الأربعاء، 25 يناير 2023

النهاية المفسِّرة لمسرحية بيرانديللو المحيِّرة

ثمة انتقاد يرافق دائمًا مسرحية “لكل حقيقته” للكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو، ويتعلق تحديدًا بنهايتها التي توصف من قِبل البعض بأنها “فانتازيا” لا تتوافق مع قصة “واقعية”.

تحكي هذه المسرحية عن “بونزا” الذي انتقل لبلدة جديدة مع زوجته وحماته “فرولا” ليعمل في وظيفة حكومية .. رأى سكان هذه البلدة أن “بونزا” قد وضع حماته في شقة لتعيش وحدها، بينما سكن هو وزوجته في بناية بعيدة، وأنه يغلق على زوجته باب شقتهما بالمفتاح، ويمنع أي شخص من رؤيتها أو التحدث معها، في حين يتم التواصل بين الحماة والزوجة عن طريق خطابات متبادلة بواسطة “السَبَت” الذي تُنزله الزوجة بحبل من الدور الخامس ثم تجذبه إليها بعد ذلك.

تتصاعد وتيرة النميمة بين أهالي البلدة ويبدءون في التطفل على حياة هذه الأسرة لمعرفة ما يقف وراء أحوالهم الغريبة : الزوج الذي يسجن زوجته .. الزوجة التي لم يرها أحد .. الأم / الحماة التي لا يمكنها الصعود لشقة ابنتها، وتكتفي بالنظر إليها من أسفل، وكتابة الرسائل لها وتلقيها منها.

تهتم أسرة المستشار “أغازي” على نحو خاص بتصرفات هذه الأسرة، ويستقبلون في منزلهم بعض الجيران المتلهفين لمعرفة حقيقة هذه الأسرة الغريبة.

حينما تتم مواجهة “بونزا” بما يدور في أذهان الناس يخبرهم بأن حماته مجنونة، وقد فقدت عقلها بعد موت ابنتها “لينا”، وإنها تعتقد أن هذه الابنة ما زالت حية، وتظن أن زوجته الثانية “جوليا” هي ابنتها .. أخبرهم أيضًا بأنه يحب حماته ويعتني بها حيث لم يصبح لديها في الحياة أحدًا غيره.

لكن عند مواجهة الحماة “فرولا” تقول لهم إن زوج ابنتها هو المجنون، وإنه يعتقد بأن ابنتها قد ماتت، وبأنه تزوج امرأة أخرى، ولكن الحقيقة أن ابنتها مازالت حية، وهي التي تعيش الآن مع زوجها.

حينما يجبر رئيس العمل “بونزا” على إحضار زوجته إلى منزل المستشار “أغازي” تخبر الجميع بأنها ابنة السيدة “فرولا”، وأنها في الوقت نفسه الزوجة الثانية للسيد “بونزا.”

تنتهي المسرحية بشقيق “أماليا” زوجة “أغازي”، أو من يبدو أنه يجسد “برانديللو” نفسه في المسرحية؛ السيد  “لامبرتو لوديسي” وهو يضحك بسخرية قائلًا: “والآن أيها السادة ، من يقول الحقيقة؟. هل أنتم سعداء؟”.

إن إجابة “أنا لا شيء، أنا من تختارون أن تكونها” التي وصفت بها الزوجة نفسها ليست “فانتازيا” إلا بالنسبة إلى الذين يريدون إجابة واضحة ومباشرة مثل أولئك “الفضوليين الحمقى” كما صوّرهم “بيرانديللو” في مسرحيته، ولكنها إجابة في منتهى الواقعية لمن يريد “فهم” الإجابة وليس الحصول عليها بطريقة سهلة، فضلًا عن أن السيد “لامبرتو لوديسي” قد أوحى بهذه الإجابة بالفعل خلال أحداث المسرحية باستخدام بعض العبارات الدالة مثل:

“صدقوا ما يقوله لكما الاثنان”

“لا تصدقوه ولا تصدقوها”

“أنتم في مسيس الحاجة لهذه المستندات أو لأي مستند ينفي التهمة عنها أو عنه، ولكني لست بحاجة أبدًا إلى شيء منها؛ فالحقيقة لا توجد بين سطور المستندات ولا تؤكدها حروفها بل مكانها هو النفوس، نفوس الناس، وهذه النفوس وللأسف أسرار محجّبة لا أمل أبدًا في اكتشافها أو الوصول إلى سرها أو معرفة ما تنطوي عليه، لهذا لا يسعني إلا تصديق كل ما يقال”.

