الاثنين، 28 مارس 2022

السبت، 26 مارس 2022

دكتور باركمان ومستر ويبستر

“كان الدكتور جون ويبستر من نوعية العلماء غير التقليديين، الذين تعيش حياتهم المهنية على الشغف والاكتشاف لا على العمل الوظيفي وحسب، وكان من ضمن أسباب تراكم الديون عليه ما كان ينفقه من أجل أبحاثه وتجاربه .. هذا ما كان عليه دكتور جيكل في الرواية؛ كان في حالة تجاوز للأطر الصارمة أو الأنماط التقليدية للبحث العلمي .. كأن ويبستر كان منذورًا للغواية البحثية التي تحرّضه على تحرير نفسه في سبيل التواطؤ مع شيطانه (الجوهر أو الحقيقة الأساسية)، وما كان انتحار جيكل في طبيعته كـ “هايد” إلا جزءً من اللعبة العلمية (الإيروسية)، وليس إنهاءً لها، حيث اكتمال الغواية التي يمارسها حتى ضد نفسه مثلما يمكن مقاربتها عند فرويد كـ (غريزة الموت) الأكثر بدائية أو (رغبة النفس الدفينة لتهشيم طبيعة ذاتها) عند إدجار آلن بو.       

“نطقت الصواب”، أجاب زائري. “لانيون، تذكّر قَسَمَك ووجوب الكتمان: ما سيتلو ينضوي تحت خاتم مهنتنا سرًا لا تبح به. والآن، أنت يا من ارتبطت طويلًا بأشد وجهات النظر جمودًا وضيقًا، أنت يا من أنكرت فضيلة الطب المتسامي، أنت يا من استخففت بمعلميك ـ انظر!”.

»” رد لانيون: لقد كنا كذلك. لكن منذ أكثر من عشرة أعوام أصبح جيكل غريبًا لأبعد حد بالنسبة لي؛ لقد بدأ يضطرب، يضطرب أيما اضطراب، في رأيي. وكانت تراوده أفكار شاذة للغاية وغير مبنية على أسس علمية بالمرة. ولست أرى أن أفكاره وتجاربه كانت غير علمية فحسب، وإنما أيضًا غير مقبولة أخلاقيٍّا. لقد كان يسعى نحو بلوغ نتائج خطيرة. بوضوح تام، لم أستطع أن أواصل تعضيده. قطعًا بصفتي صديقًا قديمًا، ما زلت أهتم بأن يحيا حياة كريمة، لكنني لا أريد أن أتورط معه كثيرًا«.

تكدر أترسون لدى معرفته أنه يوجد شجار بين لانيون وجيكل. وقد ابتغى أن يسأل عن هذه التجارب الخطيرة، لكنه عرف أنه يجدر به أن يلتزم بالموضع الذي أراد.

“وشاءت المصادفة أن وجهة دراساتي العلمية، التي أفضت جميعًا صوب الغامض والمتسامي، تنشطت وسلّطت ضوءًا قويًا على هذا الوعي الذي بي إزاء الحرب الطويلة الأمد التي تدور رحاها بين أعضائي”.

جزء من كتاب “دكتور باركمان ومستر ويبستر” الصادر حديثًا عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع

الأحد، 20 مارس 2022

“دكتور باركمان ومستر ويبستر” .. كتاب جديد للناقد ممدوح رزق عن مؤسسة أبجد

عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع بالعراق صدر كتاب “دكتور باركمان ومستر ويبستر” للناقد ممدوح رزق، والذي يكشف فيه بالأدلة المادية والقرائن التأويلية عن الأصل الواقعي للعمل الأكثر شهرة لـ “روبرت لويس ستيفنسون” وهو رواية “القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد” .. يقع الكتاب في 92 صفحة ويضم 16 فصلًا بالإضافة إلى ملحق للصور.

