؤل الجوهري: ما الفرق بين الوقوف عند حافة الانتهاك، والتوغل داخله؟ .. ربما هو نفس الفرق بين نهاية قصة (ليل داخلي) حيث الراوي (الذات التي تسعى للتمرد مستعيرة ضمير الغائب) الذي تراجع عن أخذ عروسة الماريونيت إلى الفراش بعد أن تذكر الأفلام السينمائية الخيالية التي تتحول فيها هذه العرائس إلى قاتلات محترفات، نفس الفرق بين هذه النهاية ونهاية أخرى بديلة (انتهاكية) يأخذ خلالها هذا الشخص العروسة إلى الفراش ويضاجعها ثم يستفيد ويستثمر قصصياً في الحالتين: لو تحوّلت بالفعل إلى قاتلة محترفة، أو لو ظلت على حالها كما هي: مجرد عروسة ماريونيت .. لنسترجع مثلا ـ ونقارن ـ هذه السطور من قصة (حب بـ 17,50 دولاراً) لـ (تشارلز بوكوفسكي) من مجموعته (جنوب بلا شمال):
("التقط روبرت العارضة " المانيكان" وحملها إلى سيارته، وضعها في المقعد الخلفي وانطلق مبتعداً نحو منزله"، "كان قضيبه يضغط على مقدمتها، لم يكن هناك فرج لكن روبرت كان في حالة مروعة من الرغبة. أولجه بين فخذيها، كان أملساً ومشدوداً"، "لم تكن مثل باقي النساء اللاتي عرفهن، فهي لم ترغب بممارسة الحب في أوقات غير مريحة؛ لذا كان هو من يختار الوقت المناسب، كما لم يكن لديها دورة شهرية، قص بعض الشعر من رأسها وألصقه بين فخذيها").
في قصة (الحفل) وهي من أجمل قصص المجموعة دعونا نسير مع هذا الهاجس: لا يشاهد الأحياء الممثلين الموتى كما يبدو ظاهرياً بل العكس هو الصحيح .. إن المشاهدين موتى يتفرجون على الأحياء الذين يظهرون بوجوه شابة (عبد الفتاح القصري) و(محسن سرحان) و(محمود المليجي) و(زينات صدقي) .. كأن الجالسين (الموتى) يستغلون الفيلم (شباب أبطاله وأغانيه ورقصاته) لاستدراك ما لم يكن بوسعهم أن يمتلكوه في لحظاتهم الأخيرة حينما كانوا أحياء .. يتجاوز الأمر هنا مجرد الرغبة في الوجود داخل زمن قديم ينتمي إليه أبطال الفيلم .. الممثلون الأحياء في الفيلم يتفرجون أيضاً على الأصدقاء الموتى الذين يجلسون للمشاهدة، ويحرضونهم على المشاركة في الرقصة الأخيرة التي حاول الراوي (الذي يعرف أنه ميت) بواسطتها أن يتخلص من موته مؤقتاً .. لنتأمل هذه الكلمات جيداً التي تعطي دليلأً قوياً على هذا الهاجس:
(هم الآن على الشاشة وخارجها، في كل مكان حولنا. في الزهور المتوهجة في الأصص الخزفية على البلكونة. في الهواء الذي نستنشقه. في الغناء، والمرح الذي يشعرنا بدبيب الحياة).
الحياة لم يكن لها حضور إذن في أجسادهم قبل عبور الممثلين من الشاشة إلى خارجها .. قبل أن يحاول الأحياء في الفيلم إعطاء فرصة للمشاهدين الموتى للاستمتاع بحفل أخير فاتهم في الواقع .. السؤال: ما هي طبيعة الموت التي تجعلك تجلس لمشاهدة فيلم كهذا، وتشارك ممثليه رقصتهم الأخيرة؟ .. إنه ليس الموت التقليدي، بل ربما هو الموت الكامن في مراقبة شاب وفتاة يتعارك البشر بسبب قبلاتهما على كوبري حديقة (الهابي لاند)، أو صبي يفرش بضاعته أمام دكان عطار عجوز، أو في مراقبة سقوط النخل العالي.

الثلاثاء، 3 مايو 2016

الضوء الأزرق‮:‬ سيرة الفصام

كيف يمكن للونٍ ما أن يخلق الحياة والموت؟ .. يتحرك حسين البرغوثي في سيرته "الضوء الأزرق" انطلاقا من التعريفات والإحالات المتعددة للأزرق: (المضاد للهياج الجنسي .. المهدئ للأعصاب .. لون النفس الأمّارة بالسوء .. لون طاقة الخلق).
