الأربعاء، 26 يونيو 2019

يوميات: الأمان النرجسي الملعون

أعيش هذه الأيام نوبة اعتيادية من تلك الكلمات في قصتي "الكراهية المطلقة": "لم أكتب بشكل صحيح" .. الجرح الأزلي الذي ينبض كامنًا في كل كتابة، وأحيانًا يكشف عن طبيعته الأصلية كورم خبيث يتقيأ فضلات الحياة التي التهمها قبل أن تحدث .. تختبئ كل الدوافع التي طالما كانت قادرة على تبرير أي شيء: الثقل اللغوي باندفاعه الممتد كأحجار متلاحمة تسد مجرى التنفس .. الهشاشة المرتبكة .. النتوءات الشاحبة كخجلٍ مُهمَل .. الجسور الصغيرة المتلاحقة .. الانفعالات العارية الأشبه بصراخ مجرّد من الحذر .. الدوافع التي طالما كانت قادرة على السخرية مما يسميه البعض "الشك الذاتي" .. تتساءل سيلفيا بلاث إن كانت تجيد الكتابة حقًا، وهل يمكن لامرأة أنانية غيورة نرجسية، عديمة الخيال أن تكتب شيئًا ذا قيمة .. النرجسية يا سيلفيا هي سر التساؤل .. حاضنة الأنانية والغيرة والخيال الذي حينما لا يقيم للغيب قيامة فعلية فهو معدوم .. أعيش نوبة اعتيادية من الألم النرجسي حيث لا يجب أن تمتلك الكتابة حياة كاتبها وحسب، بل أن تهيمن على كل ما كتبه الآخرون في كل مكان وزمان .. على كل ما لم يكتبوه بعد .. أن تهزأ طوال الوقت بما كسبه الكتّاب الآخرون .. لم تكن الملاحظات التفصيلية التي كانت تدوّنها سيلفيا بلاث عن حياة البشر ناجمة عن الرغبة في كتابة قصص "أفضل"، بل لمحاولة إشباع غريزة الاستحواذ الشامل على جميع القصص .. ربما هو المبرر الوحيد لما أسمته كيم أدونيزيو بـ "التدمير الذاتي" في تعليقها على محاولة بلاث لبلوغ الكمال، الذي يمثل الانتحار خطوته الأخيرة .. النرجسية التي تؤكد نفسها عبر ثقل اللغة وهشاشتها ونتوءاتها وجسورها الصغيرة وانفعالاتها العارية .. ما يُشكّل الملامح السردية للكتّاب الجديرين بالرفقة بالنسبة لي: كافكا .. بو .. كارفر .. جويس .. دوستويفسكي .. نابوكوف .. كورتاثر .. جرح الاستيلاء الأبدي على الكتابة في ذاتها .. تتوارى حقيقة أن كل قصة تعني الكتابة كاملة، تامة، وكلية، حيث كل ما يبدو خطأً هو دليل ألوهة، محكومًا بأسبابه الخاصة .. حينما يطفو ذلك اليقين المترصّد في العمق بأن الآثام الأسلوبية المتهكمة لا تمنح الشغف أحيانًا، وأن مقتنيات التقدير الغامرة ليست منقذة بما فيه الكفاية، وأن ما يبدو أنها حرية استثنائية، معدومة خارج الكتابة لفعل ما أريد حقًا؛ هي في الواقع جوهر المأساة ..  مع كل قصة ثمة تذكير متجدد بخيبة الأمل النرجسية .. ذلك لأنني لا أفعل ما أريده حقًا .. مع كل قصة ثمة مراكمة إضافية لإدراك الغياب الفادح للهيمنة .. تنتهي "الكراهية المطلقة" بهذه العبارة: " ربما لأنني أوثّق شعوري بأنني كتبت مجددًا الآن بطريقة خاطئة، وهذا أمر يجب أن يسبب لي السعادة" .. ربما أكتب كي أحاول كل مرة أن أعطي تأكيدًا مختلفًا بأنني لم أكتب ما أريده بالفعل .. ذلك الأمان النرجسي الملعون.
