الثلاثاء، 30 مايو 2017

التلصص

يرن جرس الباب .. أنظر من العين السحرية فأجد شابًا وفتاة يقبلان بعضهما .. أتصوّر لوهلة أنني وصلت إلى مرحلة الهلاوس، لكن الفتاة التي تحمل أوراقًا وقلمًا تُبعد شفتيها عن فم الشاب ثم تومئ بقلق نحو الباب .. ترفع يدها وترن الجرس مجددًا .. ينتظر الشاب الذي يحمل (تابلت) للحظات ثم يمد يده ويقرص ثديها الأيسر من فوق البلوزة .. ترتسم صرخة صامتة على وجهها وهي تتراجع بفزع سنتيمترات قليلة، قبل أن ترفع إصبعها الصغير لتحذره بابتسامة لائمة .. أسمع الشاب يقول لها بسرور شبق: (الظاهر محدش هنا).
يعطيا ظهريهما للباب .. يمد يده ويمسك مؤخرتها فتُبعدها كف الفتاة بطريقة (كفاية مش وقته) .. ترفع يدها وتضغط جرس الشقة المقابلة .. يفتح جاري الباب لهما .. أسمع الفتاة تقول له:
(مساء الخير يا فندم .. إحنا مندوبين التعداد السكاني، وكنا عايزين ناخد شوية بيانات من حضرتك).
أوقن بأن الشاب ينتظر بفارغ الصبر الانتهاء من تدوين المعلومات التي يبلغهما جاري بها عن أسرته كي يتمكن أثناء انصرافهما من اختلاس قبلة أو لمسة أو قرصة أخرى من جسد الفتاة .. يغلق جاري باب شقته .. تتحرك الفتاة لتنزل السلالم نحو المساحة الصغيرة التي تفصل بينها والسلالم الأخرى المؤدية للدور التالي .. يتبعها الشاب الملاصق لظهرها بلهفة سعيدة .. يتوقفان هناك .. لكنني لم أعد أرى سوى جزء تافه من ظهر الفتاة في أقصى زاوية العين السحرية .. يتقدم هذا الجزء نحو مركز العين بشكل طفيف جدًا عندما يميل جسد الفتاة للخلف ثم يعود فورًا إلى وضعيته السابقة قبل اكتمال المشهد .. أستنتج أنهما يقبلان بعضهما الآن قبلة طويلة داخل هذا الركن المنزوي من السلالم، وأن يد الشاب ربما تحاول أن تسرق أقصى ما تستطيع من الأسرار الناعمة قبل انتهاء هذه اللحظات .. يختفي ظهر الفتاة بالكامل، ثم أسمع صوت أقدامهما وهي تنزل السلالم ليعود السكون تدريجيًا.
أتحرّك من وراء الباب .. أجلس فوق كرسي الصالة مرتجفًا .. أحاول وضع رأسي الدائخ بين كفيّ، لكن دقات قلبي القوية والمتلاحقة تمنعني من الثبات .. أنهض، ثم أدور بأنفاس مختنقة حول نفسي، غير قادر على الوصول إلى حل مضمون .. كانت زوجتي داخل حجرة النوم، ممددة فوق السرير، والدماء تواصل التدفق من قلبها حيث السكين التي تحمل بصماتي لا تزال مغمدة داخله.

الثلاثاء، 23 مايو 2017

النظر إلى المسيح

ها أنا أكتب عنكِ مرة أخرى، وهذا ما يجعلني مترددًا في استخدام نفس المعرفة التي تعوّدت أن أُشكّلك من خلالها في كل قصة، رغم أنني أدرك جيدًا أن البحث عن بدائل لها ليس أكثر من مضيعة للوقت .. هل تتصورين؛ فكّرت أن أطلب من القارئ أن يعود إلى قصصي السابقة التي كتبتها عنكِ للتعرّف على هويتك التي لم تتغير، تفاديًا للتكرار .. مر هذا الخاطر في ذهني أولا كدعابة ثم تحوّل بالتدريج، وبلذة من سحر الاكتشاف إلى فكرة جادة، بل وإلى أكثر الحلول نباهة وحسمًا لهذا المأزق البسيط .. على هذا يمكنك ـ عزيزي القارئ ـ الرجوع إلى قصص (شعيرات بيضاء)، (اللعب بالفقاعات)، (قتل فرويد)، (القيمة الروحية)، (الحجرة التي بجوار سليمان الصايغ)، (Xvideos)، إذا ما أردت أن تلمس وجه المرأة التي أخاطبها الآن .. ربما عليك أن تفكر أيضًا في أن هذا ليس إلا حجة خبيثة كي أحرّضك على العودة إلى هذه القصص.
هل تتذكرين ليلة أن علّقت لوحة صلب المسيح فوق حائط الصالون؟ .. ناديتِ أمكِ كي تشاركك إشباع حاجتك للثأر بالصراخ في وجهي بعد ارتكابي هذا الإثم البشع الذي انتهك قداسة بيت مسلم .. لحظتها قررت السخرية منكما، ورفضت إزالة اللوحة من فوق الحائط إلا إذا قلتما لي ما هي دلالة الزاوية العلوية التي رسم سلفادور دالي المسيح منها .. تركتما الحجرة كطفلتين نزقتين، تحاولان ملأ هواء العالم باللعنات المحذرة من الانتقام الإلهي، بينما ظلت ضحكاتي تودعكما، وتبارك دماءكما المشتعلة، قبل أن تغلق الباب وراءكما، وبقي المسيح مصلوبًا فوق الحائط.
هل تتذكرين؟ .. في اليوم التالي جاءت إبنة خالة أمكِ لزيارتكما، وبمجرد عبورها من باب الشقة، وقبل أن تُكمل الطريق نحو حجرة المعيشة طلبتِ منها دخول الصالون، ثم أضأتِ مصابيح النجفة الساطعة، وقلتِ لها بابتسامة متعالية، ونبرة مُحاضِر في تاريخ الفن:
(أنظري إلى هذه اللوحة .. هل ترين كيف يبدو المسيح المصلوب؟ .. هل تعرفين لماذا اختار الرسّام هذه الزاوية لرسمه؟ .. هذه الزاوية لها معنى عميق جدًا).
ثم خرجتِ بها من الصالون، بعد أن ظلت المرأة تهز رأسها في صمت مذهول ومتوجس، وذهبتما إلى حجرة المعيشة، دون أن تعرفي أنني كنت واقفًا وراء ستارة المطبخ التي تكشف المشهد بأكمله؛ أشاهد وأستمع، ويكاد يُغشى عليّ من الضحك الذي أحاول كتمانه بعناءٍ هائل .. بعد مغادرة قريبتنا دخلتِ مع أمكِ إلى حجرة الصالون، لتطلبا مني ثانية إزالة اللوحة بنفس الصرخات واللعنات المحذرة، لكنني ظللت متمسكًا بأن تخبراني أولاً بـ (المعنى العميق) للزاوية التي رسم دالي المسيح منها.
هل تصدقين؟! .. مرت عشرون سنة .. صرنا عجوزين بفارق سبعة عشر عامًا بين يومي ميلاد كلٍ منا .. لم أعد أعيش هنا منذ زمن طويل في حين بقيتِ أنتِ وحدكِ .. أخذت معي إلى البيت الآخر لوحة المسيح، ولكنني لم أعلقها .. وضعتها داخل أحد الصناديق الكارتونية التي لا أفتحها إلا نادرًا .. في نفس مكانها على حائط الصالون عُلقَت صور أبوينا وشقيقينا بترتيب موتهم .. أزورك مرة واحدة في الأسبوع، ومع ذلك لا نجد كلامًا نقوله .. نتبادل أحيانًا حصيلة فقيرة من الحكايات المروّضة، ندعي أنها (آخر أخبارنا) .. نستعيد الذكريات الحذرة، التي لا تنتمي إلى حروبنا القديمة أحيانًا أخرى .. لكننا نظل صامتين معظم الوقت .. أنا أفكر في الصورة الجديدة التي ستضاف إلى حائط الصالون، بينما مازلتِ تفكرين في دلالة الزاوية  العلوية التي رسم سلفادور دالي المسيح منها.

