الأربعاء، 29 أغسطس 2018

الجرائم الحقيقية

تواصل معي على فيسبوك محرر صحفي يعمل في مطبوعة ثقافية عربية راغبًا في إجراء حوار عن مشروع "نقد استجابة القارئ العربي" الذي أنشر مقالاته في باب أسبوعي على موقع "الكتابة" الثقافي. كعادتي طلبت منه قائمة بجميع الأسئلة حتى أرسل له إجاباتها دفعة واحدة في الموعد المحدد، على أن أقوم بالرد على أي استفهام أو استفسار جديد يطرأ في ذهن المحرر بناءًا على تلك الإجابات. بعد أسبوعين تقريبًا تم نشر الحوار، وكان كالتالي:
الناقد ممدوح رزق: القارئ ليس إلهاً، وجودريدز قوّاد كتب.
في مطلع العام الحالي بدأ الناقد ممدوح رزق في كتابة سلسلة مقالات أسبوعية لموقع الكتابة الثقافي تحت عنوان (نقد استجابة القارئ العربي). حول هذا المشروع كان لنا معه هذا الحوار:
ـ لا تخلو مقالات (نقد استجابة القارئ العربي) من السخرية، إلى من توجهها تحديداً؟
هي سخرية من إيمان القارئ بأن فكرته الشخصية عن العمل الأدبي، وعن الكتابة بشكل عام بمثابة حقيقة مطلقة، وما قد يتبع هذا الإيمان من ممارسات عقابية تجاه الكاتب، ومحاولات فرض الوصاية على القرّاء الذين لديهم أفكار مختلفة، وكذلك من السلطة المعرفية التي تستثمر هذه الألوهة المزعومة للقارئ.
ـ ما هى ممارسات عقاب الكاتب التي تقصدها؟
في سلسلة المقالات تناولتها بشكل تفصيلي، ويندرج في إطارها الريفيوهات العدائية التي تتعمّد إهانة العمل الأدبي وكاتبه تحت دوافع أخلاقية أو دينية مثلًا، والتحذير من قراءة هذا العمل، والهجوم على المقاربات النقدية التي تحتفي به، وحتى التعقّب "القانوني"، وبالطبع تتفاوت مستويات اللغة أو حدة "البلاغة" المستخدمة في هذا العقاب.
ـ خصصت جزءاً كبيراً من (نقد استجابة القارئ العربي) لموقع جودريدز، كيف تعرض رؤيتك له الآن؟
موقع جودريدز ـ وما يشبهه ـ بالنسبة لي مجرد قوّاد كتب، يقوم على آليات انتهازية سخيفة، تستغل رغبة القارئ في تجاوز فرديته أو فضائه الخاص إلى المساهمة الأبوية في تحديد يقين عام عن الكتاب حتى لو لم يسبق له الاطلاع عليه أصلا، أو بحسب كم الحسابات المغشوشة التي يمتلكها على الموقع؛ ولهذا فمن العادي جدًا أن يعطي أحدهم لكتابك نجمة واحدة لأنك قمت بحظره على فيسبوك مثلًا، أو لأنك لم تكتب مقالًا عن الرواية التي أرسلها إليك، أو لأنك تهكمت عليه في أحد نصوصك، أو لمجرد الغيرة؛ لذا فتقييم الأعمال الأدبية بالنجوم مسألة تزييفية سمجة، وجديرة بالازدراء. الكاتب لا يقدم وجبات طعام، أو خدمة فندقية، ولا يكتب إرضاءًا للجميع أو لأحد بعينه كي يكون للآخرين الحق في التعامل مع كتاباته بمنطق النجاح والفشل.
ـ ما هي علاقتك ككاتب بموقع جودريدز، وهل مازلت تستخدمه؟
تحدثت في أحد مقالات "نقد استجابة القارئ العربي" عن علاقتي بجودريدز، وذكرت أنني أضفت كتبي إلى الموقع عام 2009 ، وكنت أنشر أحيانًا قرءاتي النقدية به، ولم يكن الغرض كذلك ـ كما سبق وكتبت ـ هو قراءة التدوينات حول الكتب فحسب بل تأويل هذه التدوينات أيضًا، مراقبة سلوكها اللغوي، النطاقات التي تتحرك في حدودها، والمقارنة بينها. كان الغرض هو اقتفاء أثر ما تتبناه، وما تهمله، وتفسير الدوافع وراء ذلك. منذ فترة طويلة لم أعد أتصفح هذا الموقع إلا نادرًا، ولا يزال القراء يضيفون كتبي إليه، وأحيانًا لا أعرف بذلك إلا بعد مدة كبيرة.
ـ هل تهتم بمراجعات القراء عن أعمالك؟
لا أهتم سوى بالآراء والمقاربات التي تحاول اكتشاف وتشريح نصوصي، وتعيد خلقها لا أن تحاكمها؛ فمن السذاجة والعبث أن تنظر بجدية لمن يحاسبك على تجارب لا يعرف عنها شيئًا، أو على مخالفتك لما يظنه بتعنّت طفولي قواعد مقدسة للكتابة، أو على ما يعتبره ـ بمنتهى النطاعة العمياء ـ تعاملًا خاطئًا من جانبك مع آلامك الشخصية. "نقد استجابة القارئ العربي" يفكك هذه الأساطير المرتبطة بالتلقي، ويكشف مدى هزليتها وبؤسها، وهو في ذلك يطمح لكتابة تاريخ آخر للجماليات الأدبية والنقدية يجرّدها من الأوهام التحريمية المعتادة.
ـ ماذا تطلق إذن على سبب عدم تجاوب القارئ مع كتاب معين؟
أطلق عليه تباينًا في طبيعة الرؤى .. اختلاف الموقف الوجودي والجمالي من العالم .. عدم التوافق في الإدراك أو التفسير أو الاعتقاد .. الانفصال عن تاريخ مغاير لا يتحمّل أحد مسؤوليته .. غياب التفاهم أو الانسجام بين وعي بالحياة والموت ووعي آخر لا ذنب لأحد فيه .. لهذا فإنني لا أحترم القارئ أو الناقد المتزمت الذي ينصّب نفسه قاضيًا على نص لا يمتلك أدنى فكرة عن الماضي الذي أنتجه، وبدلًا من أن يُرجع عدم التوافق بينه وبين النص إلى انتفاء المساحات المشتركة أو الجسور التحريضية، فإنه يردّه بالسهولة العفوية السطحية والمتعالية إلى ما يُسميه "أخطاء الكاتب"، كأن هذا القارئ أو الناقد يمثل الصواب الأدبي في ذاته، وعلى جميع الكتّاب أن يعملوا لإرضاء ذائقته هو تحديدًا ومن يشابهه.
