الاثنين، 30 مارس 2020

سيرة الاختباء (15)

سأكتب عن كورونا طبعًا .. ليس لأنه كابوس الواقع الأكثر جدارة بالكتابة، ولا لأن طغيانه المروّع لم يعد يسمح بالتفكير في الحياة والموت إلا بمشيئة تأثيراته المتطورة، وإنما لتقاطع طبيعته الجحيمية مع "سيرة الاختباء".
قرب نهاية 2019 تعرّضت لأزمة مرضية لم أمر بها من قبل، سواء من حيث الألم اليومي أو طول مدة المرض والذي انتهى باكتشاف وجه آخر لضراوته غير المسبوقة بالنسبة لي .. أدركت بعد فترة قصيرة من الشفاء أن الدواء الذي تناولته خلال هذه الأزمة قد تسبب في مرض جديد .. من ضمن الفروق الأساسية بين المرضين هو أن الأول كان معطلًا على نحو كبير عن الكتابة .. كانت هيمنته على وعيي أكثر حقارة من أن تترك هامشًا غامضًا من الحياة المألوفة التي يمكن للفكر أن يتحرّك داخلها.
هذه المقارنة دفعتني لتدوين ملاحظة عن أن كتابة المرض تحتاج لمساحة مبهمة من "اللامرض" في جسدي .. لماذا لم أكتب مساحة مناسبة من "الصحة"؟ .. لأن الصحة خرافة .. بعكس اللامرض الذي يعطيك انطباعًا متوهمًا بغياب العلة، مؤكدًا ذلك في منع الألم أو الانهاك من بلوغ الوضعية المتفاقمة التي تجبرك على التوقف عن الكتابة، أو تجعلها على الأقل بالغة المشقة كما هو الحال الآن .. كتابة المرض التي تحتفل بتحويل العلة الجسدية إلى ممر مرآوي نحو علة الذاكرة والزمن والوجود .. نحو المرض "كحالة العالم عمومًا" حين نتذكر كيركيجارد.
بناءً على ذلك، وإذا كان "الاختباء" هو محل التقاطع بين كورونا و"السيرة"؛ فإن الاختباء يتطلب هامشًا غامضًا مماثلًا من الحياة المألوفة التي يمكن لتأمل كينونته أن يتحرك داخلها .. لا يترك كورونا تلك المساحة المبهمة من "اللاتهديد" المعادل لـ "اللامرض"، وليس "الأمان" باعتباره خرافة كـ "الصحة" تمامًا .. امتلاك الانطباع المتوهم بغياب الخطر الذي يتربص بالاختباء حينما يكون ضرورة أو إلزامًا لا يحتمل التفاوض.
يكاد الأمر يشبه الفرق بين النظرة الجمالية والفلسفية التي تتفحص التنوّع الشهواني للمرض الأبوكاليبتي في لوحات "جان روستن"، أو ما يوازي "اللامرض"، و"اللاتهديد"، وبين إغماض العينين عن الرعب الذاهل الذي تجسّده تلك اللوحات بعدما فقدت جدواها بوصفها نبوءة ربما تكون على وشك التحقق بالفعل.
موقع "الكتابة" ـ 29 مارس 2020

