الأحد، 20 سبتمبر 2015

القصور التي لم تكتمل

ربما كان (روديارد كبلنج) يدرك أن العاطفة لا ينبغي أن يكون لها الصوت الأعلى في قصة (حكاية محمد دين)، وأن على السرد أن يبقى محتفظاً بالهدوء الصلب لنبرته حتى عند الوصول إلى موت طفل كان يبني من الزهور والأغصان الذابلة وقطع الزجاج المكسورة والريش قصوراً عظيمة وبنايات فخمة .. لم تكن هناك ثغرة للانفعال؛ إذ أن الاستسلام لهذا الإغراء السهل كان من الممكن أن يتجه بالقصة نحو منطقة الشفقة، وهذا ما كان (كبلنج) حريصاً على تجنبه .. إن الراوي لا يصف علاقته بـ (محمد دين) الابن الصغير للخادم، الذي تمنى الحصول على كرة البولو، وقضى أيامه في التقافز واللعب بين شجيرات الحديقة، معتزلاً الناس دون صاحب أو رفيق .. الراوي يتحدث طوال الوقت عن علاقته بذاته المتمثلة في هذا الطفل السمين .. صورته التي ربما غادرها منذ وقت طويل ولم يتمكن من العودة إليها، أو التي ربما لم يستطع أن يعيشها، ولن يسمح له الزمن بدخولها.
إذا كان وصف الطفل بالانعزال فيه شيء من الغرابة، أو على الأقل من عدم الشيوع فإنه لن يكون كذلك لو تصورنا أن (كبلنج) أراد لـ (محمد دين) أن يكون هو نفسه الراوي على نحو تام .. يمكنني تخيل المشاهد الواقعية المحتملة للصداقة التي ربما تكون قد نشأت بين (كبلنج) والطفل الهندي التي وثقتها القصة .. لكنني أميل إلى عدم استبعاد فرضية أن (محمد دين) الحقيقي كان له أصدقاء بالفعل، وأن (كبلنج) تعمد محو هؤلاء الأصدقاء في القصة ليخلق توحده مع الطفل .. أراد أن يعطي (محمد دين) انعزاله .. لكن أي عزلة؟ .. هل هي عزلة (كبلنج) الطفل، أم عزلة (كبلنج) السيد الأوروبي، أم العزلة الممتدة كحياة كاملة؟.
لنراقب جيداً طبيعتين متمازجتين داخل القصة: طبيعة الاستعماري، الذي حينما يكون كاتباً لا يتجاهل سرده التأكيد على كونه المالك، صاحب الأمر والنهي، الذي يعامله الخدم باحترام فائق، ويفرحون بكرمه، ويستعطفونه طمعاً في المغفرة عند ارتكاب الأخطاء .. أما الطبيعة الأخرى فهي تلك التي جعلت هذا السيد يعطى صدفة البحر، منقطة الألوان الزاهية التي عثر عليها إلى الطفل ليصنع بها شيئاً جميلاً خارقاً للعادة، وهو ما بدأه (محمد دين) فعلاً حينما قام بالتخطيط فوق التراب لقصر عظيم طوله ياردتان وعرضه ياردة واحدة .. ربما كانت بين هاتين الطبيعتين علاقة صراع أو تعايش، لكنهما في جميع الأحوال تجسدان حقيقة ممكنة أبعد من مجرد رجل قوي يحتضن طفلاً ضعيفاً بروح لديها حدود شعورية صارمة تقف عندها كي لا تخسر الهيبة .. الطبيعتان تصوران حالة رجل وحيد يريد التسلل خارج تاريخه.