لا يعني استعراض وتحليل القواسم المشتركة بين نوفيلا "جرثومة بو"، ومسلسل "قابيل" في مقالي المنشور على موقع "الكتابة" الثقافي؛ لا يعني بالطبع أن النوفيلا والمسلسل ينتميان إلى فضاء حكائي واحد .. هذه الجزئية ـ البديهية ـ لم يكن لها علاقة بموضوع المقال، ولهذا لم أشر إليها أثناء كتابته .. لكن يمكنني الآن تدوين هذه الملحوظة التي لا تحتاج لأكثر مما يتطلبه التذكير العابر بحقيقة واضحة، وهي أن ما تناوله المقال عن النوفيلا كان صورًا مبسّطة لجوانب منتقاة من متاهتها، أو لنقل بعضًا من ملامحها المراوغة، أما فيما يتعلق بالمسلسل، فقد امتلك المقال خلاصته وحدوده .. لا يمكن أن تضع عملًا كـ "جرثومة بو" في مقارنة مع محاولة فنية تظل مسالمة مهما امتلأت بالدماء والجثث والأشباح وتعاطي المخدرات والخطف والتعذيب والمرض النفسي، ومهما كانت هناك "قواسم مشتركة" ـ مثيرة للشك ـ بينها، وبين القصة الحقيقية لمنصور عبد الرحيم.
لو أنني أكتب يومياتي مرة كل أسبوع أو شهر أو حتى كل ثلاثة أشهر لكان ذلك كما لو أنني أكتبها كل يوم .. هذا ليس جيدًا، ولا محزنًا، أي أنه قد يكون جيدًا من ناحية، ومحزنًا من ناحية أخرى .. لا أريد أن أشرح الأمر الآن، ولكن ما يمكن قوله تعبيرًا عن ذلك أن تعاقب الأيام لا يعني إهدار الوقت الذي لا يمكن تعويضه في العجز عن الوصول إلى غاية معينة، بل في مجرد الكفاح الفاشل لتمرير الحقيقة لكل من أتكلم معه، أو يقع نظره على وجهي، أو حتى يعرف بوجودي قريبًا منه على نحو ما، بأنني مرغم على البقاء متاحًا له .. على الجلوس أمامه .. على التحرّك في المسارات ذاتها .. أنني لا أستطيع الهرب كي أموت في مكان آخر، محتجزًا داخل عيون أخرى.

الاثنين، 24 يونيو 2019

الدقهلية ترشّح الكاتب ممدوح رزق لمؤتمر أدباء الأقاليم

تم الإعلان عن ترشيح الكاتب والناقد ممدوح رزق كشخصية عامة عن محافظة الدقهلية لمؤتمر أدباء الأقاليم المنتظر عقده في شهر ديسمبر القادم بالأقصر .. يُذكر أن ممدوح رزق قد صدر له مؤخرًا كتاب "نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل"، كما انتهى من كتابة متوالية قصصية جديدة بعنوان "أحلام اللعنة العائلية"، بالإضافة إلى كتاب نقدي عن فلسفة السرد عند جورج باتاي.
مجلة jazz الثقافية ـ 23 يونيو 2019

هل "قابيل" هو "منصور عبد الرحيم" في نوفيلا "جرثومة بو"؟

لا يستهدف هذا المقال الإشارة أو التلميح بأي مستوى إلى شبهة سرقة أو حتى إلى اقتباس، وإنما يريد فقط استعراض وتحليل القواسم المشتركة الملفتة، والجديرة بالتأمل في تصوّري بين مسلسل "قابيل الذي عُرض في رمضان 2019، ونوفيلا "جرثومة بو" التي نُشرت العام الماضي.
