السبت، 16 سبتمبر 2023

كيف كتبت قصة “الهواء الطيب”

ذات ظهيرة شتوية؛ وقفت ـ كالعادة ـ داخل الشرفة للاستمتاع بالمطر والغيوم والهواء البارد .. كان الشارع خاليًا حينما انتبهت إلى كرة كبيرة، خفيفة، ذات ألوان متعددة يدفعها الهواء فوق الأرض المبتلة بماء المطر .. لم يكن هناك أي أطفال في الشارع فخمّنت أنها سقطت من شرفة أحدهم .. تنقلت عينيّ بين الشرفات فلم أجد أحدًا .. في هذه اللحظة رأيت رجلًا في منتصف العمر يعبر الشارع، وكانت خطواته تتحرّك باتجاه الكرة .. تساءلت: هل ستلفت الكرة نظر الرجل بألوانها الزاهية ووحدتها في شارع فارغ تحت المطر؟ .. هل سيتوقف عندها؟ .. هل سيبحث ولو بعينيه عن من فقدها؟ .. وجدت الرجل يمر بجوار الكرة التي مازال الهواء يبادلها بين التطوّح والسكون، لكنه اكتفى بالتطلع إليها بشكل عابر وهو يواصل سيره ليبتعد عنها ويختفى .. حينئذ تخيلت مشهدًا بديلًا لما حدث في الواقع: توقف هذا الرجل أمام الكرة ثم التقطها وأخرج منديلًا ليجففها من الماء والطين ثم وضعها داخل حقيبة بلاستيكية ـ أعطاها خيالي له حتى يستطيع حملها في أمان ـ قبل أن يعود بها إلى بيته .. لماذا يفعل ذلك؟ .. ببساطة، لأن لديه طفلًا.

لكن ماذا عن الطفل الذي ضاعت منه الكرة؟ .. كان ذلك هو الاستفهام الذي شغل ذهني بعدما غيّب الهواء الكرة عن بصري في نهاية الشارع .. فكرت في أنه ربما كان يلعب بها في شرفته بلذة الانسجام مع المطر، وأنه كان يقذفها عاليًا ويعود لالتقاطها، لكن الهواء القوي أطاح بها إلى الشارع حيث يصعب أو يستحيل على الطفل أن يخرج من بيته في هذا الوقت لاستردادها.

هكذا بدأت تلك الفكرة الأساسية في تكوين بداية القصة داخل وعيي: ذهبت الكرة من طفل إلى طفل آخر لا يعرفه بواسطة هواء الشتاء .. الفكرة التي ستخلق سؤالًا تحدد إجابته موضوع القصة وبالضرورة نهايتها: كيف يمكن للكرة أن تشيّد جسرًا بين الطفلين؟

بما أن لدي طفلة؛ سأجعل الفكرة “ذهبت الكرة من طفلة إلى طفلة أخرى لا تعرفها بواسطة هواء الشتاء” .. والآن، لابد أن تحمل الكرة بصمة تميزها عن الكرات المماثلة .. هوية دامغة تخص صاحبتها التي فقدتها .. لماذا؟ .. لأن الكرة الملوّنة هنا أصبحت رسالة بعثت بها غريبة إلى غريبة أخرى دون قصد، وحتى يتم التواصل بينهما ينبغي أن يكون هناك دليل على أن الرسالة تنتمي إلى هذه الطفلة تحديدًا وليس إلى أحد آخر .. فكرت في أن هذه البصمة يجب أن تكون شخصية أكثر منها رمزية، ليس فقط حتى تتناسب مع كونها لطفلة، ولكن من أجل أن يكون تواصلها مع الطفلة الأخرى أكثر سهولة وقوة .. حسنًا، ليست هناك هوية شخصية تفوق الوجه .. سأجعل الطفلة إذن ترسم ملامحها المبتسمة على الكرة قبل أن تضيع منها.