الأحد، 29 مارس 2020

ممدوح رزق: القصة القصيرة تجسّد طبيعتي الشخصية منذ الطفولة

نضال ممدوح
تنقل الكاتب ممدوح رزق٬ بين الأجناس الأدبية المتعددة٬ حيث صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة.
حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
حيث صدر له: إثر حادث أليم٬ خيال التأويل٬ هل تؤمن بالأشباح؟٬ قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة٬ هفوات صغيرة لمغيّر العالم٬ خيانة الأثر٬ دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير٬ بعد صراع طويل مع المرض٬ فأر يحتفل بخطاب الحقيقة٬ الفشل في النوم مع السيدة نون٬ مكان جيد لسلحفاة محنطة،غيرها. 
في هذا الحوار يكشف "رزق" عن عالمه الإبداعي بخاصة القصة القصيرة وقضاياها ومستقبلها بين الأجناس الأدبية.
ـ من كتاب القصة القصيرة الذين قرأت لهم قبل أن تكتب هذا الفن الأدبي؟
تشيكوف .. موباسان .. مارك توين .. يوسف إدريس .. يوسف السباعي .. نجيب محفوظ، وغيرهم .. كانت هذه القراءات خلال المرحلة الإعدادية، وقبل كتابة محاولتي القصصية الأولى عام 1990، ولكن لا أعتقد أنه في هذه الفترة كان هناك ما يضاهي تأثير قصة "الشقاء" لتشيكوف .. عندما قرأتها أول مرة تأكدت من أنني سأكون كاتب قصة قصيرة، ومازلت أتصوّر حتى الآن أنها من أقوى المحرضات لقارئها على كتابة قصته القصيرة.
 ــ ما الذي لفتك إلي الإهتمام بالقصة القصيرة ؟ وكيف بدأت تجاربك الأولي في كتابتها؟
القصة القصيرة تجسّد طبيعتي الشخصية منذ الطفولة أكثر مما يفعل أي فن آخر: العزلة .. المراقبة .. تخيُّل الحياة والموت وفقًا لتفاصيل صغيرة، وأحداث هامشية أو غير ملحوظة .. كانت التجارب الأولى انتقالًا تدريجيًا من إعادة سرد الوقائع العامة إلى كتابة ناجمة عن التأملات الذاتية لما هو ضئيل وعابر .. أول محاولة لكتابة قصة قصيرة مثلًا كانت بعد الغزو العراقي للكويت، وكان دافعها الرغبة في إنتاج نسختي القصصية من الحكاية المتكررة والسائدة آنذاك عن المغترب المصري الذي أُجبر على التخلي عن أمواله وممتلكاته أثناء الهروب من الغزو .. كان منطقيًا أن تستند هذه المحاولة إلى العاطفة الجماعية التقليدية في ذلك الوقت، ثم أعقبتها محاولات أخرى كانت أقرب لاستكشاف الواقع الخاص، والكيفية التي تقتنص بها بصيرتي القصصية لحظاته المهملة، وتحويلها إلى إمكانات أساسية للوجود الذي يتضمن هذا الواقع .. اعتبر "انكسار" هي قصتي القصيرة الأولى، والتي كانت تلك المحاولات تمهيدًا لكتابتها .. كانت هذه القصة ترميزًا مكثفًا لنفسي وللعالم من خلال الآخر المتمثل في رجل لا أعرفه، رأيته في الواقع ذات يوم جالسًا فوق كرسي متحرك، وكان عليّ دفعه خارج حدود هذه الواقعية نحو حلم أو مشهد خيالي مع نجمة لها خواص إنسانية .. نٌشرت هذه القصة بجريدة "المساء" عام 1993، مقترنة بتقديمي من القسم الأدبي بالجريدة إلى الساحة الإبداعية ككاتب  أضيف إليها بقوة، وكان عمري وقتها 16 عامًا.
 ــ هل قرأت شيئا عن أصول هذا الفن القصصي أو طرائق كتابته ؟
بالطبع، فضلًا عن توجيه طلاب ورشتي القصصية إلى هذه القراءات ومناقشتها معهم، مثل "االصوت المنفرد" لفرانك أوكونور، و"القصة القصيرة" لايان رايد، و"أركان القصة" لإدوارد مورجان فورستر.
 ــ ما الذي يجعلك تختار إطار القصة القصيرة للكتابة دون غيره من أطر التعبير الأدبي؟ هل يتعلق الأمر بحالتك النفسية أم بطبيعة الموضوع الذي تعالجه ؟ أم أن إمكانية النشر هي التي توجهك إلي هذا الإختيار؟
بالتأكيد ليس إمكانية النشر، وإنما لأن القصة القصيرة بالنسبة لي تمثل الأسلوب الغريزي للتفكير في الزمن، أي طريقتي البديهية لاصطياد الظلال الخاطفة للفناء، حتى عندما أكتب رواية أو قصيدة أو مقالًا نقديًا، إذا ما اتخذ الموضوع أو الفكرة شكلًا أدبيًا آخر؛ هناك دائمًا قصة قصيرة مختبئة في عمق هذا الشكل.    
 ــ ما الذي تهدف القصة القصيرة عندك إلي توصيله للقارئ؟ وهل تتمثل قارئك وأنت تكتب ؟ ومن قارئك؟
لا تستهدف القصة القصيرة عندي توصيل شيء معين للقارئ .. ربما أريد أن يجرّب خياله اللعبة التي أنشأتها دون توقف مهما تزايدت جروحه الناتجة عن ذلك، أو أن يستغل الفخ الذي استدرجته إليه كي يتسلل إلى ذاكرته عبر موضع الطعنة التي تلقاها، أو انتهاز ما يعتبره اعتداءًا على أمانه الشخصي كي يتفحص آلامه كما لم يفعل من قبل .. أكتب لقارئ واحد، هو أنا في لحظة الكتابة، أي أنني أكتب القصة القصيرة التي أريد قراءتها في ذلك الوقت، وربما يمتلك آخرون الرغبة نفسها، لكن القارئ الذي أتمثله يتجاوزني بصورة مبهمة، فأنا أخاطب أيضًا الاحتمالات المجهولة لذاتي، والمتوارية داخل الشخص الذي يكتب قصته القصيرة .. الاحتمالات التي تعرفني أكثر مما أعرف نفسي، وقد يحاول قارئ للقصة أن يشاركني في اكتشافها.           
 ــ ما مدي الزمن الذي تستغرقه كتابتك لإحدي القصص القصيرة؟ وهل تواجه أحيانا بعض الصعوبات في أثناء الكتابة؟ مثل ماذا؟
لكل قصة قصيرة زمنها الخاص، هناك قصة تُكتب في دقائق قليلة، وهناك قصة تُكتب في سنوات، ليس نتيجة صعوبات، وإنما لأنها تتطلب بعد كتابة كلماتها الأولى أن تنتظر وقتها المناسب للاكتمال .. يمكنني استبدال الصعوبة بمتعة الانهماك، لأن الحياة لا توجد إلا أثناء كتابة قصة قصيرة، لذا فالكتابة هي الجهد الذي لا أريد أبدًا أن أتوقف عن بذله .. المشقة الفعلية بالنسبة لي هي التفكير فيما لم أكتبه، وحتمًا عند محاولة التحدث عما كتبته.
 ــ هل استطعت من خلال ممارستك لكتابة القصة القصيرة أن تستخلص لنفسك بعض العناصر الحرفية التي تسعفك عند الكتابة؟ مثل ماذا؟
استخدام هذه العناصر في عملي يتم بطريقة عفوية، ولكن في ورشتي القصصية أقوم بتدريسها كأداءات مقصودة لتخطي عائق، أو لتغيير مسار، أو لفتح أفق غير متوقع .. تتعلق هذه العناصر على سبيل المثال بكيفية الإخفاء والكشف، وبتوظيف الذاكرة لتقويض بنية الواقع، وكذلك باستعمال المشاهد المتنافرة ظاهريًا لتكوين صدمة. 
 ــ هل تهتم في كل قصة قصيرة تكتبها بأن يكون لها مغزي بالنسبة إلي الأوضاع الاجتماعية المعاصرة؟
لا أهتم بذلك على الإطلاق .. أحيانًا يكون هناك تعمّد في قصة ما لكتابة ما ينطوي على هذا المغزى، وفي الأغلب يتم على نحو ساخر، وبالتأكيد يكون قائمًا على ما يتجاوز البُعد الاجتماعي الذي يتناوله.
 ــ كيف يكون مدخلك إلي القصة القصيرة؟ وهل يتجه اهتمامك إلي الحدث أم إلي الشخصية؟
ليس هناك مدخل ثابت، فكل قصة تقرر ما يغاير إرادة قصة أخرى، كذلك الأمر فيما يتعلق بالحدث أوالشخصية .. كتابة القصة القصيرة تكشف دائمًا عن هذا التوحد بينهما، أي أن يكونا كيانًا واحدًا .. كيف يخلق الحدث شخصيته، وكيف تخلق الشخصية حدثها، وبالضرورة كيف يدفع كل منهما الآخر إلى عدم الاستقرار عند ما كان عليه. 
ــ هل تعين الزمان والمكان للحدث (أو الأحداث) التي تتضمنها القصة القصيرة أم تتركها بلا تعيين؟
نادرًا ما أحدد الزمان والمكان، وإذا حدث ذلك يكون لدافع يرتبط بأثر معين لهما، وليس لمجرد التحديد.
 ــ هل تري فيما أنجزت حتي الآن من قصص قصيرة أنه يمثل مراحل تطور متعاقبة ؟ فإن كان فكيف تري نتيجة هذا التطور؟
أنظر دائمًا إلى وصف "التطور" في الكتابة بحذر يكاد يكون عدائيًا؛ ذلك لأنه يرتكز كليًا على حكم القيمة .. يستطيع أي فرد أن يستعمله كمعيار شخصي، لكن يروق لي استبداله بـ "الملائمة" مثلًا، بمعنى أن كل قصة تتسق مع لحظتها، وهذا لا يعني أفضلية القصة التي كتبتها اليوم عن القصة التي كتبتها منذ ثلاثين سنة؛ فإذا كانت قصة اليوم هي الأقرب لي، فذلك لأنها تمثل ما أكونه الآن، وهذا لا يتعارض مطلقًا مع الخبرة التقنية التي تتنامى بمرور الوقت.
 ــ إذا كنت قد انصرفت عن كتابة القصة القصيرة إلي غيرها من الأجناس الأدبية فمتي حدث هذا؟ ولماذا؟
لم أنصرف عن كتابة القصة القصيرة في أي مرحلة من حياتي، وكل نص كتبته في جنس أدبي آخر، كان اكتشافًا جديدًا للطريقة التي تتجسّد بها القصة القصيرة في أشكال مغايرة.
 ــ كيف تري مستقبل هذا النوع الأدبي؟
لا أجيد التحدث عن المستقبل، لكن أتصوّر أنه لو انتهى العالم في أي لحظة، فإن ذلك سيحدث بينما هناك شخص يكتب قصة قصيرة .. وبالتأكيد أتمنى أن أكون أنا هذا الشخص.
جريدة "الدستور" ـ 28 مارس 2020