“لا يمكن لأحد أن يقول أيهما المجنون؛ لا لأن المستندات والوثائق ضاعت في حادث الزلزال أو التهمتها الحريق، أبدًا، بل لأنهم طمسوا هذه البراهين في نفوسهم وأرواحهم، عليكم أن تفهموا هذا، فقد تبادل خيالهم الخصب أسطورة ترتفع إلى قوة الحقيقة وروعتها، وقنع بها ثلاثتهم،  وارتضوا العيش في ظلالها .. هذه هي الحقيقة .. الحقيقة التي نسجها خيالهم قوية، ثابتة، لا يرقى إليها أي دليل، ولا يستطيع دحضها أي برهان؛ فهم يستنشقونها ويرونها ويلمسونها ويحسون بها تملأ نفوسهم”.

“لنفترض أولًا أن “فرولا” هي صادقة فعلي أي صورة تتراءى لـ “بونزا” هذه المرأة، إنها والحالة هذه تكون ابنة السيدة “فرولا” التي لا يرى فيها “بونزا” غير خيال زوجة ثانية، وإذا كان الحق مع “بونزا” فعندئذ “فرولا” لا تجد في زوجة “بونزا” الثانية غير شبح ابنتها المتوفاة، واختصارًا للموضوع نحن أمام شبحين؛ فعلينا أولًا أن نتحقق أن هذه المرأة التي لا تعدو أن تكون شبحًا بالنسبة إليهما من تكون بالنسبة إلى نفسها .. هذه هي المشكلة، والواقع أنها مشكلة تحتمل كثيرًا من الشك والريبة”.

إجابة الزوجة تعني ببساطة أنها امرأة فاقدة الذاكرة، لا تعرف هويتها، ماضيها، وأنها في الحقيقة ليست ابنة السيدة” فرولا”، وليست الزوجة الثانية للسيد “بونزا”، ولكنها قبلت وتعايشت مع كونها شخصيتين مختلفتين: “لينا” و”جوليا”، بحسب ما يعتبرها كل من الرجل والمرأة العجوز وفقًا للوهم المتسلط عليه وأصبح واقعًا محسومًا بالنسبة له.