ماذا عن الطفلة التي حمل أبوها الكرة إليها؟ .. فكرت في أن الكرة الملوّنة بعدما لم تعد مجرد كرة، وأصبحت وجه طفلة أخرى؛ فإن هذه الكرة أصبحت صديقة للطفلة، وبما أن الصداقة لا يتجلى معناها وأثرها أكثر من الأوقات السيئة فإن هذه الطفلة تحتاج إلى مشكلة .. أزمة تتعلق بالفقد أيضًا ولكن بصورة أعنف يكون الاحتياج خلالها إلى الصداقة بالغ الإلحاح .. لتكن مأساة إذن تتطلب بشدة الحصول على عزاء غير تقليدي .. سأجعل الطفلة تفقد أباها الذي أتى لها بالكرة .. كأنه أحضر مواساة صامتة لها قبل رحيله الوشيك .. ليس هذا فحسب .. فكرت أيضًا في أنه ينبغي لهذا النوع من التواصل بين الطفلة التي حُرمت من أبيها وصديقتها التي لا تدري عنها سوى ملامحها المبتسمة المرسومة على الكرة الملوّنة؛ ينبغي أن يكون لهذا التواصل خصوصية ما .. ينبغي أن يكون بينهما ما يُعادل السر الذي يحتفظ به الأصدقاء فيما بينهم ولا يعلم به أي شخص آخر حتى ـ أو خصوصًا ـ من أُسرهم .. كيف يمكن فعل ذلك؟ .. ما الذي يمكن أن تخبر به طفلة فقدت أباها لوجه طفلة أخرى مرسومًا على كرة ولا تقوله لأمها مثلًا؟ .. لماذا لا أترك هذا البوح مبهمًا دون تحديد وأكتفي بالإشارة إليه فحسب ليكون سرًا حقيقيًا لا يعلمه القارئ؟ .. سأجعل الطفلة التي فقدت أباها مريضة، عاجزة عن الكلام، تحكي بلا صوت عن أبيها الغائب لوجه الطفلة المرسوم على الكرة .. الكلمات التي لا يمكن لأحد سوى تخيلها وصياغتها بنفسه باعتبارها تُشكّل حكايته الخاصة .. ذلك ما لا ينتج سرًا مُحكمًا فقط، ولكنه يتسق ويضاعف أيضًا مأساة الطفلة واحتياجها إلى ملامح الطفلة الأخرى .. إلى التحدث مع صديقة تشاركها نفس اللغة “الصمت”.

كيف ستعرف الطفلة التي كانت تلعب في الشرفة أن وجهها المرسوم على كرتها الضائعة أصبح صديقًا لطفلة أخرى على هذا النحو؟ .. يجب أن يحدث لقاء بينهما إذن .. ما الذي يمكن أن يجمع بين طفلتين غريبتين عن بعضهما؟ .. فكرت في استثمار فكرة “التشارك” ولكن بشكل آخر، جماعي، يتيح لهذا اللقاء أن يحدث من خلاله، وفي نفس الوقت يشير إلى الجوهر الأشمل لهذه الفكرة .. الجوهر الذي يتجاوز المنح المباشر إلى التضامن في الألم، غير المقيّد بالحدود الشخصية أو بحواجز المكان والزمن .. كأن هذه التجربة تمثل انتباهًا عمليًا للطفلة صاحبة الكرة بأن بوسعها أن تفعل شيئًا يلوذ به شخص آخر في مكان بعيد عنها، وفي زمن غير متعيّن، ودون أن يكون لها أي معرفة به .. هكذا نشأت فكرة الزيارة التي تقوم بها معلمة المدرسة بصحبة مجموعة من التلاميذ إلى بيوت يحتاج ساكنوها، خصوصًا من الأطفال، إلى هذا التشارك، وحينئذ سيمكن لهذه الطفلة الشغوفة بالعطاء أن تعثر على الطفلة الأخرى التي حُرمت من أبيها داخل أحد هذه البيوت .. سيمكن لها أن تدرك بأن وجهها المرسوم على كرتها الملوّنة كان صديقًا لهذه الطفلة .. أن ملامحها كانت رفيقة الطفلة التي لا تستطيع الكلام في ليالي الفقد .. سيمكن لهذه الطفلة أن تدرك بأن الهواء الذي أطاح بكرتها من الشرفة لم يكن شريرًا، لأنه لم يكن هواءً شتويًا وحسب وإنما كان خيالها الذي يريد أن يصل كروح طيبة إلى كل من يحتاج إلى مساندته.