لننتبه أيضاً إلى هذا الدال: ظل (محمد دين) يلعب، ويبني القصور والبنايات، ولكن حينما أعطاه الراوي صدفة البحر ليصنع بها شيئاً جميلاً أصيب الطفل بالحمى ثم مات قبل أن يُكمل القصر الذي كان سيستخدم الصدفة في بنائه .. كأن صورة الراوي ـ حينما أراد التدخل لضمان انتمائها لذاته ـ كان ينبغي أن تتمزق .. كان يجب عليها الضياع عند محاولته العودة إليها أو دخولها للمرة الأولى .. لم يكن الراوي هو من أعطى (محمد دين) صدفة البحر بل الطفل المقموع أو الغائب لدى الراوى هو الذي أعطى له هذه الصدفة، لا لكي يلعب (محمد دين) بها بدلاً منه بعدما تحتم عليه عدم القدرة على ممارسة ذلك بنفسه، بل ليحاول ذلك الطفل المقموع أو الغائب لدى الراوي أن يبني القصر فعلاً ولكن باستخدام اليدين الصغيرتين لـ (محمد دين) .. هنا كان يجب على تاريخ الراوي أن يطفىء تلك الأمنية التي أضاءت بخفوت داخل ظلامه الخاص، وكان على الراوي أن يلتزم في مواجهة هذا الألم بالاستمرار في كتم صوت العاطفة، والتمسّك بالهدوء الصلب الذي هيمن على نبرة السرد، ليس لأن ذلك جانب جوهري من طبيعة السيد الأوروبي، الذي يجب عليه الاكتفاء بكلمات باردة كـ (الانزعاج)، و(حدث ما كنت أخشاه) للتعبير عن مشاعره تجاه مرض طفل وموته، بل لأن اليأس الذي شعر به الراوي تجاه نفسه ـ فضلاً عن ضرورة إخفائه ـ أكثر عنفاً من أن يُكشف كانفعال معلن.
إن قصة (حكاية محمد دين) قد تبدأ بالفعل بعد موت الطفل، وتخيل مشهد لم تتضمنه القصة، ربما راهن (كبلنج) على قوة التساؤل الذي من الوارد أن ينجم عنه : الراوي يقف أمام مخطط القصر فوق التراب الذي مات (محمد دين) قبل أن يتمكن من بنائه مستخدماً صدفة البحر المنقطة ذات الألوان الزاهية التي أعطاها له .. ما الذي سيفكر فيه الراوي في تلك اللحظة؟.

حكاية محمد دين
روديارد كبلنج
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

كانت كرة لعبة البولو العتيقة مَبْعُوجة ومقطعة ومشققة، وكانت موضوعة في رف المدفئة مع عدد من غليوناتي التي كان خادمي الشخصي (إمام دين) يقوم بتنظيفها لي.
سألني الخادم باحترام فائق: " هل سعادتكم – طال عمركم - بحاجة إلي الكرة هذه؟"
لم تكن لكرة البولو تلك أي أهمية خاصة يمكن أن يدركها الخادم!
"لا أريد الكرة لنفسي – طال عمركم- بل أريدها لابني الصغير. لقد رأى هذه الكرة وتمنى أن يلعب بها".
لم يكن بحاجة ليذكر لي أنه لا يريد تلك الكرة لنفسه، فهل من عاقل سيتهم ذلك العجوز السمين بأنه سيلعب البولو!
حمل تلك الكرة القديمة المقطعة إلى الفرندا... وسرعان ما سمعت صيحات فرح مجلجلة وأصوات أقدام صغيرة تقفز علي الأرض. تلت ذلك أصوات خبطات سريعة بالكرة. لا ريب أن الابن الصغير كان ينتظر بالخارج لحين يظفر والده بذلك الكنز الثمين. بيد أن السؤال الذي حيرني فعلا هو: كيف تمكن ذلك الطفل من رؤية كرة البولو تلك؟
في اليوم التالي وعلى غير العادة عدت من المكتب لمنزلي باكرا بنحو نصف ساعة ففوجئت بطفل صغير سمين عليه قميص أصغر منه مقاسا لا يكاد يغطي نصف بطنه. كان يجوس في الغرفة وأصبعه في فمه وهو يتفحص مجموعة من الصور. لا شك أنه ابن خادمي (إمام دين).
لم يكن له الحق – بالطبع- في أن يكون في غرفتي، لكنه كان مستغرقا جدا في تفحصه لما في الغرفة واكتشاف أسرارهالدرجة أنه لم يلحظ وجودي في مدخلها. خطوت داخل الغرفة وصفقت بيدي مفزعا إياه لدرجة كادت تصيبه بالصرع. تهاوى علي الأرض وهو يلهث. فتح عينيه ثم فغر فمه واسعا. كنت أعلم ما سيحدث... أطلق ساقيه للريح وهو يصرخ صرخة داوية سمعها جميع من كان في جناح الخدم. ناديت بأسرع من أي نداء سبق أن استدعيت به خدمي من جناحهم. في نحو عشر ثوان كان (إمام دين) يقف أمامي في غرفة الطعام. تلى ذلك سماعي لأصوات ضراعة ونحيب مكتوم، ووجدت إمام دين يوبخ المذنب الصغير الذي كان يستخدم قميصه الصغير كمنديل يجفف به دمعه المنهمر.