لا تُشكّل الحركة مسارات اكتشاف إذن بل آثار وبصمات قلقة ومتوترة للخلق فيما وراء الذاكرة.. هذه الخطوات يتحالف داخل طاقتها السردية أرق الراوي الذي يهيمن عليه رعب فقدان العقل، وكذلك المقولات والتوجيهات المعرفية المُخلّصة التي يعطيها له "بري" الصوفي التركي، والمجنون المشرد في صيغة إشارات رمزية.
"وكلما سألت "بري" سؤالاَ ما، أجاب جواباً يدل علي عدم رغبة  في أن يفتح لي أية بوابة أو ثغرة لأي حوار حقيقي. نادراً ما تحدث عن أية ذكري من ذكرياته، وحتي الآن، لا أعرف شيئاً عن ماضيه. كان بحاراً، وطباخاً، وصوفياً، وطالباً جامعياً، ومشرداً. هذا تقريباً هو كل شيء أعرفه. وحيّرني عالمه، كالبحر، وكنت أجلس علي حجر في الرمال، عارياً، وطفلاً، كما كنت في بيروت، وأحدّق في جهات البحر الثاني: أغوار هذا المخلوق. مرت مدة ونحن، أنا و"بري"، علي مسافة، لا هو يفيض كالبحر، ولا أنا أهرب كطفل الجبال. نقطة تشبه حركة "فريز" "التجمد في المكان" في المسرح".
إن ما يبدو ظاهرياً كحقيقة طاغية للاشتباك بين الأنساق الحكائية والتأملية في "الضوء الأزرق" هو الصراع بين الجنون الذي يسقط حسين تدريجياً في ظلامه، وإنقاذ عسير غائب يُمثل "بري" وعداً حاضراً ومتجسداً لإمكانية تحقيقه .. لكن أساس هذا البناء النثري ربما يكون الحركة ذاتها أكثر من الوصول الفعلي.. ترتيب المسارات أكثر من الحصول علي يقين حاسم يضع حداً لفقدان العقل.. هذا ما يجعل من السيرة انشغالاً بالخلق وليس بالاكتشاف، أو يمكن القول أن الاكتشافات التي يصادفها البرغوثي أثناء التنقيب في الماضي المتزامن مع مراقبة الواقع؛ هذه الاكتشافات يتعامل معها كمواد قابلة للاستثمار السردي .. خامات يتحدد وجودها وفقاً للقدرة علي استعمالها خيالياً في خلق العالم وليس التحرر من كوابيسه .. إن العلاقة بين حسين وبري أقرب إلي التواطؤ الضمني .. اتفاق مستتر بين رجل يبحث عن الخلاص لكتابة حياة أخري، ومجنون مشرد يعاونه علي كتابة هذه الحياة متنكراً في هيئة العارف الذي لا يمكنه إنقاذ نفسه .. بين الأزرق (كخالق)، والفراغ اللائق لرسم المأساة.
"ووجدتني من رواد مكتبات "الأسرار"، من نبوءات نوستراداموس، حتي الـ "آي تشينغ" ("كتاب التغير" السحري في الصين القديمة)، ومن لاوتسو حتي "أعمدة الزن السبعة"، ومن الزن حتي رواية "طريق محارب مسالم" لدان ميلمان، ومنه لكاستينادا الذي يزعم البعض أنه لفق ما كتبه عن السحر عند الهنود الحمر، ومن هناك لـ "يوبيناشادات" (نصوص مقدسة في الهند). كنت أكتب ملاحظاتي في دفتر صغير أحمله معي دائماً. وبدأت بفك طلاسم لغة "بري"".