بالعودة إلى البداية، أي إلى الحدث الواقعي الذي نتج عنه كتابة قصتي “الهواء الطيب” يجدر القول بأن الشتاء نفسه بالنسبة لي وتحديدًا عند سقوط المطر هو عزاء الطفولة .. الكرة الملوّنة في الشارع الخالي كانت في هذه اللحظة تمثيلًا لكل ما ضاع مني أثناء اللعب فأدركت بأنني لم أكن أمتلكه .. كل ما كافح خيالي لتحويله من فقدان إلى مواساة من نفسي إلى نفسي، ومن نفسي إلى آخر لا أعرفه .. لهذا، حينما تخيلت الرجل العابر يلتقط الكرة ويعود بها إلى طفلته؛ فإنني كنت أخلق المشهد الذي تمنيت أن يحدث، المناقض لما حدث بالفعل .. كنت ألخص حياتي، التي لا تسترد ما يضيع، وإنما تبحث عنه في ذات أخرى، طفل آخر يُحتمل أن يستعيدني من غياب أزلي.

نبوءتي الكامنة في نهايتك

الأطفال يحاولون تجربة كل شيء كلعبة، وأنا كنت أحاول تجربة كل شيء كاسترضاء .. خطر في ذهني أن أسير وراءك داخل البيت .. في أي مكان تتحرك إليه .. هل كان الوعي بالسوء الذي تجثم به على حياتنا منعدمًا أم ضبابيًا أم ساطعًا؟ .. هل فعلت ذلك عن غفلة أم حيرة أم خوف؟ .. ربما حدث ذلك في إحدى الفترات القصيرة النادرة التي كانت الأمور تبدو خلالها ظاهريًا على ما يرام، أو على الأقل في حالة تعطيل مؤقت للشرور الروتينية: تتحدث مع الجميع بشكل عادي نسبيًا – عدا شقيقتك الكبرى – لا تصيح ولا تشتم ولا تفتح المطواة ولا تصفع الأبواب ولا تحطم الأشياء .. تشاركنا كعائلة لحظات من الحميمية التقليدية كالفرجة على فيلم السهرة أو الخروج للتنزه أو الاحتفال بمناسبة ما .. كان هذا نادرًا جدًا، وربما تركزت أغلب تلك اللحظات في مرحلة مبكرة من طفولتي .. المرحلة التي ربما ينسجم معها قراري أن أمشي وراءك طول الوقت .. لم أفكر أن أفعل ذلك مع شخص آخر داخل البيت أي مع مخاطرة أقل .. قررت أن أفعل ذلك معك أنت .. ظللت أتبعك من الصالون إلى الصالة إلى المطبخ ثم إلى الصالة ثانية، وعندما وصلت إلى عتبة حجرتك جاءت استجابتك حاسمة .. التفت نحوي ونظرت بملامحك المتجهمة لأسفل حيث عيني اللتين تترقبان رد فعلك ،وبنبرة حادة وتحذيرية، عالية قليلًا سألتني: “انت لازق في طيظي ليه؟” …

تجربة لم تستمر إلا لثوان معدودة، انتهت بصدمة لم أضحك عليها إلا بعد مرور زمن طويل .. حينما بدأت أنا الآخر في استخدام كلمة “طيظ” في عبارات تمزج بين السخرية والغضب .. كنت شخصًا يسهل عليه بالطبع استعمال تلك المفردات وهو يخاطب طفلًا صغيرًا، أما أنا فلم أتوقف عند الاستفهام التوبيخي نفسه بقدر مواجهتي لما يشبه يقظة غريبة .. إفاقة مباغتة من شرود غير منطقي على حقيقة أنه ما كان يجب حقًا أن أتبعك .. كأنني انتبهت بشكل مفاجئ، وكنبوءة مراوغة، على ما سيصير إليه زمنك القصير اللاحق لتلك اللحظة.. كأن مصيرك قد تكشّف بطريقة غامضة أمام بصيرتي الطفولية، وكان يجب حينئذ أن أوقن بحتمية الابتعاد عن طريقك تفاديًا لتلك النهاية المأساوية التي تخاتلت في عينيك وأنت تنهرني عن الالتصاق بطيظك .. كأنما كنت تربد أن تنقذني بطريقتك المعهودة.