قال (إمام دين) وهو يلبس لبوس الحكيم: "هذا الصبي شقي فاسد الشخصية. سينتهي به المطاف حتما يوما ما في "الجيل خانة" (السجن) لطبعه السيئ وخلقه الرديء". تلى ذلك سيل من الصرخات في وجه الصغير وسيل آخر من الاعتذارات الحارة لي.
قلت له مطمئنا: "ليتك تخبر الصبي أن "الصاحب" * ليس بغاضب، وتذهب به بعيدا".
نقل (إمام دين) رسالة الغفران تلك إلى المذنب الصغير، والذي كان قد بدأ في جمع ولف كامل قميصه الصغير حول رقبته. توقف الصبي عن النحيب واتجه مع أبيه نحو الباب. وفي طريقه للخارج قال لي (إمام دين) إن اسم ابنه (وكأن اسمه جزء من الجريمة) هو محمد دين وهو "بدماش "**. أمن الصبي من العقوبة فلملم أطراف شجاعته والتف حول ذراعي أبيه وقال في نغمة حزينة: "صحيح أن اسمي محمد دين أيها التاحب (بطريقة نطق الأطفال لكلمة الصاحب) بيد أني لست بدماش. أنا رجل".
بدأت من ذلك اليوم معرفتي بمحمد دين. لم يأت أبدا مرة أخرى لغرفة طعامي، لكني كنت أراه علي "أرض محايدة" في الحديقة ونتبادل التحايا من شاكلة: "تلام تاحب" (أي سلام صاحب)"، و"سلام محمد دين". كنت يوميا عند عودتي للبيت من المكتب أرى ذلك الطفل السمين في قميصه الأبيض الصغير يقفز من بين الشجيرات التي كان يختبئ بينها، والتي كان حصاني يقف تحت ظلالها، ويحييني الصبي بتحيته المعتادة وأرد عليها بمثلها.
لم يك لمحمد دين من أصحاب. كان يتقافز في أرجاء البيت الكبير ويدخل ويخرج بين شجيرات الخروع وحيدا، ثم يختفي في غموض. اكتشفت بالصدفة ذات يوم بعض ما كان يفعله ذلك الصبي. كان قد حفر حفرة صغيرة لكرة البولو وغرس حولها في شكل دائرة ستة من الأزهار الذابلة. وحول تلك الدائرة رسم مربعا ووضع عليه بقايا طوب أحمر ووضع بين كل طوبة وأخرى قطعة من الصيني المكسور وأحاط كل ذلك بسور طيني. سألت العامل المسئول عن ري الحديقة عن الذي يفعله المهندس المعماري الصغير بحديقتي، فأجاب بأنه "لعب أطفال ليس إلا" ونفي أن يكون لذلك البناء الصغير تأثير مشوه علي حديقتي.
يعلم الله وحده أنه لم تكن لي أدنى رغبة في ذلك الوقت أو بعده في أن أمس ما بناه الصبي، بيد أنني قمت بجولة في الحديقة ذات مساء لأجد أن كل ما بناه الصبي قد أزيل. في صباح اليوم التالي وجدت محمد دين ينتحب بصوت خافت فوق أطلال ما بناه. كان أحدهم قد قال له في قسوة أن "الصاحب" غاضب عليه جدا لإفساده الحديقة وقام بتحطيم كل ما بناه. عملالصبي لنحو ساعة وهو يحاول إصلاح ما أفسده وليزيل أي معلم لجريمته. عند عودتي للبيت من المكتب حياني بوجه حزين ونبرة كسيفة مرددا: " تلام تاحب". قمت بتحريات سريعة، كان نتاجها أن أخبر (إمام دين) ابنه بأن "الصاحب" قد سمح له باللعب في الحديقة متى وكيف شاء. فرح الصبي أيما فرح وبدأ من فوره في اللعب مجددا و التخطيط علي أرضالحديقة لمعالم تفوق ما سبق أن بناه حول كرة البولو تلك.
ظل الصبي الممتلئ الجسم ولشهور عديدة مستغرقا في لعبه بالتراب وبين شجيرات الخروع، مصمما لقصور عظيمة وبنايات فخمة من الزهور والأغصان الذابلة التي يقذف بها العامل الذي يعتني بالحديقة، ومن قطع الزجاج المكسورة، ومن الريش الذي أتخيل أنه نتفه من دجاجي... كان دوما معتزلا للناس يعيش دونما صاحب أو رفيق.