تشير نهاية المسرحية إلى أنه كانت ثمة علاقة من نوع غير مألوف بين “فرولا” و”بونزا” سبقت مغادرتهما لبلدتهما التي دمرها الزلزال .. علاقة بين شخصين وحيدين تمامًا، تقوم على تخيّل مشترك بأن هذه العجوز لديها ابنة تمتلك سمات وصفات محددة “ماهرة في اللعب على البيانو مثلا”، وأن الرجل قد أحب الصورة المفترضة لهذه الشابة بهوس عارم .. تحوّل هذا التخيّل إلى تواطؤ عفوي بين الرجل والمرأة على تصديق ذلك الوهم، وبالتالي منحا هذه الشابة حياة كاملة انتهت بيقين متبادل بينهما بأن الرجل قد تزوج الابنة حقًا .. بعد حدوث الزلازل الذي حوّل البلدة إلى خراب كما تصف المسرحية، وتحت وطأة الخضوع القهري للوهم؛ اعتقد “بونزا” أنه قد فقد زوجته؛ حيث كان عشقه الجارف لها يبقيه في خوف دائم من ضياعها .. على جانب آخر لم تصدق “فرولا” أن ابنتها قد ماتت؛ إذ لم يكن لديها استعداد لخسارة الابنة الوحيدة التي ـ بعكس ما قرر الزوج ـ كانت نجاتها من الزلزال دليلًا على كونها ذات وجود فعلي .. ثم حدث اللقاء الذي انتهى بالزواج بين الرجل والمرأة التي أصابها فقدان الذاكرة نتيجة الزلزال، والذي محا كل دليل لحياتها السابقة .. اعتبر “بونزا” أن هذه المرأة هي زوجته الثانية لكونه متأكدًا من أنه كان لديه زوجة أولى هي ابنة السيدة “فرولا”، وأن هذه الزوجة قد ماتت أثناء الزلزال، وكان ذلك التمسك بكون هذه المرأة هي زوجته الثانية يوطد لديه اليقين بداهة بأن الزوجة الأولى كانت إنسانة حقيقية، ومن ثمّ فإن حبه الغامر لها قائم على أساس ملموس يضمن له البقاء حتى بعد الموت .. قرر “بونزا” أن يصطحب “زوجته الثانية” إلى بلدة أخرى، ليس نتيجة ما ألحقه الزلزال ببلدته، ولكن في المقام الأول لكي يقطع أي خيط محتمل يمكن أن يصل زوجته فاقدة الذاكرة بماضيها، وهذا ما كان يقف وراء إصراره على إخفائها كليًا عن الأنظار داخل بيت منعزل .. كان يخشى أن يتسبب ظهور أي أثر من هذا الماضي في حرمانه من “زوجته الثانية” وبالتالي يكابد الفقد مضاعفًا .. كان عليه أيضًا أن يصطحب معه “حماته” حبًا ووفاءً لها وإكرامًا لذكرى “زوجته الأولى” وأن يعتني بها كابن مخلص، وكان على هذه السيدة ـ التي تعتبر أن ابنتها ما زالت على قيد الحياة ـ أن ترضخ لحكم الرجل بألا تلتقي بزوجته، وأن تتواصل معها عبر مسافة كبيرة فاصلة لأن تلك هي الكيفية الوحيدة التي تجعلها بالقرب من “ابنتها”، وفي الوقت ذاته أجبرت على الدفاع عن “زوج ابنتها” أمام الناس لتحمي هذه “الابنة” مما قد ينالها من أذى قد يتعرض له زوجها، والذي قد يضطره إلى الرحيل بها إلى حيث لا يمكن لهذه العجوز أن تصل إليها .. كان “بونزا” يريد لهذا التباعد بين “فرولا” وزوجته أن يساهم في إذابة تصوّر العجوز بأن ابنتها ما زالت حية، وأن تذعن لفكرة موتها في الزلزال .. هكذا كان بديهيًا أن يبدو كل منهما مجنونًا في نظر الآخر، وأن يتأرجح الاتهام بالجنون بينهما في نظر الجميع.

إن الزوجة فاقدة الذاكرة بهذه الإجابة في نهاية المسرحية كانت تحمي كل من السيدة “فرولا” والسيد “بونزا” من ردود الأفعال العدائية التي يمكن أن تطارد أي منهما إذا ما انحازت لوهم الآخر .. كانت إجابة تبرهن العطف والشفقة داخلها تجاه العجوز والرجل انتظارًا لخلاص محتمل، فضلًا عن كونهما يمثلان الحياة التي لا تملك غيرها.

تكمن براعة بيرانديللو في إعطاء إجابة تمحو الفرق بين الواقع والفانتازيا، وتجعلهما شيئًا واحدًا، وفي نفس الوقت تجعله ملاءمًا للمعنى الذي أراده عن الحقيقة .. الحقيقة التي يُفترض بهذا الشكل أن تدفع كل شخص من الفضوليين إلى أن يعيد النظر إلى نفسه أولًا وإلى من يشاركونه حياته:

“إن لكل منهم مثل هذا الشبح ومع ذلك ألا تراهم يا عزيزي يركضون خلف الأشباح، يريدون اقتناصها، يا لغباوتهم، أيظنون أن في وسعهم القبض على الأشباح!”.