ـ ماذا عن كتابتك النقدية؟ هل لديك معيار مختلف لقراءة النصوص؟
في عملي النقدي لا أعيّن نفسي حاكمًا على كاتب أو مقيّما لجهده أو مصححًا لنصوصه أو أيًا من تلك الاعتداءات الوضيعة التي يحتاجها الكثيرون لإخفاء عجزهم، وإشباع نقصهم. إما أن يكون في العمل الأدبي ما يحفزني على تحليله، ويغريني باللعب التخييلي مع رموزه وعلاقاته، واقتياده إلى مناطق جدلية أبعد مما قد تقترحه التأويلات المباشرة، أو لا تنشأ هذه الصلة النفسية، أو يومض هذا الاستفزاز الذهني، وحينئذ لا أكتب عنه فحسب، وربما مؤقتًا وليس نهائيًا .. هكذا يتم الأمر بالنسبة لي ببساطة وفي صمت، دون استغلال لما يُطلق عليه "نقاط الضعف في العمل" كي أصدح بحكمتي الأدبية التي يجب أن يراعيها الجميع.
ـ تحدثت أيضاً في (نقد استجابة القارئ العربي) عن تدوينات القراءة. كيف أثبتت هذه التدوينات عدم وجود فرق بين القراء الذين يكتبون المراجعات والنقاد الأكاديميين حتى الذين لديهم مكانة معروفة في الحياة الثقافية العربية؟      
لا يقتصر الأمر على الأكاديميين تحديدًا .. نعم هم نقاد لا فرق بينهم وبين القراء الذين لا يقدمون أنفسهم كنقاد .. أجيال متعاقبة عاشت بمعنى الكلمة عالة على النقد الأدبي بفضل هذه السلطة: "فشل الكاتب في كذا"، "أخفق الكاتب في كذا"، "لم ينجح الكاتب في كذا"، "هذا عمل مبتذل"، "هذه كتابة رديئة"، "هذا كاتب يسعى للشهرة"، "نحن في فوضى أدبية تسمح لكل من هب ودب بالكتابة" ... إلخ، وعلى جانب آخر ـ وهذا منطقي ـ تجدهم بارعين تمامًا في كتابة ملخصات للأعمال الأدبية، وفي إخضاع النصوص للدلالات المستهلكة، وتدوير المعاني التقليدية المغلفة أحيانًا بالتحذيرات الرقابية .. الناقد بالنسبة لي هو الذي يكشف العمل الأدبي، أو الفيلم السينمائي لكاتبه أو مخرجه مثلما يكشفه للقارئ أو المتفرج تمامًا،. يضيء احتمالات ملهمة، ولا يتوقف أمام التأويل السهل والمتداول للرموز بل يفكك السياقات الجاهزة، ويضع علاماتها الواضحة في نطاقات استفهامية، خالقًا فيما بينها علاقات مبتكرة ضمن "كتابة موازية" تشتبك حقًا مع النص.
 ـ ما سبب توقفك عن كتابة الباب، وهل ستعود إليه قريباً؟
توقفت عن كتابته بسبب انشغالي بنوفيلا "جرثومة بو" التي كان يستدعي إنهاؤها قدرًا كبيرًا من التفرغ بالإضافة لبعض الأعمال الأخرى، وسأعود لكتابة الباب خلال الشهر القادم.
* * *
بعد نشر الحوار بساعات قليلة نشر أحد النقاد الأكاديميين المعروفين منشورًا هجوميًا يصفني فيه ـ دون ذكر اسمي، ولكن بإشارة ضمنية إلى الحوار ـ بالغرور والتعالي وعدم احترام الآخرين .. كان هذا الناقد ـ فضلًا عن رجعيته النقدية ـ معروفًا أيضًا بهوسه بتصحيح الأخطاء اللغوية في النصوص التي ينشرها الكتّاب والشعراء في صفحته على فيسبوك، إلى جانب كتابة البوستات العدائية ضد "العابثين بقواعد الكتابة الأدبية" كما اعتاد أن يطلق عليهم دائمًا .. بالصدفة، وصلني أثناء قراءة المنشور إشعارًا من إحدى الصفحات الإخبارية عن العثور على جثة طفلة:
"تم العثور على جثة الطفلة حبيبة أحمد عبد الحليم - المختفية من قرية ديرب بقطارس مقتولة في شوال ملقى في الأراضي الزراعية بالتحديد بترعه مجاورة لأحد الأراضي الزراعيه، حيث تبين من بداية التحقيق بأن القاتل زوج أخت القتيله المدعوا/ ابراهيم وشقيقه المدعوا / الدسوقي بعد خطفها وتم اغتصابها والتخلص منها بعد ذلك بأحد الترع المتواجدة بالاراضي الزراعيه".
تحت الخبر المقترن بصورة الطفلة المبتسمة في فستانها الأبيض، والذي تتعاقب على وحشيته الوجوه التعبيرية للحزن والذهول والغضب، وعبارات الدعاء المصدومة، المطالبة بالقصاص العاجل؛ قمت بعمل "منشن" لهذا الناقد، دون كتابة أي شيء آخر .. بعد دقائق كتب تعليقًا يترحّم فيه على الطفلة مختومًا بسؤال مقتضب لي، تثقله الحدة البديهية عن السبب الذي جعلني أقوم بعمل "منشن" له تحت هذا الخبر المؤلم .. كتبت ردًا له بأنني كنت أنتظر منه أن يقوم كالعادة بتصحيح الأخطاء اللغوية والأسلوبية في هذا الخبر مثلما يفعل مع نصوص الآخرين .. علّق قائلًا بأنه من السخافة البالغة أن أطالبه بتصحيح اللغة في ظرفٍ كهذا، ثم أنهى الرد بما يشبه الصراخ: هذا ليس مجرد نص .. هذه جريمة حقيقية بشعة.
كانت العبارتان الأخيرتان المتوقعتان هما ما أردت الحصول عليه .. تركت فقط إيموشن الابتسامة العريضة كتعليق أخير لي ثم أغلقت الصفحة عائدًا لمقال جديد أكتب فيه عن رواية لا تقف وراءها جرائم حقيقية!.
اللوحة لـ Jacques de Loustal
أنطولوجيا السرد العربي ـ 28 أغسطس 2018

