السبت، 30 سبتمبر 2017

أربعون عاماً في انتظار إيزابيل: أن تغيب لتحكي

تناوش رواية (أربعون عامًا في انتظار إيزابيل) لسعيد خطيبي الصادرة عن منشورات ضفاف والاختلاف؛ فكرة بناء الحكايات اعتمادًا على الغياب .. غياب الذات .. غياب الآخر .. غياب الذكرى المشتركة .. غياب الغاية المؤكدة من تكوين العالم الذي يمكن ينشأ عن تمازج لانهائي من الحكايات، أو بالأحرى تداخل لا ينقطع لظلالها غير المشبعة.
(سأرسم لوحتين أخيرتين ليوميات إيزابيل إيبرهارت، أردمهما في حديقة البيت، بين الكرمة وشجرة الليمون، وسأفعل الشيء نفسه مع اللوحات الثلاثة عشرة الأخرى، وابتلع، كالعادة، كلمات سليمان الصاخبة ولعناته. لن أرد على لومه لي بأنها فعلة مخلة بأخلاق الفن، فقريبًا، سيدرك أني عشت لأرسم وأدفن فني، وأن ثقتي كبيرة في أناس يأتون من بعدي، يحفرون عميقًا؛ بحثًا عن لوحاتي، ليقيّموها بأنفسهم يحكموا عليها: قد يرجمونني بتهمة الاستشراق، يبصقون عليّ، ويتبولون على رسوماتي وعلى اسمي، ويتهمونني بالعمالة والفجور، وربما سيحبونني، يحدقون طويلا في أعمالي، يشيدون بها، ثم يعلقونها حيثما شاؤوا: على الحيطان العارية، أو في بيوت الله المبعقة بالبخور، أو يعرضونها في السوق الأسبوعية صباح كل جمعة، يأكلون من ثمنها القليل خبزًا حلالا، وقد يجعلون من بيتي هذا، الواقع بين المسجد ومقبرة لشهداء الثورة، متحفًا أو مزارًا أو قبة للزاهدين، ويكتبون سيرة لي غير سيرتي الحقيقية).
لا يجدر بنا أن نفكر في لوحات (جوزيف رينشار) التي رسمها اعتمادًا على يوميات الرحالة (إيزابيل إيبرهارت) بعد عثوره عليها بقدر ما ينبغي ـ وفقًا لهذا الإغواء ـ أن نفكر في كافة اللوحات غير المنجزة، التي لم تغادرنا سواء عن آخرين لم نقابلهم، وإنما أتيح لنا أن ندرك انسجامًا أو جدلا ما بيننا وبين آثارهم، أو أولئك الذين ينتمون إلى عالمنا الشخصي، ومع ذلك لدينا ضرورة لمحاولة اكتشافهم بعيدًا عن حضورهم المتعيّن بوصفه ـ رغم كل شيء ـ قمعًا لخيالنا.
(تتداخل في ذهني الذكريات، وأعجز أحيانًا عن الفرز بينها. ربما هي مقدمة ألزهايمر! مع أني أستبعد ذلك، لست هشًا بما فيه الكفاية لأفقد ذاكرتي كليًة، مازلت ـ مثلا ـ أتذكر أيامًا مهمة من حياتي، خصوصًا لما كنت أتلقّى الأوسمة الشرفية في باريس: وسام صليب الحرب، وسام المناضل، وسام جوقة الشرف وميدالية الفارين، التي منحت لي تكريمًا لشجاعتي في الفرار من معتقل ألماني).
في (أربعون عامًا في انتظار إيزابيل) يعد التيه هو الجسر المشترك بين جوزيف وإيزابيل .. بين يومياتها ولوحاته .. لكن هذا الجسر ليس مجرد طريق مجازي بين حياتين، وإنما متاهة من الممرات المتشابكة لحيوات أخرى امتلكت الدوافع التي تبرر عبورها نحو هذا الاندماج.
بهذا يستطيع كل عنصر أو فضاء داخل الرواية أن يتجسد لدينا في صور ذاتية بديلة ومتباينة: الصحراء .. العنف السياسي .. الحروب .. النبذ .. الخروج من ديانة إلى أخرى .. الاغتراب .. الموت .. أما التساؤل الذي سنجد أنفسنا في مواجهته إثر هذه التأملات فهو: كيف يمكننا أن ندفن لوحاتنا غير المنجزة عن الآخرين مثلما فعل جوزيف؟ .. كان لهذا المحارب القديم قدرة على الاستجابة لرغبته في رسم يوميات إيزابيل، وفي المقابل لن يكون بوسع كل من افتقد هذا الاحتياج سوى أن يترك لوحاته الخاصة عن الآخرين مدفونة داخل جسده، وبالتالي ستحصل هذه اللوحات على دفن مضاعف حين يصير هذا الجسد جثة في باطن الأرض.
لم يكن لجوزيف القدرة على الاستجابة لرغبته في رسم يوميات إيزابيل فحسب، بل كان في استطاعته أيضًا التفكير في معنى أن يدفن لوحاته، في الأسباب الوجيهة التي تجعل من تحويل هذا الإلحاح إلى واقع أمرًا ملزمًا .. هل فكر جوزيف في حكاية أصلية لا يمكنها أن تروى أبدًا مهما تعاقبت اللوحات؟ .. هل شعر بأن الحكاية لا تحدث إلا عبر اكتشافها في حكايات أخرى، أو بشكل أدق، داخل الفراغات الصامتة لهذه الحكايات، وهذا ما سيحتم بالتالي عدم العثور عليها؟ .. هل كان يطمع في إعجاز ما يقع خارجه زمنه الفردي، أي يقوم بشكل أساسي علي غيابه عن الحياة ـ مثل إيزابيل ـ ويمكنه توظيف هذه الحصيلة من الإشارات والتصورات والعلامات في الوصول إلى هذه الحكاية، التي ربما ـ نتيجة لذلك ـ ستمنح كافة الموتى أبدية مثالية؟.
(خسرتها يوم هجرتها، وهي أرملة، مدة فاقت العام، وأنا مراهق في الخامسة عشرة، وذهبت للعيش في دير بعيد، بالقرب من مرسيليا، بعدما شعرت بأنها تراقب كل خطواتي وتفاضل بيني وبين أخي أوليفيي، وأني صرت مثل سجين في حضرتها، لا تترك فرصة من دون التعليق على تصرفاتي، ونهري ورفع صوتها عليّ، أمام إخوتي وأمام أطفال الجيران، ثم خسرتها يوم رفضت أن أعيش معها في البيت، بعد الحرب، وتركتها لأشتري شقة في ضاحية باريس، وخسرتها مرة أخيرة ونهائية يوم ماتت، بعد عشر سنوات من وصولي إلى الجزائر، بسرطان الكبد، وهي مستاءة من خياري بالذهاب للعيش في بلاد بعيدة عنها).
إن ما يمكن أن يلهمنا به جوزيف، وبشيء من الإصرار أن كل سعي لتحويل المراوغات الحكائية إلى يقين سيؤدي إلى موت ذلك الغائب الذي نحاول إيجاده، وأن ما نسعى لبنائه حقًا ليس أكثر من احتمال متغير، قد لا يحدده سوى ما تدعيه الشذرات المتأرجحة من إمكانيات مؤقتة للتماسك، أو بأنها على وشك الوصول إليه .. هذا بالضبط ما يشبه إطعامك لقطة صغيرة، كما كان يفعل جوزيف .. أن تعتني بحياة في بدايتها، تراقب تحولاتها دون أن تضمن ما ستصير إليه، فضلا عن تأكدك من حتمية موتها.
(وضعت الأوراق على حجري مجددًا، رتبتها بحسب ترقيمها، وطلبت منه، قبل أن أبدأ، أن يوقفني عند كل مقطع لا يعجبه، أن يطلعني على رأيه، أن يتدخّل كلما لزم الأمر، ويضيف من عنده أشياء تكون ربما وقعت سهوًا من الحكاية، وأن يساعدني على إكمالها، وسرد كل الأشياء المهمة وغير المهمة التي مرت في حياتنا ولم أنتبه إليها، أن نتم قصة الأربعين التي جمعتنا، قبل أن يتوقف قلبي عن النبض أو يتصل بي سعيد بن لخضر خطيبي كما وعدني، وأسلم له مخطوط إيزابيل إيبرهاردت، وأقطع بعدها مباشرة علاقتي بالأدب، أخبرته أن مخطوط الرحالة الملعونة ملك له أيضًا، أن يسلمه لابن لخضر بنفسه لو زارني عزرائيل هذا الأسبوع).
تخرج بنا الرواية من التاريخ إلى السلطة الغيبية المبهمة التي يبدو أنها تحكم بناء حكاياتنا مع الآخرين مهما كانت الخطوات التي سنتخذها لتحقيق ذلك، ومهما كانت المصائر التي ستنتهي إليها هذه الافتراضات .. كأنك حينما تكتب أو ترسم عن وجود محتمل مع آخر فإنك في الحقيقة تحفر داخل ما يشبه ذاكرة عامة للقهر، تستعمل هذه الرغبة التي تسيطر على أجسادنا في أن نكون أكثر من مجرد أفراد على وشك التبدد .. كأنك حينما تحاول تكوين سيرة جديدة مشتركة بين عالمك وحياة أخرى أملا في اكتشافات شاملة، تحرر بالضرورة كل ذات من كوابيسها فإنك تعيد صياغة نوع من العماء الحتمي الذي لا يكتفي بتحديد مسارات التباعد والانفصال، وإنما يهيمن كذلك على كافة التدابير التي يمكن اتخاذها من أجل خلق وجود مغاير، حتى لو تمثل هذا الوجود في كلمات مكتوبة، أو في خطوط وألوان.
هذا ما يمكن أن يمنحنا في الوقت نفسه شعورًا بإيمان خاص لدى الرواية بأن الأسرار المدوّنة في الأوراق واللوحات ـ في ظل خضوعها لهذا الاستبداد ـ هي الملامح الأكثر قربًا للعدم الذي لا يمكن التعرّف على وجهه .. بكل ما في الكلمات والخطوط والألوان من ارتباك ونقص وتشوّش، وحتى الخذلان الخبيث المتربص دائمًا في ثنايا النصوص والرسومات؛ يعلن دائمًا الظلام عن نفسه، كقرار أزلي محصن، لا يمكن إزاحته، أو الوصول إلى وصف مثالي لإقرارنا بوجوبه المطلق.
 جريدة (أخبار الأدب) ـ 1 / 10 / 2017

الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

«المعطف» لنيكولاي غوغول ... برد أبدي

لم تبتعد كلمات غلاف الطبعة الجديدة من قصة «المعطف» لنيكولاي غوغول، الصادرة حديثاً عن «منشورات الجمل» (بيروت) بترجمة سامر سمير كرّوم، من الحقيقة. فهذه القصة مثلما جاء على غلاف الطبعة التي تقع في 87 صفحة هي «تحفة فنية تنتمي إلى الأدب الخالد الذي يصلح لكل زمان ومكان». لا يزال أكاكي أكاكيفتش حاضراً منذ أن أعلن وجوده؛ وفق ما رأى الكاتب والناقد الإرلندي فرانك أوكونور في كتابه «الصوت المنفرد»، عن بداية ظهور «الرجل الصغير» في القصص، وهو الوصف الذي استخدمه أكونور ليحدد ما يعنيه بالقصة القصيرة أحسن مما تحدده أية مصطلحات أخرى. لم يحمل أكاكي أكاكيفتش الملامح المؤسسة لطبيعة (الشخصية) في القصة القصيرة، بل كان تأسيساً للقصة القصيرة ذاتها. كان بعمله كنسَّاخ يربط القصة القصيرة بذلك الإيمان بالتطابق، بعدم الاختلاف، بالمساواة في الأهمية بين وجود وآخر. كأن قصة «المعطف» حفرت وعداً في التاريخ بأنها ستكون احتفالاً أبدياً بالأقدار المتماثلة، وبمقاومة هذا التماثل. كان أكاكي أكاكيفتش ينسخ مع أوراق وظيفته شخصياتنا التي هي نسخة منه، فضلاً عن أن اسمه كان منسوخاً من اسم أبيه.
لم يكن اختيار مهنة النسخ اعتباطياً، في وعي غوغول، فهو لم يتغاض مثلاً عن ندم (الشخصية المهمة)، ومعاناته بين الدوافع الجيدة في قلبه، ورتبته التي تمنعه من الظهور على حقيقته. كان غوغول يدرك جيداً حقيقة أننا نخضع طوال الوقت إلى المزاج المأسوي ذاته الذي كان لهذه الشخصية، وبصيغٍ متنوعة حدَّ الخداع المعتم. كان يعرف أن السخرية المتبجحة، غير المحتملة التي كان زملاء النسَّاخ يحاصرونه بقسوتها لم تكن سوى إقرار بما يجابهونه من مهانة. يكفي أن نتخيل مساراً مضاداً تتيسر فيه الأحوال بما يشبه المعجزة التي لا يمكن تصديقها لأكاكي أكاكيفتش، وأن يعطيه العالم ما هو أكثر من معطف جديد كأن ينال المنصب ذاته الذي تشغله (الشخصية المهمة) مثلاً؛ كيف سيكون تصرفه أو رد فعله تجاه هذه الشخصية لو تبدلت أحوالها إلى النقيض، وانهار بها السلم الوظيفي لتجلس على مكتب النسَّاخ المُحتَقَر ثم جاءت إليه كي تشكو سرقة معطفها؟
إن ما يمكن أن يعزز اليقين بأن أكاكي أكاكيفتش لم يحمل الخصائص التي ستتحوَّل بعده إلى سمات جوهرية لـ (الشخصية) في القصة القصيرة فحسب، بل كان ذلك الفن ذاته أن غوغول لم يجعله في حاجة إلى طعام، أو إلى عاطفة امرأة، أو إلى ارتقاء مهني بل كان كل يحتاج إليه هو معطف. هامش الدفء الذي يمثل الحد الأدنى من أمان مراوغ. الحماية البسيطة التي ستشعر أحياناً بأنك نجحت في امتلاكها، ولكنها ستُسرق منك بسهولة لن تقدر على استيعابها، حتى أن الشكوك لن ترحمك في أنها كانت بحوزتك فعلاً. هذا ما جاءت القصة القصيرة من أجله.
بالعودة إلى النسخ: يتجلى ظاهرياً أنها حالة عقابية تلك التي ينتقم خلالها شبح النسَّاخ من الموظفين العموميين بسحب معاطفهم من فوق أكتافهم. لكن يبدو لي الأمر أنه أكثر من مجرد تعويض. الشبح لم يكن يبحث عن معطف يناسبه بعدما فقد معطفه في الحياة، ولكنني أتصور أن هذا الشبح يخرج في الحقيقة من داخل كل فرد رأى هذا الشبح أمامه، وأخذ منه معطفه. بموت أكاكي أكاكيفتش تحوَّلت جثته إلى نسخة يرى فيها كل شخص نفسه عارياً. لا شيء يستطيع وقايته. مرآة ذاتية تتمعن بواسطتها في بردك الخاص. بموت أكاكي أكاكيفتش تحوَّل شبحه إلى صورة لطمأنينة مشتركة، الحتمية على رغم كل المعاطف الثقيلة المتوهمة.
لأن أكاكي أكاكيفتش لم يكن مجرد رجل صغير يتعرض للظلم، بل كان يعمل أيضاً نسَّاخاً يؤدي عمله بحب شديد يتخطى الحماسة العادية، فإن القصة القصيرة لم تكن تحتاج إذا تجسَّدت في صورة بشرية، وأرادت أن تُعبر على نفسها إلى ما هو أكثر من ذلك. أراد غوغول أن يمنح هذه الشخصية ما يشبه روحاً إلهية يمكنها أن تشملنا جميعاً، لذا فالقصة القصيرة كانت تخاطبنا من خلاله، ليس باستخدام حقيقته الإنسانية التي لا تختلف عن أي «ذبابة تطير في مكتب الاستقبال»، بل بدرجة أكبر من خلال عمله وهو النسخ.
كانت القصة القصيرة هي بطلة (المعطف) مستخدمة اسم أكاكي أكاكيفتش ووظيفته، ولم يكن المعطف سوى ذلك الخلاص الذي لا يمكن بلوغه مهما اقتربت أوهامُنا المتناسخة من تصور حيازته، أو تراكمت الظنون المتعاقبة بأننا على وشك العثور على إشارات لوجوده. ظل المعطف خيالاً، إصراراً متصلاً، وبأشكال لا نهائية على محاولة التحرر من الحقيقة القهرية بأن البرد، أي ذلك الذي الطغيان الذي امتلك الحياة والموت منذ الأزل، سيواصل أبديته من دون اعتبار لأي وهم.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 25 سبتمبر 2017