       موقع "الكتابة" ـ 19 مارس 2022

الأحد، 13 مارس 2022

عائلة سعيدة جدًا

عُرضت مسرحية “عائلة سعيدة جدًا” عام 1985  .. لا أتذكر هل كنت تجلس برفقتنا أنا ووالديك وشقيقيك حينما شاهدناها للمرة الأولى أم لا .. على الأرجح لم تكن بيننا في تلك الليلة .. لست متأكدًا أيضًا هل شاهدت هذه المسرحية في أي من عروضها التالية بالتليفزيون أم أنك لم تفعل على الإطلاق .. أريدك أن تشاهدها معي الآن .. ليست المسرحية كلها ولكن مشهدًا واحدًا فقط .. أريدك أن تشاهده بطريقتي .. تخيّل الأمر على النحو الآتي: ثلاثة رجال يفترشون صالة البيت الذي يسكنونه في الليل .. ثلاثة رجال من عائلة واحدة .. أعمار مختلفة، مهن مختلفة، طبائع مختلفة .. لكن يجمعهم ذلك الانطواء الليلي المثير .. توافق على الترقب والتلصص والتشريح .. تدبّر لتفاصيل اللغز المشوّق الذي يعيشونه والمتربّص بهم عبر السكون المظلم للشوارع الممتدة المحيطة بالبيت .. تبادل الدعابات الهازئة قبل النوم كتوطيد للتناغم الحميمي الذي يحتضن وجودهم داخل المغامرة المبهمة .. هناك نساء أيضًا وراء الأبواب المغلقة لحجرات النوم كونس ناعم تتطلبه الألفة الطفولية بين الرجال الثلاثة في تكاتفهم على اكتشاف الغموض الفاتن الذي قد يرسل مفاجأة جديدة لهم في أي لحظة .. ماذا لو أضفنا وجبة العشاء؟ .. أكواب الشاي؟ .. صوت الراديو بعد منتصف الليل؟ .. ماذا لو كان الرجال الثلاثة هم أنا وأنت وأخوك؟ .. ماذا لو كانوا أكثر من ثلاثة؟ .. أنا وأنت وأخوك وابن عمك؟ .. حتمًا تتذكر الليلة التي تشاجر فيها ابن عمك مع أبيه وترك له المنزل ثم جاء للمبيت عندنا .. تتذكر أنك أخذت مرتبة سريرك ووسادته من حجرة النوم وفرشتهما فوق أرض حجرة الصالون من أجل سهرتكما التي انتهت بالنوم في وقت متأخر .. دخلت أنا في الصباح بعد استيقاظكما إلى الصالون ووجدت ابن عمك يرتدي واحدة من بيجاماتك ويتناول معك الإفطار فوق المرتبة المفرودة على الأرض .. لكنك لا تعرف أنه المنظر الذي جعل ذلك الصباح واحدًا من الأوقات الأكثر بهجة في طفولتي .. لم يكن هناك شقيقي وابن عمي وقد قضيا ليلتهما في تلك الحجرة بسبب خلاف عائلي ما .. كانا شابين صديقين يتعاونان في تجانس بالغ المودة والشغف على حل أحجية كونية .. شمس النهار الرائق تضيء عبر الشباك المفتوح المكونات والطقوس المألوفة لحياتهما: تناول طعام الإفطار، تدخين السجائر، الاستماع إلى أغنيات الثمانينيات في المسجّل .. لكن الضوء في عينيّ كان غلالة رقيقة أيضًا تجعل الأشياء والممارسات العادية أغراضًا ضرورية لرحلة بحثية قررا أن يخوضاها معًا .. لاستقصاء غيبي .. بطوط والأولاد وعم دهب .. المغامرون الخمسة .. المغامرون الثلاثة .. كنت أتأمل وعدًا طازجًا بتحقق أحلامي .. أن أكون واحدًا من رفقة تقتحم المجهول .. من جماعة تتنقل بين مخبوءات الزمن .. ما حاولت أن أفعله وأنا طفل مع شقيقتي أثناء سهرها للمذاكرة بينما أتصوّر السرير الذي يجمعنا “جزيرة الكنز” .. ما جاهدت لحيازته على مدار عمري مع “أصدقائي” .. ما قاومت الاندماج في ظواهره طوال الوقت بوصفها أكاذيبًا معادية لفرديتي .. ما كافحت لتثبيته كحياة أصلية لي مع طفلتي في مداومة حتمية على تناول سم خيبة الأمل .. ما أبقاني وحدي في انكماش منعزل مع أقران متخيلين لا شكل ولا أسماء لهم .. مع مغامرين لم يوجدوا قط .. ربما هم أرواح يا مجدي .. أرواح الموتى الذين كنت أنت واحدًا منهم حيث لم يُسمح لنا بتجسيد ذلك الرجاء الطفولي القديم ..  هل كان الأمر سيصبح مختلفًا؟ .. أعني شكلًا مغايرًا للعنة؟ .. مصيرًا هلاكيًا بديلًا؟ .. لو كنا هؤلاء الرجال الذين يفترشون صالة البيت في ليل الثمانينيات .. هل كانت الذكريات ستقتلني الآن على نحو أكثر ضراوة؟

الاثنين، 7 مارس 2022

سيرة الاختباء (36)

حينما أستعيد الآن تلك المرحلة التي مر عليها خمسة وعشرون عامًا تقريبًا وأعقبت انتهاء فترة عملي بجريدة “المساء”؛ يتملكني فورًا شعور جحيمي بالندم والحسرة على ما اعتبره بشكل عفوي إهدارًا لزمن طويل مبكر لا يمكن تعويضه، بل وكان ضياعه بمثابة تأسيس صارم لخسارات لم يتعطل تكاثرها وتوحشها طوال السنوات التالية بحيث أصبحت هوية دامغة لحياتي خصوصًا على المستوى المهني .. أتحدث عن الاضطرار للعمل في ما كان يسمى وقتئذ بـ “الصحافة الإقليمية” .. أن أشترك في تنفس الهواء ذاته مع العاملين في بالوعات “حديث المدينة”، و”أنباء وسط الدلتا”، و”أحرار الدقهلية” والذين وصفتهم في نوفيلا “جرثومة بو” بـ: “المحتالين، واللبوات، والمتاجرين بكرامتهم .. الذين كانوا مجرد قطع من الخراء، ترتدي البِدل والكرافتات، وتجلس وراء المكاتب، ولا تكره في حياتها أكثر من هذا الذي يعلم حقارتها تمامًا”.