الأحد، 19 أغسطس 2018

الصفعات

أدخل إلى حجرة شقيقتي الكبرى باكيًا بحرقة وأطلب منها أن تقتلني .. لا ترد عليّ، ولا تلتفت ناحيتي .. ألح عليها متوسلًا، لكنها تواصل تجاهلها التام لي .. أخرج من حجرتها متوجهًا إلى حجرة أمي .. أقول لها بنحيب أشد أن أختي رفضت قتلي، وأن عليها أن تفعل هذا بدلًا منها .. تضحك أمي بسخرية حقيقية ثم تقول أنهما لن تقتلاني، وأنني مهما فعلت فإن هذا لن يمنعها من أن تخبر أبي بعد عودته باللفظ السافل الذي خرج من فمي منذ لحظات.
 قبل قليل كانت شقيقتي الكبرى توّجه إهانة اعتيادية لي .. رددت عليها قائلا: "إللي يتكلم معايا كده هنيكه"...
ربما كان انفجار أنبوبة البوتاجاز سيُحدث أثرًا أخف من ذلك الذي صنعته هذه الكلمة التي لم تكن هذه بداية نطقي لها داخل البيت وإنما في حياتي بشكل عام .. دخلت أختي إلى حجرتها وأغلقت على نفسها، ودخلت أمي إلى حجرتها وأغلقت على نفسها، وبقيت واقفًا وحدي صامتًا في منتصف الصالة .. شعرت بما يشبه الإفاقة في أقصى حد صادم لها .. نعم .. أنا الذي تفوهت بهذه الكلمة، وكنت أخاطب شقيقتي الكبرى، أمام أمي .. لا أصدق أنني فعلت ذلك مهما كانت رغبتي الملحة في تجريب المفردات والتعبيرات الشعبية الوضيعة التي لا تنتمي إلى قاموسي اللغوي، لكنها تغزو حياتي عبر الشارع والمدرسة .. بدأت في البكاء .. كان الرعب من أبي الذي اقترب موعد رجوعه يقتلني دون شك، ولكنني كنت صادقًا في رغبتي أن أقتل بيد إحداهما .. لم يكن هذا الإلحاح المنتحب مجرد رجاء يائس للحصول على الغفران الذي يمحو إصرارهما المفروغ من حتميته على إبلاغ أبي بقدر ما كان توسلًا حقيقيًا لنيل العقاب المستحق بالنسبة لي على هذه الجريمة التي لا أستوعب ارتكابي لها .. كان حرماني من الحياة هو الجزاء الوحيد العادل، الذي يناسب حجم الإثم البشع الذي انتهكت به البراءة الخالصة لهاتين الشخصيتين الملائكيتين، واللتين كانتا قبل تفوهي بهذا اللفظ تتسمان بعكس ذلك تمامًا .. كانتا عبدتين شريرتين وبائستين لأبي .. جاسوستين مرتعدتين له ضدي، تتلذذان بلهفة بعقابه لي كي تتمكن روحاهما المشوهتين من تحمّل عذابهما.
عاد أبي ودخل حجرته ثم أخبرته أمي فنادى عليّ وأمرني بالجلوس فوق السرير .. سألني وهو يقترب نحوي بجسده الغليظ القوي إذا كنت قد قلت هذه الكلمة بالفعل .. ظللت أميل للخلف على السرير مع قرب التصاقه بي وهو يرفع يده السمينة المطبقة عدا الإبهام والسبابة والوسطى المضمومة لأعلى في إشارة الاستفهام المهدد، وأنا أغمغم بصوت واطئ مرتعش، ودقات قلب قوية متسارعة، وأنفاس متقطعة، وارتجافات منتفضة في كل جسدي: "أنا مش عارف قلت كذه إزاي" .. هكذا يقولون في الأفلام والمسلسلات عند المآزق الصعبة والمحرجة، وتتم مسامحتهم ويفلتون أحيانًا .. ها أنا مستمر في تقليد الآخرين ... ثم .. طااااااااخ.
بقيت في سرير أبي، وتحت الغطاء لفترة خلال هذه الليلة .. ربما مثلما تظل أمي قدرًا من الوقت في نفس المكان بعد مضاجعته لها قبل أن تنهض لتدخل الحمام .. بقيت في سرير أبي لأنه أمرني بعد الصفعة المهولة، الروتينية، القادرة على أن تكون حرقتها أكثر صدمًا وإذلالاً من سابقتها دائمًا أن أظل هناك، وألا أخرج من حجرته إلى أن يأذن لي .. ربما كانت هذه هي الإضافة الضرورية المطلوبة في العقاب نتيجة طبيعة الذنب .. كان ما فعلته غير معهود، وأفظع من الأخطاء الاعتيادية التي تواجه بالصفعات وحسب؛ لذا كان لابد لعقاب أبي أن يمنحه متعة تتجاوز ما يحصل عليه كل مرة من ألمي .. منذ تلك الليلة وحتى الآن أصبحت الصفعات تلطمني من الجميع، ومن كل شيء، خاصة لو كان يبدو جميلًا أو غير عدائي: كلمات الآخرين .. ضحكاتهم .. صمتهم .. نظراتهم .. حواراتي الداخلية مع نفسي .. تطلعي لوجهي في المرآة .. الأشياء التي أراقبها ومازال هناك في العالم من يعتقد أنها تخلو من الحياة.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
photo by sebastian luczywo