أراجيك ـ 24 يناير 2023

الأحد، 22 يناير 2023

ممدوح رزق في “أصوات معاصرة” عن مطبعة جامعة جورج تاون

عن مطبعة جامعة جورج تاون الأمريكية صدر الأسبوع الماضي كتاب “أصوات معاصرة” لطلاب المستوى المتقدم ويضم 55 قصة قصيرة باللغة العربية من عشرين دولة من الشرق الأوسط .. تم تنظيم القصص في فصول بناءً على بلدهم الأصلي، كما تسبق كل قصة سيرة المؤلف وتليها تمارين لمساعدة الطلاب على استخدام المفردات والفهم واستكشاف التقاليد الأدبية وإتقان التحليل الأدبي .. اختار قصص الكتاب جوناس البوستي وهو مدير الدراسات الجامعية وبرنامج الصيف العربي في الخارج بجامعة ييل، وكتب مقدمته روجر ألين وهو أستاذ فخري بجامعة بنسلفانيا .. يضم الكتاب 3 قصص قصيرة من مصر بحسب ترتيب النشر:

نجيب محفوظ: حكمة الموت

ممدوح رزق: اللعب بالفقاعات … من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة”.2013

عايدة بدر: الجسر

يُذكر أن ممدوح رزق قد حصل مؤخرًا على جائزة مؤسسة ناجي نعمان الأدبية بلبنان تكريمًا عن الأعمال الكاملة، ويستعد لإصدار كتابه الجديد “وهم الحضور / مذكرات الكادر الضال” عن دار عرب.

موقع "الكتابة" الثقافي

20 يناير 2023

الأربعاء، 11 يناير 2023

“قانون اللعبة” لممدوح رزق … أول نص مسرحي عن جريمة مقتل “نيّرة أشرف”

بإهداء إلى نيّرة أشرف، سارة حجازي، ونوال السعداوي افتتح الكاتب ممدوح رزق مسرحيته الجديدة “قانون اللعبة” الصادرة عن دار ميتا للنشر والتوزيع في مصر .. تتناول المسرحية علاقة الوجوه الاحتيالية والاستلابية والقمعية للسلطة بتكوين غريزة “المراقبة والعقاب” لدى الفرد خاصة في ترصدها الديني والذكوري، واستهدافها الانتهازي للمرأة سواء بالقتل أو بالحماية التشريعية للقاتل.

أسامة رجب / نشرة “المقام” الأدبية

11 / 1 / 2023

تحميل المسرحية

https://drive.google.com/file/d/1R3_fc1og0DjKRKSQ0UGlmMrpHuKIghMI/view

 

الثلاثاء، 10 يناير 2023

قتل الحنين

أجلس أنا وزوجتي وطفلتي عصرًا حول طاولة في نادي “الحوّار” على النيل تواجه الطريق الواصل بين “طلخا” و”جوجر” .. أتأمل الأشجار والنباتات الكثيفة التي يلاطفها النسيم البارد والممتدة على جانب الطريق، البيوت المنخفضة مغلقة النوافذ والشرفات، المدخنة العالية لمصنع طوب، سيارة تعبر ثم تتبعها أخرى بعد فترة .. لا أحد هناك تحت ضوء الشمس الخفيف الذي يغطي المشهد الصامت مختلطًا بالزرقة الرائقة لسماء ما قبل المغرب .. أرى شيئًا من روح السكينة الثمانينية مجسّدًا أمامي على الضفة الأخرى من النهر .. يتسلل إلى داخلي أثر بالغ الوهن من الشعور الطفولي بالاندماج مع المزيج النقي بين الألفة الشعبية والريفية القديمة وقت العصر الذي كان يحتويني أثناء الوقوف في الشرفة أيام الجُمعات والأجازات منذ أربعين سنة .. حينما كانت تُغلق المحلات والدكاكين، ويقل عدد المارة الذين يعبرون الشارع، وترتفع زقزقة العصافير فوق الشجرة المقابلة للمنزل مع اختفاء الضجيج اليومي المعتاد .. الحميمية الصافية التي كانت تملؤني بنشوة تختلط فيها الألوان حيث المشهد المشمس الذي أسكنه أقرب للانتماء إلى القصص المصوّرة وأفلام الكارتون .. روحي الصغيرة المحلقة تتوحد بالنعومة البدائية الطازجة المستقرة في ذلك الانكماش الشتائي الناصع.