السبت، 21 مارس 2020

الضفادع الملتهبة

مات أستاذ مادة العروض والقوافي بكلية الآداب، قسم اللغة العربية، في اليوم التالي للقائي به، والذي اقتصر على تقديمي الشكر لعائلته الكريمة التي أنجبت إنسانًا معرّصًا مثله، وتوعّده لي بالفصل من الكلية قبل أن يطردني من مكتبه .. حينما علمت بالخبر كان أول ما خطر في ذهني أنه لو عاد مؤقتًا إلى الحياة كشبح ليرشد عن قاتله فسوف يوجّه الاتهام لي حتمًا، ليس نتيجة الاعتداء اللفظي في حد ذاته، بل لأن الشتائم التي أهنته بها كانت مختلة الوزن والقافية، وهو ما مثّل الجانب القاتل في الاعتداء.
لم تستطع أمي وهي جالسة في الصالة بيننا أن تتمالك نفسها حينما سمعت صرخة أخي الشاب الثلاثيني المشلول، الراقد داخل ظلام حجرته المغلقة، والتي لم يغادرها منذ سنوات عدة، بعد أن أفقده المرض خطيبته وأصدقائه ووظيفته وشقته التي لم يدخلها أبدًا، وحتى قدرته على إشعال السجائر بنفسه .. ضحكت أمي لأن صرخته كانت مضحكة بالفعل .. كانت تشبه تلك الصرخات الميلودرامية، التي غالبًا ما توصف بالافتعال الطفولي أو المبالغة الساذجة، بالرغم من أننا كنا متأكدين تمامًا من أن آلام أخي أكثر فظاعة مما تجسّده هذه الصرخة .. مسحة من الذنب كانت تحاول أن تطفئ الضحكات في عيني وملامح أمي بسبب ما اعتبرته بديهيًا رد فعل غير لائق، انفلت رغمًا عنها، إلا أن مشاركتنا العفوية أنا وأبي وأختي في الضحك جعلت تلك المسحة تتبدد على الفور .. لحظتها فكرت في أن أمي ربما ستطلب من أخي أن يعيد إطلاق تلك  الصرخة أثناء تنظيفها اليومي لجسمه الهامد من البول والخراء كوقاية محتملة لها من البكاء والتقيؤ.
طلب مني طبيب الأمراض النفسية والعصبية الذي ذهبت إليه للعلاج من نوبات الهلع أن أحاول تجنّب الإفراط في التفكير، والبُعد عن مصادر القلق والاستفزاز والتوتر، والحصول على قدر كاف من النوم .. لم أجد طريقة لاسترداد نقودي سوى الاستمناء في حمام عيادته قبل خروجي منها، معدلًا في خيالي من تفاصيل الصورة العائلية فوق مكتبه، والتي ظللت أتأملها طوال حديثه لي.
فوق طاولة الطعام أطلب من أبي أن يناولني رغيفًا من الكيس الذي بجواره فيأمرني بالتوقف عن تقليد اللهجة الريفية لنجاح الموجي في مسلسل "سفر الأحلام" .. تخبره أختي بأنني لا أذاكر فيشتمها، ويأمرها ألا تتدخل ثم ينهر أمي لعدم متابعتها لأموري الدراسية .. تنظر أمي بلومٍ لأختي التي تلمح أخي الأكبر يرمقها بسخرية .. توجّه إليه كلمات جارحة فيشخر لها، ويمسك بأحد الأطباق ويضربه في الحائط ليتناثر حطامه المختلط بالطعام فوق الأرض .. ينهض أبي بعينين محتقنتين، وملامح توشك أن يفجّرها الغضب ليسب أخي بصوته الغليظ الجهوري فتحاول أمي تهدئته وهي تنعت أخي بوصف مهين .. يشتمها أخي بأمها ثم يسرع إلى المطبخ ويعود بجركن الجاز والولاعة فتتلاحق صرخات شقيقتي، وتسرع أمي لتفتح باب الشقة طلبًا للنجدة فيتدافع الجيران إلى الداخل بينما أتسلل إلى البلكونة، وأغلقها من الخارج ثم أتطلع نحو الغيوم، وأتمتم مرتعشًا بأول ما يخطر في ذهني من كلمات لا تنتمي إلى الضجيج المستعر ورائي، مقلدًا اللهجة الريفية لنجاح الموجي في "سفر الأحلام".
نمر أمام مكتبة "تنمية" فتطلب ميادة أن ندخلها، وأن أشتري لها كتابًا من اختياري .. ألتقط لها كتاب "الضفادع الملتهبة" للكاتب الفرنسي هنري لي روكس، ترجمة: ندا القلوط .. تسألني ميادة عن موضوعه؛ فأخبرها بأن الكاتب يتعرّض للحساسية المفرطة لدى أعضاء الجماعات والقبائل الأدبية في المدن المركزية التي تهيمن عليها المأسسة الثقافية، والنتائج غير المحكومة، الفائضة بالتأثيرات ـ اللامؤسسية ـ التي لا تتوقف عن كشف ما لم يكن يبدو متضمنًا لها، والصور المتشابكة، دائمة التوالد، للإقصاء والتعتيم التي تمارسها هذه التأثيرات على هوامش وأطراف تلك المدن .. يسمي الكاتب هؤلاء بـ "الضفادع الملتهبة" نظرًا لعجزهم المزمن عن تحمّل أي تذكير باستفادتهم المنطقية من المركز؛ حيث ينتفضون، كما تفعل الضفادع تمامًا، بمجرد أن يلامس هذا التذكير جلودهم الملتهبة، ويسارعون باستخدام سياقات لغوية قديمة ومبتذلة، تمنعهم شدة الالتهاب من استيعاب أنها مكشوفة على نحو فاضح للآخرين .. ترتكز هذه السياقات على جذب الوجع خارج موضوعه بواسطة استدعاء مفردات سهلة ومقصودة كـ "المظلومية" مثلًا لإلصاق دلالتها النمطية البائسة والمضحكة في نفس الوقت بكل من يطرح تناولًا أو إشارة للمكاسب التي لم يكن لهؤلاء الضفادع أن يحصلوا عليها لو بذلوا المجهود ذاته في مكان آخر .. يوضح الكاتب كيف يحاولون ـ بنطاعة متأصلة ـ أن يفرضوا هوية مزيفة على ذلك الذي يقف خارج الجماعة أو القبيلة، أو بالتعبير الدارج "الشلة الأدبية" بأشكالها المتعددة، منتهكًا تلك السلطة التي تمنح أفرادها يقينًا متوهمًا بالتفوق القيمي .. تحاول الضفادع الملتهبة بتلقائية مسعورة، بالغة التعاسة أن تنسب إلى من يقوم بذلك قصدًا قسريًا لا يمثله، ومعنى ملفقًا لخطابه .. يحلل الكاتب الفروق التأسيسية بين المدينة المركزية وهوامشها، كيف تنشأ علاقات القوة بين المؤسسة وأطرافها، ومسارات تطورها، كيف تتشعب وتتداخل وتتكاثر خارج أطرها التقليدية، كما يوضح أيضًا كيف تكمن السلطة المركزية في اللغة التي تُستعمل لإنكارها؛ حيث تتكفل الضفادع الملتهبة بإقرارها عن طريق الاستخدام المتواصل لتلك السياقات اللغوية الساذجة، التي ينبغي بحسب تأويلها المعتاد أن تكون "مُرهبة" لذلك الذي يقوم بتقويض هذه السلطة .. يسعى كل ضفدع أن يحوّل الأمر إلى معركة فردية، على كل من هو خارج "الشلة" أن يدافع عن نفسه خلالها أمام الاتهامات المختلقة، مما يتيح لذلك الضفدع أن يضلل ما يعدها "بطحة" فيؤكدها، ويعترف ضمنًا برغبته في حماية ما يستثمره، وتوطيد دعائمه المختلفة .. ما يحاول الدفاع عنه أيضًا هو موقفه ضد النظام السياسي الذي تخضع له المدينة المركزية، ذلك لأن الضفدع الملتهب لا يريد لاستفادته المؤسسية أن تلوث فكرته عن نفسه، وكذلك انطباع الآخرين عنه كمعارض، أو كمناوئ لهذا النظام، يحظى في الوقت نفسه بامتيازات "رسمية"، تقتصر على المكان الذي يتحرك داخل حدوده .. يحدد الكاتب أصل المشكلة، أو "جوهر الالتهاب" في عدم قدرة هذه الضفادع على التفرقة بين نقد النسق الثقافي، ونقد التابعين له؛ حيث لا تعني مجابهة النسق بالنسبة لهم سوى إدانتهم، باعتبارهم يمثلون مع مختلف ظواهره كيانًا واحدًا، وهذا يرجع ـ مثلما ذكر هنري لي روكس من قبل ـ إلى "وهم التفوق" الذي يزرعه المركز في أرواحهم، وهو بالطبع ما لا يجب خسارته.                  
أعود بعد تجاوز الأربعين إلى مدرستي الابتدائية .. تتعاقب المعلمات أمام السبورة ليشرحن الدروس للتلاميذ الجالسين في مواجهتها، ويرتدون المرايل التي في الغالب تكون باهتة أو متسخة أو مقطّعة .. فوق الدكة الأخيرة من الصف الأوسط للفصل أضاجع زميلاتي الجميلات اللاتي مازلن أطفالا واحدة تلو الأخرى .. تقرأ معلمة اللغة العربية ذات الوجه الأسمر المتجهم بصوت مرتفع من كتاب القراءة، بينما التلاميذ بالبلاهة الناعسة التي تغطي ذبول ملامحهم يرددون ورائها بما فيهم البنت التي أضاجعها: (أمي أمي .. عمر عند الزرع .. انظري يا أمل .. هذا زرعي .. زرعي طلع) .. تمسك المعلمة فجأة بالعصا ثم تتوجه بخطوات سريعة نحو أحد التلاميذ وتنهال على جسده ضربًا لأنه كان ينظر إلى خارج النافذة، ولا يردد ما تقوله .. تتوقف المعلمة عن القراءة، وتسألني بضيق ونفاذ صبر أن أكف مؤقتًا عما أفعله كي أنتبه لها .. ألتفت ناحيتها مستمرًا في دفع قضيبي داخل الفتاة العارية المستلقية فوق الدكة رافعة ساقيها المستندتين على كتفيّ وأقول لها: لقد انتظرت أكثر من ثلاثين سنة حتى أتمكن من القيام بهذا .. هل تتوقعين مني أن أتوقف الآن؟
ترد غاضبة: حسنًا .. حاول على الأقل أن تكون عادلًا، وألا تميّز بعض التلميذات عن بقيتهن...
أضحك شاخرًا: هل تريدين أنا أضاجع الدميمات، والشاحبات، والكالحات، والبدينات، وذوات المخاط السائب دائمًا، والروائح النتنة، والأنفاس الكريهة، والشعر المتلبّد، واللعاب المتدفق من أطراف أفواههن، والشفاه الجافة، المتشققة والمتلاصقة، التي تصدر صوتًا مقززًا، ممزقًا للأعصاب حين تنفصل عن بعضها، والعيون الفائضة بالعماص، واللواتي يضعن أصابعهن ذات الأظافر الطويلة التي تختزن القذارة السوداء في أنوفهن طوال الوقت؟! .. بعد كل هذه السنوات، مازلت حقيرة يا أبلة.
أسمع ضحكة متأوهة من بين شفتي الفتاة الجميلة الراقدة فوق الدكة فاتحة فخذيها، وجسمها الصغير يرتعش منسجمًا مع إيقاعاتي المتبدلة .. تزعق المعلمة بملامحها النحيفة المحتقنة: كنت أظنك ولدًا مؤدبًا.
أزيد من سرعة وقوة اندفاعاتي داخل البنت التي بدأت تعض سبابتها بموازاة فكيها، وملامحها الرقيقة الصامتة متقلصة بالتوجع واللذة .. أقول للمعلمة: بل كنتِ تظنينني مثلما يعتقد الجميع؛ أحمقًا، وخجولًا، وفاشلًا اجتماعيًا، خصوصًا مع الفتيات والنساء .. كان معكم حق، وللعلم فمازلت كما أنا.
أشعر باقتراب الأورجازم .. أخرج قضيبي من بين فخذي البنت وقبل تدفق نشوتي مثلما أحب فوق ثدييها العاريين؛ تندفع المعلمة نحوي بأقصى سرعة  لتجلس على ركبتيها أسفل قضيبي فاتحة فمها عن آخره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة.
موقع "الكتابة" ـ 19 مارس 2020
اللوحة: "قارب" لـ "لؤي كيالي" 1975 