الجمعة، 10 أغسطس 2018

بعض الأمور غير الجيدة

تأخذني أمي من يدي، وبدلًا من أن نذهب إلى المدرسة أو السوق أو بيت جدتي تصعد بي إلى السماء .. تجلسني بجوارها فوق أعلى سحابة بيضاء ثم توجّه ملامحها العجوز الغاضبة نحو الأمام وتخاطب شيئًا لا أراه بعصبية وهي تشير إليّ: إنه لا يصدق أنك هنا .. عليك أن تقنعه بذلك قبل فوات الأوان.
أقول لها بنفاذ صبر: هذا غير صحيح .. أنا أعرف أنه موجود، كل ما في الأمر أنني كنت أتمنى لو لم يكن شريرًا.
تزعق أمي في وجهي: إنه ليس كذلك.
ابتسم متهكمًا وأقول لها: حقًا؟ .. إنه حتى لم يعالج بصرك إلى الآن، ومازلتِ تحتاجين لارتداء النظارة ذات العدستين السميكتين .. أنظري إلى نفسك .. لقد ترك كل شيء فيكِ على حاله رغم إيمانك بطيبته: الشعر الأبيض .. التجاعيد المتهدلة .. الجسد البدين المتهالك .. علامات الأمراض المزمنة في وجهك .. أظن أن بطنك لا يزال مفتوحًا أيضًا وراء هذه الملابس من أثر الجراحة التي أجريت لكِ في يومك الأخير على الأرض.
فجأة أسمع ضحكة مفتعلة تصدر من الناحية التي كانت أمي توجّه حديثها إليها .. يظهر أبي مبتسمًا بتوهان مألوف ويتقدم نحونا ثم يقول بنبرة خافتة مخاطبًا أمي: لا تصدقيه، هو لا يؤمن بوجودي لأنه قرأ أكثر مما يجب من الكتب السيئة التي انتقلت شياطينها إلى عقله.
ثم يتوجه بعينيه الزائغتين لي: من الضروري أحيانًا أن تحدث بعض الأمور غير الجيدة حتى لو لم نعرف أسبابها المنطقية.
يتراجع أبي قليلًا ثم يقلّب عينيه بيني وبين أمي بحيرةٍ أزيد ثم يقول مرتبكًا بتوجّس: من أنتما؟، وما الذي جاء بكما هنا؟ .. ما الذي كنا نتكلم عنه؟
أشير إليه مخاطبًا أمي بزهق: أنظري .. إنه لا يزال مريضًا بالزهايمر، ولابد أنه سيضع يده بعد قليل في مؤخرته كالمعتاد ليُخرج قطع الخراء منها ثم يمدها إلينا صارخًا كي نأخذها ونجد حلًا لها قبل أن يقذفها أمامنا .. هذا فقط أحد الأمور غير الجيدة التي من الضروري أن تحدث أحيانًا.
ظل أبي يتلفت حوله مرتعشًا ثم راح يطلق ضراطه التقليدي بشكل متواصل قبل أن تنهض أمي في صمت مستسلم وتربت على كتفه ثم تمسك بذراعه لتقوده ببطء نحو الجهة التي خرج منها بينما أمعائها المسدودة تتدلى من شق بطنها الواسع، وأنا أتابع اختفاءهما التدريجي وسط السُحب.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
اللوحة لـ "بابلو بيكاسو".