عثرت يوما علي صدفة بحر منقطة بألوان عديدة زاهية. قلت في نفسي أن محمد دين لا شك صانع بها شيئا جميلا خارقاللعادة. لم يخذلني الصبي. فكر مليا لساعة أو نحوها ثم طفق يشدو بأغنية مرحة. بدأ في التخطيط فوق التراب لقصر عظيم طوله ياردتان وعرضه ياردة واحدة. لم يكتمل ذلك القصر أبدا.
في اليوم التالي لم أجد لمحمد دين أثرا. لم أسمع "تلام تاحب" عند عودتي بعد انتهاء الدوام، وكنت قد اعتدت عليها لدرجة أن غيابها أزعجني جدا. أخبرني (إمام دين) أن الطفل قد أصيب بحمي احتاج معها لدواء (كونين) ***. تم عرضه على طبيب إنجليزي وأعطي الدواء.
قال الطبيب بعد أن فحصه: "هؤلاء الأطفال الأشقياء ليست لهم مقاومة أو طاقة".
بعد أسبوع حدث ما كنت أخشاه. قابلت في الطريق لمدافن المسلمين (إمام دين) برفقه صديق له وهو يحمل بين ذراعيه في كفن أبيض كل ما تبقى من محمد دين الصغير.


* * *

* الصاحب هو لقب كان يطلقه الهنود علي الأوربيين
** بدماش هو الشخص سئ الخلق
*** كونين هو دواء مر الطعم يعالج الملاريا ، عرف في السودان بالـ (كينا)


الخميس، 17 سبتمبر 2015

الاستعباد .. أو تاريخ البلاغة

ظل (تشيكوف) حيا لأن (جوليا فاسيليفنا) لم تمت .. لأن التساؤل المشدوه لوالد الأطفال لم يخسر خلوده: (أيعقل ذلك ؟! .. أن يتسم إنسان بكل ذلك الضعف والاستسلام .. لماذا لم تعترضي؟! .. لم كل ذلك الصمت الرهيب؟! .. أيعقل أن يوجد في هذا العالم النابض بالظلم والأحقاد والشراسة إنسان بلا أنياب أو مخالب؟! .. إنسان في سذاجتك وخضوعك؟!).
لم تكن مربية الأطفال تعرف أن تعذيبها كان مجرد مقلب أراد أبوهم أن يعطيها درساً من خلاله .. لكن شكرها له على غشه ونهبه مالها كان هو الدرس فعلا.
 أعطت (جوليا فاسيليفنا) الأب الحكمة الأزلية حينما ردت على سؤاله عن سبب الشكر بأنه في أماكن أخرى لم يكونوا ليدفعوا لها شيئا البتة .. في قصة (الساذجة) من المستبعد في تصوري الشعور بعدم التصديق تجاه أي من الشخصيتين: المربية المسكينة التي كانت أضعف من أن تتصدى للظلم وتدافع عن حقها، وصاحب العمل البرجوازي الذي ظل يقطّع بمنتهى القسوة من لحم المربية بإعصار بارد من الخصومات الظالمة ليجعل راتبها في النهاية 11 روبل بعد أن كانت مستحقاتها 80 روبل  ..حتى الإحساس الذي قد يتملكنا بالمبالغة أظن أنه لن يصمد طويلا أمام التفكير في ثبات الاستغلال الطبقي مقابل الاختلافات البديهية لصوره وتجلياته المتطورة عبر الزمن .. الاختلاف الذي يحفّز طوال الوقت دوافعنا للتساؤل حول العلاقة بين المعرفة والسلطة والإرادة الفردية والوعي الجماعي .. كأن للتاريخ حتمية ما ذات وجود متغير تحافظ دائما على توجيه السلطة للمعرفة الانتقائية ـ التعتيمية بالضرورة ـ وصياغتها على مستوى اللغة كرموز مقدسة  ..