السبت، 23 سبتمبر 2017

هل تعرف صاحب هاتين العينين؟

لولا أني أخشى العواقب السيئة
وأنت تعرف أنني لم أعد أتحملها
لأظهرت صورتك الغائمة عند شاطئ البحر
التي أحتفظ بها على هاتفي
وسألت عنك سائق التاكسي
الذي يستمع إلى (الحب اللي كان)
والجالس وحده في المقهى
الذي يتلصص على الغروب من النافذة
والسائر دون رفقة
الذي تبطئ خطواته تلقائيًا أمام البيوت القديمة.
الملامح التي تدين بوجودها
لمضاجعات ناجحة في بداية الستينيات.
ربما شاركك أحدهم الجلوس ولو مرة واحدة
على الرصيف المقابل لكازينو (معروف)
وأنت تحرق سيجارة من أخرى.
أو شرب معك (ستلا) ذات مساء
تحت الإضاءة الخافتة
لفندق (القاهرة).
أو اقتسم معك إحدى الليالي
داخل امرأة.
ربما قال لي: نعم، أعرفه
وسأحكي لك عنه أسرارًا
ستعمل بقوة على تحسين موتك.
لا أستطيع ذلك
سيضحكون عليّ يا عم
رغم وحدتهم التي أراقبها كظل موبوء
أو بسبها تحديدًا.
ربما ستبتل سراويلهم من حسرتي
على كل متغيرات المدينة التي فاتتك
وسيفشلون في استيعاب ما يمكن أن أخبرهم به
عن الوحشة المتناثرة في القصص الجديدة
التي زرعها غيابك الطويل
عن المقاهي والنساء والحفلات الليلية
وأنني لم أنجح في الإبقاء عليك
بقدر ذكرياتك التي كان يجدر بي استكمالها.
أعرف أنك لم تعتمد عليّ في هذا النوع من الخلود
ولكنني أردت لآثارك الغامضة
أن تساعدني على ابتلاع العالم.
أنا الشحاذ الصامت
الذي غادر الحواف المائعة
دون أن يمر إلى أي شيء
ولا يعرف كيف يتسوّل واقعية لخياله
تحوّل أكاذيبه إلى قدَر آخر.
لو كان النجاح في هذا، على الأقل
مجرد احتمال
لما كنت في حاجة للاحتفاظ بصورتك الغائمة عند شاطئ البحر
ولما رغبت إلى هذه الدرجة في إظهارها
لمن أظنهم نسخًا منك
ولكان بمقدورنا حينئذ
أن نضحك بنقاء كامل
لأنني أصبحت أكبر منك بست سنوات
بعد أن كان الفرق ستة عشر لصالحك.
Photo by: Shokry Manaa
بتانة نيوز ـ 22 / 9 / 2017