توقفت عن المشي وراءك طوال ما تبقى من حياتك، ولسنوات كثيرة جدًا بعد موتك .. حاولت التحرك في مسارات بعيدة عن تلك التي تركت خطواتك أثرًا دامغًا للهلاك في عتمتها .. كنت أتصور ذلك .. لكن الحقيقة أنني منذ ذلك اليوم البعيد في طفولتي ظللت أدور في مدارات فنائك .. أتوهم الابتعاد عن قبرك، ولكن كانت هذه المدارات تقربني إليه أكثر .. ببطء تام وعماء خالص .. لم أتوقف عن محاولة استرضاء جحيمك دون أن أشعر .. الاسترضاء الذي سيصبح لعبة طفولية لاختبار الموت بعدما أدركت في الأربعين من عمري أن قدمي الصغيرتين كانتا في باطن خطواتك .. أنني كنت أعيش هلاكك نفسه بمظهر مختلف ولمسافة مغايرة من الوقت .. بعدما أدركت أنني كنت أتبع نبوءتي الكامنة في نهايتك.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

السبت، 9 سبتمبر 2023

محاضرة في المطر: مسودات الغضب

في روايته “محاضرة في المطر” الصادرة عن منشورات تكوين بترجمة مارك جمال يقدم الكاتب المكسيكي خوان بيورو خلخلة لـ “مفهوم المحاضرة”، سواء على مستوى فضائها المكاني أو ذات “المُحاضِر” أو بنية المحاضرة نفسها. تعمل هذه الخلخلة على إزاحة الأصل المفترض للمحاضرة ـ أيًا يكن التصوّر الذي يحدده ـ وكذلك الغاية التي يجدر أن تنتهي إليها، أو ما يمكن أن يكون مقصدًا مصيريًا وحاسمًا لها.

“يقرأ للحظات، ويبتعد عن الصفحات للحظات، فلا يبدو عليه أنه يجهل فحواها وحسب، بل يبدو وكأنه يعيبها أيضًا. وعلى المكتب، تتجلى في بعض التفاصيل مظاهر الاستخدام الشخصي غير المعهودة في مُحاضِر يلقي محاضرته على الملأ. ربما كانت هناك كرة تنس يتلهَّى بها المُحاضِر، أضف إلى ذلك فأرًا يعمل بالزنبرك، وبضع قطع من الكعك. أما حضور تلك العناصر المنزلية، الذي يبعث على الحيرة في البدء، فيعزز المغزى النهائي الذي تنطوي عليه الحجرة، ما يسري بالمثل على ثياب المُحاضِر، الثياب التي لا تليق بلقاء عام على نحوٍ ما”.

تنزع هذه الخلخلة بالضرورة اليقين عن “المخاطب إليه”، أي من تتوجه إليه المحاضرة؛ فيصبح احتمالًا متعددًا ومتغيرًا داخل الذات “المتصدعة” للمُحاضِر من قبل أن يكون “آخر” مجسدًا في مواجهته. بذلك تتحوّل “المحاضرة في المطر” إلى “المطر الذي يحاول أن يتكلم / يكتب” نفسه بعد “استرداد” المحاضرة لطبيعة المطر نتيجة هذه الخلخلة. تصبح المحاضرة في حالة محو مستمرة لصالح “المطر”.

“(المُحاضِر): لقد أضعتُ الأوراق! (يقلِّب الصفحات). أجل، لقد أضعت المحاضرة. أطلب المعذرة. إن فقد المرء أوراقه، فقد وقاره. لا أدري ما الذي يجري لي. إن حياتي كلها تدور حول النظام، فأنا أشتغل في ترتيب مكتبة، وعلى الرغم من ذلك، تنسل الأشياء من بين يديّ”.

إن عدم ملاءمة التفاصيل المكانية لطقس “المحاضرة”، كما يتطلب المشهد التقليدي لإلقائها، لا يعني فقط الإمكانية غير المحدودة لاستبدال المكان، وإنما الإيحاء أيضًا بأن “المحاضرة” في صورتها “التخريبية” تحديدًا هي التي تخلق مكانها. تكتشف باستمرار الأنقاض الجمالية للمكان مثلما تكتشف الأشلاء المعرفية للمُحاضِر ذاته وراء المظهر النمطي للمحاضرة. “ضياع المحاضرة” إذن أو “تضييعها” هو إغواء دائم لتخطي “الشكل المستقر” نحو الحضور المرتجل أو “الوهم الطائش للحضور” الكامن في أغوار ما هو “طبيعي” و”لائق” و”متزن”، والذي تتوحد وتتجادل من خلاله أنقاض المكان بأشلاء المُحاضِر بفعل “كتابة” المحاضرة لنفسها. الكتابة التي تفكك نفسها بما ينسجم مع كونها “مطرًا”.