الأحد، 14 مايو 2017

وأنا أتحدث إليك

كان يجب أن يكون عجوزًا مشردًا مثلا، يهيم في الشوارع كخلاصة مزعجة لقذارة العالم .. لكنه للأسف لم يكن كذلك .. كان يمتلك مظهرًا مناقضًا تمامًا، ولا شك أن هذا الاعتداء كان أشد عنفًا تجاه البشر مما لو كانوا يشاهدونه بشعر أشعث، وعينين زائغتين، ووجه نحيف، نحتت الأوساخ المتراكمة عبر الزمن خمود ملامحه، ولحية كثيفة بيضاء، وثياب رثة .. الخصائص التقليدية الحاسمة التي يفتقدها، والتي غالبًا ما تثير استجابات روتينية أقل كلفة: ابتسامة السخرية التي تتطور أحيانًا إلى ضحك، أو تترجم إلى كلمات .. الإشاحة العفوية للوجه، الذي درّبه التعوّد جيدًا على عدم الاهتمام .. الشفقة الطارئة كفقاعة تتبدد مع نهاية النظرة .. كيف لرجل مثله، لا يزال في الحقبة الشابة من منتصف العمر، شعره الناعم مصفوف بعناية فائقة، ولديه عينان متزنتان، ووجه أبيض بخدين ممتلئين ومنعّمين، ويرتدي ملابس أنيقة، كما يشع من نظافته المثالية عطر أخّاذ؛ كيف له أن يمشي في الشوارع ويكلّم شخصًا غير موجود؟! .. كيف لرجل مثله أن يسير بين الناس كأنه برفقة صديق؛ يحكي له، ويضحك معه، ويقف في بعض الأحيان ليشير بيده السمينة إلى أماكن متوهمة، ويقول له مثلا:
(أنظر .. لا يزال المقهى كما هو، وإن أصبح زبائنه أقل بكثير بعد أن أطلق صاحبه لحيته، ومنع الشيشة والطاولة والدومينو .. أنت تعرف أن حالته العقلية كانت مهيأة لذلك منذ زمن طويل "يضحك" .. لكن كما ترى؛ دكان الترزي بجوار المقهى لم يعد كذلك بعد أن مات الأب، وقرر الإبن تحويله إلى سوبر ماركت .. بالمناسبة .. هل تعرف شيئًا عن ابن مالك مخزن الأخشاب المغلق هذا؟ .. ألم يدخل المصحة للعلاج من الإدمان؟ .. هناك من يقول أنه لا يزال نزيلا فيها، وهناك من يقول أنه غادرها، ويستعد لتحويل المخزن إلى محل لبيع التحف والأنتيكات .. "يلتفت إلى الجهة المقابلة" .. أتذكر بائعة الفاكهة التي تسكن في هذه الحارة، والتي تجاوزت شهرتها حدود الشارع والمدينة أيضًا؟ .. لا أعرف ما الذي كان يجذبك إليها .. كانت دائمًا تصيبني بالغثيان .. تنقّلت صاحبتك من بيع الفاكهة إلى بيع الملابس المستعملة ثم إلى بيع البليلة والأرز باللبن، والآن تبيع السمك، ومازالت تؤكد حتى الآن أنها توقفت عن بيع الحب ...)؟!
يعاود المشي بخطوات مائلة على نحو طفيف للداخل، كأن جسده يريد أن يُشكّل مع جسد الصديق غير المرئي قوسين لاحتواء الكلام والضحك بينهما .. يحدّق الناس فيه بدهشة واجمة .. يجبر الاستغراب العابس بعضهم على التوقف .. على محاولة استدعاء الابتسامات المألوفة .. لكن لا شيء سوى ثقل الحسرة .. الشفقة المتوجسة التي تحرّك الأقدام بعيدًا فيما يشبه النزاع بين إلحاح الهروب، والرغبة في الانتظار ومواصلة التمعّن رجاءً لمعرفة نهاية ما للمشهد .. لكن لا أحد في الحقيقة يبلغ هذه المرحلة .. لا أحد يواصل تتبع الرجل حتى النقطة الأخيرة في الرحلة اليومية، أو ما تبدو ظاهريًا كذلك .. فالرجل يتوقف فجأة عن كل ما يفعله ثم يبدأ في المشي كشخص وحيد، ليس برفقته أحد، وبسرعة الخطو غير المتمهل، اللائقة بهذه الفردية غير المتوقعة .. في هذه اللحظة تموت أي فكرة للاستمرار في المراقبة .. فقط يزداد الطغيان الحاد للتعجب .. يصبح أكثر وحشة وإرباكًا نتيجة تحوّل يبدو هزليًا أو منطويًا على خدعة ما بهذا الاسترداد المباغت للعقلانية .. كيف لرجل مثله ظل يخاطب شخصًا خياليًا ويضحك معه أن يصبح إنسانًا سليم الإدراك فجأة، وأن يمشي صامتًا  كما يلزم المنطق؟!.
لكنك تستطيع أن تعرف الحقيقة لو تغاضيت قليلًا عن سير الرجل وحيدًا، وانتبهت إلى الأسى المكتوم في ملامحه أثناء مشيه الصامت، مطرق الرأس، بسرعة العائد من لقاء .. تستطيع أن تعرف الحقيقة لو تصادف أن تكون بجواره حينما ينزل من بيته، وبما يكفي لأن تسمعه .. ذلك لأن الرجل بعد لحظات قليلة من خروجه إلى الشارع كل يوم يلتفت بشكل مباغت إلى هذا الشخص غير المرئي، ويقول له بعتاب متسامح: (هل يصح أن تتركني فجأة أمس وأنا أتحدث إليك؟).
اللوحة لـ Constantin chatov