الخميس، 14 سبتمبر 2017

إنهاء الدعابة

يطلب صديقي أن أصحبه لشراء تذكارات فرعونية لمعارفه الذين سيعود إليهم في بلد آخر .. أتوجه به إلى الشارع القديم الذي لا أمشي فيه إلا نادرًا .. لا أعرف أحدًا هناك، كما أنني لم أحصل بعد ـ رغم أربعين سنة في هذه المدينة ـ على من يمكنه معاونتي في التنقيب داخل تاريخه .. ندخل أحد المحلات العتيقة حيث يجلس صاحبه العجوز نصف نائم عند عتبته .. تشرق تجاعيده المتهدلة بإنهاك، كمن أبصر فجأة بعد عمر طويل في الظلام نقطة ضوء شاحبة .. يسرع بإيقاظ الوجوه والأجساد الصغيرة المدفونة تحت غبار الأرفف من سباتها العميق، وينزع عنها أغطيتها البلاستيكية ليجبرها على اتخاذ الوضعيات المثالية أمام عيوننا فوق السطح الزجاجي المنخفض للفاترينة الأمامية .. يتفحص صديقي ما تقدمه اليدان المرتعشتان للمحفظة المستقرة في جيبه الخلفي .. يسألني عن رأيي في كل قطعة .. يمر الوقت وأنا أتأمل النظرة المترجية المحاصرة بالغضون في وجه العجوز .. أفكر في أنه مثل الجميع هنا أو في أي مكان آخر؛ سيرفض التحدث معي لو حاولت سؤاله عن الجرائم، والأسرار المثيرة، والأحداث الغامضة التي جرت في الماضي داخل هذا الشارع ..  لكنني أعترف أيضًا بأن طبيعتي تجد في محاولة التقرّب من الغرباء ـ مهما كان الغرض ـ كابوسًا غير محتمل .. هذا ما أبقاني منذ أربعين سنة وحتى الآن في بيتي، أعيش حياة من الانتظار الدائم، متوسلا لتحقق صدف أو بالأحرى معجزات مستحيلة لا تطالبني باتخاذ الخطوة الأولى .. يسأل صديقي عن الخامات، ويفاضل بين الهدايا، ويتفاوض حول الأثمان، مستعرضًا ذكرياته عن شراء أشياء مماثلة بأسعار أقل.
أتسلل من أمام الفاترينة الزجاجية نحو الداخل، ثم أتوجه إلى الرفوف العالية وراء العجوز .. أبدأ في تسلقها حتى أصل إلى ذلك الرف الغارق في التراب، والذي لا يحوي أكثر من دفتر قديم استنتجت من وجوده بجوار الهاتف المعطّل، ذي الطراز العتيق أنه مغلق على أرقام تليفونات لم يتصل بها أحد منذ سنوات بعيدة .. أتكوّم منتشيًا هناك .. بين الدفتر والهاتف، كاتمًا السُعال الناجم عن تنفسي للغبار الكثيف، كي لا أثير الانتباه .. أُدخِل يدي تحت ملابسي ثم أبدأ في الاستمناء مراقبًا التأثيرات المتعاقبة لاختفائي المفاجئ، في انتظار اللحظة المناسبة كي أتحرّك إلى هذا الرف العالي الذي يحمل تلك القطعة الفرعونية الثقيلة فأزحزحها قليلا لتسقط عندما يكون رأس العجوز أسفلها.
اللوحة لـ jean rustin

الاثنين، 11 سبتمبر 2017

الأريكة القديمة

شعر فجأة بما يشبه احتراقًا خفيفًا في أطراف أصابع يديه .. نظر إليها .. رأى قشرة الجلد الرقيقة المحيطة بطرف كل إصبع قد تآكلت كاشفة عن طبقة أخرى أشد احمرارًا، كأنها الحاجز الهش والأخير قبل تدفق الدماء .. كان يجب أن يشعر بالفزع، أو على الأقل بالحدة القصوى من الدهشة، لكن استعادته لذكرى قريبة جدًا لم تسمح بذلك .. هذه ليست علة جسدية .. هكذا قرر مواصلا تأمل أطراف أصابعه المسلوخة، ومنتبهًا أيضًا إلى عدم ثبات التآكل .. كانت الحواف التي تفصل الجلد السليم عن الجلد المتسلخ آخذة في التقدم لالتهام بقية اليدين على نحو غير ملحوظ ولكنه مدرك تمامًا بالنسبة له.
أنت عائد للتو من أحد الأندية الأدبية التي استضافتك للتحدث عن أعمالك، وللإجابة عن أسئلة الحاضرين .. سألتك واحدة من القارئات عن الكيفية التي كتبت بها قصة (الغيب)، أي عن هذا الشخص الوحيد الذي يجلس فوق أريكة قديمة، ويتكلم مع كائن آخر غير مرئي .. صمت قليلا ثم أخذت تشرح كأنما كان عليك أن تختار إحدى البدايات المتاحة والخاطئة جميعها للتفسير، ثم تحاول دون فرصة للتراجع استدراك هذه البداية بمزيد متفاقم من الأخطاء .. عندما انتهيت أحسست بشكل مبهم أنك ستدفع ثمنًا لهذا بعد أن تعود إلى البيت وتكون وحدك، وها أنت الآن تراقب العقاب المستمر في التمدد .. حسنًا .. ما الذي ينبغي أن تفعله حالا؟ .. عليك ببساطة أن تكتب هذه القصة التي توثق اعترافك من جهة، وتطهّر القصة الأصلية من جانب آخر .. ألم أقل لك؟ .. بينما تتعاقب الكلمات والعبارات فوق هذا الفراغ الأبيض تبدأ أطراف أصابعك في التخلص التدريجي من الشعور بالاحتراق الخفيف مع عودة قشرة الجلد الرقيقة المحيطة بطرف كل إصبع للنمو حتى تكتمل ثانية .. كان يجب أن تفعل هذا؛ فأنت تعرف جيدًا أن الأريكة القديمة تزداد تهالكًا لحظة بعد أخرى، وأن خوفك من الجلوس عليها ملتصقًا بأحد المسندين قد تمادى لدرجة أنك أصبحت تتحاشى مجرد النظر إليها، وأن الكائن الآخر غير المرئي لا يزال جالسًا ملتصقًا بالمسند الثاني، وتزداد ضحكاته قوة لحظة بعد أخرى.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 9 سبتمبر 2017