“لم أفكر في قراءة محتوى الأوراق، وإنما الارتجال مستعينًا على ذلك بالمسودة. فأنا في حاجة إلى تدوين الترتيب الذي أسرد به الموضوعات، والاقتباسات، والأسماء المراوِغة”.

أي علاقة تربط بين “إزاحة الأصل والغاية” للمحاضرة وبين “ألم الغاضبين” الذي كان يتأمله دانتي: “أصحاب الطباع الحادة العالقين في سريرة النفس”، والذين يرى “المُحاضِر” فيهم ذاته إلى حد بعيد؟ إنه ذلك الغضب الذي لا يكتفي برفض حكمة الأصل وإنما يتجاوزه نحو الانتقام من هيمنتها. الذي لا يقنع بعدم الاعتراف بالغاية القدرية وإنما يتعداه إلى الثأر من إكراهاتها. “المطر! الكائن الحر قادر على تغيير السماء”، هكذا تبدو المحاضرة في “تمزقها” نوعًا من المجابهة الساخرة لما يكوّن “الأصل” و”الغاية”. للمبررات والإلزامات المحصنة بالقداسة التي تُشكل “البداية” و”النهاية”. لما يختبئ وراء كل البدايات والنهايات.

“(يتوجّه المُحاضِر بالحديث إلى أحد الحضور). من أكون في نظر ذلك الشارد الذي يسعى إلى الاحتماء من المطر بجريدة، فيصل إلى القاعة وقد التصق شطر من الملحق الرياضي بوجنته؟ إنه لا يعرفني، ولا يهتم بالموضوعات التي أطرحها، ولكن حتى ذلك الشخص قد ينشأ بيني وبينه رابط ما”.

المخاطب إليه أو “الاحتمال” داخل ذات “المُحاضِر” ليس شخصًا مٌتعيّنًا قابلًا للتبدل إلى شخص آخر يتسم بـ “واقعية” ما، ولكنه بالأحرى الأشباح المتعددة والمراوغة داخل هذا المتعيّن. الأشباح التي لا تتمثل حسيًا وتُشكّل العتمة الباطنية لـ “المُحاضِر” التي يحاول تقويضها.

“(يشرب ماء). إن حيلة المُحاضِر الكبرى: أن يشرب الماء. الأمر الذي يُظهِر أنه ممسك بزمام الموقف، كما يُشعره بالارتياح. وربما لجأ المُحاضِر إلى الوقفة أيضًا.

يُلاحظ أن خوان بيورو يدفع “المُحاضِر” للحديث والحركة كما لو أنه ـ ظاهريًا ـ يسعى لإلقاء محاضرة حقيقية. يطارد السيطرة، ويؤدي الحيل المألوفة لبلوغها، كما يراوده الأسى والارتباك أمام العثرات الرابضة في طريق كلماته؛ لكن ذلك يبدو تقمصًا هازئًا لصفة “راعي المتن” التي لا يتوقف من ورائها عن هدم رصانته وبعثرة دمائه.

“لعلك تتساءل عمّا إذا كانت فكرة تأليف كتاب قد أغوتني، وعمّا إذا كنت أرغب في الانتماء بدوري إلى ذلك المتحور الراقي من الثدييات: أي المؤلف. كلا البتة! لست في حاجة إلى وسم كتاب باسمي، كما توسم الأغنام المنساقة إلى المجزر”.

“المحاضرة” ـ بهذه الكيفية ـ هي ما يضمن للصفحات أن تبقى مطرًا فعليًا، وليس “مطرًا مجازيًا” بين دفتي كتاب. “إن العالم قائم على قيد الوجود حتى يصير كتابًا”. يستند “المُحاضِر” إلى مقولة مالارميه في شرح سبب رفضه لأن يقترن اسمه بكتاب. “إن كل ما يحيط بنا كتاب، والمكتبة نبذة توجزه للقارئ”. ربما يرى في ذلك الطريقة الأنسب للانغماس في تصدعه، للعب بهذا التصدع، لاستعماله كطريقة مُثلى لمخاطبة الأشباح اللاهية في أعماقه. لتحريض الأشباح على مخاطبته. مازلنا بالطبع نتحدث عن “الغضب”.