الثلاثاء، 7 أغسطس 2018

إفراغ اللغة من نفسها


هناك نكتة طفولية قديمة، غير مضحكة، تقول: سأل معلم أحد التلاميذ "إعرب هذه الجملة: "ضرب المعلم الولد"؛ فرد عليه التلميذ: "ضرب: فعل إجرام ـ المعلم: ابن حرام ـ الولد: مسكين يا حرام" .. حسنًا .. قد تؤدي سخافة هذه النكتة لاستجابة عكسية، لكنني أفكر في هذا التلميذ لو مد خط الفكاهة المفترضة على استقامته حتى يصل بعد سنوات طويلة إلى التفكير في إعراب "خلق الله الإنسان" دون أن يُطلب منه ذلك.
كتبت ذات يوم ـ وهو ما اعتبرها نكتة أخرى عن نفسي ـ في قصة "المرض" بمجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة":
"لن أتمكن أبدا من العيش في كوخ.. الكوخ الذي حاولت بناءه مرة بوسائد وأغطية السرير، ومرة بقطع خشبية قديمة في بلكونة الأسرة، ومرات لا حصر لها بمبررات متغيرة للثقة في الغيب داخل روحي.. الكوخ الذي لم يكتمل بناؤه أبدًا ليس بسبب حروب الآخرين ضد عزلتك، ولا شهوة الطرد التي تواجهك بها كل الأماكن بقدر رغبة مبهمة داخل ذاتك في التخلص منه لا تنجح الأسباب الملموسة التي يمكن العثور عليها في تفسيرها.. رغبة قد يبدو حقًا أنها نتيجة هزائم مدركة وأحلام يمكن التفاوض مع الدنيا بشأنها، لكنك ستشعر في نفس الوقت بأن هذه الرغبة متجذرة في مركز أكثر عمقًا مما يمكن تصوره .. أن قوتها الحقيقية تكمن في كونها إشارة خبيثة ربما تعطيك انطباعًا أوليًا بأنها لا تستحق الانتباه ثم تستوعب تدريجيًا أن هذه الإشارة ما هي إلا إلحاح يعلن عن بداهته الأزلية دون تأسيس على تمهيد منطقي .. إلحاح منفصل عن الهزائم والأحلام وينمو دون تدخل منك أو من غيرك حتى يصل تصاعده إلى نقطة يصبح من الحتمي فيها أن تكون في الخارج .. أن تُجبر على إبقاء نفسك بعيدًا عن أي كوخ ترغب بشدة في أن تسكنه".
عمري الآن واحد وأربعون عامًا، ولا يمكنني بأي حال من الأحوال، وبمنتهى الرعب والحسرة اللائقين تصديق أي مما يمكن أن ينطوي عليه هذا الرقم بدءًا من التغييرات الجسدية المفاجئة، والمتسارعة: الصلع .. الشيب .. خطوط الجبهة .. التجاعيد .. صغر العينين وانسحابهما للداخل .. انطفاء الوجه .. الوهن .. الخمول .. الثقل المتخشّب للعظام والمفاصل .. مرورًا بالتفكير في كل ما حدث لي، وحتى تخيّل ما بعد الموت .. الغريب في الأمر أنني قبل بلوغ الأربعين بقليل بدأت أتخلص من الخوف المرتبط بفقدان الحياة والتعرّض إلى المخاطر القاتلة، وهو ما كان بمثابة السجن المظلم الذي اُعتقلت حياتي داخله خلال مرحلتي العشرينيات والثلاثينيات .. أصبحت أسير بمفردي لوقت طويل، وأجلس في الأماكن العامة البعيدة عن أقرب من أعرفهم، كما بدأت أسافر وحدي، وكلها أمور كان من المستحيل القيام بها منذ أن كان عمري أربعًا وعشرين سنة تقريبًا .. لم أعد أفكر مثل العشرين عامًا الماضية مع كل لحظة في الموت المفاجئ أو الإصابة بالأمراض الخطيرة أو في التعرّض للحوادث القاتلة .. أصبحت أعيش الموت دون التوقف عند أسبابه .. أعتقد أن الأمر له علاقة أيضًا باللغة .. بالوعي بما استهلكته هذه اللغة من نفسي .. بما استعملته من الألم والرعب والحسرة والحيرة والاضطراب والضجر واليأس .. الكلمات التي لم تعد تعني أي شيء مقارنة بما أشعر به ومع ذلك أصر على استخدامها كمن يدخن السجائر بشراهة قاتلة دون شعور بمذاقها .. الشراهة التي تزيد من إدمانه بدلًا من أن تعالجه .. بالنسبة لي هو الانتقام من لعنة اللغة بإفراغها من نفسها، ليس فقط لكونها عاجزة، بل للوصول إلى ما هو أبعد من قسوتها أي فراغها الأخير .. الثأر مما كانت تدعيه في الماضي للوعي الذي استخدمته هذه اللغة في مراحل مبكرة من عمر الذات .. كذلك السخرية مما صار إليه الاحتراق الجسدي المتواصل على مدار العمر، والذي لم يكن سوى قربانًا لها حيث يوجد كل شيء داخلها .. حيث لا يوجد أي شيء داخلها .. ربما هي الطريقة التي يصل فيها الألم إلى ذروته بعد مرور وقت طويل من الفشل مع الوجود، ومن بقاء الألم طوال الوقت خارج اللغة التي كانت وستظل بشكل حتمي هي الوجود ذاته .. يبدو هذا الأثر كأنه استسلام أو تعايش أو حتى معالجة لكل الجروح المرضية التي طالما عانيت بسببها: الدوار .. ضيق التنفس .. دقات القلب القوية المتسارعة .. الغثيان .. الهبوط .. الرعشة .. التعرّق .. أصبح الغضب المتوسّل في قمته كامنًا دون تأثيرات خارجية إلا في الحدود البسيطة مقارنة بالماضي، كأنما تم إزاحته وطويه داخل أعمق حيز في جسدي كي يُخفي هذا الذي يبدو انسجامًا حركيًا مع العالم الصرخات الاحتضارية الأخيرة في أقصى حدود لها .. موسيقى ضبابية تحجب رغم هدوئها التدرّجات المنذرة باقتراب النهاية الانفجارية كصوت أقل من انقطاع خيط رفيع جدًا كما كتبت في نص سابق.
سأخرج من العالم ممتنًا لأشياء كثيرة في الواقع، منها ـ على سبيل المثال ـ  ذكرياتي الطفولية في الثمانينيات، وأنني لم أمت في عمر أبكر من اللحظة التي انتهت حياتي فيها، وأنني كتبت كل ما حاولت أن أكتبه، وأن زوجتي كانت جميلة، وأنني كنت منتميًا كرويًا للأهلي، وأنني كنت قادرًا على التخلص من الأصدقاء ببساطة متناهية، وأنني كنت أمتلك من الفطنة ما جعلني أطلب من عائلتي إذا أصابني مرض عقلي أو نفسي في نهاية حياتي وتحولت إلى عجوز تتوكأ عصبيته المرتعشة على عصا، وتترقرق دموع قديمة في عينيه لتمتزج بمخاط أنفه السائب معظم الوقت، ويدور بين الندوات والمقاهي ويصرخ مطالبًا بالتوقف عن "الابتذال" الروائي و"الفوضى"النقدية، راجيًا العثور على كاتبة صغيرة ذات قلب رقيق، تُكرم شيخوخته الأدبية اليائسة بـ "بلوجوب" مشفق؛ فإن عليهم منعي من مغادرة البيت مهما استخدموا في ذلك من عنف.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
الصورة لـ Josef Koudelka

