الثلاثاء، 29 أغسطس 2023

كيف يُصنع التاريخ الأدبي؟ (1)

في الآونة الأخيرة أثيرت تساؤلات حول الأسباب التي تقف وراء المبالغة في المديح والاحتفاء بعمل أدبي، والدوافع الـ “سوسيو ـ ثقافية” المسؤولة عن خلق “أمر واقع تكريمي” لكاتب معين.

هذه المحاضرة التي أتناول خلالها جانبًا من مشروعي النقدي “التاريخ الأدبي … سياقات التمييز والهيمنة” والذي بدأت العمل به منذ فترة طويلة وأوشَك على الانتهاء؛ هذه المحاضرة لا تُسائل معنى الجدارة أو تناقش مفهوم الاستحقاق، وإنما تستهدف الإجابة على تلك التساؤلات المتوالدة، أي تفكيك العوامل السلطوية التي تمنح كاتبًا أو كتابًا قيمة وشهرة بعيدًا عن الكتابة نفسها، أو بتعبير آخر تحليل الأسباب والدوافع لتكريس وهم “الزعامة الأدبية” أو “البطولة الثقافية” الزائفة في ضوء علاقات القوة داخل المدن المركزية مثل “القاهرة” وخاصة ـ بالضرورة ـ لو كانت هذه المدينة موضوعًا أساسيًا للعمل الأدبي.

بتحديد أفكار وملاحظات مختصرة يتناولها الكتاب يمكن القول إن الكاتب الذي ينتمي إلى جماعة أدبية من الشخصيات التي تمتلك “مكانة مركزية” ـ وهو المصطلح الذي يتضمن المشروع النقدي المُشار إليه تعريفًا تشريحيًا له، كما لا أقصد هنا النموذج الرسمي للجماعة وإنما كيانات التشارك الإنساني وبنيات العلاقات الشائعة كالصداقة أو الزمالة مثلًا ـ هذا الكاتب يضمن عمله الأدبي من الأخبار والمقالات والتدوينات والمراجعات المصوّرة والمنشورات التفاعلية على وسائل التواصل الاجتماعي ما لا يضمنه عمل أدبي لكاتب خارج المركز سواء على مستوى الوفرة أو طبيعة التداول .. أتحدث هنا عن لمعان النفوذ التأثيري الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها ذلك الكاتب، أي الأسماء التي لابد من الثقة في خطاباتها نظرًا لكونها “معروفة” و”ناجحة” أو “حصلت على اعتراف وتقدير المؤسسات الثقافية المرموقة” بما يعني أن احتفاءها بعمل أدبي سيدفع كُتّابًا آخرين ونقادًا ومدونين وقراءً وفي تزايد غير محكوم للاحتفاء بهذا العمل من أجل اكتساب قدر من ذلك اللمعان الذي يحظى به أفراد الجماعة الأدبية التي ينتمي إليها ذلك الكاتب .. هكذا ستتوالى المقالات والتدوينات والتقارير المصوّرة فضلًا عن الحوارات والاقتباسات وإعادات النشر لذلك العمل وهو ما يمثل الممارسات الجماعية لـ “صُنع التاريخ الأدبي” والتي لم يكن بمقدورها أن تحقق ذلك لولا انطلاقها أو بدء انتشارها من داخل تحالفات “مدينة مركزية”.

سيفتح كل ما سبق أبوابًا لا حصر لها نحو الماضي الأدبي للكاتب: كتبه ونصوصه ومقالاته إلخ .. سيُعاد اكتشافه مع كل إصدار، ليس فقط ككاتب، وإنما ككاتب في موضع اهتمام “رأي عام”، يدعمه “مثقفون كبار” .. سيكون ضروريًا حينئذ أن يسعى إليه الناشرون أكثر، وأن يُكتب المزيد عن إصدارته، وأن تتسابق إليه اللقاءات الصحفية، ودعوات المناقشة، وحفلات التوقيع، والجوائز، والترجمات على نطاق أوسع .. سيتم تثبيت “التاريخ الأدبي” بفضل تلك التوالدات المستمرة، التي لا تخضع للتحديد، بوصفه “وعيًا جماعيًا رسميًا” يتنقل عبر الزمن.

يكمن السر في ثنائية الزخم والإلحاح .. وفرة العناصر التي لديها “منزلة مميزة” داخل “الوسط الثقافي”، وتعمّدها الكتابة عن ذلك العمل الأدبي والترويج له لأطول وقت ممكن بحيث يصل إلى مستوى التجذّر الذي يجعله قادرًا على خلق نتائجه بنفسه، ومراكمة آثاره بلا عطل، ودون حاجة لمزيد من التدخل.

تمثل المدينة المركزية ماكينة إعلامية وثقافية موظفة لكتابة التاريخ الأدبي الرسمي، ذلك لأنها صاحبة الفضل في تمييز كتّاب وأعمال أدبية عن كتّاب آخرين وأعمال أدبية أخرى سواء على مستوى الانتشار أو الرواج النقدي أو الفوز بالجوائز والترجمات إلخ .. فلو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كانت تلك الاستحقاقات متفاوتة بين مدينة وأخرى أي أن تُحرم مدينة من الإمكانات والبدائل التي تمنحها مدينة أخرى للمقيمين داخلها، وأن يكابد من هم خارجها في حفر بصمة خاصة ضمن حدود الفضاء العام الرسمي المكلف بديهيًا بالنبذ والإقصاء والتعتيم على أي بصمات لا تمر عبر سياقاته مقارنة بالتوطيدات السهلة والمجانية لخطوات العاملين واللاعبين في مسارحه الثقافية وكواليسها.