هذا ما جعل والد الأطفال في القصة (رب) عمل بالمعنى الإلهي أي يحق له أن يفعل ما يشاء دون حساب، وجعل كذلك من مربية الأطفال (خادمة) بالمعنى العبودي التي عليها طاعته، ولا يحق لها مناقشة مشيئته .. التعتيم هنا لا يتعلق بالحقوق والواجبات كما قد يُستنتج للوهلة الأولى ـ وهو اليقين السطحي السائد الذي تبدأ منه الخطوات عادة نحو تحقيق العدالة دون النظر إلى الأساس الوهمي الذي يُرسخ هذا اليقين .. التعتيم قبل أن يتعلق بالمساواة يجب أن يبدأ أولاُ من معيار القيمة وتراتبية العمل .. من لديه الحق في فرض نظام أو قانون، أو في منح امتيازات لعمل ما ونزعها من آخر، أو في وضع مهنة ما بمكانة تفوق مكانة مهنة أخرى؟ .. يحاول خطاب السلطة دائما ـ ربما أكثر مما تؤديه الممارسات غير الخطابية ـ أن يخلق واقعا مفروغا منه، يجب تصديقه والاستسلام لأحكامه .. طبيعة مجازية  قائمة على مسلمات تجمع بين التقاليد والأعراف الاستهلاكية، وبين الاحتمالات المتناقضة، الملتبسة لها، والتي يسهل عليها انتاج حالات متباينة وطاغية من الجدل الضبابي والصراعات المشوشة .. هناك إرادة ما وقفت وراء تشكيل الذات التي تحملها (جوليا فاسيليفنا) .. حصار متجذر من الزيف البلاغي ـ وهو ما كان موضوعا أساسيا لـ (تشيكوف) في أعماله التي تناول خلالها بتهكم فاضح خضوع البشر لأنماط وقوالب كلامية مدمرة لإنسانيتهم ـ وكذلك من الطقوس المتعددة للقهر النفسي والجسدي .. لم يكن غريبا إذن أن تتسم (جوليا) بكل هذا القدر من الخنوع الذي أجبرها أن تقبل بمهانة أخذ ما سمح به (سيدها).
 هذه الذات كتوثيق لمشهد جمعي تحرضنا على اقتفاء أثر الهيمنة التي تحرك الوعي العام، وتلزمه بالإنخراط فيما هو مقدر ومفروض ومرضي عنه .. ليس الإنخراط فحسب، وإنما بشكل أعمق التعايش معه لدرجة التوحد، والشغف برتابة تفاصيله وأحداثه، والتمسك بعلاقاته، والخوف من الانفلات خارج أطره التقليدية، والدفاع عن استمراره .. التحرر هنا يبدو حلما عسيرا أو معجزة غير قابلة للتحقق، وهذا ما جعل (جوليا) تأخذ الظرف الذي يحوي راتبها كاملا وهي غير مصدقة أن حديث والد الأطفال كان مجرد خدعة .. هذا ما جعلها تتلعثم وهي تكرر الشكر، بينما سيتردد طويلاً  ـ ربما أطول مما يمكن أن نظن ـ صدى المقولة الأخيرة  لراوي القصة: (حقا ما أسهل سحق الضعفاء في هذا العالم).
الساذجة
أنطون تشيخوف

طلبت – قبل بضعة أيام – من مربية أولادي ( جوليا فاسيليفنا ) موافاتي بغرفة المكتب.
-
تفضلي بالجلوس ( جوليا فاسيليفنا ) – قلت لها – كيما نسوي مستحقاتك .
ويبدو أنك تلبسين رداء الرسمية والتعفف إذ أنك لم تطلبيها رسميا مني رغم حاجتك الماسة للمال … حسنا … كنا إذا قد اتفقنا على مبلغ ثلاثين روبلا في الشهر
-
بل أربعين قالت باستحياء.

-
كلا .. اتفاقنا كان على ثلاثين ، دونت ملاحظة بذلك . أدفع إلى المربيات ثلاثين روبلا عادة . لقد عملت هنا مدة شهرين لذا ..