“بالمطر يتحرر الشعراء من العالم، ويثيرون في النفوس شجنًا هيّنًا على النفس، يليق بيوم غائم، حين لا تُعتبر حتى أسوأ الأشياء مروّعة تمامًا. هكذا يتخيّل الشاعر ثيسار بايّيخو أنفاسه الأخيرة: “سأموت في باريس تحت وابل من المطر، في يوم تحضرني ذكراه قبل أن يجيء”. جميل هو الحزن الذي يمكن تذكّره. والشاعر يستبق نهايته وكأنها شيء قد لقيه في ما مضى، بل ويذكره أيضًا، ذات خميس، تحت المطر. إنه الخيال السامي”.

هل يمكن عزل ما يُعد جوهرًا “رومانسيًا” ربما للمطر عن كونه “تفكيكًا وتناثرًا” للكلمات / الجسد / العالم أو لـ “الحضور المتوهم”؟ ربما يكمن سر هذا الاستفهام في محاولة الإجابة على تساؤل آخر: إلى أي مدى يمكن للشعور بـ “الشجن الهيّن على النفس” أن يصمد؟ الشعور الناجم عن المطر “حين لا تُعتبر حتى أسوأ الأشياء مروعة تمامًا”. هكذا تُعيد “المحاضرة” تعريف “الرومانسية” بشكل مناقض، يعتمد على عدم الاستسلام لها. ليس هناك ما يضمن لـ “الشجن” أن يبقى مروّضًا لحظة أن نكون “مطرًا”، حتى لو كان “مطرًا مائلًا لا يُفسد شيئًا” كما كان يحب فرناندو بيسوا. ليس هناك ما يضمن أن تبقى أسوأ الأشياء “غير مروّعة تمامًا” حين نتحوّل إلى ما يُسمّى بـ “الخيال السامي”. إن “اليوم الغائم” قد يتيح لنا ـ ببساطة ـ أن نشعر ونفكر ونفعل أي شيء ممكن، فقط ثمة ذاكرة حينئذ إما أنها هنا أو عالقة في الغياب. ذاكرة “الخلخلة” التي ربما ليس بوسعها أن تسمح أو تمنع، ولكنها تمثل حال وميضها انتباهًا شاحبًا إلى أننا مجرد “محو لما لم يوجد أصلًا”. أن المطر دليل دامغ لذلك. بهذا تأمن رومانسية “اليوم الغائم” من التهديد والنبذ. حين تكون مضادة لوعدها بأن تكون أمانًا أو شيئًا منه. حين تُقيّد “غيبيتها”.

“قلّما تفوّق شيء على استسلام المرأة التي أمضت يومها كاملًا بمزاج عكر. إنها مرتبة عليا من مراتب النصر، كأن يكتشف المرء واحة بعد أن قطع الصحراء. وهكذا كانت سوليداد تترك في نفسي ذلك الأثر المتباين: اللذة المؤجلة طويلًا، شبه المستحيلة، النابعة من مزاجها شديد السوء”.

عندما نفكر في الغضب تجاه الأصل والغاية فنحن نفكر بالتالي في الشبق الوحشي للاستحواذ الشامل على النقائض الذي يكوّن الغاضب، خاصة لما يُعد مستحيلًا وعسيرًا وبالغ العناد والغرابة كاستعادة المُحاضِر لأبيه بصورة “حقيقية” خارج الظلام، متخلصًا من الكراهية والفناء. للامتلاك المطلق كقرين للانتقام من الحكمة. كأنها الغريزة الكلية لدى الغاضب في خلق قدر تدميري لـ “القدر”. القبض على النشوة الإعجازية التي تستبعد ما يتأسس عليه ويعنيه ويُحتّمه “القدر”.

“لم أتمكن من رؤية وجهه، حتى وإن ألفت عيناي الظلام. ربما كان السبب في ذلك خوفي من رؤية أمارات الكراهية والإحباط بادية على وجهه. أحيانًا أفكر في أن ذلك الوجه الذي عجزت عن رؤيته، وأردت الهرب منه، كامن في جميع الكتب التي قرأتها… وجه أبي الذي كره الآخرين، وكره نفسه أكثر من كل من عداه، من دون أن يدري ما العمل ولا إلى أين الذهاب، وهو الغارق في المطبخ، بينما أسرته مستغرقة في النوم. لا تحدثت إلى أبي يومًا، ولا عرفت كيف أتحدث إليه”.