الجمعة، 8 سبتمبر 2017

بطوط

كنت أستقل واحدًا من القطارات الذي وصف اصطدامه بقطار آخر ـ كما يحدث عادة ـ بالحادث المروع .. لم أكن ضمن الجثث أو المصابين، وبالتأكيد لم أكن من الناجين الذين عادوا إلى بيوتهم .. أنا فقط اختفيت .. أصبحت أحد المفقودين الذين لم يُعثر لهم على أثر رغم عدم الشك مطلقًا في وجودهم داخل القطار لحظة الاصطدام .. لم يكن الاختفاء في نيتي؛ فقد ركبت القطار مثل الجميع كي أسافر من مدينة إلى مدينة أخرى، ومن أجل غرض مشابه لكافة الغايات المنطقية التي يتحرك بسببها البشر من مكان لآخر .. لكنني الآن أدركت أن حياتي السابقة كانت تجهيزًا لهذا الاختفاء.
انتقلت إلى عالم لا يمكنني وصف طبيعته أو الكيفية التي أعيش بها داخله برفقة أفراد وجماعات لا حصر لهم من المفقودين في حوادث سابقة، وقع بعضها قبل أن أولد .. كل ما يمكنني قوله إنه عالم ـ وهذا بديهي ـ ليس بوسع الذين خارجه أن يروه، ولا يملك الشخص الذي ينتمي إليه القدرة على الإفصاح عن وجوده أو العودة إلى حالته المعلنة .. أدركت أن اختفائي سيكون أبديًا، ولم أشعر بالألم تجاه هذه الحقيقة؛ إذ أن هذا العالم لا يكاد يختلف عن ذلك الذي غادرته عند اصطدام القطارين. مازلت أعرّف نفسي بذلك اليقين الصلب، الذي لم يتغيّر طوال الماضي بأنني شخص يشعر ويفكر ويتصرّف في الحياة وفقًا لإرادة لا تخصه. أن كافة الأحاسيس والانفعالات والتصورات والظنون والقرارات التي يتخذها لكلماته وأفعاله تتم بمشيئة قوة مطلقة، لا يستطيع تحديدها، تفرض على جسده أن يعيش على نحو معين، كما أنها تجبره أيضًا على الاعتقاد بامتلاكه لذات مستقلة، منفصلة عن أي سلطة خارجها .. كنت أصدق أحيانًا ـ مثل الجميع ـ هذه الخدعة القهرية، وأتغافل بثقة عمياء عن هذا التأكد، لكن دائمًا كان بوسعي استرداده في أي لحظة .. داخل هذا العالم الخفي الذي انتقلت إليه، مازال لدي هذا اليقين، ولكن لم يعد هناك مجال لنسيانه، كما أن
جسدي أصبح أكثر استيعابًا لهويته الأصلية .. أنا أداة .. وسيلة لتنفيذ أمر .. وبالرغم من أنني لم أتعرّف بعد على هذه القوة المطلقة إلا أن دوافعها التي تُشكل نفسي وتحرّك خطواتي صارت مكشوفة كليًا .. أدركت أن اختفائي الأبدي سيعني الرجوع إلى الحياة التي تركتها محتفظًا بحالتي غير المرئية، ولفترات مؤقتة بقدر الزمن المناسب لإنجاز المهام التي أُكلف بتنفيذها قبل العودة إلى العالم المتواري الذي أصبحت ابنًا له. أرجع إلى الحياة التي كانت آخر لحظاتي فيها هي اصطدام قطارين، ثم العودة إلى الخفاء بعد أن أكون قد تركت الموت والخراب في مكان ما. هذا ما كنت أقوم به في الماضي قبل الحادث، ولكن بشكل مراوغ ومبهم، أما الآن فأؤديه بطريقة واضحة ومفهومة تمامًا .. مع ذلك فإنني لا أقتل أو أحرق أو أهدم بشكل عشوائي، مجردًا من التمييز، بل لابد أن يكون عملي مقترنًا بلحظة سعادة لأولئك الذين على وشك أن يكونوا موتى عاديين، أو جثثًا متفحمة، أو أبدانًا مسحوقة تحت الأنقاض .. لابد أن يكون القتل هو النغمة الأخيرة في متعة جنسية سأتمكن من رؤيتها بفضل اختفائي .. لابد أن يكون الخراب هو الإيقاع الختامي لمضاجعة سأتلذذ بمراقبتها دون يشعر بي أحد،  وسأكون الوحيد الذي يصل إلى الأورجازم من خلالها .. أصبحت أمرر الموت المفاجئ عبر الأسرار المكتومة في الفراغ المحيط باختلاسات النظر، وإغماضات العيون، وتلاحق الأنفاس لكل جسد يحاول بعريه أن يحمي ظلامه الشخصي من عري الآخر.
لا أعرف هل كان وقوع الحادث بعد ثلاثة أيام فقط من بلوغي الأربعين مجرد صدفة، أم ينطوي على معنى؟ .. شخص ما ـ لعله باسكال ـ قال إن من بلغ الأربعين ولم يكره البشر فكأنه لم يعرفهم .. أظن أن الأمور قد سارت على نحو منطقي إذن، ليس به أثر للصدفة .. قبل ثلاث سنوات قطعت علاقاتي بأصدقائي، وتوقفت عن الخروج من البيت إلا نادرًا بعدما أصبحت غير قادر على الاستمرار في توزيع عاهاتي الثابتة على الآخرين، والتي لم تتوقف عن النمو منذ عام 1977 .. أردت أن ينسحب من ذاكرة البشر ـ لو كان هذا ممكنًا ـ ذلك الرجل المرتبك، المتلعثم، الغافل، مدعي القوة والمكر واللامبالاة، المضحك، والتائه .. الذي تتدافع الثرثرة التافهة من بين شفتيه أمام الناس عن حياته وماضيه، مستعرضًا تفوقه المبهر، ومزاياه العجيبة، وقدراته الخارقة طمعًا في التقدير والخلود وتصفية دماء الوجوه المبتسمة التي تحاصره بالضحكات المكتومة، وتوسلا للغيب أن يعتبر هذه الانفعالات الواثقة، المسكينة التي ورثها من أسرته قربانًا ملائمًا لمنحه الرحمة .. لم تعد لدي أدنى طاقة لتحمّل الفضح المتواصل لنفسي، الذي لم يكف أبدًا عن تحويل أسراري الثمينة إلى سخافات مبتذلة، تُقطّع وتتداول بين أيدي كل الذين يريدونني أن أكون مثلهم أو أقل .. حينما يطلب منك شخص ما أن تحدثه عن إحدى قصصك القصيرة مثلا، خصوصا لو أن هذا الشخص تعذبه الفجوة العسيرة الهائلة التي تُجبره على أن يرفع عينيه لأعلى حينما يتحدث إليك، فإن قصتك بمجرد أن تبدأ في الكلام ستشبه قصته بعد أن أزلت الرهبة الغامضة بيديك، وساعدته
مؤقتًا على الانتقام منك .. لهذا حاولت أن أعيش في وادٍ بعيد، يحمي موتي من المهانة، وهو ما جعلني في السنوات الثلاث الأخيرة أجرب سعادة مختلفة، لم أعشها من قبل، نتيجة غياب الأصدقاء من حياتي .. أصبحت أكثر تناغمًا مع عزلتي، وأكثر تصالحًا وانسجامًا مع الماضي، بل يمكنني القول ـ مهما كانت غرابة ذلك ـ أنني وصلت قبل اصطدام القطارين إلى درجة من التفاؤل بما يمكنني تحقيقه في المستقبل كنت أظن أنه من المستحيل أن أبلغها في هذا السن، وبعد كل ما جرى لي .. لاشك أن التأثير الناجح لهذا الانقطاع عن الآخرين كان سببًا جوهريًا لهذه السعادة؛ فقد تزايد الاهتمام والاحتفاء بكتاباتي، وانتشرت الاقتباسات من نصوصي في كل مكان، كما كثرت الكتابة عن أعمالي، وإعادة نشرها، فضلا عن التدفق الذي لا ينقطع لمخطوطات وإصدارات الآخرين إلى بريدي، والآملين في مراجعتي لها وتقديم النصائح، والكتابة عنها، وكذلك الدعوات المتواصلة لمناقشة الأعمال الأدبية في ندوات ومؤتمرات، ولتدوين وإلقاء الشهادات عن الكتابة، وللمساهمة في ملفات بالصحف والمجلات والمواقع، أو لكتابة مقالات ثابتة في مطبوعات ثقافية، أو للحوارات الصحفية والمقابلات الإذاعية والتليفزيونية، إلى جانب ترجمة كتاباتي، وتحويل قصصي إلى أفلام قصيرة، وحصولي على جوائز، مع العروض التي تقدمها دور النشر لإصدار كتبي .. أما حالة الهوس العام التي بدأت منذ سنوات طويلة على الإنترنت بهذا المقطع من قصيدة "عنكبوت مسكين يقيس زاوية الحائط".
لا تخف
ليس معنى الوقوف في النافذة
أنك ستسقط
ليس معنى السعال
أنك مصاب بالسرطان
ليس معنى ضيق التنفس
أن قلبك به شريان مسدود
الحياة فقط هي التي معناها
أنك ستموت.
هذا الهوس العام مازال في تصاعد مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمنتديات والمواقع الأخرى، والذي جعل هذه الكلمات من أكثر الاقتباسات تداولاً على الإنترنت، إن لم تكن الأكثر شهرة. جموع بشرية هائلة تتزايد عبر الزمن في كل مكان بأعمار وجنسيات مختلفة يواصلون نشر هذا المقطع، ويضيفون إليه الصور واللوحات، ويستخدمونه كتوقيع يُعبّر عن وجودهم في العالم.
أستطيع بالتأكيد أن أزور عائلتي وأصدقائي ومعارفي السابقين دون أن يدركوا شيئًا عن حضوري بينهم .. الذين بحثوا عني في المستشفيات والمشارح ولم يجدوني، ثم نشروا صورتي في كافة الأماكن، وطال انتظارهم لعودتي دون جدوى .. لكن عائلتي وأصدقائي ومعارفي لا يزالون ضمن الحياة التي لدي عمل فيها؛ لذا سيكون لكل واحد منهم دوره بحسب المهمة التي سأكلف بتنفيذها .. حينما يأتي موعد أحدهم، لن أمنحه بالتأكيد معاملة خاصة؛ فهذا ليس في إمكاني، وإنما سيكون لدي القدرة أن أمنح نفسي هذه المعاملة الخاصة عند قتله في اللحظة التي يكون فيها عاريًا، وعلى وشك الوصول إلى ذروة النشوة.
موقع (الكتابة) ـ 6 سبتمبر 2017