الأربعاء، 10 مايو 2017

السَفَر

في محطة الحافلات، وانتظارًا لاكتمال الركاب في المقاعد الشاغرة؛ تجلس الطفلة الصغيرة داخل الحافلة .. تتأمل عبر الشباك الزجاجي عجوزًا جالسة فوق رصيف المحطة وتبكي .. في عيني الطفلة استفهامات شاردة: لماذا تبكي هذه العجوز؟ .. هل أحزنها أحد؟ .. هل تحتاج إلى نقود؟ .. هل هي مريضة؟ .. هل تاهت؟ .. هل ضاع منها شيء؟ .. هل ستتوقف عن البكاء لو ربت شخص ما على كتفها الآن؟ .. هل من الممكن بعد قليل أن تصبح بخير؟ .. بجوار الطفلة الصغيرة يجلس رجل .. لا يتطلع إلى العجوز بقدر ما ينظر في عيني الطفلة اللتين تتأملان العجوز .. تنتبه الطفلة الصغيرة إلى نظرة الرجل إليها فتبتسم ثم تبعد وجهها لتثبّت عينيها للأمام بين العجوز وبينه .. يسمع الرجل صوت محرّك الحافلة يدور إشارةً لاكتمال الركاب في المقاعد الشاغرة .. شيء غامض وثقيل يتكوّن وينمو داخل الرجل، يريد أن يصعد إلى لسانه مع بدء تحرك الحافلة .. شيء يريده أن يطلب من السائق أن ينتظر.