هل يتوقف بري عند كونه الصوفي التركي الذي ينتج الإرشادات المتقطعة والغامضة لما يبدو أنها حكمة متعالية بطريقة ما، والتي يحاول حسين أن يختبر نجاته الشخصية من الجنون بواسطتها؟ .. لا يقتصر حضور "بري" عند هذا الحد، فوراء علاقته بالسارد التي تأخذ هذه الصورة النمطية يمكننا تخيل أنه كان يستخدم البرغوثي علي نحو غير مباشر من أجل حيازة خلاصه هو الآخر.. كأن هذه الذات المراوغة التي يحكمها مزيج ضبابي صلب من الطيش والترفع واللامبالاة تمتلك يقيناً سرياً بحتمية أن تتمثل في مرآة أخري.. أن تتجسد في كيان بشري مختلف، يحمل طبيعة مضادة، وبالضرورة يساعد هذا الكيان الذي لا يزال محتفظاً بشيء من (التعقل) يساعد ذات "بري" علي التخلص من عمائها الخاص، أو أن يمنحها وجوداً نقياً يتحول تاريخه المخبوء داخل أطره إلي قواعد ومفاتيح لخلود إلهي.. ربما كان حسين جديراً باحتواء هذا التناسخ ـ وهو ما سيتم من خلال كتابة "الضوء الأزرق" مثلاً ـ الأمر الذي يوفر للعلاقة بينهما مبررات للصراع الذي سيقوده الهاجس الفصامي.
"ويبدو أن سبب تغييره لاسمه هو اعتقاده بقدرة الاسم السحرية علي التأثير علي المسمي، سواء أكان حجراً أم بشراً، وبالتالي، فإن تغييره لاسمه يعني رغبته في تغيير هويته، التي تقع تحت السلطة السحرية للاسم الجديد. إن كان اسم "بري" مشتقاً من "باري"، فإنه يتشبه بالله، كما ورد في الـ "تشبهات" الصوفية عند ابن طفيل في "حي بن يقظان"، ومثاله الأسمي أن يكون "حياً" و"يقظاً"، و"نقياً"، وربما إلهاً".
تخرج العلاقة بين حسين وبري من النطاق التبادلي (الإنسان الذي يريد أن يكون إلهاً، والإله الذي يريد أن يكون إنساناً) إلي صراع بين الحقيقتين الإلهية والبشرية داخل ذات كلٍ منهما، أو كأن حسين وبري ليسا إلا طرفي نزاع ينتميان إلي جسد واحد يحاول أحدهما أن يلحق الهزيمة بالآخر ويسيطر عليه في رحلة الإنفلات خارج هذا الجسد (الذاكرة) بينما يتمسكان بالتواري خلف الفكرة التقليدية (الإنسان الذي يبتغي حيازة المعرفة المقدسة والشافية من الإله).
("أهلا، حسين، جئت؟". "جئت طبعاً، أنت تحاول السيطرة علي عقلي يا رجل!". قعد وقال: "من امتيازات العقل الأعلي أن يسيطر علي العقل الأدني. إن لم يكن عقلك دونياً، لا يجب أن تخشي من السيطرة، وإن كان أدني مني، فمن امتيازاتي السيطرة عليه، وتستطيع أن ترحل". "لا! سأبقي، سيطر إن استطعت".
الضوء الأزرق هنا سيكون بمثابة الملامسة الملتذة للصراع .. تأمل الانشطار والتناغم.. سيكون الجسر الرابط بين الاحتمالات المتناقضة: أن تكون بشرياً علي حافة الجنون الكامل، وأن تكون بشرياً أصبح إلهاً.. حسين لا يريد أن يكون بري ومع ذلك يسعي للحصول علي ألوهيته.. بري نجح في التخلص من بشرية حسين ومع ذلك يحاول استرداد عقله الضائع في جسد صديقه وأن يري هذا التأثير كحقيقة متعيّنة.
"انفصام شخصية المكان إلي ضفتين حالة "فضائية"، فيها كل شخصية تستقل عن الشخصية الأخري، ولابد من "ممر" ما، خدعة ما، كي يمكن القول إن الشخصيتين تسكنان معاً في "نفس" الشخص رغم استقلالهما، في "جسم واحد" ومريض واحد، ومكان واحد".
الضوء الأزرق هو الممر والخدعة لأنه طاقة الخلق التي تجمع بين حسين وبري في كيان واحد أي ذلك المنجز الكتابي الذي سيتكفل بأن يكون سيرة لهذه الحياة بينهما، وقبل ذلك لأنه المحرّض علي تشريح هذه العلاقة الجدلية بين طبيعتيهما المتنافرتين، وتفحص دلائل اقترانهما داخل "نفس" الجسم.
"قلبي كان يعبر من عوالم لعوالم أخري مع كل كلمة منه. وكنت مذهولاً من طريقة فهمه للأشياء: أول كائن، أو مجنون، لا يناقشني ولا  في أي شيء مما رويته له عن حياتي، ويشير إليّ بأن ألقي بكل "ذاكرتي" في صناديق القمامة. الإنسان هو تجربته، وذاكرتي من تجاربي. هو نفسه قال لي: "تجاربي معبدي ومعبدي مقدس". قلت مستفزاً: "أنت تناقض نفسك، أم تعتقد أنني غبي؟". فصرخ في وجهي: "هل أناقض نفسي؟ نعم، أناقض نفسي. وشو يعني؟ عقلي من ذهب نقي".