التقطت صورًا كثيرة للطريق .. سجّلت فيديو بحركة بطيئة للكاميرا حتى لا تغيب أي تفصيلة من تكوينه .. أطياف متناغمة تجتاح نفسي وتنفلت فورًا من وعيي .. ظلال وخيالات متناهية الشحوب والتفتت لأفكار وصور وأصوات وروائح وأشياء .. كنت أجلس على تلك الطاولة باعتباري الأشلاء المتناثرة، الجسيمة، الدامية، الصدئة والمحترقة لذلك الطفل .. أسعد بعذاب الملامسة المهترئة من مسافة غاية في البُعد لذلك الإحساس الهزيل المنطفئ والخاطف بإشارة خبيثة تجاه ما لا يمكنني حتى تذكره .. على الطاولة المجاورة كان يجلس رجلان في عُمرك تقريبًا يا مجدي لو كنت ما زلت على قيد الحياة .. ليس عمرك الباطني بالطبع .. كل منهما يرتدي الملبس الرجالي الذي كان يمكن أن ترتديه لو ظلت أنفاسك المفعمة بالسجائر والكحول والمرارة مستيقظة حتى الآن .. في عيني كل منهما نظرة من تكوّن ماضيه بلذة التأرجح المتواصل في المدينة، كأنهما عيناك لو لم تُغلقا مبكرًا للأبد .. كانا يتحدثان بذلك المستوى من الصوت الذي يتيح لك التعرّف على موضوع حوارهما، ولكنه لا يُكسب كلماته وضوحًا تامًا في أذنيك .. كانا يتحدثان عن الأوضاع الاقتصادية الراهنة ولم يكن ذلك مُهمًا بالنسبة لي دون شك .. كنت أحاول تشكيل صوتيهما في ذهني بكلمات بديلة لما ينطقان به .. أحاول أن أجعلهما يتحدثان عن ذلك العصر الثمانيني الشتائي الذي يلوّح لي مضمرًا شر العالم كله عبر ذلك الطريق الممتد أمامي، ولا يمكنني مطلقًا انتزاعه من وعده اللئيم .. كنت أحاول أن أجعل الرجلين على الطاولة المجاورة أنا وأنت يا مجدي .. كأن استرداد الحياة القديمة يتوقف على مدى قدرتي في تحقيق هذا التشكيل الصوتي .. كأن استردادك يتوقف على ذلك .. لكنني كنت عاجزًا عن إيجاد الكلمات الملائمة لهذا الحديث الذي أريد استبدال حوار الرجلين به .. لأنني لا أريد الثمانينيات يا أخي .. أريدها أن تنفذ وعدها وإن كانت كاذبة .. أريد معجزتها التي لم تصرّح بها حتى لو لم تكن إيماءاتها السابقة كافة سوى خداعًا جحيميًا .. إنني أستمتع بقتل الحنين يا مجدي بقدر ما يتمادى في قتلي.   

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

الجمعة، 6 يناير 2023

مجلة "الكلمة" تعيد نشر قصتي القصيرة Facebook من مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة"

يتخطى الكاتب المصري حاجزى الزمان والمكان، مستعينا بفن "الكولاج"، ليشكل فى النهاية رؤية. فرغم التباعد –الظاهرى- ورغم أن قصته "فيسبوك" لا تعتمد (الحكاية) المتصاعدة، إلا أنها فى النهاية تعبر عن رؤية للحياة العصرية، تقوم على المواجهة، بين الماضى والحاضر، فى إدانة لتشوهات الحاضر، الذى عبث به الإنسان.