الأحد، 3 سبتمبر 2017

قرب شجرة عالية: انشطار الحكايات العابرة

في مجموعته القصصية (قرب شجرة عالية) الصادرة حديثًا عن دار أزمنة للنشر والتوزيع يحوّل لؤي حمزة عباس الانشطار الذاتي إلي فن، إلي أسلوب جمالي لإعادة الميلاد خاصة عندما يصل العماء إلي حد ينكشف فيه داخل الوعي بوصفه اغتيالا.. لا يقوم الانشطار علي الصراع المعتاد بين كيانات متناثرة بقدر ما يبدو مشغولا بضرورة الوصول إلي صيغة تفاهمية منقذة بين هذه الكيانات.. إلي تحقيق حلم مبهم في الماضي لم ينجح في التحوّل إلي واقع حينما كانت الذات جسدًا واحدًا.. في قصة (طريق الغابة) نتتبع أثر الانفصال بين صديقين، اختفي أحدهما داخل شجرة عالية، وانتظر الآخر ظهوره سنوات طويلة حتي أصبح له ابنًا يحمل اسم الصديق الغائب في الشجرة العالية التي لم تُقطع، وتُركت محاطة بسياج قصير بجانبها أريكة يجلس عليها ذلك الذي ينتظر صاحبه، بينما يلعب صغيره حول السياج.. علينا تأمل هذا التطابق بين الصديقين منذ بداية القصة وحتي لحظة مصادفتهما للشجرة التي اختفي أحدهما فيها، وبقي الآخر ما تبقي من العمر في انتظاره كي نفكر في هذا الاحتياج القهري لذلك الذي واصل حياته في الدراسة والحرب مترقبًا عودة صديقه إلي التوحد مع هذا الأصل الأمومي الذي تنطوي عليه الشجرة.. كأن القصة أشبه بحلم للرجل الذي أصبح أبًا يعيد من خلاله إنتاج لحظة متخيلة في الذاكرة، يمكن أن ينشأ عنها مسار مغاير للقدر.. هذا ما يجعلنا نفكر في علاقة الطفل بالصديق الغائب.. هل سيتمكن هذا الطفل بعد موت الأب الذي يجلس في انتظار صاحبه المختفي داخل الشجرة في العثور علي السياق الرومانسي الملائم لعودة الذات إلي العالم، ويصبح حينئذ أي الطفل هو النسخة المخلّصة لهذا التاريخ بعد فناء النسخ البشرية السابقة؟
(كان شعور غريب يحثهما علي الاندفاع أبعد ما يمكن، من دون إحساس بالتعب أو الخوف، وفي وسط الغابة النقطة التي يمكن أن ندعوها وسط الغابة صادفتهما شجرة عالية، أعلي من أية شجرة، وبدافع من شعورهما الغريب توجها نحوها من دون أن يخففا سرعتيهما، انحرف أحدهما ومر إلي جانبها أما الآخر فلم ينحرف ودخل فيها).
في قصة (المشي في الليل) نلمس وجهًا آخر للانشطار؛ فالرجل الذي يحب المشي في كل وقت يقابل صبيًا يحمل مصباحًا يُعرف نفسه بأنه (يدل التائهين).. يقود الصبي هذا الرجل في الظلام ليعود به إلي منزله، ثم أصبح الرجل يري هذا الصبي في أماكن وأوقات مختلفة، في الشارع والبيت.. هي رغبة الرجل أو توسله بالأحري لأن ينفصل هذا الجزء الغامض من ذاته لينقذه من التوهان الذي لا يقتصر علي الشوارع والطرق المجهولة، بل وبدرجة أكبر من الظلام الذي يسكنه، ويمتد خارج جسده مهيمنًا علي الفراغ المحيط به، خاصة الفضاء الأكثر التصاقًا بنفسه داخل الحدود الضيقة للبيت.. قد يكون هذا الصبي وسيلة للتخاطب مع مصدر الظلام، للتفاوض معه، لاسترضائه، للثأر منه، وهو ما يذكرنا بالطفل في القصة السابقة، الوسيط المتحرر بين الذات والموت، الذي عليه محميًا بهذا الانقسام التوصّل إلي النجاة العسيرة علي الروح الواحدة المغلقة علي رعبها الخاص.. إن العالم يتحوّل بواسطة هذا الانشطار إلي مرآة للوعي، يتمثل فيها الإحباط المراوغ، والفكرة الملتبسة للحصول علي ملاذ، دون أن يكون لهذه المرآة إطار ملزم تنتهي عنده؛ إذ ينجم عن الطبيعة الرمزية للانشطار نوع من الانبعاث المطلق للذات في الزمن بحثًا عن تسويات غير تقليدية.
(يفنح النافذة لينظر كعادته إلي الشارع فيراه مارًا علي الرصيف المقابل، لم يتوقف أو يرفع رأسه ليبادله النظر، فتح باب الحمام هذا الصباح فرآه يخرج منه وتجنب الاصطدام به).
في قصة (أعمي بروغل) نجد التلازم الذي سبق وأشرت إليه بين الانشطار والعماء؛ فبطل الرماية يجرّب إغماض العينين كوسيلة لإبصار ما لم تتمكن الرؤية العادية من إدراكه وهو ما يمكن اعتباره بشكل ما اكتشاف الأسرار الحاسمة للذاكرة التي تتجاوز ماضيه الشخصي.. نصادف أثناء هذا العماء المقصود نفس العناصر التي تشكل فيما بينها ما يشبه غريزة قصصية للمجموعة: (الصبي الظلام الانشطار):
(تزداد مخاوفه مع كل خطوة وترتجف يداه فينصت بكامل قدرته لما حوله، ليس سوي أذنه تقوده في دروب مخاوفه، لكنها تفزعه هي الأخري، تمضي به لسنوات يري نفسه فيها صبيًا زلّت به قدمه فتهاوي في حفرة عميقة مظلمة، يسمع صرخته البعيدة كما لو كانت صرخة صبي سواه).
كأنها عودة متكررة (إعادة ميلاد) لا تنتهي للحظة سابقة (الصبي الذي يتهاوي في الظلام) تمر عبر القصص، ويحاول الصبي المنفصل عن الذات من خلالها أن يروّض الفكرة غير المرئية للكابوس.. يتحوّل انشطار بطل الرماية إلي جزء من انشطار أكبر وهو انشطار بروغل إلي عميانه حيث توزعت ملامحه علي وجوههم.. تتجه القصة بهذه الكيفية إلي المنحي الأسطوري، الغرائبي، ليس فقط من أن أجل تثبيت كل عمي كجزء من خبرة جماعية فوق الواقع فحسب، وإنما لتأكيد خضوعها الماورائي لحقيقة غيبية غير قابلة للتخاذل. 
(إنهم أشد وضوحًا وهم يواصلون السير نحو هدف ظل بالنسبة له بعيدًا وغير مرئي. قبل أن يصحو بوقت قصير يعرف أنهم عميان الصورة يواصلون مسيرهم المتعثر من حقل إلي حقل، وأنه بينهم، رأسه مرفوعة تميل إلي الجانب كما لو كان ينصت لنداء بعيد).