علي جانب آخر هناك هذه الفرضية التي ينبغي انتهازها: لا يريد بري تحويل حسين إلي إله مثله بقدر رغبته في رؤية الآثار الواقعية لقدرته كإله علي هذا التحويل تجاه بشري آخر.. الممارسة التي لا يمتحن من خلالها ألوهيته وحسب، وإنما أيضاً بشريته (السابقة)، التي تحاول إثبات غيابها في ذات أخري "الإله الذي بلا ذاكرة"، وفي نفس الوقت التيقن من حضورها في هذا الآخر (الذي يحتفظ بتجاربه).. إن الفصام يمكنه أن يتطور ليصبح أقرب إلي المحاكمة والعقاب (الإنسان الذي يحاكم الإله المناقض لنفسه)، و(الإله الذي يحاكم الإنسان الذي لا يستطيع تجاوز حدود الماضي) .. لابد أن يمتد الاستفهام بالتالي نحو (التجارب) التي يبدو أنها تقع في تلك المنطقة الملتبسة حيث لا يمكن التنازل عنها، وكذلك لا يمكن توظيفها كخبرة منقذة من الجنون.
"كنت سمعته يتحدث عن "الضوء الأزرق" مرات قليلة فقط: مثلاً، حين قال إن "طائري الأزرق" زاره في الليل، وحين قال إنه "سيعيد الضوء الأزرق عارياً نحو بيته"، وفي مرة ثالثة كنا فيها راجعين إلي بيته عبر ممرات الغابة الصغيرة في الحرم الجامعي، ونمشي بقرب سور إسمنتي ما، تحت رذاذ النيون، تمتم لنفسه: "بري، لا! لا!، قلت: لا يا بري!"، سألته عمّ ينهي نفسه عنه، ولكنه لم يجب، ثم قال: "يا رجل، في كل إنسان قوة غامضة مستعدة حتي لمضاجعة الأم والأب والشجر والسعادين!".
إن الضوء الأزرق لا يخلق الفصام بل يخلق أيضاً ما ينطوي عليه من أشكال أخري متنوعة للفصام .. الرهان ـ كأنه فرصة الخلاص المتاحة دائماً ـ علي لذة الرعب من عبور السياج نحو الجنون كما يراها المنزلق نحو الظلام، أو الألوهة كما يراها ذلك الذي استقر علي الجانب الآخر متخلصاً من العقل البشري .. الضوء الأزرق الذي يمثل الشخصية الفصامية للبحر، حيث يمكن لـ حسين الطفل الذي يراقبه أن يظل يتساءل حتي آخر لحظة من عمره: (ماذا لو كان الله قد نسي خلق الكون بأكمله؟ وماذا لو خلقني الله في الكون وحدي فقط؟ وماذا لو لم يكن الله موجودا؟ً) .. إن السيرة تخلق الله أيضاً بينما تخلق عدم وجوده .. تخلق الذكوري والأنثوي في بري / الإلهي، مثلما تخلق ارتكاباتهما المختلسة تحت سطح ذلك البحر .. هل الكتابة إذن هي (عقلنة الجنون المغري والجاذب) أي  بحسب حسين البرغوثي  إشاحة الوجه عن (معرفة أكيدة، وحتمية جداً) أو (ملامسة الجنون دون إيقاظه)، أم أن الكتابة هي النظر بقوة إلي تلك المعرفة بقدر مفترض من الأمان؟..  بري كان يري ما لم يكن يحتمل حسين أن يراه، ولكن بري لم يكتب بينما فعل حسين ذلك.. الضوء الأزرق ليس مجرد احتفال بالصراع، بل يبدو أيضاً أنه تجميع لقصاصات النصوص التي مزقتها الآلهة ـ كما مزق بري قصيدة حسين ـ كي يكون بوسعنا التهكم واللعب بفصامها عندما تطلب ـ أي الآلهة ـ من الغرقي اتباعها وألا يثقوا فيها أبداً.