الاثنين، 8 مايو 2017

الإنسان المؤجّل

ماذا لو تم تجسيد النقصان في العلامات غير الوافية، أو تحت المحو بتعبير (دريدا)؟. هل من الممكن أن تتحوّل الآثار ذات الحضور المتصدع إلى أجسام بشرية؟. ماذا لو تمثل إرجاء المعنى في ذات إنسانية من الدوال المتغيرة؟. تحاول قصة (الخروج دون حفظ) لـ (روث نستفولد) اختبار هذه الاستفهامات في إطار لا يبدو (خياليًا) جدًا بقدر ما هو مستند إلى (علم) قد يكون (مستقبليًا) حقًا. تمتلك اللحظة الراهنة أو (الثقب الزمني من اللاتاريخ) وفرة من البراهين التكنولوجية فضلا عن دوافع الخلخلة والانتهاك البنيوي ما قد يقلص الغرابة التنبؤية في هذه القصة التي ترجمتها (أميرة علي عبد الصادق) وصدرت عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، وهو الشعور الذي قام أدب الخيال العلمي على استهدافه. هذا الخفوت المحتمل للإحساس بالتصور الإعجازي لا يتعلق بـ (الخروج دون حفظ) فحسب، وإنما يستدعي أيضًا شكلا آخر من الانتباه نحو (الخيال) و(العلم) في ضوء التأثير الفلسفي لما بعد الحداثة. إذا كان من الممكن ـ على الأقل ـ التقاط (سيلفي) مع الموتى، والتحدث معهم، وبعث الرسائل الإلكترونية بعد الموت فإن هذا ربما يكون جديرًا ـ على الأقل أيضًا ـ باتخاذ سلوك عدائي تجاه ثنائية (الواقع والخيال)، وتخريب الأصول الميتافيزيقية لهذا التعارض، فضلا عن المراهنة على المغامرات التقويضية (توترات وتناقضات الفكر)، إنزياحًا عن (المعرفة الاستشرافية) كمركز تقليدي. إن ما يمكن أن تثبته قصة (الخروج دون حفظ) ـ إضافة لكل شيء ـ أن قلق الرؤية السردية ـ بالإلتفات المتواصل إلى ماضي الخيال العلمي ومع ما صارت إليه التقنيات الحديثة ـ بقدر ما أصبح هذا القلق أكثر استحقاقا للانشغال الآن، بقدر ما يعطي وعدًا بالاستجابة لأحلام الطبيعة العجائبية لـ (العلم) في المتن القصصي، وهو ما يمثل إعادة كتابة لتاريخ أدب الخيال العلمي.
بمساعدة صديقتها (لورين) فنية المختبر بشركة (سوفتيك) تستخدم (مالوري) وحدة التحكم الشكلي في تغيير مظهرها، الذي يفضي ـ بحسب ما تقصد ـ إلى التحرر من ذاتها وهويتها، والفرار إلى الشكل الذي تبغيه لتصير أي شخصية تريدها. كأنها تجسّد صيرورة الأدب عند (جيل دولوز) باعتبار الذات (كتابة) تقع في جهة اللاشكل أو عدم الاكتمال؛ فالكتابة (قضية صيرورة، هي دائمًا غير مكتملة، دائمًا بصدد التكوّن، وهي تتجاوز كل محتوى معيش ومُعانى، إنها حركة، أي معبر حياة يخترق المَعيش والمُعانى) "1". كأن (مالوري) تمثّل التناص باعتبار هويتها نصًا يقع ـ بحسب فرضية (باختين) ـ عند ملتقى مجموعة من  النصوص الأخرى؛ يعيد قراءتها ويؤكدها ويكثفها ويحولها ويعمقها في نفس الوقت.
تتحوّل (مالوري) من أنثى فشلت في علاقاتها العاطفية، إلى رجل لا يسعى وراء هذه العلاقات. تأخذ شكل أخيها (دان) الذي انفصل عن الأسرة ليعيش في الضواحي، وأكنّت له الحب ثم الحسد ثم الكراهية، وكان سببًا في تغيير (مالوري) لإسمها كي تقطع آخر رابط بوالديها اللذين أحبا أخيها أكثر منها. كانت تحتفظ بمشاعرها الأنثوية مقترنة بأحاسيس الرجل الذي صارت إليه، وهو ما يذكرنا بـ (إعادة خلق الأبوة الرمزية) عند (جوليا كريستيفا) أي مقاومة (الذات / اتحاد الذكوري والأنثوي) لاضطهاد المتعة والإبداع الأنثوي داخل الجسد الموحد، وهي الفكرة التي ستدعمها محاولة (إيثان) صديق (مالوري) الذي قطعت علاقتها به لمنعها من (التحوّل الشكلي)، كأنه يسعى بحسب تحليل (كريستيفا) لاحتجازها بحجة (حماية العري الأنثوي المقدس) خوفًا من أن تكون (ذاتًا) "2". تدفع هذه المتعة المزدوجة (مالوري) إلى التفكير في حماقة شركة (سوفتيك) التي تُبقي تقنية التحوّل الشكلي سرًا دون أن تسعى لتحسينها بغية الترفيه، وليس التجسس الصناعي. كانت (مالوري) ترغب في الحصول على كل شيء، أي الاستعادة والسيطرة على الآخرين / تبديد حضورهم العدائي باكتشافهم وتعديلهم في طريق لانهائي من إعادة الإنتاج والتداول. كأن جسدها مكوّن من بصمات تخييلية نهمة لأجساد (كتابات) أخرى دائمة البحث عن الإشباع في جسد آخر (حصيلة مغايرة من البصمات التخييلية لأجساد "كتابات" أخرى)، فتُخلق طوال الوقت ذوات / نصوص مؤقتة، طارئة، ممرات تدمج بين الحيوات المتحولة. المظهر الجسدي يعادل النظام الخارجي للنص أو قناع الصيرورة، النسق الشكلي من العلامات والآثار والدوال المتغيرة التي تُمحى وتتصدع وتُرجئ المدلول / الذات المستقرة المتعالية.
كمقاربة مجازية لهذا التصور يمكننا التفكير في أن هذه التجسيدات لا تتم نحو الخارج، بل تتمثل التحولات الهروبية نحو الذاكرة المحصنة بداخل (مالوري) على نحو أساسي، وأن الانتقالات الذاتية، وتبدلات الهوية والاندماجات المتغيرة وإن كانت تتمظهر في (واقع) من الخصائص المتعينة فإنها شكل للتأثيرات الأعمق الناجمة عن الصيرورة التي تتم داخل الجسد (أي داخل أجساد الآخرين بالضرورة)، حركة الاختراق للذوات / النصوص التي تنطوي عليها الذات بحثًا عن نقطة البدء للتاريخ الجمعي، أو النص الكلي / مكمن المطلق الذي تنتهي إليه كافة العلامات. كأن (مالوري) تخاطب نفسها ـ ككتابة ـ بواسطة التماهي أو التقمص العرضي لصور الآخرين / كتاباتهم التي تسكنها مثلما فعل (رولان بارت) في كتابه (بارت بقلم بارت): (لكنني لا أشبه أبدًا هذا! كيف تعرفون ذلك؟ ماذا تعني هذه الـ "أنتم" التي تشبهكم أو لا تشبهكم؟ أين ندرك ذلك؟ بأي معيار مورفولوجي أو تعبيري؟ أين جسمكم من الحقيقة؟ أنتم (الوحيد) الذي لا يستطيع رؤيتكم إلا في صورة، لن ترون أعينكم أبدًا، إلا خاملة عبر النظرة التي تلقونها على المرآة أو الهدف، (فقط سيهمني أن أرى عينيّ عندما تنظرانك): كذلك وبشكل خاص لجسمكم، أنتم محكومون بالتخيل) "3".
بعد مهمة تحوّل شكلي في مجمع (هايبرسيستمز)، سكنت خلالها جسم (توم رايخ) أحد عملاء هذه الشركة، لتصل إلى معلومات سرية عن تصميم (هايبرسيستمز) نوع من تكنولوجيا التحكم عن بُعد التي تتيح للعملاء التحكم في روبوتات الأندرويد كبديل قادم عن البشريين الذين يصعب التنبؤ بتصرفاتهم، وهو ما سيؤدي للقضاء التام على وحدات التحكم الشكلي؛ بعد هذه المهمة التي أدركت (مالوري) خلالها أن شركة (سوفتيك) ستضع نهاية للتحوّل الشكلي باستخدام المعلومات التي جمعتها من شركة (هايبرسيستمز) قررت إيقاف وظيفة التسجيل وعدم حفظ المعلومات التي يمكن أن تستفيد بها شركة (سوفتيك)، والهروب بوحدة التحكم الشكلي داخل سيارة ستتبعها صديقتها (سو) للحاق بها قبل أن تصطدم بأحد الأشجار، وتفقد (مالوري) القدرة على التحكم في وحدة التحكم الشكلي مع سماع أصوات واسترجاع ذكريات الآخرين لتنفلت ذاتها بعيدًا. كأنها المواجهة بين (التفكيك / التحوّل الشكلي) و(الميتافيزيقا / التحكم في روبوتات الأندرويد) .. (إرجاء المدلول / الهروب بوحدة التحكم الشكلي) و(السيطرة على المعنى/ ضمان التنبؤ بتصرفات العملاء) .. (العدم / انفلات الذات) و(سلطة الحقيقة / القبض على الأصوات والذكريات) .. كأن (مالوري) هي الإنسان المؤجل الذي يدفع وحده ثمن غريزة لا تتعطل لنفي اللاهوت.
مجلة (عالم الكتاب) ـ إبريل 2017
1ـ الأدب والحياة / جيل دولوز، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي ـ ثقافات 19 ديسمبر 2016.
2ـ الشبقية بين الجسد والمعنى / جوليا كريستيفا، ترجمة: فؤاد أعراب ـ مدونة جورج باتاي 10 أكتوبر 2015.
3ـ بارت بقلم بارت / رولان بارت، ترجمة: لطفي السيد ـ (قيد النشر) عن الهيئة المصرية للكتاب، نُشرت مقتطفات منه في مدونة جورج باتاي 5 إبريل 2016.