إن “المكانة الأدبية المركزية” تعني وبشكل دقيق أن ذلك الكاتب الذي يتمتع بها ما كان ليبلغها لو أنه قد أنتج أعماله وهو مازال مقيمًا في قرية أو في عاصمة إقليمية مثلًا .. تلك حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية حيث أنه ـ وهو ما أعيد التأكيد عليه ـ لو كان في الأمر عدالة وتكافؤ وحياد لما كان هناك فرق بين المسارات التي يقطعها النص أو الدراسة النقدية أو العمل المترجم إذا ما كان الكاتب يسكن في بلد ما أو في بلد آخر، لو كان يدرس في مكان ما أو في مكان آخر، لو كان يعمل في وظيفة ما أو في وظيفة أخرى.. تلك حقيقة بسيطة ومختصرة ووافية لا يخدشها التغاضي المتعمّد أو الجاهل عن تأثير المزايا التي توافرت في نطاق جغرافي معين، وحُرم منها نطاق جغرافي آخر.

خلق قارئ ميت

في مقابل لقطة احتفالية “كيتشية” كهذه؛ سيكتب ذلك القارئ الذي أوقّع نسخته من روايتي “خلق الموتى” على ظهر “قوّاد الكتب” المُسمّى جودريدز: (يحاول ممدوح رزق أن يخرج عن كل مألوف تقليدي في البناء الروائي فينجح إلى حد كبير ولكنه يقع سهوا في تضمين نصوص وأفكار خاصة لا تساعد على استمرار حركة السرد وتتابعه بشكل منطقي في بعض الأجزاء ولكن العمل رغم هذا يعد “تحديا” كبيرا لمن يريد الجدة والتميز).

صورة أيقونية مبتذلة “كاتب يوقّع روايته الجديدة لقارئ في إحدى المكتبات” سيكون ثمنها حُكمًا استسهاليًا ساذجًا لشخص لا يكتفي بتحويل عجزه عن استيعاب دوافع “التعمّد” لتضمين “النصوص والأفكار الخاصة” في الرواية إلى “سهو” للكاتب فحسب؛ وإنما يؤمن أيضًا بضرورة أن يستجيب للإغراء الانتهازي الوضيع لجودريدز بتوثيق هذا الجهل المتبطل والهزلي على صفحة الرواية في الموقع والذي يضاعف أرباحه اعتمادًا على نفس الأسباب التي من أجلها تضمن منصات تقييم السلع والخدمات والأماكن الترفيهية زيادة مكاسبها.

لماذا تكون هذه اللقطة ثمنًا لإدانة غافلة، بلهاء وسمجة كتلك، سيقرؤها الكثيرون ويصدقونها دون إرجاء أو محاولة للتيقن؟ .. ألم يكن من المحتمل أن يكتب الحماقة البائسة ذاتها قارئ آخر، لم يحضر حفل توقيع “خلق الموتى” بمكتبة “كلمات” في مساء 4 مايو 2013، وبالتالي لم توقّع نسخته من الرواية أثناء التقاط “صورة تذكارية”؟ .. كان يمكن أن يحدث هذا حقًا، ولكن بما أن ذلك القارئ الذي يشاركني الكادر هو من كتب تلك الكلمات الغبية والوقحة على جودريدز فإن ذلك ليس ناجمًا إلا عن هذه الصورة .. عن ما لا تعترف به هذه الصورة .. لأنني سايرت الوعد المظهري الخبيث للتناغم بين “كاتب” و”قارئ”، المكرّس في لقطة من “حفل توقيع” .. لأنني تقمصت الادعاء المخادع للألفة بين روايتي وبصيرة شخص آخر، والمجسّد في مشهد ليس عليه سوى التثبيت الشكلي لتلك الألفة .. لأنني كنت أعرف بطريقة ما، وبينما أوقّع نسخة “خلق الموتى” في تلك اللحظة أن هذا ما سيحدث .. لا يتعلق الأمر بهذا القارئ تحديدًا وإنما بـ “قراءة” روايتي بشكل عام .. كنت أدرك أن صورة كهذه هي تمثيل للمفارقة المعهودة بين ما تحاول الإيهام به من تجانس، وبين اعتداءاتي السردية الساخرة على الخمول المسالم لذهن القارئ، الذي سيحاول عفويًا الدفاع عن أمانه الخرب برد فعل مضاد يحصّن رعشته البليدة.

أن يقرؤك أحد؛ فهذا في حد ذاته ما قد يخلق فرصة متكررة لاختطافك داخل جحيم انتقامي كالذي تفحصته قصيدة “محمد الماغوط”:    

“يخيَّل لي أنَّني أتهاوى على الأرصفة
سأموت عند الـمنعطف ذات ليلة
وأصابعي تتلوَّى على الحجارة كديدان التفَّاح
دون أنْ ينظر إليَّ أحد.
إنَّني أرى نهايتي
ألـمح خنجراً ما في الظلام مصوَّباً إلى قلبي
عربة مطفأة
تقلُّ طاولتي وأوراقي إلى عرض الصحراء.
ستهب ريح قويَّة آنذاك
تداعب أظافري القصيرة
وتكنس قصائدي في الشوارع كقشور الخضروات”.