ـ لم يكن قابيل قاتلًا متواريًا في خفاء مجهول، يمرر من ظلامه إلى العالم فصول جرائمه المتعاقبة وحسب؛ وإنما كان هو نفسه أيضًا أحد ضحاياه "آدم"، وهذه الخدعة هي ما أعطت لذلك الخفاء هويته؛ إذ أن قابيل / آدم كان ضحية قاتلة، أو قاتلًا مختبئًا وراء قناع الضحية .. في نوفيلا "جرثومة بو" كان منصور عبد الرحيم مختفيًا أيضًا؛ إذ كان مسجونًا يتم تعذيبه بشكل متواصل في "المملكة"، وعلى الرغم من أن الخطابات المهرّبة التي كان يبعث بها من سجنه كانت تقدّم صورًا متتابعة لتطورات وضعيته الكابوسية داخل السجن؛ إلا أن خفاءه ظل غامضًا لأسباب جوهرية: السبب الأول عتمة الألغاز والشكوك التي تهيمن على حياة منصور قبل سفره إلى المملكة، وملابسات اعتقاله، ووجوده داخل السجن حيث لم تتوقف المعطيات المتاحة عن منصور خارج المعتقل عن دعم إبهامها، وإثارة ريبة متصاعدة حول شخصيته وماضيه .. السبب الثاني عدم القدرة على الوصول إلى منصور؛ إذ لم يتمكن أحد خارج السجن من مقابلته، وبالرغم من النجاح في التأكد بوسائل أخرى من أن كل التفاصيل والوقائع التي ذكرها منصور في خطاباته كانت صحيحة إلا أن هذا لم يضع نهاية للهواجس والافتراضات المتحيّرة حول حقيقة منصور والمكان الذي يوجد به، وهل هو على قيد الحياة بالفعل أم لا، وإذا كان ثمة استغلال لموته لو كانت حياته قد انتهت حقًا .. السبب الثالث ـ وربما هو الأهم ـ الإعلان النبوئي الذي تحمله صيغة العزاء الثابتة التي تتكرر في نهايات الخطابات المتوالية لمنصور عن موت متسلسل لأشخاص متباعدين بطرق مختلفة، لا توجد صلة واضحة تربطه بهم، ويعيشون بعيدًا للغاية عن مكان سجنه؛ الأمر الذي جعل الصحفي الذي كان يعمل على قضية منصور، ويطلّع على خطاباته؛ جعله يفكر في أن منصور لا يتنبأ بموت هؤلاء، وإنما يقتلهم على نحو غير مفهوم، ويبدو قدريًا تمامًا .. إذن كان منصور مثل قابيل ـ وهو الأساس مع تغيّر التفاصيل ـ كان يبدو كضحية وقاتل معًا مستغلًا خفائه المحكم.
ـ اعتمد قابيل على بوستات فيسبوك للإعلان عن جرائمه؛ إذ كان من الضروري ألا يترك ضحاياه دون تأكيد على وقوفه وراء قتلهم، وأيضًا لكتابة ما يشير إلى الأفكار التي تقوده لارتكاب هذه الجرائم .. كانت هناك حيرة في المسلسل لدى المحقق ومساعده ناجمة عن عدم إدراك الخيط الذي يربط بين هؤلاء الضحايا وقابيل، أو العامل المشترك الذي ينتقي على أساسه هؤلاء القتلى .. اعتمد منصور عبد الرحيم في نوفيلا "جرثومة بو" على الرسائل المهرّبة ـ فترة التسعينيات ـ ليقرر خلال كل رسالة الموت الغامض لأشخاص لا يعرف أحد طبيعة علاقته بهم، وكيف بمقدوره أن يتنبأ / يقتل هؤلاء وهو في سجنه البعيد، كما أن أسلوبه الساخر في إعلان موتهم قبل حدوثه، والمتمثل في صيغة العزاء التقليدية التي لا تتغير كان يعطي انطباعًا مستمرًا بوجود صلات قديمة مبهمة تربطه بتلك الشخصيات، وكذلك بطبيعة ما يضمره تجاههم.