Facebook

ممدوح رزق

 

 مثلما يأخذ أحيانًا شخص في الحلم دور شخص آخر فجأة؛ يطلق (حنفي الأبهة) النار على (خيري) فتشكل ملامحه على الفور وجه (سلفادور دالي) .. ينتهي الكيتش الأدائي لـ (مجدي وهبة) بتحول مباغت إلى أيقونة سيريالية عند تمثيل الموت .. ليست الأيقونة كما هي فحسب بل أضافت إليها اللحظة غير المتوقعة ما كان ينقصها أيضًا: طلقة في الرقبة ودماء تتدفق من الفم

* * *

في اللقاء الثاني على الماسنجر مع قاصة عربية كنت أحاول بارتباك التوصل إلى الحيل اللغوية القادرة على توجيه الحوار بيننا عن القصة القصيرة إلى مسار ينتهي بجنس عبر الكام؛ حيث لم يكن باستطاعتي وفقًا لمعرفتي بنفسي، وتحت الثقل المحموم لشهوتي تجاهها تصديق أنه بالإمكان تحقيق معجزة تحطم سلطة الجغرافيا وتجمعنا أنا وهي في سرير واحد .. كنا نتحدث عن تقنية ما وراء القص عندما سألتني فجأة: معاك رصيد في الموبايل؟ أجبتها: أيوه .. ليه؟ كتبت القاصة العربية دون أن تخطئ في حرف واحد: عذرًا لأني مش معايا رصيد .. ممكن تبعث رسالة للرقم ده في مصر وتقول له أن حبيبتك تنتظرك على الماسنجر، وإنك لو ما دخلت الشات الآن فإنها لن تأتي لزيارتك الأسبوع القادم كما وعدتك؟

* * *

لكي يثبت اهتمامه العميق واقتناعه التام يستمر صديقي في هز رأسه رافعًا حاجبيه وأنا أتكلم .. مع صلعه النصفي والغفلة التي تثقل عينيه وملامحه وتجعله أغلب الوقت يبدو كأنما استيقظ توًا من النوم أشعر بالامتنان للقدر الذي أعاد إنتاج وجه (اسماعيل ياسين) في حالته ما بعد الحداثية .. يجلس صديقي في المقهى وينظر لأسفل باستكانة كأن تاريخ العالم كله مر على التصاقه بقاع حفرة منسية داخل فيلم رديء، ومن حين لآخر ينبغي على انفعالاته التظاهر بأن هناك أمرًا ما داخل حفرته أو خارجها يتجاوز حد تمضية الوقت، ويستحق الشغف أو على الأقل يستدعي الانتباه .. المشهد الذي لم تره أبدًا لاسماعيل ياسين .. اللحظة التي لا يريد فيها أن يكون عاديًا أو حكيمًا أو مضحكًا، ولا يريد كذلك أن يخبر أحدًا بطريقة ما أن وراء ضحكاته تعاسة هائلة .. النقطة التي تقع خارج الزمن، ويريد أن يعطي عندها إشارة غير ملحوظة ربما بأنه يتمنى فقط أن يتبخر دون أن يموت

. * * *

منذ سنوات كثيرة قرأت في مجموعة قصصية لكاتب لا أتذكر اسمه الآن قصة قصيرة يوجّه القاص في سطورها الأولى خطابًا مباشرًا للقارئ عن أنه سيترك صفحات فارغة من أجله كي يكتب فيها أي شيء يريد أن يوثقه عن حياته .. بعد ثلاث أو أربع صفحات فارغة فعلًا عاد القاص ليؤكد على القارئ بأنهما الآن أصبحا صديقين دون حاجة لأي لقاء مباشر، وأن كلًا منهما بهذه الطريقة ضمن وجود أحد ما سيظل يتذكره، ولن ينقطع أبدًا عن زيارة قبره بعد الموت حتى لو لم يفعل ذلك حقًافي الصفحات الفارغة كتبت أن هذا القاص مخادع ويفترض بقرائه السذاجة، لأنه ببساطة لم يكتب عن الكيفية التي ستجعله يطّلع على ما سيكتبه أي قارئ عن نفسه في المساحة التي خصصها له حتى يتحقق التوازن العادل للصداقة عبر الكتابة بينهما، وللذكرى التي ستظل حية داخل كل منهما بعد الموت .. لم يطلب مثلًا إعادة إرسال نسخة المجموعة القصصية إليه على عنوان ما حتى يقرأ هو الآخر ما كتبه القارئ عن حياته مما يؤكد أن الأمر لا يعنيه مطلقًا .. كتبت أن هذا القاص إما أنه لم يجد شيئًا يكتبه، أو أنه يسعى لتثبيت ذاته ككاتب في وعي القارئ بطريقة مبتكرة تعتمد على استغلال لافتات عاطفية مبتذلة كـ (الصداقة دون لقاء) و(الذكرى التي لا تموت) و(المداومة على زيارة قبر صاحب لم أره أبدًا)، وبواسطة مشاركة شكلية من شخص لا أهمية لسطوره سوى أنها ستضمن الحفاظ على الكاتب ومجموعته القصصية في ذاكرته فحسبلا أعرف ما هو الدافع الكوني الذي جعلني أتذكر هذه القصة وما دوّنته عن كاتبها في الصفحات الفارغة حينما طلبت مني القاصة العربية إرسال الرسالة لحبيبها.