الاثنين، 16 مارس 2020

سيرة الاختباء (14)

لم أكتب على فيسبوك في مساء اليوم الذي وصلت فيه مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس، مخاطبًا بقية الأسماء التي تضمنتها القائمة "مساء الخير على أحسن كتّاب قصة في مصر"، كما لم أكتب أنها "تكريم لرحلتي"، أو أن "كاتبًا بلا جائزة فكرة ممقوتة" .. لم أفعل هذا في ذلك المساء، ولا في أي مساء سابق أو تالٍ حصلت فيه على جائزة .. كنت سعيدًا، حيث التجسّد الأعنف لحقارة الجوائز كما كتبت من قبل، ولكنها ليست السعادة المخبولة التي تُظهرني على نحو مناقض لما أؤمن به: أن الجائزة استمدت القيمة من وصول مجموعتي إلى قائمتها القصيرة وليس العكس .. لم أكن أبدًا في حاجة لانتهاز الحصول على جائزة أو الوصول لقائمة طويلة أو قصيرة حتى أطلق فساءًا متباهيًا، تدين نطاعته الكوميدية لرضاء مجموعة من الناس عن عملي.
لهذا، كان الرد الثابت من جانبي على التهاني والأمنيات الغزيرة المتلاحقة، التي توقع معظمها حصولي على الجائزة، وبشكل يصل أحيانًا لدرجة اليقين الكامل؛ كان الرد الثابت هو بقاء حالتي المزاجية محتفظة بنقائها في جميع الأحوال .. ولهذا أيضًا كتبت في صفحتي على فيسبوك بعد إعلان النتائج النهائية بأن "مكان جيد لسلحفاة محنطة" فوق أي تقييم .. العبارة التي أحرقت دُميات عديدة ، للدرجة التي دفعت أحدهم ـ مستغلًا إحدى لحظات ظهوري النادرة ـ لسؤالي عن الدافع وراء التقدّم للجائزة من الأصل طالما أن المجموعة "فوق أي تقييم" .. كان أثناء توجيه ذلك السؤال الذي بدا جليًا أنه حلم كثيرًا باللحظة التي سيطلب مني الإجابة عليه؛ كان أشبه بفأر مرتجف، يرجوني ألا أنزع عن وجهه قناعًا مهترئًا لقطٍ يبتسم ببلاهة طاغية .. أجبته هازئًا بأنني أريد الحصول على المكاسب .. أن أستمتع بهذه المكاسب كي أُشبع المسخ الغيبي المتجذّر بداخلي والذي يرغب في ذلك طوال الوقت، وليس له علاقة بما يُسمى بـ "التنافس الأدبي" في حد ذاته .. نعم، ما أكتبه فوق أي تقييم ـ وهذا أقصى ما يمكنني تقديمه من تواضع ـ حتى تلك التقييمات التي منحتني الجوائز قبل القائمة القصيرة لجائزة ساويرس وبعدها.
بالتضاد مع الأسئلة المغتلّة، وعلى هامش حوار صحفي؛ طلب صديقي المحرر الأدبي أن يوّجه لي استفهامًا لن تُنشر إجابته ضمن ذلك الحوار: لو افترضنا أنك قمت ـ كجنتلمان صافٍ ـ بتوجيه التهنئة لآخرين على الجوائز التي حصلوا عليها، ثم لاحظت في استجاباتهم على تلك التهنئة، أو بعد ذلك أن كلًا منهم يُظهر ما يشير إلى سيطرة وهم التفوق على خطواته المنتشية، كمومس منهكة، حصلت على أجرها دون مضاجعة ـ وهذه صيغة تعاطف بالغة الصدق ـ ماذا سيكون رد فعلك؟ .. هل ستذكّرهم ولو بصورة غير مباشرة بأن دور النشر التي أصدرت كتبهم هي التي حصلت على تلك الجوائز؟، أم ستكتب قصصًا قصيرة سيكون من ضمن مقاصدها توجيه سخرية عقابية لهم؟، أم ستتجاهل الأمر، وتتركهم في حالهم، وتكتفي بالاستمناء؟ .. قلت لصديقي المحرر: سأقوم بكل ذلك معًا دون شك .. في الحقيقة كان الحوار الصحفي هو الذي على هامش هذا السؤال وإجابته.
كل كتابة ينبغي ـ إذا ما أرادت ـ أن تحصل على جائزة .. لكن ما ليس متعلقًا بها هو الذي يتحكم في حدوث ذلك أو عدمه .. غلاف الكتاب مثلا: اسم الكاتب .. جهة الإصدار .. هذه معلومة تتساوى في بداهتها مع الهشاشة الخرائية التي تقف وراء أشكال شائعة من الزهو بالجوائز.
(لو أعيدت كتابة السطور الافتتاحية على غلاف مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" بطريقة التنبيه الموجز، الذي يفسّر ما بين كلماتها لكُتب على الغلاف: "تحذير ... كتابة مؤذية للقارئ المدجن، الخامل، ضارة بأصحاب الأذهان الناعمة".
تسخر مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" بصورة ضمنية، وعلى نحو استباقي من القطعان الأليفة على جودريدز، وداخل مفارخ النقد الأدبي .. هي بالطبع تدفع ثمن حرمانها للآخرين من الإشباع المسالم، لكن استمتاعها بالتسبب في الإزعاج هو الجوهر المسيطر على المشاهد كافة، خاصة تلك التي يحاول البعض استغلالها في مداواة أوجاعهم.
تحدثت في أكثر من مناسبة عن الأهداف المتعددة لورشتي القصصية؛ وأعتقد أن هذه فرصة ملائمة للكشف عن غرض أساسي لم أتكلّم عنه من قبل: أن تكون هذه الورشة خطوة دامغة لطلابها في محاولة تأصيل خبرة التعرّف على الفرق بين الكتابة الودودة والكتابة المستفزة .. بين القصة المروّضة، والقصة العدائية .. بين الكاتب الذي يخضع "تمرّده" لحدود مستأنسة، والكاتب الذي يمتلك غريزة اللعب الهادم بأي يقين، مهما كانت صلابته .. ألا تتعطّل يقظتهم تجاه الغايات النمطية اللطيفة التي يحاول القراء دائمًا تقييد النصوص الجامحة بأمانها المتوهّم .. ألا يكونوا مجرد نسخ هامدة ضمن قطعان جودريدز، وبصرف النظر عن هل سيستمرون في بذل الجهد اللازم لتحقيق ذلك أم لا .. ربما يتذكرون الآن محاضرة "الكولاج اللازمني" عن التحريفات الصادمة في قصة همنجواي "عجوز على الجسر" على سبيل المثال .. تستهدف ورشتي القصصية أن يأتي يوم يكتب فيه النقاد ـ من خارج المفرخة ـ عن مجموعات طلابها مثل هذه السطور للناقد المبدع "عمر شهريار" عن "مكان جيد لسلحفاة محنطة":
"ممدوح رزق يبحث طوال الوقت عن ثغرات العالم، كما أن الذات الساردة في كثير من قصصه هجومية .. عنيفة .. ساخرة، لكنها لا تنبع من قسوة أخلاقية، وإنما من إدراك عميق لعبثية العالم بوصفه مسخرة لا تحكمها قواعد سببية .. الذات المكرهة على الوجود، والتي تعرف أن كل شيء هو عبث، وبلا روابط منطقية؛ فتحل المتاهة (الخيوط المتشابكة، والمعقدة التي لا تؤدي لبعضها بالضرورة) محل البناء السردي الممنهج".
أو مثلما كتب الأستاذ الكبير "محسن يونس" عنها:
"قارئ ممدوح رزق سوف يتمتع بجانب قراءته قصصًا تعتمد على ذات فردية، والإبحار في وجودها بالمعنى الوجودي الباحث في كينونته وماهيته في هذه الحياة المهولة، ودروبها العجائبية والغريبة عن الإحاطة، من خلال موقف درامي طازج يحسب للكاتب أنه له وحده، ولا شبيه له في كتّاب قصصنا في الوقت المعاصر".
مجموعة "مكان جيد لسلحفاة محنطة" هي مكان سيء لقارئ محنّط).
من اليوميات: 22 يوليو 2019
موقع "الكتابة" ـ 15 مارس 2020