السبت، 6 مايو 2017

سيرة سيد الباشا‮:‬مزحة البحر

كان يمكن لأحمد الفخراني أن يختار إحدي قصص والت ديزني  ولتكن الجميلة والوحش أو الأسد الملك مثلا ـ ليعيد إليها الوحشية والصفات الأصلية للقصص الشعبية التي تعبّر عن غرائز الإنسان التي تم نزعها، أو أن يخلق حكاية جديدة، تحمل روحًا خيالية مشابهة لعالم ديزني، ليكشف من خلالها عن كيفية تحويل هذه الحكايات إلي قصص لطيفة، منزوعة الأنياب، تنشر الطاعة، ومن ثم يعطي لهذه الحكاية وضعية أشمل .. اختار أحمد الفخراني في روايته (سيرة سيد باشا) الصادرة حديثًا عن دار الياسمين الطريق الثاني، أي أن يخلق حكاية أخري مبنية علي الغرابة نفسها، ولكن هذا الكشف المشار إليه لا يتم في سياق التحديد الحاسم لآليات معينة، وإنما ينتمي إلي نطاق تهكمي واسع من التشابكات والاحتمالات غير المستقرة .. دراما هازئة، مشغولة بالبحث والتتبع والمكائد والمصادفات والانعطافات والتحولات الهزلية والمجابهات المتعددة كأنها تنوي الإفصاح عن يقين ما بشكل تدريجي لكنها في الواقع تعمل علي انتهاكه .. الرحلة في بُعدها الساخر وليس الوصول .. كأنه السرد المضاد لمشروع والت ديزني وقد قرر اللعب بنفس أوراقه .. لهذا فالرواية هي حيلة كبيرة متعددة الفخاخ لاصطياد الثقة .. لا تشعر باللذة داخل الألم فحسب بل تراها أمام عينيك كمتاهات مكرّسة للعب أولا وأخيرًا .. قوانين الفرز، وأحكام التصنيف، وتشييد التراتبيات المنمقة، وقد صارت استعمالات شبقية للتأمل والافتراض والضحك.
(والت ديزني، المشاء الأعظم. مثل سيد الأعلي، تحقيق نسبة من مجده هو طموح سيد النهائي. الرجل الذي أسس عالمًا دون موهبة سوي اصطياد المواهب. ميديوكر أصلي. رغم ذلك نجح في تخطي كل شيء، والسيطرة علي العالم بضبط إيقاعه عبر الشخصيات التي أنتجتها مؤسسته. وعندما مات ظاهريًا أمام العامة نجح في السيطرة علي هذا الكيان العظيم، الذي ينتمي إليه سيد كورقة في شجرة وارفة: مديرًا لهيئة الأمن القومي للكوكب).
إذا كانت الرواية في صفحاتها الأولي تؤسس لما يشبه صيغة شكلية للفروق بين المشائين وغرباء الأطوار،والتي يمكن أن تعطي انطباعًا قويًا بأنها تسعي طوال الوقت لتعيين نفسها كقواعد بطريقة أو بأخري إلا أن هذه الصيغة تتقدم نحو تفكيك نفسها .. هذا ما قد يجعلنا ننظر إلي المشائين كأنهم يمثلون الشكل الرسمي لغرابة الأطوار أكثر من أي شيء آخر .. إن أي ميديوكر، مؤسس لنمط سواء كان زعيمًا أو فنانًا أو صحفيًا، يستطيع في أي لحظة أن يباغت العالم بالكشف عن جذور غرابة الأطوار في طبيعته .. يمكن لأي خالق للحقيقة التي تحجب الحقيقة، والمعرفة التي تمنع المعرفة أن يظهر ما يدل علي أن قيامه بهذا القمع هو إثبات صريح ومباشر لغرابة أطواره .. أنه يمتلك أصولا جوهرية لهذا (التنميط) مكوّنة من هذه الغرابة .. ربما ما يجدر مقاربته كعنصر رئيسي في الرواية هو الإبتعاد الذي تنتصر له في النهاية عن تقرير تعريف قاطع لغرابة الأطوار .. هو انتصار ربما للاختلاف بين غريب أطوار وآخر .. بين غرباء في قمة السلطة، وآخرين في أطرافها القصوي مثلا .. يجب أن يكون الطابع الغرائبي للرواية ـ لو اضطررنا مؤقتا لاستخدام التصنيف ـ أن يكون دافعنا لتفادي الخطوط التي تريد أي معرفة أن تضعها تحت حقيقة ما، كأن نتعامل مع كل فكرة ونقيضها عن (شمس المعارف) علي سبيل المثال بوصفها دعابة لا بأس لو تم تصديقها مؤقتًا بعين مفتوحة كي نستمتع، أو لنساير(التطور الدرامي) بشكل خاص.
(كانت خدعتهم: هي ادعاء أن هناك نسخة ممنوعة عن كتاب مخيف يتحدث عن السحر وتسخير الجن لرغبات الإنسان بنفس الاسم، لإلهاء الناس عن البحث عن الكتاب الأصلي. سيجعلون الحصول علي النسخة المزيفة صعبًا بمنعه من المكتبات العامة، وسهلا في نفس الوقت).