ـ كان الانتقام هو الدافع الأساسي في مسلسل "قابيل"؛ حيث أنهى آدم حياة زوجته وشريكها في الخيانة "ما يُعتبر العذاب الخاص لآدم"، وهو أحد مظاهر الرغبات الانتقامية المتعددة عند أبطال المسلسل .. لكن الانتقام لم يكن بالسبب المتعلّق بشخصيات محددة، حتى وإن اقتصر القتل عليهم، وإنما كان نابعًا من فكرة ترتبط بالرغبة في الثأر الشامل من الوجود البشري، أي استخدام النماذج المستحقة للعقاب في حياة آدم للانتقام مما يمثله العالم نفسه فيهم، وهو الأمر الذي جعل من فكرة القتل في حد ذاتها يسيرة حد البداهة خارج هذه النماذج .. لعل أبرز ما يؤكد هذا هو المنشورات السوداوية لـ "خالد المصري" صاحب المدونة الذي اختلقه آدم كقناع آخر له، بالإضافة إلى كتابات قابيل نفسها المصاحبة لإعلانه عن قتل ضحية جديدة على فيسبوك .. خدعة البحث عن هدف، أو الأصل الشرير للإنسان "ممكن ياكل أخوه في أي لحظة" كما في المسلسل أمام الأصل الشيطاني للعالم أو الروح المبهمة القاتلة للكون في النوفيلا على سبيل المثال .. كان الانتقام عنصرًا رئيسيًا في نوفيلا "جرثومة بو" إذ يتضح في نهايتها أن الموت الذي تتنبأ به رسائل منصور هو ثمن لتواريخ متباينة من المهانات والاعتداءات النفسية لأصدقاء مختلفين وزملاء عمل .. لكن الموت في النوفيلا لا يقتصر على هؤلاء فحسب بل يمتد إلى التنبؤ بنهايات تتحقق بالفعل لأشخاص لا يمتلكون هذا الماضي المماثل، أي غير متورطين في ذكريات سيئة كان على الموت أن يكون جزاءً منطقيًا لتراكمها .. الشخص الذي يتم قتله بتنكيل لا يُنهي حياته، فيتحوّل التعذيب الشامل والقتل العام والمتلاحق للآخرين هما طريقته للتناغم مع العالم وتدميره في الوقت نفسه.
ـ كان التماهي سؤالًا أساسيًا للانتقام في مسلسل "قابيل" .. حينما يكون القاتل ومُطارده شخصًا واحدًا .. القاتل "آدم" الذي يحقق أمنية مُطارده "طارق" في الثأر التي عجز عن تحقيقها "قتل حمزة الكومي" .. في "جرثومة بو" كان التماهي بين منصور "المتنبيء بالموت / القاتل المتواري" والصحفي الذي يعمل على قضيته هو المحرّك الأقوى في النوفيلا .. تحوّل منصور والصحفي إلى شخص واحد .. أعلن منصور في خطاباته عن ميتات متوالية لأشخاص كانوا أعداءً للصحفي الذي يعمل على قضيته.
ـ كانت لدى "آدم" قناعة أساسية بأن ثمة "قابيل" يكمن داخل كل إنسان، أي ذلك القاتل الذي يقرر الانتقام من الذين يعتبرهم جديرين بذلك ـ يمكن الرجوع للحوار بين آدم والضابط طارق الذي يتحدث فيه بشكل مباشر عن هذا ـ وهو إن كان يفسر بهذا الطبيعة العامة للثأر، غير المقيّدة بالعناصر البشرية التي تحمل انتماءات مباشرة للقاتل، أو ربما حتى التي لا تخضع توجهاتها لأسباب ملموسة ومنطقية فهو في الوقت نفسه يتماثل تمامًا مع "جرثومة بو" التي تناولت النوفيلا امتلاك منصور عبد الرحيم لها بعذابه البعيد، أي التي كشفت عن نفسها كغريزة للانتقام بواسطة ما تعرّض له، وبالتالي قامت بتوزيع ثأرها على أعداء الصحفي المتماهي معه ليس باعتبارها ـ كما جاء في النوفيلا ـ عقيدة شخصية، وإنما أشبه بالقنبلة الموقوتة المحتجبة داخل كل جسد بشري .. "الظلام معتاد الإنكار في أعماق الجميع".  