السبت، 4 أغسطس 2018

بين بابين: خارج السجن .. داخل الموت

في روايته "بين بابين" الصادرة حديثًا عن دار نينوى؛ يستعمل الكاتب اليمني بدر أحمد التفاصيل التقليدية للسجن كي يجعلنا نفكر في أنه أكثر مراوغة مما تكوّنه هذه التفاصيل حقًا .. أن هذه العناصر المألوفة مجرد تجسيدات رمزية مباشرة عن وجود مبهم، لا يمكن امتلاكه حسيًا على نحو كامل .. أن السجن "فكرة" تتجاوز دائمًا المحاولة لجعلها متعيّنة كليًا أي قابلة للإدراك التام .. السارد في الرواية مع عدم تحديد اسمه أو هويته أو مكان وزمن وأسباب اعتقاله يؤكد على كونه مسجونًا في داخله .. في بشريته .. في الحياة التي لا يمكنه التحرر منها حيث لا يوجد خارجها سوى الموت .. إنه في استعادته وتوثيقه أو تخيله لما يشبه ذاكرة جماعية مشتركة للمقاومة والقتل والاعتقال يحاول أن يُثبّت شعورًا أقوى بأن الوحشية لا تكمن في تلك الصور بقدر ما تكمن في مسارات الوجود التي كانت هذه المشاهد نتيجة لها، أي أنها تتمثّل في كل فعل وكلمة وفراغ.
"أنا معزول تمامًا عن العالم الخارجي، وحتى أفكاري، ذكرياتي، وحياتي السابقة. هنا يتشابه الليل والنهار إلى حد كبير، فلا نافذة تمدني بالهواء والضوء؛ فقط فتحة صغيرة جدًا في أعلى السقف، يخترق حوافها المدببة عمود صغير من ضوء الشمس، يعبر فضاء الزنزانة يوميًا، وعلى مدى ساعة كاملة، ويستقر في قاعها".
كأن هذه الذاكرة بطغيانها المطلق هي التي تحلم بالراوي في سجنه، تستخدم آلامه في استرجاع ماضيها .. كأن هذا السجين ممر للأرواح، تعبر خلاله ما يراها نسخًا منه، كل حياة شكّلته، وخلقت وجوده في هذا المكان وهذه اللحظة .. يتقمّص العذابات لا لكي يعيشها مجددًا بل ليكافح تكرارها الحتمي .. ليحاول التوّصل إلى ذلك الجوهر التدميري الغامض الذي يضمن التماثل بين التجارب والخبرات وبالضرورة الانعزال حيث لا يمكن لأحد أن ينقذ الآخر .. يصبح الهذيان هو المجابهة اليائسة لهذا الجوهر الذي لا سبيل لاستيعابه ..  الهذيان أشبه بإعادة ميلاد للعالم .. محاولة نكوصية لتعلّم اللغة والتفكير والحركة لبناء الوعي الجدير بامتلاكه هذا السجين كي يتخلّص مما هو عالق في ظلامه .. يمارس السارد نفس الآلية التكرارية في الاستعادة، ولكن بشكل مضاد .. حينما تتكرر الأحداث الدموية في ذهنه بينما يرقد في عتمة السجن فهذا يجعلها وفقًا لطموحه منقطع الرجاء في نطاق الاحتمال بأن تكشف عن حقيقتها المخبوءة .. يجعلها قابلة لإيقاف استمرارها القهري .. لتعطيل التشابه .. إذن لا يعمل الهذيان من أجل اللحظة القادمة فحسب، وإنما أيضًا لإعادة صياغة الذاكرة الوحشية التي سبقت وجود الراوي في السجن، والتي حينئذ ستتيح له التعرّف على ملامحه حين يتحسسها في الظلام كما لم يفعل من قبل.
"غادرت مريم صفها، واقتربت نحوي، وقبل أن تقول شيئًا شاهدنا في الأفق البعيد نقطة معلقة بين السماء والأرض. لم تكن النقطة سوى طائرة هليوكوبتر إسرائيلية في وضع استعداد قتالي. في الجهة اليمنى من المعسكر كانت تقف طائرة هليوكوبتر في الوضعية نفسها. دارت الأعين بذعر بين الطائرتين المعلقتين بين السماء والأرض"
بهذه الكيفية ربما نتأمل علاقة السجين بالمقاتلة "مريم" التي يسترجعها كأنها إعادة إنتاج لقصة الخلق .. الكابوس الواقعي المعادل للميثولوجيا .. تتكرر هذه القصة بطرق مختلفة بتركيز على موضوع "الأبوة" .. التماثل بين السجّان والأب .. الرجل الذي يتعارك مع زوجته ويضاجعها  كمسخين، بشراسة بوهيمية .. المشاهد التي بلا تعريف يوضحها أو ذاكرة تفسرها .. هو التكرار الوحشي فقط، الذي عليه أن يتعاقب دون معنى .. لننتبه إلى هذا الأداء: بعد اكتشاف السارد لوجود المصباح في زنزانته، وبعد اكتشافه لمحتوياتها بعد وقت طويل من إقامته في ظلامها سيمد يده نحو المفتاح الكهربائي ويعيد إطفاء وإشعال المصباح أكثر من مرة .. سيتكرر هذا الأداء من الرجل الذي يتذكره الراوي، والذي كان دائم العراك الجنوني مع زوجته قبل انتحاره .. إن إعادة فتح الضوء وإغلاقه هي المحاولة الأخيرة ربما للتيقن من أن هذا ما لديك بالفعل .. أن الأشياء التي يسقط عليها الضوء هي ما تحاصرك حقًا .. كأن الضوء بهذا الفتح والغلق سيغيّر ما يقع عليه .. كأن السجين بهذا الأداء يتوسّل للضوء أن يكشف عن تفاصيل أخرى .. إذا كان الرجل قد انتحر؛ فإن الراوي أدرك أن "أنس" ذلك الوجه الباسم الذي شكّله من الحصى كصديق يشاركه الزنزانة ليس أكثر من مجرد حصوات بالفعل .. يبدو إذن إطلاق الرجل للرصاص على رأسه كأنه هو نفسه رمي السجين المتتابع للحصوات التي كانت تكوّن وجه "أنس" في جردل البول بعد أن كشف له الضوء أن هذا الوجه بلا أهمية .. لقد كان الراوي يلقي بملامحه هو في هذا الجردل .. بكينونته التي لا تملك شيئًا داخل هذا الصمت.