ماذا لو لم تكن مقروءًا فقط، بل ومرئيًا في الوقت نفسه كشخص عادي ولا يبدو مؤذيًا أيضًا؟

من كتاب “وهم الحضور” / مذكرات الكادر الضال

يصدر قريبًا

الأربعاء، 16 أغسطس 2023

ما يخبئه “جرح الأسلوب”

من حين لآخر أنشر في مدونتي الشخصية أجزاءً من روايتي “نصفي حجر” التي أعمل على كتابتها منذ سنوات .. أجزاء تبدو “جاهزة للنشر” .. في أحد الأيام وقع اختياري على جزء يتضمن هذا المقطع:

“لماذا لم تشطب تلك الأيام بالكامل بحيث لا يظهر أثر لها؟ .. هل لأنك لا تريد الاعتراف بفقدانها؟ .. هل لأنك متشبث برجاء استردادها؟ .. هل لأنك تريد أن تتذكرها؟ .. هل لأنك تعرف أنها لم تتبدد وإنما أنت الذي حُرمت منها فحسب؟ .. هل لأنك تعرف أن “حقيقتها” ستظل حية داخلك؟ .. لماذا هذه الأيام تحديدًا؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام سنة 1984؟ .. عن بقية أيام حياتك؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام العالم؟”.

بعد نشر هذا الجزء من الرواية أعدت ـ كما هي العادة ـ قراءته على المدونة .. شعرت فجأة بأن تكرار أداة الاستفهام “هل” في بداية بعض الجُمل بالمقطع السابق “يثقل” السرد بشكل غير مبرر، أي أنه من الأفضل الاستغناء عنه .. فكرت في الأمر ثم قررت إجراء هذا التعديل، وبالفعل أصبح المقطع المنشور هكذا:

“لماذا لم تشطب تلك الأيام بالكامل بحيث لا يظهر أثر لها؟ .. هل لأنك لا تريد الاعتراف بفقدانها؟ .. لأنك متشبث برجاء استردادها؟ .. لأنك تريد أن تتذكرها؟ .. لأنك تعرف أنها لم تتبدد وإنما أنت الذي حُرمت منها فحسب؟ .. لأنك تعرف أن “حقيقتها” ستظل حية داخلك؟ .. لماذا هذه الأيام تحديدًا؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام سنة 1984؟ .. عن بقية أيام حياتك؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام العالم؟”.

التفكير في الأمر لم يكن يعني فقط الإجابة على سؤال: “هل ينبغي أن أفعل هذا حقًا أم لا؟” وإنما كان يعني أيضًا ـ وبصورة أقوى ـ تأمل الفرق بين اللحظتين: لحظة الكتابة الأولى والاستقرار على ما انتهت إليه، ولحظة النشر التي طالبتني بإعادة الكتابة بطريقة أخرى وفقًا لهذا التغيير.

لكل لحظة كتابتها دون مقارنات تفاضلية مع لحظة أخرى تسبقها أو تخلفها .. كل لحظة مختلفة وغير منتهية حين تكون نصًا، أي تخلق مبرراتها أو دوافعها اللغوية المستقلة عن لحظات أخرى”.  

في كتابي “استراقات الكتابة” هناك محاضرة لي عنوانها “الصفات العقابية للكتابة” تضمنت هذه الكلمات التي تفسر الشعور بـ “الانزعاج” الذي تملكني من تكرار “هل” عند نشر مقطع الرواية، وهو بالطبع ما لم يكن حاضرًا عند كتابتي له قبل وقت طويل .. كلمات تفكك الحكم العفوي بأن “شيئًا خاطئًا” يجدر “تصحيحه” في بنية السرد، لتكشف عن أن المسألة لا تتعلق بالصواب والخطأ وإنما بـ “التباين” بين حالتين للكتابة لكل منهما قراراتها اللغوية الخاصة .. بين ما يُفترض أنني كنت عليه عند كتابة هذا الجزء في الماضي، وبين ما يُفترض أنني كنت عليه عند كتابته في الحاضر.

إن الفرق بين اللحظتين ـ كما فكرت في الأمر ـ يكمن في أنني أردت للنسخة الأولى من المقطع أن تكون استجوابًا فعليًا .. رغبة وحشية للسارد في الحصول على إجابة حاسمة، مصيرية، يرجوها ويتوقعها ويلح عليها بإصرار بالغ الحسرة .. أنني أردت للنسخة الثانية من المقطع أن تكون استجوابًا شاحبًا، واعيًا بالخذلان .. يأس معاتب لسارد يترنح بعدم تصديق أنه لن يحصل أبدًا على الإجابة التي يهلك روحه من أجلها .. هذا ما يخلقه تكرار أداة الاستفهام “هل”، وما يخلقه حذف هذا التكرار .. تغيرت النبرة، الإيقاع، طبيعة الاستفهام نفسه.

إن ما يبدو للوهلة الأولى للكاتب ـ امتثالًا لغريزة التقييم القهرية ـ جرحًا أسلوبيًا في نصه عند مراجعة ما؛ هو في حقيقته “عدم توافق” بين العبارة أو الفقرة التي خطها الانسجام واليقين في وقت سابق، وبين ما تختبره بصيرة الكاتب وقت المراجعة من “مزاج” وجودي وخيالي آخر، والذي بالتالي يحرّض ويقود نحو الاستجابة إلى ضرورة سردية أخرى .. “عدم التوافق” الذي يتحتم عليه التنكر تلقائيًا في زيف “ثقل غير مبرر يجب الاستغناء عنه” .. حاجز التعمية ـ الدائم أو المؤقت ـ أمام استيعاب أن “الأسلوب هو جزء عضوي في الكاتب” بتعبير “هاري بينغهام”.