السبت، 14 مارس 2020

التأخّر عن الموعد

كان المطر غزيرًا، ولم يتوقف منذ أمس، وذلك لم يكن يعني بعد ثلاثة وأربعين عامًا سوى أنني لا أريد الوقوف داخل الشرفة ومد كفيّ خارجها لاحتواء قطرات منه، أو مراقبة تلاحقها فوق أرض الشارع، أو تنفس رائحته القديمة .. وراء الباب المغلق ظهر على شاشة هاتفي بثًا مباشرًا لفتاة لا أعرفها، تعيش في نفس مدينة، وتصوّر المطر بنشوة طفولية من شرفة بيتها .. كانت تدمج صوته بـMia & Sebastian's Theme (Late For The Date) - La La Land .. كانت الفتاة جميلة وتصغرني بنحو عشرين عامًا، والشارع الذي يظهر في تصويرها لا تفصله عن بيتي أكثر من دقائق قليلة .. كان البث لا يزال مستمرًا حينما وجدت يدي تفتح باب الشرفة كي أقف داخلها .. فكرت في أنني والفتاة نشاهد نفس المطر في هذه اللحظة، ونستمع إلى الموسيقى ذاتها، ولكن من شرفتين مختلفتين .. مددت كفيّ محتويًا قطرات المطر، مراقبًا تلاحقها فوق أرض الشارع، ومتنفسًا رائحته القديمة .. قلت في نفسي أنني والفتاة أصبحنا نشاهد نفس المطر في هذه اللحظة، ونستمع إلى الموسيقى ذاتها، ومن داخل شرفة واحدة .. كأننا نعوّض لقاءًا مُهدرًا في الماضي، لم نتفق على حدوثه .. كان كل ما عدا ذلك علامات طريقين مختلفين نحو الموت.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 12 مارس 2020

الاثنين، 9 مارس 2020

سيرة الاختباء (13)

"جائزة ساويرس" .. واحدة من العطايا السخية والبرّاقة، لم يحظ بها الكثيرون من أجيال مختلفة، الذين تقدّموا للحصول عليها أحيانًا أكثر من مرة، ويتمتعون في الوقت نفسه بمكانة طيبة في "الوسط الأدبي" .. رغم كل ما يتداول عنها ـ أحب نفسي كثيرًا حينما أتحدث ببراءة ـ بأن لجان تحكيمها تتضمن شخصيات ليس لها رصيد في الفروع التي تُحكّمها، أو أنها تعيّن ناشرًا كرئيس للجنة التحكيم فيهديها لإصداراته، أو أنها تُعطى لكتاب لا ينتمي للفئة التي حصل عنها، أو أنها تًمنح لإسكات من تطول فترة انتقاده الساخر منها، فيتحوّل إلى ممجد لها، أو لتعويض انتقائي لمن خسر في دوراتها السابقة أو في مسابقات أخرى، أو لتعطف ـ انتقائيًا أيضًا ـ على آخر بسبب احتياجه المادي أو كبر سنّه أو ضجيجه المتوسّل على المقاهي، أو بأنها محكومة بتوازانات وحصص وخواطر ناشرين وصحفيين وكتّاب وفنانين وموظفين ووكلاء مؤسسات ورجال أعمال من اللاعبين في البزنس الثقافي .. كل هذا بالنسبة لي أشبه بأن يتحدث الناس عن الخامة الرديئة لكلوت شخص تتدفق الدماء من فتحة شرجه.
في الطريق من بيتي إلى شركة نقل الطرود حاملًا نسخ "مكان جيد لسلحفاة محنطة" التي سأرسلها إلى مؤسسة ساويرس؛ كنت أفكر مجددًا في أن الجوائز حقيرة .. أن التجسّد الأعنف لحقارتها في سعادة الفوز بها، وفي حزن خسارتها .. جماعة بشرية تستمتع بإقامة حفل تضيئه الأوهام السلطوية المهينة .. كأن أفرادها يمتلكون قواعد الجدارة .. كأن هناك يقينًا لما يُسمى بالجدارة .. يفتحون الأبواب، فتنطلق الكتابات داخل مضمار انتهاكها المضحك، ويأخذ السباق التقييمي شكل البداهة، وينتج أحكامه المتفاخرة كأنها حصيلة ناجحة لترتيب منطقي، مدعوم بروح إلهية .. لسنا من قررنا بأن الكاتب لابد أن تقيّم أعماله من قِبل آخرين، أو أنه لابد من أن تقيّم أعماله أحيانًا مقارنة بأعمال غيره من الكتّاب في أوقات معيّنة، أو أن يحصل "الأفضل" بالنسبة لهؤلاء الآخرين على مكافأة مقابل تلك "الجودة" .. القدر نفسه هو الذي فرض هذا، ونحن ممتنون له بلا شك .. كنت أفكر مجددًا في ذلك؛ فهو أقرب لطقس ظل يُمارس عفويًا في ذهني أثناء التقدّم للجوائز السابقة .. الجوائز التي فزت بها جميعًا.
لماذا تفشل محاولاتك للاختباء من حقارة الجوائز؟ .. لأن إصرارها المنيع لا يجتاحك من الخارج بل من ماضيك الشخصي .. من التوافق الشيطاني الباهر بين "القدر" الذي يرعى الجماعة الأدبية التي تحاصرك، والمرارة الجسيمة التي كوّنت نفسك؛ بدءًا من رعب الطفولة مرورًا بالكراهية المطلقة وحتى قيامة الغضب المكبوتة في حاضرك .. يتزايد هذا الإصرار كلما زاد اللمعان الصاخب لتلك "الحقارة" بفضل المال والشهرة ودعم المرافق الثقافية للعاصمة .. لذا فهي ليست قاتلًا متسلسلًا ينجح دائمًا في التسلل إلى عزلتك، بل هي العزلة نفسها التي تشارك في تشييدها العائلة وزملاء الدراسة والأصدقاء والجيران والغرباء والأشباح المجهولة داخل جسدك .. الذين لا يطالبونك بأن تثبت ـ رغمًا عنك ـ بأنك "الأفضل"، بل للاستجابة إلى كل أشياء الحياة التي تطالبك طوال عمرك ودون كلمات لأن تثبت أنك الأفضل .. أن تكسب اعترافًا تلو الآخر، وأكثر تطورًا مما يسبقه، مهما بلغت القوة الراسخة لتهكمك على ما يُسمى بالاعتراف الأدبي، وزيف أدواته ومانحيه وسياقاته المتغيّرة .. مهما بلغت قوة رجائك في الانتقام من الإذلال القابض على ذاكرتك خارج "الأورجي" التعيس الذي تجذبك الإغراءات المستمرة للانضمام إليه.
موقع "الكتابة" ـ 8 مارس 2020
اللوحة: Incantation - Francisco Goya