مثلما يذكرنا (النداء البعيد) بالشجرة والمصباح في يد الصبي، سيذكرنا أيضًا بالطيور التي لا تُري، وارتباطها بالانشطار.. لكن في قصة (أنت لست سمكة) سيرتبط هذا الانفصال عن الذات بتجسّد بديل يتجاوز الحضور البشري؛ فالصبي يمكن أن يكون مسحاة، أو ترابًا، أو قطارًا للجرحي أو أي حيوان أو نبات أو جماد، وذلك خلال المضي داخل (الظلام).. هذا ليس مجرد تقمّص وجداني للطبيعة، وإنما قد يكون أقوي تعبير عن تعاطف الذات مع نفسها.. إدراك الروح للترهات التي تسيطر علي وجودها.. الوفاء لمقاومة حتمية خارج الأطر المصطنعة، القاتلة بطبيعة الحال.
(يشعر حال تمدده علي السرير وقد غرق العالم في صمت أول الليل بأنه ليس هو، إنما هو الجدجد الذي أطل برأسه من حفرة ضيقة في حديقة المنزل، عينان صغيرتان تتفحصان العالم، تنظران نحو العشب وقد نسج فوقهما سقوفًا خفيضة معتمة، إنه يدرك بفطرته الدودية إنها نظرته الأخيرة لكل ما حوله فلم تعد تفصله عن ضربة المنقار الموجعة سوي لحظات وها هو يقطع خطواته الأولي باتجاهها ساحبًا جسده من رطوبة الحفرة محركًا أقدامه الصغيرة المشعّرة وقد أغمض عينيه في سلام).
حسنًا.. بهذه الطريقة يمكن لأي منا أن ينشطر ليتمثل جزءا من نفسه في كلب بقائمتين خلفيتين مهروستين.. يمكن للظلام أن يكون النمل الذي يزحف من عيني صبية اسمها (فاطمة).. يمكن أن تمثل هذه الطفلة قلب جندي يتواصل أنينه داخل حفرة في ليل الحرب.. هل انتبهنا للتبادل الأقرب إلي هوس كوني؟.. هل لاحظنا التواطؤ الجماعي علي الانشطار والتجسّد في صور بديلة، والتحولات المستمرة للتمثّل؟.. هل علينا الاعتراف الآن بأن كل انقسام هو نبوءة لانقسام آخر؟.. نقرأ في قصة (حكاية فاطمة):
(لحظات تلتمع فيها عينا الجندي المجهدتان كأنه ينظر بعيدًا في الزمن فيري أشياءً مبهمة تحت سماء بغيوم دكناء، أشجارًا تتحرك، تميل قليلًا وهي تنتقل من مكان إلي مكان، وحيوانات تزحف علي الرمال، وهو يواصل الحلم بصبية لم تولد بعد علامتها الفارقة أسراب من النمل تتوالد من عينيها، يحكي مع نفسه كما لو كان يتوعد أرواحنا: سترونها تطل من نافذة منزلها، جموعكم تملأ الشارع من أجل رؤية صبية تتعذب).
يطوّر لؤي حمزة عباس هذه اللعبة ليجعل من كل نبوءة تتحقق ما يشبه تعريفًا أصليًا للوجود الذاتي يستبعد الأوهام المشوّشة الأخري.. يمكن لتجسّد ما أن يكون (الحكاية العابرة) التي تختصر حياة صاحبها.. في قصة (كل منا حكاية عابرة) وبمسايرة الحكمة السابقة يمكننا التفكير في ماهية الرعب الذي أغلقت عليه الروح.. أن الموت ببساطة يمكن أن يكون هو حكاياتك العابرة مثل الجدة التي صدمتها سيارة أجرة مسرعة وهي تعبر الشارع.. لم لا؟.. الموت هو الذي يستدعي كافة الحكايات العابرة الأخري الانتقائية التي ستعد هوية دامغة لمرورك في الدنيا.. هنا يظهر الجانب الجمالي في الانشطار.. أنه لا يبقي الجسد الميت مجرد جثة، بل يجعل من (حكايته العابرة) احتمالات غير منتهية، بقدر التبادلات والتحولات التي ستنتهجها الذات في إعادة التمثّل أو بالمعني المقترن بها إعادة الميلاد.
(إنها ليست هي طالما كانت تشبه أمه أو جدته إلي هذا الحد، إنها ليست هي علي أية حال، ذلك ما يبدو واثقًا منه بعد محاولات عصية للتذكر لم يكن يخرج منها إلا بملامح زائفة لسيدات مررن في حياته وتركن ملامحهن علي نهر أيامها، لكن الحكاية أقوي من الأسماء عادةً، أبقي من الملامح والوجوه).
هل يمكن أن يكون التجسيد الوهمي للبقاء في الحياة وتفادي الموت أن يتحقق في فرد واحد استجابة لحلم جماعي أو انشطارات بشرية مختلفة تحاول الانتقام من عمائها في هذا الفرد؟.. في قصة (وقت التسلية) يدفن الناس رجل التسلية في حفرة لأكثر من خمس عشرة دقيقة ثم يبصرون وجوده حيًا بعد إزاحة التراب.. كأن هذا الحلم الذي يمنحه هذا الرجل الذي لا يسأله أحد عن اسمه للآخرين هو تأكيد متوهم أو ادعاء رمزي لنجاحهم غير المنجز في الخروج من قبورهم.. هي مجرد تسلية يحتاجها أولئك الذين ساهمت انقسامات أجسادهم في تكوين جسد هذا الرجل الذي لا يريد أحد الاقتراب منه أو التحدث معه لأنه نسخة منهم، مكرّسة لجعل عيونهم تري (صورة) لخلاصهم غير الحقيقي من الفناء.. أن يروا أنفسهم علي النقيض من الواقع وقد استطاعوا الخروج من تحت تراب الماضي أحياءً دون أن يُعطّل هذا الخلود المزيف إلا موت فعلي لأحدهم، الذي ربما سيساهم في الموت التدريجي لرجل التسلية.
(وقد يبالغ بعض الظرفاء فيقضون الدقائق الخمس عشرة بتعديل التراب فوقه باحتراف وتأنٍ بعد رشه بقليل من الماء، كما يفعلون مع القبور عادة، حتي إذا مرت الدقائق وسط صمت الجمهور وتحسبهم أخذوا يحفرون بهمة، ومع اجتيازهم نصف عمق الحفرة أو أكثر بقليل يلقون بأدواتهم علي الحافة ويواصلون الحفر بأيديهم).
أحب التفكير في أن لؤي حمزة عباس قد جعل كل منا يجلس علي هذه الأريكة المجاورة للشجرة العالية في انتظار صديقه.. في انتظار نفسه المنقذة، أو حكاياته العابرة المنشطرة وقد حصلت علي الثمن الذي تستحقه.. إنه الوقت الذي يمكن لأي منا أن يقضيه في التساؤل: هل هناك مكان أو زمن ما خارج العالم تتجمع فيه كافة الحكايات العابرة لتكوّن رصيدًا من الخلود الحقيقي سيمكن بلوغه في لحظة ما؟.. إلي أي مدي سيواصل العماء احتفاظه بهذا الخلود الذي يعتني بالفناء التدريجي لأجسادنا؟.. ربما كل ما نمتلكه من (إعادة الميلاد) ليس أكثر من الخيال الذي ينسج الحكايات المتعاقبة، واحدة إثر الأخري، كطفل صغير يلعب حول الشجرة، ويحمل اسم الذات التي غابت داخلها.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 2 / 9 / 2017