لا أعرف أي نسخة من المقطعين ستحتفظ بمكانها في الرواية عند نشرها .. النسخة التي مازالت في مسودتي، أم النسخة التي تعيش في مدونتي .. لكنني أعرف أن أيًا من النسختين لن تستبعد الأخرى .. كل نسخة تنطوي على الأخرى، تذكّر بها وتشير إليها .. ربما ستقرر الرواية في النهاية الاحتفاظ بالنسختين معًا.

هذا مثال لما أحرص دائمًا على تأكيده لدى طلاب ورشتي القصصية .. إن التمرين على الحذف ليس أداءً شكليًا “آليًا” فحسب ولكنه في المقام الأول وقبل أي شيء اكتساب القدرة على التفكير في المعاني المتعددة، التأمل في المقاصد المختلفة، التنقل بين المسارات المتباينة، تفحص البدائل .. لذا فالحذف لا يقترن بمجرد الوعي بالسبب أو الدافع الذي يفرضه في لحظة معينة، وإنما باستبصار وإدراك الأبعاد والعلاقات الأخرى التي تحوم حول ما يتم حذفه وتكمن في أغواره.  

هذا مثال أيضًا لما يتعذر فهمه على كل محرر أدبي أو ناقد أو قارئ لا ينعم سوى بالغباء المحصّن بالوقاحة، ومن ثمّ فإنه حين يقارب نصًا ما لا يعثر خلاله على “نسخته” المُشبِعة أو المُرضية فإن الأمر سيبدو كما لو أنه فرصة ثمينة عليه انتهازها بنطاعة متأصلة لتشييد حفل عدائي كي يستعرض بكل ما ينتفخ به من خواء سمج عجزه عن “اكتشاف / كتابة” النسخ المخبوءة لهذا النص.

الأحد، 6 أغسطس 2023

ذاكرة بيضاء: الصراع بين الكلمة والظل

ثمة ارتحال تومئ بضرورته المجموعة الشعرية “ذاكرة بيضاء” لمؤمن سمير الصادرة عن هيئة الكتاب رفقة “الكلمة” والظل”. في باطن الصراع اللامتناهي بينهما. ذلك لأن كلًا منهما منسوج من عتمة الآخر؛ فكيف لا يقوى أحدهما إذًا على رسم وجوده إلا بكفاحه لطمس ما يخطه الآخر؟

“الدموع يا صديقي جملة منسية في جيب فنان غامض وشفيف، خطفها مجنون وألقاها فاستقرت في ذلك القلب الذي يحيا على الخوف والنسيان .. عبارات مثل هذه تجعلني أعيد النظر في أشيائي القريبة والبعيدة: أليس من الممكن أن تكون أقنعة لقنابل قد تمزق أمي وتحرق صوتي وسجادتي التي اختبأت في نقوشها لأنجو من الزلزال؟”.

تمنح قصيدة “عجوز يغفو وسط الكلام” تعريفًا للدموع: “جملة منسية في جيب فنان غامض وشفيف”. لماذا “جملة” تحديدًا؟. لأن “الفنان” نفسه هو بنية “كلامية ” متعالية. غيب من الكلمات. الجملة المنسية “الدموع” هي دليل غموضها وشفافيتها. لكن “الغموض” لا يؤشر لسمة “الكشف” في “الشفافية” وإنما إلى “التجريد”. إلى النقاء من “التجسد”. لذا؛ فالبنية الكلامية المتعالية / “الفنان” محصنة بما يتجاوز اللغة ذاتها. لا تتسق معها “الدموع” فتصبح “نسيانًا”. لكنها تلائم “القلب”، وفي هذه الملاءمة تتحوّل من “جملة منسية” إلى “لغة الحياة والموت”. يحاول “الكلام” إعادة اللغة إلى غيبيتها، أي أن “يسترد” المتكلم كينونته كـ “فنان” دون “جيوب تحمل جُملًا منسية / دموع”. إعادة اللغة إلى غيبيتها أي إزاحتها تمامًا من قلب المتكلم. بهذه الكيفية تُخلق مسارات العمل لتفسير غموض “الفنان”، لحل لغزه “التجريدي”، لتقمصه كمطلق، للتوحد بشموليته المبهمة وتقويضها، لكشف السر الأزلي للدموع كـ “جملة منسية”. كيف يفعل المتكلم ذلك؟ بنزع الأقنعة عن الأشياء القريبة والبعيدة. الأقنعة التي تُضمر الهلاك وراء وعدها المحتمل بأمان ما.

“ألا يصح أن تكون يد أبي التي تُحكم الغطاء من حولي وأنا أتظاهر بالنوم هي صاعقة الله  الذي مل من ضجيجنا وبكائنا”.