ـ في مسلسل "قابيل" كان الضابط طارق يعاني من أعراض المرض النفسي والمتمثلة في رؤية موتى يتكلمون معه ـ ومن ضمنهم آدم ـ فضلًا عن معاناته مع الأرق والكوابيس، كما تحدث عن زيارته للطبيب النفسي وتناوله للأدوية التي فشل في أن يُعالج بها مرضه، وانعكاس كل هذا على حياته المهنية .. في نوفيلا "جرثومة بو" كان الصحفي الذي يعمل على قضية منصور عبد الرحيم يعاني من أعراض المرض النفسي والمتجسّدة في الوساوس القهرية والضلالات والكوابيس التي كان لها تأثير كبير في سلوكياته وعلاقاته وحالته الجسدية إلى جانب تخيلاته عن تجسّد منصور عبد الرحيم أمام عينيه، وكذلك المعاناة من الأرق، وهو ما أدى إلى زيارته للطبيب النفسي وتناوله للأدوية التي لم تنجح في شفائه، وأيضًا تدهوره المهني .. كان وضوح التشابه في هذا الجانب بين طارق في المسلسل والصحفي في النوفيلا متمثلًا في انتفاضات الجسد، ورعشة اليدين، وارتباط الرجفات العصبية بتمثّل قابيل / منصور كما لو أنهما حاضران بالفعل .. يمكن أيضًا في هذا السياق مقارنة مشهد الضابط "طارق" وهو ينظر في مرآة الحمام في المسلسل، وكل التفاصيل النفسية والجسدية والتخيلية المقترنة به، ومشهد الصحفي الذي يعمل على قضية منصور وهو ينظر كذلك في مرآة الحمام في النوفيلا، والتفاصيل المقاربة للمشهد السابق.
ـ في مسلسل "قابيل" كان هناك اعتماد على فكرة تزييف القتل، أي تكوين مشاهد خادعة عن موت ضحايا ـ بخلاف آدم نفسه ـ لا يزالون على قيد الحياة .. في نوفيلا "جرثومة بو" يتبين في النهاية أن الأشخاص الذين تنبأ منصور عبد الرحيم بموتهم، أو بالأحرى قام بقتلهم بواسطة التنبؤ هم في الحقيقة مازالوا أحياءً، وأن جميع الطرق التي تم قتلهم من خلالها كانت مختلقة، بما فيها صور التعذيب التي سبقت هذا القتل إذ أنها لم تكن ناجمة إلا عن وعي التماهي بين منصور والصحفي الذي يعمل على قضيته.
ـ استخدم قابيل / آدم لوصف ضحاياه صفات متماثلة لدرجة التطابق أحيانًا مع الصفات التي جاءت في النوفيلا لوصف القتلى من حيث الوضاعة وانعدام القيمة واستحقاق الموت كمسوخ، كما كان لهذه الصفات إطارًا فلسفيًا يربط العدمية بالتعرّض للانتهاك النفسي والجسدي سواء في المسلسل، أو في "جرثومة بو".
"آدم: كل الناس تعرف بعض .. كلنا عندنا استعداد للقتل .. انتقمت من سلمي ورؤوف وانت من حمزة الكومي .. الحقيقة بتقول إن انا قابيل وانت كمان قابيل واللي سمعوا عننا زينا واكتر .. على الأقل أنا مقتلتش حد برئ .. كلهم ولاد كلب ظلمة .. بذمتك مفرحتش لما انا قتلت حمزة الكومي .. دور جواك يا طارق عشان أنا عملت حاجة إنت كان نفسك تعملها"... "قابيل".
"لم يكن موت محمد الرفاعي سوى مجرد استهلال يقدم وعدًا بأن الانتقام سيكون شاملًا كما يجب بوصفه غريزة منطقية للوجود .. بعد ذلك كان عليّ توجيهه نحو الأشخاص الجديرين بذلك كما أعرف .. إلى المسوخ المضحكة التي لا يدرك أحد شيئًا عن الحكايات التي عذبتهم خلالها قبل فنائهم في حادث الأتوبيس، وانهيار البيت، والحريق الضخم .. إنها جرثومة إدجار آلن بو التي امتلكها منصور بعذابه البعيد، وإثر ذلك لم يعد مجرد فرد مؤقت خاضع للحياة والموت بل أصبح الحياة والموت نفسيهما"... "جرثومة بو".
موقع "الكتابة" ـ 23 يونيو 2019

الخميس، 13 يونيو 2019

"دنيا زاد" لمي التلمساني: الموت يسرد صمته

"طلبت من أخويها الحضور .. تأخرا .. ثم جاء الأصغر أولًا .. أخبرته بأن الطفلة قد ماتت .. بكى .. وبكيت. وقلنا نخبرها تدريجيًا كما أشار الأطباء الثلاثة .. ثم جاء الأخ الأكبر. بكينا أيضًا. واتفقنا على تفاصيل أخرى .. لا أذكرها الآن لكني أعرف أني لم أعد أستطيع البقاء وحيدًا. أحطنا جميعًا بالفراش. الذي لا يضم سوى جسدها الساجي. لا سبيل الآن لأن تضمهما ذراعاي. وربما أيضًا .. غدًا".