* * *

 يقول (نجيب الريحاني) إن ناظر الوقف حرامي حمار، لكن من استنكر هذه الصفة بثورة مكتومة ليس (عباس فارس) بل الحمار نفسه .. من الذي اكتشف ملامح الحمار المختبئة داخل وجه (عباس فارس)؟ .. نجيب الريحاني أم ابراهيم حلمي مخرج (أبو حلموس) أم عباس فارس نفسه أم أحد آخر؟ .. كيف تم هذا الاكتشاف ؟ .. لم يقتصر الأمر على انفعال الملامح فقط بل كان الصوت كذلك داعمًا حاسمًا في الكشف عن الحمار الغاضب .. هل يمكن تصديق وجود احتمال ولو ضئيل بأن الأمر كان مجرد صدفة ؟ .. بالتغاضي عن الرسالة أو القيمة الأخلاقية المحتملة المراد تمريرها عن (غباء الشر) مقابل (ذكاء الخير) الذي ينتصر في النهاية مخلصًا صاحبه من الشقاء الذي عانى منه طوال الفيلم!، وبالتركيز على أن لقطة ظهور (الحمار) كانت خاطفة للغاية؛ سيكون من الوارد التفكير في تفسيرات عديدة لذلك أهمها في تصوري هو: خطأ خاص بالمونتاج، خلل في نسخة الفيلم بفعل الزمن، الاستجابة لرغبة (عباس فارس) في عدم التوقف طويلًا عند هذا الاكتشاف

. * * *

 كان يمكنني بمنتهى البساطة إخبارها بأنني أرسلت الرسالة دون أن أرسلها، متحصنًا بأي تبرير منطقي يمكنه أن يفسر فيما بعد عدم وصولها لحبيبها .. لكنني بمنتهى الطاعة والإحساس بالواجب وبحرص تام على الالتزام الحرفي كتبت الرسالة فورًا وأرسلتها .. كان الامتثال التلقائي لطلب القاصة العربية بمثابة توجيه شكر وتقدير للغيب الذي قرر حمايتي من الاستمرار في السعي إليها دون أن يحملني مسؤولية التراجع أو يشعل بداخلي جروح الحسرة والخزي الناجمة عن الهروب بتحريض من الخوف .. أنقذني من الشعور التقليدي بالعجز والفشل الذي كنت على يقين بأن آلامه المعتادة تتجهز لتعذيبي من جديد في جميع الأحوال سواء طال الوقت دون أن أصل لجسد القاصة العربية ـ كما حدث مع جميع من حاولت الوصول إلى أجسادهن ـ أو حينما تأتي لأول مرة اللحظة الوحشية التي سيواجه عري كل منا الآخر وينجح اضطرابي الخجول ببراعة فريدة في تدمير العالم .. كتبت الرسالة كأنني أتحسس بفرح جدران الكوخ الصغير الذي أنكمش متواريًا بداخله، غير مصدق أنني لازلت محتفظًا به بعد أن كنت على وشك خسارته .. كمن يخفي باعتزاز خبيث مكسبًا غير متعمّد؛ أخبرت القاصة العربية بحماس واثق أنني أرسلت الرسالة، ولم أخبرها أنني سأشاهد الليلة فيلما لنجمة البورنو Jaylene Rio لأنها تشبهها كثيرًا، وأنني سأكتم صوت الفيلم لأستمع إلى (كونشرتو براندنبورغ) لـ (باخ) أثناء الفرجة والاستمناء .. لم أخبرها أنني سأكون سعيدًا جدًا