هناك ملاحظة أساسية بالنسبة لي في (سيرة سيد باشا) وهي أن غرابة الأطوار غالبًا ما يكون لها علاقة بالوفرة: وفرة الكلام .. وفرة أعواد الثقاب .. وفرة الأعضاء الجنسية المأكولة .. ما الذي يمكن أن يشير إليه هذا؟ .. إنه يقودنا إلي أكثر من اتجاه في آن واحد .. السيولة العدائية للتاريخ التي تُغرق غرباء الأطوار غير الرسميين، وتمحو وجودهم وآثارهم، أو تجعلهم (متجرّئين علي الخلود) .. الفيض المظلم لما وراء التاريخ، أي الموطن اللانهائي لدوافعه .. الطمس والضياع داخل المشابهة العنيفة للحشود الغريبة التي تتعاقب علي مدار الزمن، وقتل أي محاولة لبناء حياة خارج هذا التماثل .. لنفكر في هذه الوفرة ونحن نتأمل مشهد سكب البحر في فناجين وجرادل بلاستيك بين مجدي وهبة ويارا .. البحر حيث السيولة والفيض والابتلاع .. التفادي المستحيل للموت عبر احتواء العالم في حيواتنا الصغيرة .. فرصة الحياة المعدومة بمحاولة استيعاب القدر داخل ضآلة أجسادنا .. الفناء الذي يجبرنا علي التأكد من أنه لا فكاك من البحر.
(قالت يارات لوهبة: متي تتوقع انتهاء العمل؟
نظر لها معاتبا: لو توقفنا عن السؤال، واستمر الإخلاص.
واصلا سكب البحر في فناجين وجرادل بلاستيك. لم يلتفت لعينيها الواقعتين في الغرام.
عندما رأت ذلك المجذوب، يحاول أن يفرغ البحر عبر فنجان صغير، عرفته رغم كل الحجب: الكرش، الزبيبة، الجلباب، اللحية الكثيفة. إنه فتي أحلامها، وهبة الوسيم، الذي تخلل السينما بمشاهد لم يكن بطلها. مات قبل أن يعرف رأسه الشيب وتدرك حيويته الترهل. من امتلك القوة للخروج علي القانون، والضعف ليشيد بأهميته.
كانت يارا في إجازة للاستشفاء من إعياء مقيم بسبب حبيبها السابق حامد، الذي عاش حياته يقتات علي الحديث عن صناعة فيلم وثائقي عن حياة مجدي وهبة ورغبته في الموت صغيرا ولو بالسرطان. فزرع فيها كابوس رغبتها في القتل دون أن تكشف. وهو ما أقره وهبة: زمن يرغب مخلصا في القتل، فعليه أن يكون مدربا علي إخفاء الأثر.
رغم أن وهبة كان قليل الكلام فإنه كان أكثر حنوا عليها من حبيبها السابق، وإن لم يكن أقل صرامة. لم يعترض عندما حاولت مساعدته في سكب البحر في فناجين قهوة. بل ربت علي كتفها مشجعا عندما اشترت جرادل بلاستيك من التي يلهو بها الأطفال علي البحر).
تمثل يوليا الحياة كما ينبغي أن تكون مؤلفة من بصمات غرباء الأطوار الذين لا يجيدون أي شيء .. خساراتهم، وأسرارهم، ولكنها ايضًا ـ أو نتيجة لذلك ـ هي الحياة المبهمة التي لم تكن، ولهذا فهي القادرة دائمًا علي التهديد، والخيانة، والعقاب .. الواقع والكابوس والحلم في نفس الوقت .. الكتاب الإلهي وقد صنع بأوهام كل (دراما) بشرية كان يتعين عليها أن تسترسل لبلوغ الأبدية، أو النكتة التي تمثلها فكرة الأبدية .. هي تشتمل أيضًا علي ما هو أبعد من الذوات الإنسانية، وأقصد هنا الأشياء الصغيرة الهامشية المهملة (غير التافهة) المتطايرة في الشوارع والحجرات وفيما بين السماء والأرض ولا تعد ظلالا لغرباء الأطوار فحسب، وإنما آثار مستقلة لنفسها أيضًا .. إنها الجنة والغابة معًا.
(لم تك شيئًا. كانت فراغًا صنعه مَني الرجال. كل رجل تمثلته وأسال منيه عليها صنع ما هي عليه الآن. ستة رجال محددين علي الأقل، وعابرون بلا عدد لم نتمكن من تسميتهم، سنطلق عليهم طوب الأرض .. من هؤلاء خلقت يوليا، التي كافحت كثيرًا لاستبدال حقيقتها كصورة بلا معني، هواء يتمثل ما حوله .. لقد صنعت صنعًا من هذه المضاجعات).
إن أيا منا لو أراد أن يكتب سيرته فلن تكون سوي أوراق تتوالد ذاتيًا ـ هل نسينا الوفرة؟ ـ مدوّن فيها (لا فكاك من البحر) فقط، كما ستكون هناك (يارا) ما تعيد مؤقتا قضيب صاحب السيرة إليه بعد أن توسل كدجاجة لا كسيد عظيم، فضلا بالتأكيد عن بعض الفناجين والجرادل البلاستيك الفارغة، حيث الخلود ليس إلا وفرة تلتهم نفسها ببطء.
جريدة (أخبار الأدب) ـ5/6/2017 