التفكير في “صاعقة الله” تحفزه “يد الأب” تحديدًا، وفي لحظة العناية بالابن على الأخص، مقترنًا هذا التفكير بـ “الضجيج والبكاء” باعتبارهما سببًا للملل. توليفة عدائية تزعج وحدة “الفنان”. نلاحظ “هي” الإثباتية في منتصف الطريق الذي تقطعه “اليد” نحو التعري كـ “صاعقة”. الطريق الذي يقطعه “الأب” نحو “البطش المجرد”. المتظاهر بالنوم إذًا هو مصدر الضجيج والبكاء. الذي لا يتعلق ضجيجه وبكاؤه بأبٍ تقليدي، وإنما بـ “فنان” يريد أن يمارس عمله في هدوء.

“أنفخ وأشمّر وأقول لنفسي أنا قادر بما يكفي ثم أبدأ بتكسير الجبال وإزاحتها من على صدري وكأنها سماوات من الدخان .. لكنني للأسف، أغفو كأي عجوز في وسط الكلام، فتتسرب جبال أخرى بدالها واسمها الظلال .. ليس في غرفتي إلا الظلال .. تتناسل بهمة وتملأ حائطًا وحائطًا والحوائط لها عيون والعيون لا تشغلني بما تراه ولكنها ترعبني بكل ما تقبض عليه ثم تصر ألا تحكي .. حتى في ليالي الشتاء”.

يستعمل “المتكلم” لغته في تكسير “الجبال” أي ما ستسمى مع كل انتباه متكرر “ظلالًا”. كلماته مغلقة على تفككها الاستباقي، أو ما يتقدم على أي محاولة لاستعمال اللغة، وحين تعلن عن ذلك فإنه سيتمثل كـ “غفوة”. يدرك المتكلم أن “الجبال” ليست إلا كلمات أيضًا أي ظلالًا متنكرة في صورة أثقال حسية يمكن هدمها. يستخدم ما لا يُلمس لإزاحة ما لا يُفهم. نتذكر؛ كل منهما منسوج من عتمة الآخر. تحاول “الكلمة” أن توظف حطامها الأزلي في تقويض “الظل”. الظل المصنوع من حطام الكلمة ويتناسل بتوالد دلالتها الاحتجازية المنسجمة مع الحوائط. اللغة المعطوبة تسعى لانتهاك صمتها المتعيّن في الظلال. تريد بـ “سردها” أن تستنطق “السرد المحتحب” لأشباحها. لماذا تريد ذلك؟ لأن العيون الخفية للظلال تنتمي لذلك الفنان الغامض الذي (لا يتكلم)، والدموع جملة منسية في جيبه. لأن ثمة رغبة غريزية لدى المتكلم في تغيير اتجاه “الصاعقة” نحو “حقيقته”. لكن بما أن هذه الحقيقة تظل كامنة في “الظلال” أو أنقاض وأشلاء اللغة؛ فإن الصاعقة لا تفارق “الكلمات” المتناثرة في “ليالي الشتاء” دون أمل في القبض على “حكايتها المخلصة” أي على ذلك “الدفء” الإعجازي الذي لا تناله “غفوة”.

“بقعة دم وجدتها على الحائط في بيتي

بقعة تنبض، كبيرة وطازجة

تقول كلامًا مختلطًا

ثم تزفر بملل وتزووم..”.

في قصيدة “ذائقة الحروب” يتخذ الظل شكل “بقعة دم” في مكانه اللائق والمعتاد كما في قصيدة “عجوز يغفو وسط الكلام”: الحائط. ومثلما كان الحال في القصيدة السابقة أيضًا يكشف الظل في صورة بقعة الدم عن كونه “كلمات مفككة”: “تقول كلامًا مختلطًا”، وبالتالي فالمتكلم يتساءل أيضًا عن سرها. بقعة الدم مكوّنة من لغة السؤال؛ لذا فبقعة الدم والسؤال منذورين للبقاء كلعنتين من الخام الغيبي نفسه، يتجابهان بمشيئته حيث “لا يقوى أحدهما على رسم وجوده إلا بكفاحه لطمس ما يخطه الآخر”.

“ردهتي العجوز

التي أكلت العناكب آخر ظلين ارتعشا فيها،

كيف تصلح لألغام ستنهشها الرطوبة في الأعياد ..

أو لدبابة تتوه تحت النافذة وتنسى ماذا كان اسمها بالأمس

أو لصاروخ يحب اللعب مع الفراشات المختبئات في فستان أختي؟

ثم أن أسرتي قديمة هنا

جاءت من المجهول مبكرًا

قبل أن تستيقظ الأشباح وتتمطى..”.

يحشد المتكلم ما يظنها مبررات “منطقية” للحصول على الإجابة: الردهة ـ العناكب ـ الألغام ـ الدبابة ـ الصاروخ؛ يحشد ما يجربه ويختبره، ما يعتقد أنه يعرفه، ذلك لأنه يتحدث عن نفسه: “بيته ـ أخته ـ أسرته”، أي الكلمات التي يتصورها ليست مجرد كلمات، في حين لا تتوقف بقعة الدم / الظل عن إثبات كونها كذلك. لهذا لا يتعلق الأمر بالحصول على إجابة فحسب، وإنما، على نحو أكثر مراوغة، بالاحتياج القهري لدفع ثمن عدم الحصول عليها، بالمقابل “العادل” لخراب اللغة الذي يمنعها من أن تصل بـ “المتكلم” إلى الحماية الأبدية من شر “الصمت” الرابض في المطلق. هل تمثل “الحكاية التي تُربى في الخيال” تعويضًا في حد ذاتها للعجز عن اغتنام هذا الثأر؟ ليست الحكاية نفسها، وإنما الوعي بالصدوع البدائية التي تؤلف تفاصيلها. الوعي الذي ـ هكذا ـ لن يجعل الحكاية بديلًا للثمن الذي لم يُدفع، وإنما سيجعلها الثمن نفسه.