-
شهران وأيام خمسة قالت مصححة - بل عملت لمدة شهرين بالتمام والكمال – قلت بإصرار – لقد دونت ملاحظة بذلك ، وهذا يعني أنك تستحقين ستين روبلا يخصم منها أجر تسعة أيام تعرفين تماما أنك لم تعملي شيئا لـ ( كوليا ) أيام الأحد وكنت تكتفين بالخروج به للنزهة … هناك أيضا ثلاث إجازات و
ولم تعقب .. اكتفت المسكينة بالنظر إلى حاشية فستانها فيما كست محياها حمرة شديدة .. مانبست ببنت شفه
-
ثلاث إجازات فلنخصم من ذلك إذا اثنى عشر روبلا … كما وأن ( كوليا ) قد مرض فاستغرق ذلك ثلاثة أيام لم يتلق عبرها أي درس … شغلت إبان ذلك بـ ( تانيا ) فقط ، هناك أيضا أيام ثلاثة شعرت فيها بآلام في أسنانك ممضة اعفتك زوجتي خلالها من العمل بعد الظهر … اثنا عشر وسبع يساوي تسعة عشر ، واطرحي ذلك فيتبقى بعد ذلك … آ … واحد وأربعون روبلا … أصبح ذلك
واحمرت العين اليسرى ( لجوليا فاسيليفنا ) ثم … غرقت بالدمع ، فيما تشنج ذقنها وارتعش … وسعلت بشدة ثم مسحت أنفها … إلا أنها … لم تنبس بحرف
- ”
قبيل ليلة رأس السنه كسرت كوب شاي وصحنه ، يخصم من ذلك روبلان رغم أن تكلفة الكوب هي في الواقع أكثر من ذلك إذ إنه كان ضمن تركة قيمة … لا يهم ليست تلك هي أولى مامنيت به من خسائر … بعد ذلك ونتيجة لإهمالك صعد ( كوليا ) شجرة فتمزق معطفه ، يخصم من المجموع عشرة روبلات … كما وأن الخادمه قد سرقت – بسبب لامبالاتك حذاء ( فانيا ) ينبغي أن تفتحي عينيك جيدا … أن تتوخي الحذر والحيطة
فنحن ندفع لك ثمن ذلك … حسنا نطرح من كل ذلك خمسة روبلات وإني قد أعطيتك عشرة روبلات يوم العاشر من يناير
-
لم يحدث ذلك ّ همست ( جوليا فاسيليفنا )
-
بلى دونت ملاحظة بذلك قلت بإصرار
-
حسنا وإذا أجابت بنبرات كسيرة .
-
فإذا ما خصمنا سبعة وعشرين من واحد وأربعين فسيتبقى لك أربعة عشر روبلا
وغرقت بالدموع حينها كلتا عينيها فيما ظهر العرق على أنفها الصغير الجميل … ياللبنية المسكينة
لم أحصل على مال سوى مرة واحدة قالت صوت راعش متهدج النبرات – وكان ذلك من زوجتك . ماتجاوز ما استلمته ثلاث روبلات … لا أكثر سيدي.
-
حقا أرأيت لم أدون ملاحظة بذلك – سأخصم من الأربعة عشر روبلا ثلاثة فيتبقى لك أحد عشر روبلا
ودفع إليها بالمبلغ فتناولته بأصابع مرتجفة ثم دسته في جيبها .
شكرا قالت هامسة .
-
ولماذا هذه الـ ( شكرا ً) سألتها
-
للمبلغ الذي دفعته لي .
لكنك تعرفين أني قد غششتك … أني قد سرقتك ونهبت مالك فلماذا شكرتني
-
في أماكن أخرى لم يكونوا ليدفعوا لي شيئا البتة
-
لم يمنحوك على الإطلاق شيئا زال العجب إذا لقد دبرت هذا المقلب كي ألقنك درسا في المحافظة على حقوقك ، سأعطيك الآن مستحقاتك كاملة … ثمانون روبلا … لقد وضعتها في هذا الظرف مسبقا … لكن – تساءلت مشدوها – أيعقل ذلك أن يتسم إنسان بكل ذلك الضعف والاستسلام لماذا لم تعترضي لم كل ذلك الصمت الرهيب … أيعقل أن يوجد في هذا العالم النابض بالظلم والأحقاد والشراسة إنسان بلا أنياب أو مخالب إنسان في سذاجتك وخضوعك
وابتسمت في ذل وانكسار فقرأت في ملامحها ” ذاك ممكن “
واعتذرت منها مجددا عما سببته لها من ألم وإحراج ، إذ إن الدرس كان قاسيا حقا قبل أن أسلمها الظرف الذي يحوي أجرها … ثمانون روبلا تناولتها بين مكذبة ومصدقة … وتلعثمت وهي تكرر الشكر … المرة تلو المرة ثم غادرت المكان وأنا أتأملها وسيل من جراحات الإنسان المعذب في أرجاء غابة الظلم يندح في أوردتي وهمست لنفسي :