ماذا لو أن دنيا زاد هي الموت الذي يتبادل شهريار وشهرذاد حكي تاريخ العالم من أجله بكيفية انتقائية؟ .. هذا يعني أن ثمة محاولة سردية لاستنطاق هذا الموت، أي كفاحًا لجعله يحكي "ألف ليلة وليلة" المجهولة، والكامنة في ظلامه، خاصة لو كان هذا الموت نقيًا، خالصًا من المرور المؤقت للحياة ممثلًا في طفلة لم تعش .. يعني أيضًا أن تاريخ العالم الذي يتم سرده من خلال الأب والأم لن يكون هو الذاكرة ذاتها التي سبقت هذا الموت، أو ما يُتصوّر أنه الوجود الذي تقدّم على الفقد بل سيكون حياة أخرى، أو الماضي المغاير الذي سينتج بالضرورة واقعًا مختلفًا، أو على نحو أدق إبهامًا مختلفًا.
"أعد الأيام بلا أرقام. أعدها بمدى ابتعادها عن يوم الاثنين الخامس عشر من مايو. حتى ذلك المساء الذي عثرت فيه على بعض القصاصات التي كان زوجي يدون عليها بيانات المستشفى. أرقام أكياس الدم. المصاريف المتفرقة. ساعة دخولي غرفة العمليات. وساعة خروجي منها. نص تقرير الطبيب الذي استخرج بناءً عليه التصريح بالدفن ... أقرأ: وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام للمشيمة".
تتشكل عناصر العالم بعد الموت باعتبارها ظلالًا غامضة لتلك البنية المعتمة التي ذابت دنيا زاد داخلها .. كأنها تتحوّل إلى قرائن لحكمة مضادة، مراوغة، تشمل موجودات الحياة وأحلامها كافة، وتنبع من الثقل المهيمن الذي يفرضه غموض هذا الموت على الأجساد وعلاقاتها والتفاصيل المرصودة كحصار من الأسرار التي تتوعّد الغفلة .. بالتالي تصبح الأفكار والعواطف المتشابكة أقرب إلى الهواجس الاستشرافية فيما يشبه البحث عن الفضاء الخاص لنجاة غير مستوعبة داخل موت متجذّر في الماضي، ولابد أنه يرسم في ذلك الخفاء الذي يتم السعي لاستكشافه تلك الخطوات التدريجية لحدوثه في المستقبل.
"الحلم: اليوم أتمت دنيا زاد ثلاثة أسابيع. أنير لها شمعة وأحملها إلى قبرها الساكن في ركن من أركان الغرفة. أفتح باب القبر وأتسلل إلى حيث الجسد الساجي. أضع الشمعة إلى جواره. وأبكي مرة واحدة. في طقوس حب سرية، أراها تطبع على جبيني قبلة حارة كحرارة القبر المغلق".
لكن الاستشراف يتضمن تلك الحاجة البديهية للحصول على الحياة التي لم تعشها دنيا زاد .. ليست حياتها ككائن يجرّب العالم بشكل اعتيادي، وإنما حيوّات الآخرين التي كانت ستمنحها لهم دنيا زاد لو لم تمت .. الوجود الذي لا ينبغي أن يتوقف عند الحدود التقليدية للبنوّة، وإنما ذلك الذي يجدر به التخلص من الألم المنطقي، أي يستبعد بصورة محصنة الجوهر العدائي المجهول الذي لم تختبره دنيا زاد، وبهذا يكون موعدًا مؤجلًا، متجرّدًا من الفناء.
