الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

«المعطف» لنيكولاي غوغول ... برد أبدي

لم تبتعد كلمات غلاف الطبعة الجديدة من قصة «المعطف» لنيكولاي غوغول، الصادرة حديثاً عن «منشورات الجمل» (بيروت) بترجمة سامر سمير كرّوم، من الحقيقة. فهذه القصة مثلما جاء على غلاف الطبعة التي تقع في 87 صفحة هي «تحفة فنية تنتمي إلى الأدب الخالد الذي يصلح لكل زمان ومكان». لا يزال أكاكي أكاكيفتش حاضراً منذ أن أعلن وجوده؛ وفق ما رأى الكاتب والناقد الإرلندي فرانك أوكونور في كتابه «الصوت المنفرد»، عن بداية ظهور «الرجل الصغير» في القصص، وهو الوصف الذي استخدمه أكونور ليحدد ما يعنيه بالقصة القصيرة أحسن مما تحدده أية مصطلحات أخرى. لم يحمل أكاكي أكاكيفتش الملامح المؤسسة لطبيعة (الشخصية) في القصة القصيرة، بل كان تأسيساً للقصة القصيرة ذاتها. كان بعمله كنسَّاخ يربط القصة القصيرة بذلك الإيمان بالتطابق، بعدم الاختلاف، بالمساواة في الأهمية بين وجود وآخر. كأن قصة «المعطف» حفرت وعداً في التاريخ بأنها ستكون احتفالاً أبدياً بالأقدار المتماثلة، وبمقاومة هذا التماثل. كان أكاكي أكاكيفتش ينسخ مع أوراق وظيفته شخصياتنا التي هي نسخة منه، فضلاً عن أن اسمه كان منسوخاً من اسم أبيه.
لم يكن اختيار مهنة النسخ اعتباطياً، في وعي غوغول، فهو لم يتغاض مثلاً عن ندم (الشخصية المهمة)، ومعاناته بين الدوافع الجيدة في قلبه، ورتبته التي تمنعه من الظهور على حقيقته. كان غوغول يدرك جيداً حقيقة أننا نخضع طوال الوقت إلى المزاج المأسوي ذاته الذي كان لهذه الشخصية، وبصيغٍ متنوعة حدَّ الخداع المعتم. كان يعرف أن السخرية المتبجحة، غير المحتملة التي كان زملاء النسَّاخ يحاصرونه بقسوتها لم تكن سوى إقرار بما يجابهونه من مهانة. يكفي أن نتخيل مساراً مضاداً تتيسر فيه الأحوال بما يشبه المعجزة التي لا يمكن تصديقها لأكاكي أكاكيفتش، وأن يعطيه العالم ما هو أكثر من معطف جديد كأن ينال المنصب ذاته الذي تشغله (الشخصية المهمة) مثلاً؛ كيف سيكون تصرفه أو رد فعله تجاه هذه الشخصية لو تبدلت أحوالها إلى النقيض، وانهار بها السلم الوظيفي لتجلس على مكتب النسَّاخ المُحتَقَر ثم جاءت إليه كي تشكو سرقة معطفها؟
إن ما يمكن أن يعزز اليقين بأن أكاكي أكاكيفتش لم يحمل الخصائص التي ستتحوَّل بعده إلى سمات جوهرية لـ (الشخصية) في القصة القصيرة فحسب، بل كان ذلك الفن ذاته أن غوغول لم يجعله في حاجة إلى طعام، أو إلى عاطفة امرأة، أو إلى ارتقاء مهني بل كان كل يحتاج إليه هو معطف. هامش الدفء الذي يمثل الحد الأدنى من أمان مراوغ. الحماية البسيطة التي ستشعر أحياناً بأنك نجحت في امتلاكها، ولكنها ستُسرق منك بسهولة لن تقدر على استيعابها، حتى أن الشكوك لن ترحمك في أنها كانت بحوزتك فعلاً. هذا ما جاءت القصة القصيرة من أجله.
بالعودة إلى النسخ: يتجلى ظاهرياً أنها حالة عقابية تلك التي ينتقم خلالها شبح النسَّاخ من الموظفين العموميين بسحب معاطفهم من فوق أكتافهم. لكن يبدو لي الأمر أنه أكثر من مجرد تعويض. الشبح لم يكن يبحث عن معطف يناسبه بعدما فقد معطفه في الحياة، ولكنني أتصور أن هذا الشبح يخرج في الحقيقة من داخل كل فرد رأى هذا الشبح أمامه، وأخذ منه معطفه. بموت أكاكي أكاكيفتش تحوَّلت جثته إلى نسخة يرى فيها كل شخص نفسه عارياً. لا شيء يستطيع وقايته. مرآة ذاتية تتمعن بواسطتها في بردك الخاص. بموت أكاكي أكاكيفتش تحوَّل شبحه إلى صورة لطمأنينة مشتركة، الحتمية على رغم كل المعاطف الثقيلة المتوهمة.
لأن أكاكي أكاكيفتش لم يكن مجرد رجل صغير يتعرض للظلم، بل كان يعمل أيضاً نسَّاخاً يؤدي عمله بحب شديد يتخطى الحماسة العادية، فإن القصة القصيرة لم تكن تحتاج إذا تجسَّدت في صورة بشرية، وأرادت أن تُعبر على نفسها إلى ما هو أكثر من ذلك. أراد غوغول أن يمنح هذه الشخصية ما يشبه روحاً إلهية يمكنها أن تشملنا جميعاً، لذا فالقصة القصيرة كانت تخاطبنا من خلاله، ليس باستخدام حقيقته الإنسانية التي لا تختلف عن أي «ذبابة تطير في مكتب الاستقبال»، بل بدرجة أكبر من خلال عمله وهو النسخ.
كانت القصة القصيرة هي بطلة (المعطف) مستخدمة اسم أكاكي أكاكيفتش ووظيفته، ولم يكن المعطف سوى ذلك الخلاص الذي لا يمكن بلوغه مهما اقتربت أوهامُنا المتناسخة من تصور حيازته، أو تراكمت الظنون المتعاقبة بأننا على وشك العثور على إشارات لوجوده. ظل المعطف خيالاً، إصراراً متصلاً، وبأشكال لا نهائية على محاولة التحرر من الحقيقة القهرية بأن البرد، أي ذلك الذي الطغيان الذي امتلك الحياة والموت منذ الأزل، سيواصل أبديته من دون اعتبار لأي وهم.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 25 سبتمبر 2017