الخميس، 4 مايو 2017

أشكال الأبوة المطلقة في قصص إرنست همنجواي

ما يمكن أن يكون محفزاً للتفكير في قصة (قطة في المطر) لإرنست همنجواي أكثر من استخدام القطة التي تحاول حماية نفسها من المطر كمعادل رمزي للمرأة التي تفتقد الشغف في حياتها هو السمات التي أعطاها همنجواي إلى مالك الفندق. ربما لن نصادف معاناة في التعامل مع القطة التي تواجه المطر كتجسيد لروح المرأة التي تعذبها لامبالاة زوجها، ورغبتها في الحصول على تغييرات مؤثرة تنقذ عالمها من الضجر. قد يكون الحرمان من الأطفال سبباً أساسياً لهذه الأزمة، وهو احتمال غير مستبعد يدعم دلالته بقوة وصف المرأة لاحتياجها إلى القطة: (أريد أن يكون لدي قطة صغيرة كي تجلس على حجري وتقرقر عندما أمسح بيدي عليها). لكن التفحص المتمهل لتفاصيل مدير الفندق التي أحبتها الزوجة سيقودنا إلى نطاق ذهني أكثر توتراً من هذا الترميز البسيط؛ فمالك الفندق كان: (متقدماً في السن .. طويلاً جداً .. ذا وجه ثقيل ويدين كبيرتين .. جاداً .. وقوراً .. مستعداً لإسداء الخدمات). لماذا لا نتأمل أيضاً هذه العبارات التي صاغها همنجواي لتشكيل علاقة المرأة بهذه السمات: (أحبت طريقته الجادة في تلقي أي شكوى)، (أحبت طريقة إحساسه بمنصبه كمدير للفندق)، (أحبت وجهه العجوز الثقيل ويديه الكبيرتين) ثم (بهذا الشعور تجاه مدير الفندق فتحت الباب ونظرت إلى الخارج). إن الرجل بهذه التفاصيل وبهذا السلوك لا يمثل مجرد موقعه الوظيفي كمالك لفندق أو حتى طبيعته الإنسانية كشخص مهذب، مراع للآخرين وحسب، بل إنه يمثل تحققاً أبوياً يتجاوز الحضور الأبوي التقليدي إلى فكرة الأبوة المطلقة، القدرية، العارفة بالأسرار، المستجيبة، المانحة بيديها الكبيرتين. يصوّر الأبوة المخلّصة، التي نتوقع دائماً أن نعثر على عطاياها المنقذة حينما نفتح بابًا ما وننظر إلى الخارج. كان الرجل مالكاً ومديراً لشيء أكبر من فندق توقف فيه زوجان أمريكيان، وكانت في أبوته عمقاً ذكورياً غامضاً ربما جعل من تدخّله في اللحظة المناسبة لتصحيح خطأ ما انتزاعاً شبقياً للمرأة نحو تحرر شهواني، عابر، ما ورائي كخيال أو حلم لا يتصل بواقع محكوم أو حقيقة يمكن التأكد من وجودها.
شكل آخر للأبوة المطلقة في قصة (تلال كالفيلة البيضاء) يتمثل في (التعتيم) على (الطريقة التي حدث بها الأمر)، أي البُعد الموضوعي، والملزم للقالب المسرحي عند فرانك أوكونور الذي أشار إليه في كتاب (الصوت المنفرد). هذا التعتيم ربما يرجع إلى حرص جوهري لدى همنجواي على تثبيت حقيقة ضمنية وهي أن (الإجهاض) ليس القضية المركزية بدليل أن الكلمة نفسها أي (الإجهاض) لم تُذكر خلال القصة. القضية المركزية قد تكون النزاع الوجودي بين شخصيات مغلقة على جحيمها الخاص ـ رغم الجسور المحتملة ـ والتي ترضخ لاعتقادها بانفصال الآخر عن هذا الجحيم، خاصة حينما يتعلق الأمر بالصراع بين الرجل والمرأة. إن توتر الحوار في القصة، والذي اتخذت هيمنة التكرار به أحياناً طبيعة تقارب الهذيان ـ محادثة الشاربين، أو مدمني المخدرات بتعبير فرانك أوكونور ـ هو تجسيد اللغة لعنف هذا النزاع، الأثر البلاغي الناجم عن اشتباك مراوغ، يتعمّد إخفاء أفكاره وانفعالاته أكثر من كشفها. يبدو التعتيم المقصود هنا كأنه محاولة سردية لاكتساب نفس الغموض الأبوي للقدر الذي يسيطر على الحدث.
نفس الأمر نجده مرتبطًا كذلك بالتخلي في قصة (رجل عجوز على الجسر). أراد همنجواي باستعمال الإنصات المحايد أن يمتلك هذا الوجود الأبوي المعادل للأبوة الغيبية التي تدفع البشر بواسطة الحرب إلى هجر حيواتهم. أن تكون هذه وسيلته للتوحد بمأساة العجوز. أراد أيضاً لكل واحد منا أن يكون كذلك. أن ترى حياتك الهامشية المنعزلة من وراء النظارة الطبية ذات الإطار الحديدي التي يرتديها الرجل العجوز، وأن تستعيد كافة ما أُجبرت على التخلي عنه ـ ربما بمعاونة من العزاء الناجم عن التشارك في الحسرة ـ مثلما فعل الراوي في القصة وهو يستمع للعجوز دون أدنى كشف، بل وربما بتعمّد للإخفاء وراء ستار مقصود من اللامبالاة. همنجواي لن يدفع السارد للإفصاح عن هذا التوحد مع العجوز، بل سيجعله ـ بمنتهى البساطة الخبيثة ـ يُفكر في أن حقيقة كون القطط تستطيع العناية بنفسها، هي كل ما تبقى عند الرجل من حظ حسن. الراوي الذي يسترجع في هذه اللحظة قطته التي تشبه كل القطط التي تحمل أرواحنا، ونفقدها دون مبرر في حروب لا تخصنا، وسيأتي وقت لن تستطيع فيه أن تعتني بنفسها.
جريدة (القصة) ـ العدد السابع / مايو 2017