موقع "الكتابة" ـ 11 يونيو 2019

السبت، 1 يونيو 2019

غذاء السمك: الذات تنثر هلاكها

في نص "غذاء السمك" لمؤمن سمير، الصادر حديثًا عن دار "الذهبية"؛ ثمة ذات تراقب دمارها المتلاحق عبر محاولات التماهي مع صور التناثر لهذا الدمار في ملامح الآخر .. تتخذ المراقبة طبيعة الإيجاد أي خلق الأشلاء / شذرات اللغة فتتحوّل إلى مُسيّر لهذا الآخر، أي أنها تتقمص وضعية التدمير الذاتي .. هي بتلك المسايرة التي تستبطن كيفية أن تكون قاتلة لنفسها؛ تراوغ صورتها الواضحة أمام موضوع القتل ذاته، وهذا يتيح لها أن تكتسب إمكانية الاختفاء من عتمة "المرآة" العالقة داخلها، والذوبان في الشظايا النهمة لتلك المرآة، الموزعة داخل الآخرين.
"بعد أن قرأت عن الفيلم حلمت حلمًا عابثًا، مستحيلًا، أنني كنت هناك، لكن حيث لا يرونني .. الجميع كان يبكي .. والبكاء هو الظرف التاريخي الرائع لممارسة أفعال تشي وتوهم بالقرب الإنساني .. كل ولد كان يضع يده على يد البنت التي بجواره ثم يلف ذراعه حولها".
تكافح الذات لاكتشاف لعنتها من خلال هذه الأداءات التي تزاوج بين المراقبة والتوحد بأشكال تدميرها المتفرقة، كأنها في الوقت نفسه تسعى لاكتساب بصيرة بمقدورها التلصص على ما بعد النهايات المتكررة، التي تُشكل تدريجيًا الوجه الكامل للموت .. التلصص الذي يجعل من الألوان، ودرجات الإضاءة، وزوايا الرؤية، والحدس بواسطة الظلال؛ يجعل منها ممرات ملغّمة للذاكرة، أو مسارات لتشريح الماضي متخمة بالأشباح التي ينبغي عليها حينئذ أن تُغرق الخطوات المرتعشة "المتلصصة" بدمائها.
"المعلن أنه يحاول تهدئتها، لكنها تزداد انفعالًا، المسكينة!! ويزداد هو في محاولاته الاحتوائية الشريفة. المسكين الذي يجتهد في ممارسة اللعبة التواطئية يتأكد في هذه اللحظات أنه حقًا يريدها، وذلك بعد أن قالت هي أيضًا، ضمنيًا، عدة مرات، إنها "تموت فيه" ... سينهشها الآن .. هذه الغبية .. القاتلة أيضًا".
تستند الاستمرارية هنا على تعدد الآخر سواء في حضوره البشري أو الذهني أو المتوهم، حيث تُرد عناصر الواقع كافة إلى تلك الهيمنة الكامنة في ذلك الحضور المتعدد، ولكنها ليست الاستمرارية التي تُنتج الحاضر فحسب، بل تلك التي تُبطل عمل التاريخ على نحو أساسي أيضًا.
"لكن العجيب أن عيني بعدما ثبتت على وضعية الجحوظ انغلقت فجأة وغرقت في نوم مدبب وحاد .. أفقت على ملوحة العرق في عيني وبرودته تحت إبطي ووجدتني في مواجهة المسارات التي حفرها النمل في كومة الرمل ولمحت الدويبات تتحرك بطمأنينة وكل واحدة تحمل على رأسها شيئًا، جزءًا كبيرًا أو صغيرًا من الملامح".
بهذا تحصل الذات على تعدديتها غير المحددة، التي تسمح لكابوسها الخاص أن يكون هو الزمن الكلي، القائم على التناثر، كما أنها بذلك تعيد تكوين الآخر بانشطاراته التراكمية المتباينة كأنما تستعمل المحو لتجعل هذا الآخر سرًا قابلًا للمعرفة .. المعرفة التي تحمل انتهاكًا مؤكدًا للموت كختام منطقي لتحوّل الأقنعة الوحشية إلى أصل كتابي، وتحوّل الكتابة إلى قناع شامل يتواطأ بولع طفولي "حيث كل جسد قاتل ومقتول" مع اللعبة الاستكشافية لتحطيم الغاية .. ربما هي طريقة أخرى لمحاولة حماية الخبرة العاطفية الأكثر سذاجة للذات من أن تكون تدميرًا غريزيًا.