. * * *

عرفت في طفولتي أن للسيارات وجوه بشرية .. ملامح تعطي نفس الانطباعات التي تتركها لديك ملامح الناس .. منذ ذلك الوقت أصبحت أنواع السيارات بالنسبة لي طيبة أو شريرة أو كوميدية أو ثقيلة الدم أو خبيثة أو مغفلة أو غير مبالية أو غامضة أو خجولة أو متطفلة أو غاضبة أو طفولية .. كنت أتأمل السيارات الواقفة في الشارع وقتا طويلًا وأتخيل حكاية ما تحدث بينها، مُحدِدًا لكل سيارة الدور الذي يتناسب مع طبيعة وجهها .. لماذا كانت (الفولكس) تأخذ دائمًا شخصية العجوز الحنونة؟ .. اكتشفت أنها تشبه جدتي كثيرًا: تهدل الوجنتين .. العينان المستسلمتان بوهن، واللتان لا تضمران أكثر من الرغبة في الأمان والبقاء وسط ألفة العائلة والذكريات .. الارتخاء الأمومي الناعم للجلد أسفل الذقن .. صغر الحجم .. التمسك بالانزواء (على الكنبة أو السرير بالنسبة لجدتي، وفي ركن ضئيل بالشارع بالنسبة لـ (الفولكس) .. كانت جدتي تعيش وحيدة في بيتها القديم المتهالك، حتى وهي في بيت أي من أبنائها كانت تبدو أنها تعيش وحدها أيضًا .. في الليل وبينما الجميع نائمون؛ كنت أحيانًا أخرج إلى البلكونة وأجد سيارة (فولكس) واقفة وسط البرد والسكون والإضاءة الخافتة .. كنت أشعر بأن لدينا أمنية مشتركة في أن أنزل إليها وأحتضنها أو أربت عليها كي تطمئن أن أحدًا معها، لكنني لم أتمكن أبدًا من تحقيق هذه الأمنية لنفسي أو لـ (الفولكس) أو لأي كائن يشبهها

. * * *

 لا يستغرق الـ sign out أكثر من لحظة واحدة .. لكنها كانت كافية لأن أنتبه للمرة الأولى بأن كاتب القصة لم يذكر شيئًا عن نفسه .. كل ما فعله أنه ترك صفحات فارغة دون أن يترك أي أثر لملامحه .. أنا الذي كنت أريده أن يراني بأي شكل، واعتبرت عدم رغبته في ذلك إهانة تتطلب الانتقام ولو بكلمات لن يقرأها أبدًا .. اعتداء على حقي في الألوهة والذي لن أحصل عليه إلا بتثبيت ملامحي في ملامح أخرى .. لم يكن يريدني أن أرى وجهه، وأيضًا لم يكن يريد أن يرى وجهي .. ربما ليس لأن لدينا نفس الوجه، ولا لأن وجه كل منا لا يختزن الوجوه كافة فحسب بل يحتفظ كذلك بأحلامها وكوابيسها وجميع هواجسها السرية التي لا تدركها عن نفسها .. ربما رفض منح أي فرصة لأن يحاول وجه كل منا الاستيلاء على الآخر .. لم يرغب في أن نتورط في الصراع الأزلي على الطمس المتبادل للملامح واحتلالها .. ربما كان يعرف أن كل الوجوه ليست سوى حالات مزاجية مبهمة لوجه غائب أو مختبئ ، وأن علينا في المقابل أن نكون لا مرئيين، امتدادًا لانهائيًا من الاحتمالات غير المؤكدة .. كأنه كان يريد أن يحرق السماء بوضع وجهينا في خفائها المقدس ليضمن للصداقة والذكرى الخلود فعلًا . لا يستغرق الـ sign out أكثر من لحظة واحدة .. لكنها كانت كافية لأن أتذكر أنني الذي كتبت القصة القصيرة ذات الصفحات الفارغة، ولم أنشرها أبدًا.