إغماض العينين

يخرج من بيته .. يمر داخل محطة القطارات نحو الجهة الأخرى .. يتأمل العجوز الجالس بجوار كشك السجائر والحلويات والمياه الغازية فوق رصيف المحطة .. يُخرج موبايله ثم يكتب في (قائمة المهام): (العجوز صاحب الكشك في المحطة "ذكرياته") .. يعيد الموبايل إلى جيبه .. يتمعن أثناء عبوره الميدان في الشبابيك المظلمة لبنسيون قديم مهجور .. يُخرج موبايله ثم يكتب: (بنسيون الميدان "معلومات") .. يُعيد الموبايل إلى جيبه .. يفكر في أن هناك ملاحظات قد يؤجل تدوينها زمنًا طويلا لأسباب غامضة، ثم يسجلها فجأة دون مبرر واضح .. يقف للحظات أمام بائع الجرائد .. يلمح عددًا من مجلة (الشباب) يشير غلافه إلى حقبة التسعينيات مُلقى في زاوية مهملة وراء الكتب المصفوفة .. لا يشتريه، وإنما يقف على بُعد خطوات ليخرج موبايله ثم يكتب: (أرشيف مجلة "الشباب" فترة التسعينينات، خاصة السنوات الأولى) .. يعيد الموبايل إلى جيبه .. يستقل تاكسيًا .. يشاهد في الطريق واجهة المقهى اليوناني العتيق .. يُخرج موبايله ثم يكتب: (تاريخ المقهى اليوناني، وتاريخ اليونانيين في المدينة، وجميع الجاليات الأجنبية) .. يُعيد الموبايل إلى جيبه .. يصل إلى المكتبة .. يستفسر عن كتاب .. لا يجده .. يتجوّل قليلا في الداخل .. يصادف مجموعة روايات (دان براون) .. يفكر في أنه يريد شراءها رغم امتلاكه نسخًا إلكترونية منها على (اللاب) .. يؤجل الشراء ويغادر المكتبة .. يقف في الشارع ليُخرج موبايله ثم يكتب: (تاريخ الأدب البوليسي) .. يُعيد الموبايل إلى جيبه .. يتذكر شيئًا فيخرجه ثانية، ويضيف: (وأدب الرعب والخيال العلمي أيضًا) .. يُعيد الموبايل إلى جيبه .. يفكر في أنه سبق أن دوّن هذه الملحوظة من قبل أكثر من مرة على مدار السنوات الماضية، ولكن لا بأس من تأكيدها .. يستقل تاكسيًا .. بعد دقائق تشير بنتان إلى السائق .. يتوقف فتسألاه عن مكان يقع في نفس الاتجاه .. تركبان في الخلف .. تتبادلان كلمات مقتضبة يفهم منها أنهما طالبتان جامعيتان، وأنهما عضوتان في فريق التمثيل بالكلية، وأنهما عائدتان للتو من بروفة مسرحية .. يُخرج موبايله ثم يكتب: (تاريخ المسرح الجامعي في المدينة) .. يُعيد الموبايل إلى جيبه .. يبتسم وهو يفكر في أن شخصًا آخر ما كان سيُخرج موبايله في هذه اللحظة إلا ليسجّل رقمي هاتفي البنتين، بعد أن نجح في استغلال حديثهما للتعرّف عليهما ـ ككاتب مسرح مثلا ـ وتبادل الضحكات معهما .. ينزل من التاكسي .. لا ينظر إلى البنتين .. يدخل صالة الاستقبال بفندق ميدان المحطة .. يجلس كعادته بجوار النافذة الزجاجية الكبيرة .. يشاهد رجلا خليجيًا جالسًا على طاولة قريبة .. يتلفت بحثًا عن الوجوه المألوفة لسماسرة المتعة .. يلمح أحدهم واقفًا في قاعة الطعام .. يُخرج موبايله ثم يكتب: (تاريخ الجنس العربي في فندق ميدان المحطة، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات) .. يضع الموبايل أمامه فوق الطاولة .. يطلب (كابتشينو) ثم يراقب العابرين في الميدان عبر النافذة .. تلمع في ذهنه فكرة هذه القصة .. يلتقط موبايله ثم يكتب: (يخرج من بيته .. يمر داخل محطة القطارات نحو الجهة الأخرى) .. يعيد الموبايل إلى جيبه .. يُنهي فنجانه ثم يغادر الفندق ليرجع من نفس الطريق إلى المنزل.
كان يجب أن يكون هذا الليل أكثر نعومة، وأن يكون ما بين هذين الذراعين أكثر اتساعًا .. كان يجب على هاتين العينين أن تكونا وراء نظارة ذات عدستين سميكتين، وأن توجد حسنة سوداء صغيرة تحت إصبعي في هذه الذقن .. كان يجب أن يكون فيلم التليفزيون الذي أنصت ناعسًا لأصواته الآن هو (رحلة السندباد السابعة) .. لكنه لا يزال ليلا، وطفلتي الصغيرة لا تزال أمي التي عادت في جسدها الجالس أمام التليفزيون لتحتضن رأسي .. كان يجب أن أستمر في إغماض عينيّ حتى أنام، ولكنني أفتحهما سريعًا؛ إذ يبدو كل شيء كأنما سيجعلها الإغماضة الأخيرة.
جريدة (الدستور) ـ السبت 29 إبريل 2017
اللوحة لـ ميثم راضي