“تقبلي أيتها الروح شكرنا

وعرفاننا الصادق

لكل من يموت في الجدران منذ الأزل

ويعود يبتسم كل حين”.

كيف يمكن تأويل “الألفة” التي تتسم بها علاقة المتكلم بالكلمات؟ الألفة التي تستند حتميتها إلى الظلال؟ إن “الألفة” مسايرة إجبارية لما لا يمتلك المتكلم “يقينًا” مغايرًا له. ما ليس في وسعه سوى أن يعتبره يقينًا. “الألفة” هنا ليست امتنانًا للحياة بقدر ما هي سعي للاختباء من الموت. من الفناء الذي تنتهي عنده “الكلمة” كـ “ظل”. من هنا ينشأ ويعيش ويتجذر شعور كالحنين. التشبث بماضي الظلال حين كانت كلمات. حين كان المتكلم مازال يقاوم الإدراك بأن الجبال لا يمكن تكسيرها.

“صحوت فوجدت خبزًا قاسيًا

قطرت دمي وغمسته

وانتظرت..

في الردهة قابلت ظلًا تائهًا

فاختبأت حتى وقع في الفخ

ثم أسلمته للشيطان”.

يعيد مؤمن سمير في قصيدة “أشواك تنبض للآن” التأكيد على الكيفية التي يتحوّل به تفكك الكلمات / صدوع الحكاية إلى ما يشبه احتفالًا بما لم يحدث. بالوجود الغيبي الذي حُرم المتكلم من أن يكونه. “الظل التائه” يسلّم للشيطان، “اللغة المتهدمة” تُدفع نحو أيدي “المروق في ذاته”. المصير المستحق للحكمة. هنا يصبح “الشر” أساسًا لفضيلة مضادة. فضيلة فاضحة لخداع المعجزات. يستطيع المتكلم حينئذ أن يتفاخر بإثمه من حيث اعتباره “خيرًا مناقضًا” تقوده السخرية من المبررات والتدابير “المثالية” للقدر. يستطيع أن يتفاخر بذنبه من حيث اعتباره “كرامة استثنائية” يجدر بألمه أن يتوّج بها.

“طلعت نخلة وقالت أنا أمك

ثم تنهدت ودثرتني بالأشواك

كي أقوم من الأموات وأصعد

قبل أن يهبط حول بيتنا

البرصان والمجذومون

وتحوطنا الغيمة الطيبة..”.

إن صراع “الكلمة” و”الظل” في قصائد مؤمن سمير هو ممارسة “محو” ينتظر المتكلم نهايتها؛ اللحظة التي ينتهي كل منهما من طمس الآخر فلا يبقى بعدها سوى ما قبل الحياة وما بعد الموت. ما خسره المتكلم قبل أن يختطفه الزمن، وما يستعيده بعدما ينفلت من أسره. صراع “الكلمة” و”الظل” هو مطاردة “ذاكرة بيضاء”.

أخبار الأدب

6أغسطس 2023

 

السبت، 5 أغسطس 2023

المحاكمة 2

كأنها الخلاصة التي تربط جميع الأشياء ببعضها: وجود الرجلين في بيته .. التحذير الصارم لرجل الحجرة .. الابتسامة التي لا تتشكل لرجل الصالة .. الرواية .. كأنه نطق بحكمة.

ـ لماذا؟

للمرة الثانية يشعر (م) أنه يؤدي واجبًا يتطلبه الموقف أكثر مما هو استفهام حقيقي .. لم يكن يعرف الحقيقة، ولكن كان إحساس مبهم لديه بأن هناك منطق ما فيما يحدث .. إجراء روتيني لم يكن يمتلك استعدادًا أبدًا لمواجهته.

ـ ليس لدينا ما نخبرك به الآن، لكن هذا ما ينبغي أن يتم، وما ستعرفه سيكون ثمينًا وقاطعًا بما لن يكون مسموحًا لك بعده أن تخطئ أبدًا.

كان رجل الصالة قد أغلق الرواية ووضعها فوق فخذه اليمنى، بينما ظلت قبضته مضمومة على غلافها، كأن أصابعه تستريح فوق قرينة دامغة عثرت عليها بعد جهد .. سمع (م) رجل الحجرة وراءه كأنما يُنهي ما بدأه حديث رجل الصالة:

ـ ستعرف كل شيء بالطريقة المناسبة.

نهض رجل الصالة من مقعده، واقترب من (م) كما لو أنه سيلقى تعليماته الأخيرة:

ـ سنحتفظ بهذه الرواية، وبكتبك الأخرى، وعليك أن تتذكر جيدًا أن جميعها، ومع كل ما سيطرأ عليها من تغييرات وهي بحوذتنا ستظل النسخ الأصلية، أي أن النسخ الأخرى كافة التي لديك أو في أي مكان آخر ستكون مزيفة، لا يُعتد بها.

ثم بدا كأن الابتسامة التي يُحضّرها وجهه دائمًا قد أوشكت للغاية على التشكّل، لكن هذا لم يحدث:

ـ هذا النوع من القضايا يُنظر سريعًا. لا تقلق. عليك فقط التحلي بما يكفي من الإيمان والشغف لكي تتمكن الأحكام المطلقة من مساعدتك.