الجمعة، 6 مارس 2020

La muerte extraña del pájaro

الترجمة الإسبانية لقصتي القصيرة "الموت العجيب لطائر"، والتي ستنشر قريبًا في الجزء الأول من "الموسوعة المعاصرة للقصة القصيرة العربية "، إشراف وترجمة الشاعر والمترجم العراقي حسين نهابة.
La muerte extraña del pájaro
El Escritor Egipto: Mamdouh Rizq
Para explicar el escenario chocante que vi al abrir la ventana de mi habitación, dada a la avenida trasera del edificio donde vivo, adiviné que el vuelo dispersado de la pequeña bolsa de plástico ha terminado, con una exactitud divina muy extraña,en la barra de hierro resaltante entre otras semejantes en la terraza del inmueble inacabado, y que da a la ventana de mi cuarto… La bolsa tenía tres agujeros… Una casualidad rara hizo que los tres agujeros se distribuyeran como una trampa bien hecha. El primero desciende por la barra. Pasa por un pequeño vacío haciendo que la bolsa se atase bien, y el segundo por uno de sus lados. Esto permitió a un pájaro, cuyo género no pude determinar, entrar en la bolsa. El tercer agujero en la mitad de la bolsa, permitió al pájaro, aún en una pequeña y maldita superficie, mover sus alas hacia fuera, pero no a todo su cuerpo…Así, no pudo ni siquiera mover sus alas en su posición anterior… El pájaro permaneció colgado, sin poder escaparse a pesar de los repetidos intentos hasta morirse. Permaneció atrapado enla bolsa como una estatua de pura espontaneidad, a la que las barras se ofrecieron como un teatro... Las barras en su forma eran como un esqueleto aéreo al que se hacen inmolaciones, o como soportes de una pequeña habitación de ejecución abierta, y la bolsa es la horca que se cuelga de lo alto a la mitad de la barra.
¿Sería probable que el pájaro cayese en la trampa antes de que la bolsa se atase a la barra de hierro?.. Imaginé que el pájaro quizás entró en la bolsa cuando estaba aún en los aires, y debido a su pesadez se vio incapaz de liberar sus alas. Así la bolsa penetró en la barra resaltante, con una exactitud divina y rara. El vacío del agujero hizo que la bolsa con el pájaro dentro se colgase… ¿Cómo creer en este escenario?... ¿Por qué el pájaro entró en la bolsa?... ¿Buscaba comida?... ¿Era por distracción habitual?... ¿Estaba persiguiendo otro pájaro, o un animal, no como él, que pudo escaparse de la caza?... ¿Era ciego, o era la oscuridad, era tan fuerte hasta tal punto?.. El nivel de la barra, pese a su altura, era baja para el pájaro que no tenía por qué descender, o fue por alguna atracción irresistible, o una necesidad absoluta... Así lo creía yo.
¿Cómo empezó el acontecimiento confuso y se terminó sin oír ninguna voz de resistencia por parte del pájaro para escaparse de la bolsa, ni tampoco una llamada de socorro por desesperación, tras asegurarse de la imposibilidad de liberar sus alas, pese a la superficie reducida entre la ventana de mi habitación y la terraza cercana? ¿No pudo pronunciarse? ¿Cómo no pudo romper la bolsa con su pico y sus uñas?.. No pude explicar estos elementos de resistencia por el estado del cadáver del pájaro. Pensé en la necesidad de su existencia, así como estaba seguro de que aunque lo hubiera intentado, no se salvaría, pese a la debilidad de la bolsa… ¿Murió por asfixia, hambre o sed, o por el gran esfuerzo que hizo, o por el miedo?... ¿Estaba enfermo?... ¿Por qué parece que el pájaro dio su vida por una terquedad obligatoria, solo él puede asimilarlo?... Todos los detalles que componían la terraza del edificio vacío e inacabado, y también el espacio amplio a su alrededor, alejan toda intervención humana en el asunto...Cualquiera que fuese podía llegar a este lugar, pero no salir sin ser salvado de una caída definida. Además de la ausencia de un motivo lógico para que alguien preparase tal escenario, y se atreviese a realizar un paso tan peligroso. ¿Sería una voluntad de suicidio incomprensible la que empujó al pájaro a encontrarse encarcelado en una bolsa colgada a una barra de hierro?
Permití a mi esposa examinar el escenario, y su explicación fue igual que la mía. No me quedéconvencido. Con mi móvil, saqué fotos del cadáver del pájaro. Las mostré a mi familia, mis amigos y conocidos, ninguno me dio un argumento lógico que contradecía lo que imaginaba, ni tampoco añadió o cambió algo. Todos estuvieron de acuerdo sobre lo que pareció una verdad normal. Mi rechazo a la misma aumentó cada día más, aunque era lo que me parecía al ver al pájaro…Tenía una certeza de que el asunto tenía una explicación, totalmente diferente a toda imaginación basada en la casualidad, y las alternancias espontáneas de los acontecimientos que crearon este enigma… Sabía que esta explicación reside en algún fallo, en espera de un momento adecuado para borrar el oscurecimiento insistente, y de la manera de descubrir la premeditación oculta de lo que sucedió.
Pasaron muchos años desde aquel día... No obstante, eran pocos para mí…Todo lo del pasado se va borrando con una fluidez progresiva ante la persistencia del escenario, y mi intento continuo de encontrar la verdad. Los días son uno extendido a lo largo de todos los años, ocultando muy bien un secreto al que no he llegado… Un solo día, que arrancó como otra vida desde el momento en el que he abierto la ventana de mi habitación, y encontré al cadáver del pájaro colgado al borde de la terraza del inmueble inacabado hasta ahora... Mi memoria se detuvo poco a poco en recordar lo que no tiene relación con este secreto. Todo lo que ocurrió en el mundo, o incluso en mi realidad de manera directa, no pudo infiltrarse en esta nueva vida pese a su importancia y crueldad. Mi hija ya no es sino un ser que vive fuera de mi aislamiento. La vi creciendo y no más. Mis sueños, con su escasez, se negaron abandonar el escenario del pájaro, y si está imagen se queda como fue como en mi despertar, no la cambian ni la alteran otros escenarios… Permanecí pensando sólo en los instantes confusos antes de la muerte del pájaro en la pequeña bolsa de plástico colgada a la barra de hierro… No hice nada sino mostrar la foto del pájaro a todos, y preguntarles sobre la causa de su muerte... Nada nuevo añadieron los años, ni cambiaron la antigua y fracasada explicación, que cuanto más se asimila, más se profundiza su simplicidad en mi alma, y se incita mi enemistad a su cautividad... Con el paso del tiempo se va desvaneciendo todo lo que determinaba mi identidad entre los demás, y me he convertido en “el hombre que persigue la muerte extraña del pájaro”.