"أتذكر أيضًا أنها في إحدى الليالي حطمت زجاجة زرقاء على جمجته، بعد أن شتمها وبصق عليها. وما زلت أتذكر كيف تطاير الزجاج في الهواء، وكيف هوى جسده على الأرض بعنف دون حراك، والدماء تسيل على وجهه ورقبته. يومها ظلت للحظات تحدّق بمقت وازدراء في جسده المسجي على الأرض، ثم رفعت طرف ثوبها حتى أعلى فخذيها النحيلين وهى تتمتم بكلمات غاضبة، ثم أنزلت سروالها الداخلي الأسود وركلته بقدمها جانبًا، ثم تبولت واقفة على وجهه المدمى".
كتب بدر أحمد روايته انطلاقًا من أن الحرب بالتصوّر الأشمل، دون إطار، تحضر في كل شيء، ليس بين البلدان والجماعات وحسب، وإنما بين الذات ونفسها، في العلاقات بين الكائنات، وبين الفرد وأشيائه .. بهذا حينما يستعين بأحداث النضال الفلسطيني، والحرب الأهلية اللبنانية فهو يسعى لمجاورتها مع الحروب الأخرى التي تهيمن على الواقع باعتبارها محرّكه الأساسي، ولذلك فإن الأشلاء والدماء والصرخات هي ما تكوّن طبيعة العالم التي يمكن أن تعبّر عنها أدق تفاصيله، وأكثرها التباسًا، وحتى تلك التي تحمل في الظاهر يقينًا مناقضًا لهذه الطبيعة.
"أثناء الغارات وعمليات القصف العشوائي للأحياء السكنية، كنت أحتمي أسفل سرير معدنيّ، بمعية أطفال لا أتذكر عددهم، ولا وجوههم، ولا حتى أسماءهم، لكني أتذكر أننا، وحال شعورنا بالخطر، كنا نتدافع، عبر البهو والرواق، كقطيع أرانب مذعور، ثم ندلف إحدى الغرف المظلمة ونختبئ أسفل سرير ضخم ترتجف أجسادنا تحته وننتفض على وقع كل انفجار".
مراقبة حركة يد السجّان التي تدفع بالطعام والماء للسارد عبر فتحة ضيقة قد تدفعنا للتفكير في اللغة .. في الوعي الذاتي .. فيما نصدقه ونريد للآخرين مشاطرتنا له .. قد تدفعنا للتفكير في الاختيار الذي تلتهمه الصراصير مثلما كانت تفعل مع الطعام في زنزانة السجين .. الاختيار المتوهم وبناءًا عليه تكون اللغة التي نستعملها، الوعي الذي يحرّك خطواتنا في العالم، ويحدد معاركنا وهزائمنا ومصائرنا، وقبل كل ذلك يكرّس لظنوننا الاضطرارية بأننا نختار حقًا.
"جرت العادة أن تصبغ جدران وأبواب ونوافذ السجون باللون الرصاصي أو الأخضر الزيتوني. حقيقة لا أدري لمّ!! إنما يبدو الأمر وكأنه عرف أو نظام متبع، وهذا يعني أني لست في زنزانة خاضعة لسلطة الدولة".
يدعم تبيّن الراوي لزنزانته بعد خروجه منها أنها لم تكن سجنًا بل غرفة قديمة وحيدة فوق هضبة مقفرة؛ يدعم الطابع الكافكاوي للرواية، وهذا ما يجعلني أستعيد هذه السطور من مقال سابق لي عن قصة "أمام القانون" لكافكا ضمن كتابي عن كلاسيكيات القصة القصيرة "هل تؤمن بالأشباح؟":
"إن القصة السرية التي رواها (كافكا) بوضوح وبساطة ليست سوى كابوس دارت أحداثه داخل جسد الرجل الريفي ـ ربما استغرقت عمره كاملاً ـ الذي أُرغم تلقائياً بدافع من أسس قامعة خفية لا سبيل لمقاومة إغرائها ـ كالوهج الذي لا يقطعه خمود، المتدفق من داخل البوابة ـ على خلق ما يُسمى بالقانون مستخدماً أوهام وخيالات ستجعله كياناً غير معروف، يستعبد صاحبه دون أن يُرى أبداً".
بالتالي فهذا الاكتشاف يدعم ما سبق وأشرت إليه بأن السجن لا تكوّنه المعطيات المباشرة التي يتم توظيفها كرموز خطابية، وكذلك لا يستمد مراوغته من مجرد كونه فكرة داخلية، وإنما من الخيال الشخصي .. البصمة التي تحفر اختلافها ضمن التطابق، وهي بذلك تتوصل إلى مكان خاص وزمن مفارق كما فعل سجين بدر أحمد، بل وتخلق السجّان والوعاء والحصوات والضوء والصراصير والجدران والفتحات مثلما تخلق المطلق الذي تجعله أصلًا ومحركًا ومُنهيًا، أو تمنعه من العبور إلى كوابيسها، أو تقتله.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 5 أغسطس 2018