"رجعت بمقعدي للوراء بعنف وفتحت باب الغرفة وعدوت .. وضعت رأسي تحت المياه ورجعت مرة أخرى .. كدت أفتح الباب بيدي المرتعشة التي تتساقط منها المياه لكنها شالت يدي ووضعتها على كتفها وسارت بي نحو الصالة ولكن بعد أن أغلقت الباب بساق خلفية .. طاوعتها واستسلمت تمامًا .. في الصباح رميت ببصري نحو الغرفة ثم أخذت أدلّك الحنجرة برفق كي يمر الهواء في مساراته المتعرجة بأمان".
يتحقق في نص "غذاء السمك" نوع من المزج بين الغرابة الشبقة المرتجلة عند جورج باتاي، والمجاورة الحادة بين الوحدات اللغوية التي لا تخضع لعلاقات مكشوفة عند جيرترود شتاين، كما أن ملامح العنف السردي في هذا النص ربما تذكرنا بأسلوب بوهوميل هرابال في "عزلة صاخبة جدًا؛ فالسارد هانتا يخاطبنا طوّال الوقت كما لو كان ممسوسًا بحُمى التقويض، بهذيان الفصل بين اللغة وإحالاتها .. نجد في هذا التدفق العفوي المتوتر هوسًا "صاخبًا" بتحويل الأفكار والعواطف والمشاهد والتخيلات وصور الذاكرة إلى تناثر عشوائي من الأشلاء والأنقاض التي كافحت في الماضي لتكوين يقين ما أو إطار مرجعي غير قابل للشك .. إنه خطاب قد يعيدنا إلى كلمات "جاك دريدا" عن التفكيك: "لا! ليست للرسالة وجهة معينة أو محطة أخيرة، وما ذلك بالعامل السلبي. إنه الشرط التراجيدي الأكيد ولكنه الوحيد لكي يحدث ويُجدّ جديد" .. بهذا يتقمص العامل هانتا آلته فيتحوّل إلى جسد هيدروليكي ينتهك الظواهر التي تسعى لإثبات نفسها، ويحطم بنهم طائش سلطة المتعة الجمالية، ويُبقي أمانها مرجئاً طوال الوقت .. هذا ما يبرر خشيته من أن تسحقه كالفأر أطنان الكتب التي يحتفظ بها انتقاماً من تاريخه.
لنقارن هذا الجزء من التحليل السابق لـ "عزلة صاخبة جدًا" بهذه الفقرة من "غذاء السمك":
"كان جل اهتمامي بالأوراق لكنهم حملوني ونزعوا أطنان الملابس عني وربطوني بأسلاك الكهرباء التي أخرجوها من وراء ظهورهم وتندروا كثيرًا على جسدي الأملس ثم تناوبوا اغتصابي مستخدمين أدوات حادة .. أحسست أولًا بالرعب ثم بالألم ثم فقدت الإحساس نهائيًا وتهيأت للموت .. ويبدو أنهم أحسوا بذلك لأنهم بدأوا في إفاقتي بطعني بالمُدى الملوثة بدم الرجل المقتول وكأنهم يريدون إشراكه في الأمر .. الأول يسلم الثاني المُدية فيغرسها فيّ ويُسلمها للتالي الذي يختار بقعة أخرى وهكذا .. أصروا على ألا تخرج أي تفصيلة عن ترتيبهم .. كدت أخدعهم وأموت مرة أخرى لكنهم تداركوا الأمر وغيروا التكنيك فانتبهت .. مزقوا الأصابع ثم اليد اليمنى ثم اليسرى ثم القدمين ثم الأذن اليمنى ثم اليسرى والأنف وسملوا العينين ومزقوا فروة الرأس وأخرجوا القلب والكبد والكليتين وأكلوهم".
 الجسد الذي يأخذ مسافات منتشية غير محكومة من نفسه "الأفكار والعواطف والمشاهد والتخيلات وصور الذاكرة" ـ كما كان الأمر عند هرابال ـ حين يُترك عاريًا في حفل تعذيبي، وفي نفس الوقت يحوّل خيال هذا الجسد الممزق مشاهد الحفل إلى طقوس طفولية متنافرة، تتبادل كائناتها ما يشبه القرابين المدنّسة، بوصفها الخام البشري الذي يجدر بالكتابة استعماله لتخريب أي فردوس محتمل.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 2 يونيو 2019