الجمعة، 1 سبتمبر 2017

فرضية المرح

قرب الفجر، وداخل ظلام الحجرة، وضع السماعتين في أذنيّ ثم احتضنني .. كان المطر ينهمر وراء ضلفتي البلكونة، وبابيها الخشبيين بألواحهما الزجاجية، وبالرغم من أن الأغنيات التي تمر من المسجّل الصغير تحت الوسادة لم تكن واضحة إلا أنني كنت أشعر بها على نحو لا يرتقي إليه الإنصات إلى أغنيات مفهومة .. كان باب الحجرة مفتوحًا بكامل اتساعه، وضوء النيون الأبيض الساطع في الصالة يُبقي الظلام حول السرير مستيقظًا .. كلما أراد تغيير وجه الشريط، أو الانتقال من أغنية إلى أغنية أخرى ليست تالية لها، أو تبديل الشريط نفسه بواحدٍ آخر من الشرائط المستلقية أعلى الوسادة؛ كان يربت على ظهري برفق فأُبعد جسدي الضئيل قليلا عن حضنه .. يخرج المسجّل من تحت الوسادة، والسماعتان لا تزالان في أذنيّ بينما أظل مستندًا على يديّ الصغيرتين في انتظار احتواء ذراعيه لي مجددًا تحت الأغطية الدافئة، كي أواصل الاستماع إلى الأغنيات .. خلال هذه اللحظات القصيرة المتقطّعة أتأمل وجهه .. ملامح الأربعين سنة، الخالية من أي شيء عدا انهماكه الثابت في تنظيم الأغنيات واحتضاني داخل السكون .. كان إغماض عينيّ بين ذراعيه لا يعني النوم، وإنما الانكماش فيما بين الإغفاء واليقظة .. لم يكن الوقت يمر .. كان يدور في مكانه بين نهاية الليل والظلام والأغنيات والمطر وضوء الصالة وروحي ذات السبعة أعوام، وطفلتي النائمة بجواري .. فتحت عينيّ .. وجدته يقف أمام السرير وقد أضاء الحجرة بالنور النيون الأبيض الذي يماثل ضوء الصالة في سطوعه .. كان قد أغرق أرضية الحجرة تمامًا بالماء، ثم أمسك بسلك كهربائي طويل ممتد من المقبس في الحائط المجاور للباب، وعلى وشك أن يغمس طرفه العاري في البحيرة الصغيرة التي يقف داخلها .. سألته عما يفعله، فأجابني بأنه قرر قتل نفسه الآن .. انتفضت ضاحكًا بفزع، ثم اندفعت بضآلة جسدي من السرير حاملا طفلتي النائمة إلى خارج الحجرة وأنا أخبره بأنني مدرك تمامًا أنه يمزح، ولكنني لابد أن آخذ حذري .. ظل واقفًا في منتصف الماء، ممسكًا بالسلك الكهربائي الذي يلمع طرفه العاري كنصلٍ شبق .. عبرت الصالة بأقصى سرعة نحو المطبخ لأغلق بابه على ارتجافي الذي لم ينجح ـ رغم قوته ـ في إيقاظ طفلتي التي أحملها .. سمعته يناديني بنبرة الدعابة المألوفة، ويطلب مني الخروج، مؤكدًا أنه كان يمزح بالفعل .. فتحت باب المطبخ ثم احتضنت طفلتي بيد واحدة لأمسك المقشة بيدي الأخرى وأندفع بها إلى حيث يقف في الصالة .. ظل يجري أمامي في كل اتجاه، هربًا من الضربة المحتملة، وأنا أحاول اللحاق به، دون أن تنقطع ضحكاتنا حتى فُتح باب حجرة أمي وأبي، ورأيتهما يخرجان بملامح ناعسة، ثم تتسمّر أقدامهما، وتتسع عيونهما، وهما يشيران إلى ذلك الذي مازلت أطارده بالمقشة، حاملا طفلتي، ويرددان برعب مذهول: (من هذا؟ .. من هذا؟).
Photo by: Mamdouh Rizk