الخميس، 2 أغسطس 2018

جزء من نوفيلا "جرثومة بو" / القصة الحقيقية لمنصور عبد الرحيم ـ تصدر قريبًا

كان الملف مقسّمًا بين الخطابات التي تشغل الحيز الأكبر منه، والرسومات التي ليس هناك تأكيد هل خطّها منصور بنفسه أم بيد أحد آخر، وتصوّر طرق التعذيب التي يتعرّض لها، بالإضافة إلى قصاصات الصحف والمجلات القليلة التي نشرت إشارات تافهة عن الموضوع، والتي يبدو أن ثمة يدًا تساعده في الحصول عليها داخل قبره العسكري .. كانت لكلمات منصور بنية متصدّعة، تشبه تمامًا كتابة طفل لم تتطوّر بعد مهارته في تشكيل الحروف وتوصيلها ببعضها .. كأن كلماته المتكسّرة، والربط العسير، غير العفوي بين حروفها ليست إلا صورة لأصابع منصور المحطمة، التي تم ترميمها باستخفاف .. بالتناقض مع الكلمات كانت الرسومات أكثر انضباطًا، وتتميز بقدر كبير من الإتقان الفني يثير الدهشة عند مقارنتها بالكتابة .. كانت تبدو كأن منصور قد حصل من السجّانين على نسخة من الأشكال التوضيحية التي يتضمنها كتاب التعذيب الذي يسترشدون به ثم قام بوضع ورقة الخطاب الشفافة فوق كل رسم ليتتبع بقلمه الرصاص خطوط الشكل الذي يظهر تحتها .. كانت هناك أيضًا صورة بالأبيض والأسود لمنصور يظهر خلالها شابًا في العشرينيات، غير مبتسم، بشعر كثيف، ولحية خفيفة، كما تخلو الصورة من الإشارة لستوديو التصوير، والتاريخ الدقيق لهذه اللقطة بعكس المعتاد .. كان في الصورة شيء من الغرابة المقلقة، ربما بسبب الأبيض والأسود؛ فهي مع عدم حداثتها مازالت تنتمي للزمن الذي جعلت فيه الألوان هذا النوع من الصور شيئًا نادرًا أو على الأقل غير شائع .. لهذا تبدو الصورة أكثر قدمًا مما قد تكون في الواقع، ويبدو منصور خلالها بعينيه الخاليتين من أي انطباع كأنه شخص عاش في سالف العصر والأوان.
أكثر من مرة وضعت صورة منصور ملاصقة لرسومات التعذيب محاولًا دمج وجهه بالجسد الذي يتم التنكيل به في نسخ مختلفة .. لابد أنها لم تكن المرة الأولى التي أجرّب فيها عملية التركيب بين صورتين سعيًا لخلق صورة ذهنية ثالثة، ولكنني لا أعتقد أنني حصلت على انسجام أكثر إحكامًا من هذه اللحظة .. كان وجه منصور يتوحّد مع كل رسم بتناغم فوري، كأنه جسد مستيقظ، يدرك تناثره، ويتحرك ذاتيًا لاستعادة التلاحم بين أشلائه بمجرد العثور عليها .. بدت ملامحه مع هذا الاكتمال كأنها مرسومة هي الأخرى بالقلم الرصاص، أما خطوط جسده على الورق فكانت تتحوّل إلى جلدٍ عارٍ، تنزف منه الدماء، ويكسو عظامًا مكسورة.
لم يكن في الملف أي ذكر لحياة منصور قبل سفره إلى السعودية إلا تلك المتعلقة بقضيته نفسها؛ فهو حاصل على شهادة الثانوية الصناعية، شعبة ميكانيكا السيارات سنة 1983 من مدرسة المنصورة الصناعية بنين، وهذه البيانات وردت بالمستخرج الرسمي الذي قدمه منصور إلى السفارة السعودية، والصادر من مديرية التربية والتعليم "إدارة شئون الطلاب" .. جميع الخطابات تبدأ من السجن وتنتهي داخله؛ إذ لم يكن هناك أي توضيحات حول ملابسات سفر منصور إلى السعودية، أو عن حياته هناك قبل اعتقاله منذ سبع سنوات .. كان منصور في كل رسالة يخاطب الجميع: إخوته وأقاربه والمسئولين الحكوميين ورؤساء التحرير والصحفيين والإذاعات ورؤساء الأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان وبعض المحامين في المنصورة والقاهرة .. كلها مناشدات بالتدخل لإنقاذه، وتحمل نفس الصيّغ والمعلومات تقريبًا، أما عن طريقة تهريب الرسائل فيرجع الفضل فيها بحسب تأكيد منصور إلى شخص متعاطف معه يُدعى صادق، ويعمل باحثًا اجتماعيًا بالسجن، ويبدو أنه قد ساعده أيضًا في الحصول على عناوين المراسلات، وتزويده بالمعلومات التي لم يكن له أن يعرفها بدونه، وربما كان هو صاحب اليد المجهولة التي رسمت أشكال التعذيب بهذه المهارة .. على هذا بدا كأن "صادق" هو الملاك السري الوحيد في حياة منصور، لكنه بكل تأكيد كان ملاكًا ناقصًا، فالقدرة على إنقاذه من هذا الجحيم كانت معطلة تمامًا.
موقع (الكتابة) ـ 31 يوليو 2018