- "
حقا ما أسهل سحق الضعفاء في هذا العالم "

الاثنين، 7 سبتمبر 2015

أشباح الكتابة

لا أعتقد أن أهمية طرح الأسئلة حول الكتابة تكمن في الوصول إلى إجابات راسخة بقدر اكتشاف وتأمل كيف يمكن لهذه الإجابات أن تتحول في أي لحظة إلى مبررات صلبة للارتباك، ولمضاعفة الألم .. إن الأمر يبدو ملهماً حقاً خاصة عند التفكير في إلى أي مدى تتسم استفهامات وهواجس العملية الإبداعية بالاستقرار على صيغ ثابتة، وإلى أي مدى تتسم كذلك بالإصرار على التفجر داخل حياة الكاتب بصرف النظر عن امتلاء الماضي بصفقات المصالحة بينهما .. لا تحتاج الأسئلة إلى منطق واضح يفسر أسباب تخليها الدائم عن التراجع أو الاختباء، ومعاودة الإلحاح ـ بثقل المزاج العنيف للمرة الأولى ـ للحصول على يقينيات مرضية .. يمكن لكافة الإجابات التي ادُخرت للتصدي إلى تلك المآزق الذهنية أن تبدو غير قادرة على منح الطمأنينة المتوقعة، حتى داخل أقوى حالات الإيمان بكونها حقائق حاسمة .. على سبيل المثال قد يقضي كاتب ما عمره ممتناً للثقة التي أعطتها له قائمة (جورج أورويل) المنشورة سنة 1946 بـ (أربعة دوافع عظيمة للكتابة):
(1ـ الأنانية المطلقة: أن يتم التحدث عنك، أن يتم تذكرك بعد الوفاة، أن تنتقم من الكبار في طفولتك، إلخ.
2ـ الحماسة الجمالية: مسرة تأثير وقع صوت على آخر، في انضباط النثر الجيد، أو إيقاع القصة الجيدة.
3ـ الدافع التاريخي: الرغبة برؤية الأشياء كما هي، بالعثور على الوقائع الحقيقية وحفظها من أجل الأجيال القادمة.
4ـ الغرض السياسي: الرأي بأن الفن يجب ألا يتعلق بالسياسة هو بذاته موقف سياسي).
 لكن هذه الثقة ربما تصبح ـ دون احتياج لأي نوع من التأثيرات الحادة ـ إلى شكل من أشكال الخبرة المخزية، التي تثبت أن استطاعتها مواجهة المسوخ الخرافية في وقت سابق لا تعني بالضرورة القدرة على هزيمتها حين تستأنف نفس المسوخ اعتدائها مرة أخرى .. تبدو الكتابة كأنها تمتلك خطاباً سرياً، غير خاضع لركائز يمكن استخدامها لجعله نسقاً متماسكاً .. هذا الخطاب يتم الاشتباك معه بأساليب غير منضبطة مع كل خطوة جديدة داخل تجربة الكتابة حتى لو بدت متشابهة أو حتى متطابقة مع خطوات أخرى؛ حيث تبدو العقائد أحياناً كذخائر فاشلة، لديها فقط إمكانية الإيهام بسد الثغرات، لكنها لا تقوم بأكثر من تخفيف الإضاءة أو إظلام وحشيتها المتسعة ..  بطريقة أو بأخرى قد تعرف بواسطة الاشتباك مع هذا الخطاب السري للكتابة أن ثمة إجابة صحيحة، مجهولة، توجد في مكان آخر خارج كافة الأطر التي يمكن الاحتماء بها .. ربما هذا ما يُسمى بالسحر بالغامض للكتابة، والذي لديه من الجبروت الخاص ما يجعل من الإجابة الصحيحة ـ ونتيجة لكونها مجهولة ـ غير موجوة في أي مكان أصلاً، أو يجعلها ـ في نفس الوقت ـ كامنة في جميع اليقينيات التي تخيلتها رصيداً فاسداً؛ فيعيد إليك الثقة في صلاحيتها، فضلاً بالطبع عن منحك إجابات جديدة.
الأمر ذاته ينطبق على ما قالته (ميغ واليتزر): (أنت لا تستطيع السيطرة على الآخرين، على علاقاتك، أو على أطفالك، ولكن في الكتابة تستطيع أن تحصل على فترات متصلة تكون فيها المسيطر تماماً).        