حتى لو كان هناك منطق ما فيما يحدث فإنه يبدو كخطوة أولى في طريق مجهول، مخيف .. ثمة وحشية تتصاعد ببطء .. من هذين الرجلين؟ .. ماذا يعني بالنسخ الأصلية والنسخ المزيفة؟ .. عن أي قضية يتحدث؟ .. هذه المرة لم تكن أسئلة (م) تأدية واجب، بقدر ما كانت استفهامات حقيقية .. فقط ظلت مكتومة بداخله.

كان (م) يعيش في مدينة لم يعد لديه فيها منذ زمن طويل من يمتلك دافعًا لتدبير مزحة كهذه بمناسبة عيد ميلاده .. كان اليوم هو الثالث من يناير، أي أن عمره أصبح أربعين سنة اليوم.

ـ لا تفكر كثيرًا لأننا سنظل أبعد من ظنونك.

التفت (م)، وكان من الغريب ـ الغريب بحق ـ أن الابتسامة التي لم تتشكل أبدًا في وجه رجل الصالة قد ظهرت بوضوح تام فوق الملامح العدائية لرجل الحجرة بعد أن أغمد هذه الكلمات في ظهره .. ابتسامة يعرف (م) المقصود منها تمامًا.

حسنًا .. إنها تبدو ـ شكليًا، ورغم كل غرابتها ـ حالة تقليدية للغاية .. مشهد شائع في الماضي البشري، ولكنه مع ذلك لا يتم بصورة اعتيادية، فهو يبدو كحدث خارج قشرة الواقع، أو بالأحرى داخل فجوة مظلمة بداخله.

ـ مهما كنتما، ليس لديكما الحق فيما تفعلانه.

لم يبد على رجل الصالة أن كلمات (م) قد أحدثت تأثيرًا في نفسه، باستثناء أن اللامبالاة التي تتمطى في صوته قد تسرب إليها قليل من الأسى.

ـ أنت تعرف أنك مخطئ تمامًا يا (م). نحن لدينا الحق في كل شيء، ولا ينبغي أن تتمادى في غفلتك العنيدة إلى حد الاعتقاد بأن ما نفعله هو اعتداء مكلف من نوايا شريرة. عليك أن توقن أن هذا تمهيد ضروري من الخير الخالص لصداقة أنت بالتأكيد في أمسّ الحاجة إليها.

صمت رجل الصالة على نحو شعر معه (م) كأن قوة غيبية قد مدت يدها ووضعت نقطة الختام لكلامه .. لكن رجل الصالة عاد فجأة ليقول بنبرة جعلت من الأسى السابق في صوته أقرب إلى حلم:

ـ من أجل خاطرك .. لا تستفزنا.

جزء من رواية قيد الكتابة

الثلاثاء، 1 أغسطس 2023

رسالة من "إيلي" إلى "أصغر فرهادي"

عزيزي أصغر فرهادي

أعلم أنك حصدت من المدائح ما قد يغنيك عن كلماتي، ومع ذلك فلنقل ببساطة أن لكل منا غنيمته التي تراوغ الأخرى، لا التي تفسدها .. لك فيلمك، ولي حقيقتي .. حسنًا؛ هذه مزحة! .. حقيقتي في الواقع تفسد فيلمك .. حقيقتي هي التي تغنيني عن فيلمك، مع اعترافي قطعًا بالبراعة التي كوّنته .. البراعة التي خرّبت وجودي يا فرهادي .. باختصار؛ كانت هناك جوهرة ثمينة بين يديك ولكنك ألقيتها في البحر.

لا تظن أنني أتعمّد إثارة غضبك أو غيرتك حينما أخبرك بأنه لو كان ثمة مخرج آخر قد عثر عليّ لربما تعامل معي بشكل مختلف .. لو أن بصيرته قد اقتنصت الظلام الخفي الذي يشع من داخلي بالفعل لاستخدمني بصورة مناقضة .. لم يكن الأمر سيتطلب جهدًا كبيرًا .. كل ما  كان سيحتاجه هو حمايتي من الملامح المحددة التي أصررت أنت على إلصاقها بوجهي .. كان سيحرص على منع أي تعريف من الإشارة إلى هوية دامغة لي .. ذلك لأني طبيعة ولست شخصًا .. أنا الروح المقموعة الكامنة في كل النساء داخل فيلمك وخارجه ولست امرأة بعينها .. أنا لا شيء وكل شيء.