أخبار الأدب
30/04/2016

الاثنين، 2 مايو 2016

أن ترقص مع الضوء

يدفعني التفكير في (نصائح الكتابة) إلى التمييز بين نوعين من الكتّاب .. الذين تتخذ نصائحهم طبيعة إيحائية يتضمنها التأمل والاستعادة التوثيقية لتجارب الماضي، مقابل الكتّاب الذين يحددون على نحو مباشر قوائم من الإرشادات الحاسمة، التي تقرر ما يمكن اعتباره خلاصة الخبرة الروائية .. نصائح النوع الثاني بشكل عام لا تمثل ـ حتى مع ارتفاع نبرة القانون البديهي التي تقصد حماية هذه النصائح ـ لا تمثل سوى ذخيرة من الفرضيات المُلهِمة .. احتمالات قابلة للتحوّل إلى ترتيبات إيجابية نحو تحقيق انتصار ما .. أتصور أن الخطوات الأولى في حياة الروائي هي أكثر الأزمنة الملائمة لخلق هذه العلاقة بين إجابات تدعي الصلابة والقدرة على تخطي الألم، والاستفهامات المرتبكة التي تحاول الوصول إلى نوع راسخ من اليقينيات .. لكن النصائح تعطي أحياناً ما يشبه الطمأنينة الجمالية الناجمة عن اكتشاف قدر من التطابق أو المشابهة بين الرهانات السردية عند روائي وآخر .. درجة من التوحد بين أفكار وقناعات خاصة ارتبطت بحالة كتابة معينة، وهواجس وانحيازات شكّلت وقائعً حقيقية لكتابة أنجزها وعي مختلف .. التآلف المرتفع فوق الحدود النمطية، حيث متعة التأكد من أنك لست وحدك داخل المتاهات المنعزلة .. لكن الانسجام مع تاريخ ما لأحد الكتّاب الذين أثبتت معرفة اختباراته الروائية صواب المنطق الذي تولى تشييد عالمك السردي، هذا الانسجام ينبغي أن يتضاءل أمام التحرر من النصائح حتى تلك التي كان بوسعها أن تمنح الغنائم الثمينة عند مواجهة المآزق .. تجاوز التوجيهات حتى تلك التي سبق أن استطاعت توفير الثقة في صحة الاختيارات، وسلامة الرؤية .. ربما من أسوء ما يمكن أن يرتكبه الكاتب هو القمع الذاتي الذي يتصدى من خلاله لابتكار ضروري استجابة لتنبيه صارم (مُصاغ كنصيحة) من روائي ما .. التنازل عن لعبة شخصية في مسودته كخضوع أعمى لتحذير أحد الروائيين من منتجي التعليمات المستندة إلى رصيد كتابي يُعتقد أن يكون سلطوياً .. أتذكر الآن جزءً مما كتبته عن كتاب (لماذا نكتب؟): (إن القيمة الجوهرية لتلك الخلاصات تنبع من كونها احتمالات داعمة للمواساة الضرورية أحياناً .. عزاء يستند إلى قرائن دامغة للتشارك في تفاصيل دقيقة من هموم عامة .. لكن المواساة في أنجح الأحوال لا تمحو الألم، وإنما يمكنها المساعدة على التحرر من حصاره اللحظي .. لا يوفر العزاء تحصيناً ضد الأذى، ولكنه يفتح باباً مغلقاً لتنظر من خلاله إلى سماء أبعد حيث تحلق سكينة ما .. لذا على الرغم من تلك الأصوات المتعددة التي تخبرك طوال الوقت بأنك لست وحدك في هذه الورطة، فإن الشعور بالاختناق ربما يظل محتفظاً ببداهته العمياء، التي لا تخفت حتى مع مرور الزمن عند رصد الاضطراب السردي في عملك (الأخطاء والتكرار)، وعدم قبول قارىء ما لكتابتك (جحيمك الذي لا يُمتع الآخرين)، ومحاولات النقاد لقتلك (كيف تجروء على الكتابة هكذا؟!) .. مزيج الندم والغضب والسأم الذي يغرقك كل مرة كأنه جرحك الأول، ربما لأن كل كتابة ستبقى في الواقع كأنها كتابة أولى تختبر الإجابات، وتستجوب الحقائق، وتراوغ اليقينيات، وتحاكم العقائد، وتنقب في العالم عن الاحتمالات المنقذة).
شهادتي ضمن ملف (هل يمكن للوصفات التي تنظر للكتابة أن تصنع كاتبا) للكاتبة (خلود الفلاح) في صحيفة (العرب).