لماذا الندم والحسرة؟ .. لأنك ببساطة تكتشف في الأربعينيات ما كان يتحتم عليك فعله في العشرينيات .. الاكتشاف الذي يعادل التيقن فعليًا وعلى نحو يتجاوز أي وقت مضى بما يعنيه السقوط من السماء أو تناثر أشلائك في أعمق باطن من الأرض .. منذ خمسة أعوام تقريبًا وأنا أتعذّب كأنها لعنة النهاية البديهية باسترجاع كل الخطوات المناقضة التي كان ينبغي أن أقدم عليها في منتصف التسعينيات ولم أفكر ـ مجرد تفكير ـ في وجوبها وضرورتها .. مسارات عديدة للعمل تشترك جميعها في عدم قابليتها للاستدراك بعد انقضاء الزمن الملائم لوجودها وأيضًا في أنها كانت ستبقيني ـ مثلما أتصوّر ـ أكثر ابتعادًا عن الٱخرين .. أقل خضوعًا للتأثيرات القاتلة لـ “الظهور” وسط حصار العيون والأفواه.

هذا ما تكون عليه اللحظات الأولى من الاستعادة .. ما سيتبدّل تدريجيًا مع استمرارها ومواصلة التمعن في حقائق الواقع القديم الذي خلق الجذور الصلبة لهزائمك .. ستفكر في أنك كنت خلال ذلك العمر ما زلت راضخًا لما تركت ظلالك المرتعشة تغادر عزلتك نحو الحواف المائعة والعتبات الضبابية من أجله، أو مثلما كتبت في رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون: ” كأنه في طفولتي، وفي لحظة لا يمكنني تذكرها إطلاقاً استقر في داخلي يقين لا يمكن خدشه بأنه يمكن التحكم في العالم بواسطة الخضوع أولاً لديناصوراته، الذين سيقدّرون إخلاصك، ومسالمتك كقط أليف، قادر على حبس عنفه المتزايد؛ فيهبون أنفسهم في المقابل كتابعين لك” .. أنك كنت تطارد الجرائم التي لا يعاقب فيها القاتل ولا تُدفن جثة المقتول ولا تنتهي كما يقتضي قانون ما .. أنك كنت مسجونًا في تلك الغفلة القهرية التي رسخت وعدًا خبيثًا داخلك بإمكانية إخضاع الدنيا في آخر ذلك المطاف وشكّلها أشخاص وأحداث وأماكن كنت أنت الغنيمة المولودة تحت وصايتهم دون أدنى ثغرة للهروب .. أنك كنت مسكونًا بالمعجزات التي قد تحققها الأشباح اللامرئية للغة من أجلك وليس عبر الأجساد المتعيّنة التي تصوّر هذه اللغة .. لهذا لم تغلق على نفسك حينها باب ونافذة حجرتك لتبدأ رحلتك في كتابة “أدب الجريمة” مثلًا .. لهذا عملت في الصحافة بالمعنى الشامل لها، وقضيت خارج منزلك معظم الوقت برفقة الغرباء .. لهذا لم تكتب مسرحيات أو قصصًا مصورة أو سيناريوهات أفلام في تلك الفترة؛ أي ما سيُعرض ويُرسم ويُمثّل.

 ذلك التمعن الذي سيتلاشى كذلك بالتدريج بعدما يبدو وكأنه أزاح الندم والحسرة عن قلبك، ومنحك ما يشبه مواساة الإدراك المتجدد للشروط الإجبارية الحاكمة لتاريخك الشخصي .. الإلزامات التي جعلت كل ما حدث كان لابد له أن يتم حقًا وفي مواعيده المناسبة، بالطريقة التي لم يكن هناك سبيل أو مجرد فرصة لتفاديها .. سيتلاشى كل هذا كأنه لم يوجد أبدًا ليعاود الشعور الجحيمي بأنك أهدرت زمنًا طويلًا مبكرًا لا يمكن تعويضه؛ يعاود افتراسك في لحظة لاحقة قبل أن تبدأ ثانية في تأمل حقائق الواقع القديم لاسترداد العزاء الغائب كأنه وداع خفي لا يتوقف احتدامه اليائس في روحي ويكشف عن نفسه في شكل نوبات احتضار روتينية صامتة .. العزاء الذي ربما يدفعك لتذكر “تشاك بولانيك” ثانية، كتشبث بخلاصة منقذة:

“Have your adventures, make your mistakes, and choose your friends poorly — all these make for great stories.”