Creo que ya no tengo mucho tiempo, y aunque mis últimos años se limitaron solo en explicar la muerte del pájaro, no siento que los he perdido… al contrario, mi confianza aumenta, al dedicar estos años a los asuntos más lógicos. Diría que esta preocupación por la naturaleza del enigma de la muerte del pájaro era la única adecuada conclusión en mi vida, sobre todo en apartarme de las otras leyendas… Todo el pasado antes del descubrimiento del cadáver del pájaro se dirigía hacia este fin, pese a que no cesaba de dar señales que lo insinuaban de vez en cuando… Aunque hasta ahora no encontré la verdad siento alegría, no sólo porque mi vida termina con semejantes dolores, sino porque el cadáver del pájaro aún sigue colgado a la barra de hierro durante todo este tiempo, y no parece acabada... Como si el pájaro sólo muriera un solo instante, o como si viviera en su larga quietud una vida diferente, cuya continuidad sólo la garantiza mi intento insistente de encontrar el secreto ocultado... Imagino que he podido, aún en último momento de mi vida, llegar a la explicación correcta, porque el cuerpo del pájaro no desaparecerá, sino que podrá salvarse de la bolsa colgada en la barra... Esto es lo que aseguran los temblores alejados de la caída de sus alas encarceladas durante años.
الموت العجيب لطائر
لتفسير المشهد الصادم الذي باغتني عندما فتحت شباك حجرة نومي المُطل على الشارع الخلفي للبناية التي أسكنها؛ افترضت أن رحلة الطيران المتطوّح للكيس البلاستيكي الصغير قد انتهت بدقة قدرية غريبة عند هذا القضيب الحديدي البارز ضمن عدة قضبان مماثلة من حافة سطح البيت الذي لم يُكتمل بناؤه، والملاصق لشباك حجرتي .. أن ثلاثة ثقوب كانت بالكيس، وأن مصادفة لا تُصدّق قد جعلت هذه الثقوب توزّع أدوارها كمصيدة محكمة بحيث يهبط الأول على طرف القضيب البارز فيمر عبر فراغه الضئيل مثبّتًا الكيس بصلابته المرتفعة، ويتسع الثقب الثاني في طرفه بما يسمح للطائر الذي لم أتمكن من تحديد نوعه أن يعبر إلى الداخل، بينما يترك الثقب الثالث في منتصف الكيس مساحة خبيثة لجناحي الطائر كي يرتفعا من خلاله نحو الخارج، ولكنها لا تكفي لمرور بقية جسده، أو لخفض الجناحين ثانية واسترداد وضعيتهما السابقة .. أن الطائر ظل عالقًا، غير قادر على الانفلات رغم المحاولات المتكررة التي ربما استغرقت وقتًا طويلًا، وانتهت بموته محتجزًا داخل الكيس كتمثال من العفوية الخالصة، خلقت القضبان الحديدية المنتصبة مسرحًا مثاليًا لعرضه .. كانت القضبان في تجاورها وتقاطعها فوق الحافة تكوّن ما يشبه هيكلًا هوائيًا لتقديم القرابين، أو كأنها أعمدة صغيرة لغرفة إعدام مفتوحة، يمثّل الكيس البلاستيكي مشنقة تتدلى من أعلى إلى منتصفها.
هل يُحتمل أن يكون وقوع الطائر في هذا الفخ قد بدأ قبل أن يثبّت الكيس نفسه في القضيب الحديدي؟ .. تخيّلت أن الطائر ربما دخل إلى الكيس بينما كان لا يزال محلّقًا في الهواء، وأنه نتيجة لثقل الطائر العاجز عن تحرير جناحيه فقد تهاوى الكيس نحو القضيب البارز الذي اخترق ـ بنفس الدقة القدرية الغريبة ـ فراغ الثقب ليُبقي الكيس الممتلئ بالطائر عالقًا به .. كيف يمكن الاقتناع بهذا التصوّر؟ .. لماذا دخل الطائر إلى الكيس أصلًا؟ .. هل كان يبحث عن طعام؟ .. هل فعل ذلك كنوع من المرح الاعتيادي؟ .. هل كان يُطارد طائرًا آخر، أو حيوانًا نجح، على عكسه، في الهروب قبل اصطياده؟ .. هل استحوذت على وعيه رغبة محصّنة، لم يفهمها، أجبرته على دخول الكيس؟ .. هل كان أعمى، أم أن الظلام كان حالكًا إلى هذه الدرجة؟ .. كان مستوى القضيب المنتصب ـ رغم ارتفاعه ـ منخفضًا بالنسبة لطائر لن يدفعه مؤثر للنزول إليه سوى إغراء لا يقاوم، أو احتياج قهري بلغ ذروته .. هكذا اعتقدت.
كيف بدأ الحدث الغامض وانتهى دون سماع أي صوت لمجاهدة الطائر في التملّص من الكيس، أو نداء استغاثة ليأسه بعدما أيقن استحالة تخليص جناحيه رغم المسافة الصغيرة للغاية بين شباك حجرة نومي والسطح المجاور؟ .. هل لم يكن يستطيع النطق؟ .. كيف لم يقدر على تمزيق الكيس بمنقاره أو بمخالبه؟ .. لم يكن بوسعي تبيّن أدوات المقاومة هذه بسبب الحالة الشكلية التي تتخذها جثة الطائر، ولكنني فكّرت في ضرورة وجودها، مثلما كان لدي تأكد من أنه لو كان قد حاول استخدامها فإنها لم تكن ستُجدي نفعًا رغم الهشاشة المفترضة للكيس .. هل مات نتيجة الاختناق، أم بسبب الجوع والعطش، أم بفعل المجهود الشاق الذي بذله، أم تحت وطأة الرعب؟ .. هل كان مريضًا؟ .. لماذا يبدو الطائر كأنما دفع حياته ثمنًا لجموح اضطراري، لا يمكن لأحد سواه أن يستوعبه؟ .. كانت جميع التفاصيل التي تُشكّل سطح البيت الخالي، غير المشيّد بالكامل، وكذلك الفضاء الواسع المحيط به تستبعد تمامًا أي تدخّل لقصدٍ بشري في الأمر .. لم يكن بمقدور أي شخص الوصول إلى هذا المكان ومغادرته إلا بعد النجاة من سقوط يكاد يكون حتميًا، فضلًا عن غياب الدافع المنطقي الذي يمكن أن يقود إلى تدبير هذا المشهد، والإقدام على مخاطرة مهلكة كتلك في سبيل تنفيذه .. هل ما استحوذ على وعي الطائر وقتئذ كانت رغبة انتحارية مبهمة، وجدت ضالتها على نحو مفاجئ في الكيس العالق بالقضيب الحديدي؟.
جعلت زوجتي تتفحص المنظر، ولم يخرج تفسيرها عما افترضته من قبل، وظل غير مقنّع بالنسبة لي ... التقطت بهاتفي المحمول صورة لجثة الطائر، وأطلعت عائلتي وأصدقائي ومعارفي عليها، ولم يمنحني أي منهم تبريرًا مُرضيًا يُعارض ما تخيّلته، أو حتى يضيف إليه أو يعدّله .. اتفقوا جميعًا على ما بدا أنها حقيقة بديهية، كان رفضي لها يزداد طمأنينة يومًا بعد آخر، رغم أنها كانت أول ما خطر تلقائيًا في ذهني عند رؤية الطائر .. كان لدي يقين بأن ثمة تفسيرًا حاسمًا، مغايرًا تمامًا لأي تصوّر ممكن يعتمد على مشيئة الصدف، والتعاقب العفوي للوقائع التي أنتجت هذا اللغز .. كنت أدرك أن هذا التفسير يكمن في خفاءِ ما، ينتظر اللحظة المناسبة لإزاحة ظلامه المتمنّع، وبالكيفية الجديرة بالكشف عن التعمّد المجهول لما حدث.
مرت سنوات كثيرة منذ هذا اليوم .. مع ذلك كانت قليلة جدًا بالنسبة لي .. ظل كل ما ينتمي إلى الماضي يتبدد بانسياب تدريجي أمام طغيان لا يخفت لهذا المشهد، ومحاولتي المستمرة للعثور على الحقيقة .. أصبحت الأيام كلها يومًا واحدًا ممتدًا عبر السنوات، ومغلقًا بإحكام على السر الذي لم أنجح بعد في التوصّل إليه .. يوم واحد، بدأ كعمرٍ آخر منذ اللحظة التي فتحت خلالها شباك حجرتي، ووجدت جثة الطائر المعلقة فوق حافة سطح البيت الذي لم يُكتمل بناؤه حتى الآن .. توقفت ذاكرتي شيئًا فشيئًا عن استرجاع ما لا يتعلّق بهذا السر، ولم يتمكن أي مما جرى في العالم بعد ذلك، أو حتى داخل الواقع الذي يخصني بصورة مباشرة من التسلل إلى هذه الحياة الجديدة مهما كانت أهميته أو ضراوته .. حتى طفلتي لم تعد بالنسبة لي أكثر من كائن يعيش خارج عزلتي، تتوالى فحسب على جسده متغيرات النمو .. أحلامي نفسها ـ مع ندرتها ـ امتنعت عن مغادرة مشهد الطائر، وإن بقي هذا المنظر كما هو في اليقظة، لا يخدشه تحريف أو تشابك مع صور أخرى .. لم أعد أفكر سوى في اللحظات الغامضة التي سبقت موت الطائر داخل الكيس البلاستيكي الصغير العالق بالقضيب الحديدي .. توقفت عن القيام بأي شيء عدا إطلاع الغرباء في كل مكان على صورة الطائر، وسؤالهم عما يظنون أنه قد حدث قبل تحوّله إلى جثة .. كل هذه السنوات لم تضف جديدًا، ولم تُعطل التفسير القديم الخائب الذي كلما تراكم تصديقه، كلما تعمّقت سذاجته في نفسي، وتوحّشت كراهيتي لسطوته .. بمرور الزمن راح يتلاشى كل ما كان يحدد هويتي عند الآخرين، ولم أعد بالنسبة للجميع سوى "الرجل الذي يطارد الموت العجيب لطائر".
أعتقد أنه لم يعد لدي الكثير من الوقت، ورغم أن سنواتي الأخيرة قد اقتصرت بشكل قاطع على التفسير الغائب لموت الطائر إلا أنني لم أشعر للحظة واحدة بأنني أهدرتها .. على العكس؛ لا تزال ثقتي تتزايد في أنني كرّست هذه السنوات لأكثر الأمور صوابًا، بل لن أكون مخطئًا لو قلت أن هذا الانشغال المهيمن بالطبيعة الملغزة لموت الطائر كان بمثابة الختام الوحيد اللائق بحياتي التي نجحت في تعزيز انفصالها عن الخرافات الأخرى .. أن الماضي بأكمله الذي سبق لحظة اكتشافي لجثة الطائر كان يسعى من أجل هذه النهاية على نحو مستتر، وإن كان لم يتوقف عن إعطاء العلامات الموحية بذلك بين حين وآخر .. وبالرغم من أنني لم أعثر على الحقيقة حتى الآن إلا أنني أشعر بالسعادة، ليس فقط لأن حياتي تنتهي بهذا النوع من الألم، بل لأن جثة الطائر لا تزال معلقة أيضًا في القضيب الحديدي رغم مرور كل هذه الفترة، ولم يظهر عليها أي أثر للفناء .. كأن الطائر لم يمت إلا منذ لحظة واحدة، أو كأنه يعيش في سكونه الطويل حياة مختلفة، لا يضمن استمرارها سوى محاولتي المتواصلة لإيجاد السر المختبئ .. أتخيل أنني إذا تمكنت ـ ولو في اللحظة الأخيرة من حياتي ـ من امتلاك التفسير الصحيح فإن الطائر لن يبدأ في زواله الجسدي بل سيكون باستطاعته الانفلات من الكيس العالق بالقضيب المنتصب .. هذا ما تؤكده الرعشات المتباعدة، متناهية الخفوت لجناحيه المحتجزين طوال هذه السنوات.