إن الإيمان بكون الكتابة ملاذاً تعويضياً لغياب القدرة على التحكم في الحياة والبشر قد يتحول إلى إيمان مضاد، وعلى نحو مفاجىء بأن الكتابة لا يمكن أن تكون تعويضاً عن هذا الإخفاق، وأن هناك في الواقع أدلة ـ ربما ليس بوسعك ملامستها ـ تؤكد لك، وبصور حتمية استحالة العثور على بديل آمن لفوضاه التي تمضغك ببطء .. حتى لو تحدد اليقين في نطاق متعة الكتابة عن الفشل في السيطرة؛ ستظل هذه العقيدة مهددة بالحضور الممكن للحظة التي تتفحص خلالها المعرفة الناصعة بأن العجز عن التحكم لا يقتصر على الحياة بل ممتد إلى الكتابة أيضاً .. ربما هذا ما يُسمى بالمأساة.
في كتاب (لماذا نكتب؟) ـ تحرير: (ميريدث ماران)، ترجمة (مجموعة من المترجمين العرب)، ومراجعة وتحقيق (بثينة العيسى)، الصادر عن (الدار العربية للعلوم ناشرون) يجيب عشرون من الكتاب الناجحين على أسئلة الكتابة .. لنقرأ مثلاً (إيزابيل الليندي) متحدثة عن أسلوبها:
(هناك سحر مؤكد فيما هو عفوي. أريد للقارىء أن يشعر بأني أحكي له القصة شخصياً. عندما تحكي قصة في المطبخ لصديق، فهي مليئة بالأخطاء والتكرار. أحاول أن أتجنب ذلك في الأدب، ولكنني مازلت أريدها حواراً، كما هو قص القصص عادة. إنها ليست بمحاضرة).
أيضاً (ديفيد بالدتشي) يقول:
("أكتب لقرائك" هو تعبير ملطف لـ "اكتب ما تعتقد أن الناس ستقوم بشرائه". لا تقع في هذا الخطأ! أكتب للشخص الذي تعرفه جيداً، اكتب لنفسك).
أما (كاثرين هاريسون) فتتحدث عن تجربتها الأفضل والأسوأ، الأكثر إثارة والأكثر فظاعة:
(لو كانت "القبلة" مكتوبة من قبل رجل، لو أن أبي ـ لنقل ـ هو الذي كتب عنا، فقد لا يهاجم كما هوجمت، لأنني كنت صادقة بشأن أمور معيبة. لقد خرجت من تجربة "القبلة" محطمة، ولكنه كان أمراً جيداً في الإجمال، فقد أدركت أنه لا يمكنني فعل أي شيء بعد ذلك لأجعل الآخرين يقولون ما هو أشنع مما قيل عني الآن، كانت تجربة محرّرة).
إنني أتفق تماماً مع المحررة في مقولتها بأن أحد أهم عناصر القوة في فرضية الكتاب هي أن الاختلافات بين حالات الكتّاب أقل أهمية بكثير من أوجه الشبه بينهم .. هذا ما يجعل من النماذج السابقة التي اخترتها تبدو كحلول ثمينة لأرق شائع: ارتباك الحكي .. رفض القراء .. الاغتيال الشخصي من النقاد .. لكنها في حقيقة الأمر مشكلات أكثر تعقيداً من أن تنهيها حكمة زملاء المهنة .. إن القيمة الجوهرية لتلك الخلاصات تنبع من كونها احتمالات داعمة للمواساة الضرورية أحياناً .. عزاء يستند إلى قرائن دامغة للتشارك في تفاصيل دقيقة من هموم عامة .. لكن المواساة في أنجح الأحوال لا تمحو الألم، وإنما يمكنها المساعدة على التحرر من حصاره اللحظي .. لا يوفر العزاء تحصيناً ضد الأذى، ولكنه يفتح باباً مغلقاً لتنظر من خلاله إلى سماء أبعد حيث تحلق سكينة ما .. لذا على الرغم من تلك الأصوات المتعددة التي تخبرك طوال الوقت بأنك لست وحدك في هذه الورطة، فإن الشعور بالاختناق ربما يظل محتفظاً ببداهته العمياء، التي لا تخفت حتى مع مرور الزمن عند رصد الاضطراب السردي في عملك (الأخطاء والتكرار)، وعدم قبول قارىء ما لكتابتك (جحيمك الذي لا يُمتع الآخرين)، ومحاولات النقاد لقتلك (كيف تجروء على الكتابة هكذا؟!) .. مزيج الندم والغضب والسأم الذي يغرقك كل مرة كأنه جرحك الأول، ربما لأن كل كتابة ستبقى في الواقع كأنها كتابة أولى تختبر الإجابات، وتستجوب الحقائق، وتراوغ اليقينيات، وتحاكم العقائد، وتنقب في العالم عن الاحتمالات المنقذة.
أخبار الأدب
5/9/2015