لكن الاستحواذ ليس مُدرَكًا لدى الغاضب، ولا ينبغي أن يكون كذلك. إنه كفاح “سيزيفي” يدمج بين الإيمان والإنكار ويتجاوزهما. ذلك ما يجعل “الشبق الوحشي للاستحواذ على النقائض” مطرًا. تأرجحًا تهكميًا ومأساويًا بين الأفكار والتدابير والمحاولات والمشاعر والمسودات. ذلك ما يجعل تشريح العجز عن الامتلاك المطلق هو “الانتقام الفعلي” من الحكمة. كأن “القدر التدميري” غير القادر على التجسد يستهدف ذات الغاضب، باعتبار أن هذه الذات هي “القدر الذي لا ينتمي إليه الغاضب”. ما ينتجه الفشل في القبض على “النشوة الإعجازية التي تستبعد ما يتأسس عليه ويحتّمه القدر” هو الشرود الجمالي الذي لا يستعبده “الجمال”. فوضى الفكر التي تراوغ نظامه المنشود. ما ينتجه هذا الفشل هو الأحلام. الشذرات الخاطفة، بكامل حميميتها الاستثنائية وعذابها المتفرد، كـ “مطر” يخط احتضارًا غامضًا لحياته التي لم تحدث.

“لم يكن صمت سوليداد شديد الوطأة، وما كان يجب كسر ذلك الصمت. “تروقينني متى سكتِّ، إذ تصبحين كالغائبة” … مرة أخرى، نيرودا. كانت الحياة عند نيرودا غرَق المرء في ذاته. أحتفط بذكريات طيبة تركتها سوليداد، ولكن الفأر قد قرّب كلًا منا إلى الآخر بطريقة خاطئة”.

هل تصلح الاقتباسات التي “أحرق المُحاضِر أهدابه” بحثًا عنها كثأر؟ كبدائل للثأر؟ أتحدث عن الهيمنة الكونية المجهولة التي سُلبَت من المُحاضِر قبل ولادته فأصبح خاضعًا للموت. كل استدعاء للاقتباس هو كتابة مختلفة له، طريقة “لغوية” محتملة لـ “تغيير السماء” بما يمتلكه المطر من قدرة على ذلك. مراقبة للتمزق. تفحص ما يحيل إليه “التغيير”. السماء لا “تتغير” إلا حين يساهم الاقتباس في حفل السخرية الذاتي بين الولادة والموت. هكذا يُنظر للثأر كبصمة هازئة، عادلة، حُرم صاحبها من “الغيب”؛ فقرر ألا يكون “مؤقتًا” وحسب، بل أن يستعمل جحيمه العابر في انتهاك ما يختبئ وراء كل البدايات والنهايات.

“أما لاورا فجرّعتني عقابًا راقيًا، عذابًا شهيًا، لا يُحتمل، عذاب السعادة المنقوصة دومًا. أذاقتني لذة اسثنائية، ولكنها منقوصة دائمًا. في حين قنعت هي بذلك”.

“أصابت في قولها: فلقد أردت امتلاك حكاياتها”.

“كانت إحدى النوافذ مضاءة. إنها نافذة القدر. أيملك أحدهم مقاومة بريق مؤطر في الظلام؟ لك أن تتخيّل ما فعلت: ألقيت نظرة حيث لا يجدر بي ذلك. فرأيت أسوأ ما يمكن رؤيته: كانت لاورا سعيدة بعيدة عني”.

المطر لا يُنظر له وإنما يُسترَق النظر إليه مهما بلغت حدة التحديق في ما يبدو تجليًا ناصعًا لانهماره. ما تضمره وما يتنكر وما يخفى عنك من نفسك. ما تحدس به وما تحفر داخلك لانتزاعه وما تتبينه فجأة في روحك. أنت ومسودات غضبك التي تغرق فيها، بالرجوع إلى اقتباس كورتاثار: “أنت لا تختار دفقة المطر التي سوف تغرق فيها حتى أذنيك”. القلب ودموعه عند استرجاع اقتباس آخر للشاعر فرلان: “يذرف قلبي الدموع كما ينهمر المطر في المدينة”. المتلصص والنافذة وما يبقى ضبابيًا مخاتلًا دائمًا ورائها فلا يمكن امتلاكه. المطر هو أنت والقط والفأر والمطاردة التي لا تكشف سرًا مهما كشفت.

أخبار الأدب

2 سبتمبر 2023