الاثنين، 2 مارس 2020

سيرة الاختباء (12)

في حجرة السطح ببيت محمد عمار؛ لم أختبر فقط للمرة الأولى ما يُسمى بـ "المنافسة الأدبية"، أي الرغبة في الحصول على إقرار دائم من محمد عمار بتفوق قصصي القصيرة عن تلك التي يكتبها صديقي محمد صابر؛ بل اختبرت أيضًا الشعور بالكراهية تجاه هذه المنافسة .. الكراهية التي تتصاعد استفهاماتها بقدر التضاعف المستمر لتلك الحاجة إلى اعتراف متواصل بامتلاك القيمة الأعلى .. من أين تنبع تلك الرغبة؟ .. كيف تنشأ، وتنمو، وتتحوّل إلى أرق بالغ الثقل؟ .. لماذا توجد بهذه القدرة على الهيمنة والإخضاع والتجسّد في صور متواطئة مع ضرورات الواقع بحيث تصبح شرطًا للحياة نفسها؟.
يمكن القول أنه في تلك الحجرة القديمة بدأت على نحو غائم في تحسس جدران المصيدة التي يمكن لكلمات تشارلز بوكوفسكي في رواية "نساء" أن تصفها تمامًا: "أسوأ ما يمكن أن يفعله الكاتب هو أن يتعرّف على كاتب آخر، والأسوأ من هذا أن يتعرّف على عدد آخر من الكتّاب. كالذباب المتجمّع على قذارة واحدة".
لهذا لم تكن الإشادة التي تحظى بها قصة قصيرة لي سواء من محمد عمار أو من زوّار حجرته، لم تكن تكتمل إلا بالتأكد من كونها أكبر من تلك التي تحظى بها قصة محمد صابر، ولهذا أيضًا أدركت أنني حصلت على ما كنت أنتظره من انتصار نهائي مشبع حين خصّني محمد عمار قبل وفاته بأيام قليلة بهذه السطور:
"صدقني يا ممدوح
قلمك ذكي وواعي
وخيالك اللماح
تصويري وإذاعي
بكرة هايملى الكون
بكرة هايملى الكون
بكرة هايملى الكون".
في روايتي "خلق الموتى" / سلسلة إبداع الحرية 2012؛ كتبت عن أن العلاقة الشخصية ضد الكتابة، ذلك لأنها بطريقة ما قد تفسد المفاجأة التي تريد بواسطتها أن تقود القارئ إلى أرواحها الغامضة، فذلك القارئ حين يكون صديقًا لك على سبيل المثال، وبسبب الاعتقاد الناجم عن تلك الصداقة بأنك لست غريبًا عنه، أي أن لديكما تاريخ مشترك يحتمل الصراعات العادية؛ فإن جميع ممارساتك ـ ربما كتابة قصة قصيرة خاصة ـ لابد أن تمر عبر ما يتصوّر أنها يقينيات راكمتها تجاربه معك، حتى لو بدت إيجابية بشكل أو بآخر، وهذا ما لا ينبغي أن ترضخ له الكتابة:
"يبقى النص محتفظًا بوحشيته طالما ظل ممتلكًا للسلطة السحرية لغموض كاتبه وعماء قارئه عنه بصرف النظر عن المصير الذي ستنتهي إليه العلاقة بين النص والقارئ بعد القراءة .. الكاتب نفسه لا يعتبر القارئ داخل ورطة العلاقة الشخصية قارئًا حقيقيًا .. يعتبره بسبب الخبرة التي تجمعهما متلقيًا مستهلكًا، لا يتوقع جديد منه يكشف عن عمق محتمل داخل النص بنفس الحدة التي قد يؤدي بها وعي قارئ غريب ذلك .. يريد الكاتب ـ كتعبير وارد عن فهمه أو تعريفه للكتابة ـ أن يشعر ويرى أثر أظافره على جلد العالم الذي لم يسبق له ملامسته من قبل، والقارئ حين يكون صديقًا / عدوًا يصبح جزءًا من جلد الكاتب نفسه، وليس جلد العالم .. الكتابة تعيش وتزدهر وتحقق خلودها حينما لا ينتمي أحد للآخر .. حينما نتحول إلى مخلوقات فضائية تسكن كواكبًا متباعدة، وتتواصل فقط عن طريق تبادل الرسائل التي تحوي أفكارها عن الوجود، مع احتفاظ كل واحد منا بإدراكه عن الآخر بأنه شخص مثله يعيش نفس الحياة، وسيموت نفس الموت".
ماذا لو أن هذا القارئ الصديق كاتب أيضًا؟ .. تلك هي المسألة.
موقع "الكتابة" ـ 1 مارس 2020