لكن ربما كان الأمر سيتطلب جهدًا كبيرًا بالفعل .. ذلك لأنه يتعلق بشجاعة المقامرة .. أن تتخلى تمامًا عن الشروط الاجتماعية لصالح الغموض .. الغموض الذي يحفّز الحقيقة على الإشارة لنفسها بشكل أكثر عنفًا مما لو تُركت أسيرة الأنماط الواضحة .. أن تستعمل هذه الشروط فقط كأكاذيب، مكائد خادعة تستدرج المتفرج نحو الصدمة لا الألم، نحو الأرق الجائع لا التفسير المشبِع .. كان الأمر سيتطلب جهدًا كبيرًا لو قررت أن تكشف عن كوني أتظاهر بأني معلمة، وأن لي أم أتحدث معها في الهاتف .. أن هاتفي لا يحمل أي شخص أو رقم أو حتى شريحة اتصال .. أن "خطيبي" لا وجود له .. مجرد حيلة أستخدمها في لعبة التقمص ..  في مسايرة الصراع التقليدي بين الإذعان لما هو مفروض، والهرب نحو اختيار حر .. أن من كانت تركض بالطائرة الورقية على الشاطئ هي الطفلة التي "اختفت" داخل كل امرأة بعد أن فقدت الخيط من يدها .. أن هذه الطفلة قد أخبرت الجميع بصورة ضمنية بأنه لم يكن أمامها سوى الطيران أو الغرق .. أنها من أظهرت للنساء كافة بأنه إذا كان الطيران مستحيلًا فعلى الأقل لنسخر من الغرق .. من وهم الاختيار الحر .. من عبادة الأسرة .. الحب .. الزواج .. أن جثتها لا يمكن العثور عليها لأنها غارقة فيما لم نفكر أبدًا في أن نطلق عليه "بحرًا" إلا كمجاز مروِّض.

عزيزي أصغر فرهادي

هل قرأت قصة "إيفيلين" لـ "جيمس جويس"؟                                                        

إنها إحدى قصص مجموعة "أهالي دبلن" 1914 وتحكي عن شابة صغيرة، ماتت أمها وكان عليها أن تعمل وترعى والدها وشقيقيها قبل أن يموت أحدهما، وأن تعيش بذكريات طفولتها تحت وطأة المهانات .. كان على كرامتها أن تُنتهك ـ كما كان حال أمها ـ من أبيها الذي يعنّفها، ويسلبها أجر عملها، دون أن يُبقي لها شيئًا .. أحبت "إيفيلين" بحارًا لطيفًا، مولعًا بالموسيقى، وأرادت أن تهرب معه بعيدًا عن التعاسة التي تتنقل بخفقات قلبها بين البيت ومحل عملها لكي تصبح زوجته .. لكنها بعد أن كتبت رسالتي وداع؛ واحدة لأبيها والأخرى لأخيها، وبعد أن توجهت إلى المرفأ للرحيل مع حبيبها إلى "بوينس آيرس"؛ وجدت نفسها عاجزة عن الصعود إلى السفينة وظلت متسمرة في مكانها، تنظر إلى البحار وهو يناديها ويشير إليها أن تعبر الحاجز لتلحق به.

كيف وصف "جويس" نظرة "إيفلين" في هذه اللحظة؟:

"لا تفصح عيناها الجامدتان بنظرة حب أو وداع وليس فيهما أي نوع من الرغبة بشيء".

حينما منح "جيمس جويس" هذه النظرة إلى "إيفلين" فقد جعلها تختفي يا فرهادي .. لم يعد لـ "إيفلين" وجود في هذه اللحظة .. لم تعد الابنة أو العاملة التي لم تحصل على الاحترام رغم تضحياتها، كما لم تعد العاشقة التي تسعى للانفلات مع حبيبها من عالمها البائس .. لم تكن "إيفيلين" حينئذ الشابة التي تفكر في أبيها بعد أن أصبح عجوزًا وفي افتقاده لها بعد أن ترحل، أو تتذكر حينما كان لطيفًا معها أحيانًا، ومعتنيًا بها في مرضها، ومرحًا في نزهاتهم الأسرية وهي ما تزال طفلة .. لم تكن الشابة التي قطعت عهدًا لأمها أن تحيط البيت بأقصى ما تستطيع من رعاية، كما لم تكن الحالمة المتشوّقة إلى حياة تعويضية سعيدة خارج المكان الذي استعبدها .. كانت "إيفيلين" في هذه اللحظة عمياء .. لا تستطيع رؤية نفسها .. تختبر ما هو أكثر قسوة من الصراع التقليدي بين الواجب والعاطفة .. كانت تقول بعينيها المتحجرتين بأنها ـ بالرغم من كل شيء ـ لم تعد تدرك ما هو "الواجب" وما هي "العاطفة" .. ما هو الماضي الذي عاشته، وما هو المستقبل الذي تعجز عن العبور إليه .. لا تعرف ما الذي يجب أن تريده، وما الذي ينبغي ألا ترغب به حتى لا تزيد عتمة العالم .. كانت "إيفيلن"  في هذه اللحظة سرابًا يا فرهادي.

أنا مثل "إيفيلين" في نهاية قصة "جويس" .. احتمال متغير لواقع ثابت، يمكن استبدال التفاصيل التي تكوّنه بتفاصيل أخرى وسيظل دائمًا ما يشير إليه كما هو .. يمكنك أن تضع أي امرأة أخرى مكاني وسأظل أنا .. هذا ما كان عليك أن تنتهز وجودي لتؤكده .. كان عليك أن تقول للجميع: "هذه ليست قصة واحدة من النساء .. إنها القصة التي تخبئها كل النساء" .. كان عليك ألا تجعل المرأة العابرة أمام فيلمك تفكر في أنني أشبهها، بل أن تفكر في أنني هي كما لم يرها أحد مطلقًا.

يؤسفني القول إن فيلمك قد جعلني مصدرًا لرواية ما هو أقرب لـ "مشكلة عائلية" في لعبة "الإسقاط" المألوفة بدلًا من أن يُبقيني كشبح متناثر داخل لعنة وجودية، تاركًا لكل امرأة أن تكسبني ملامحها وجسدها، حياتها وموتها .. أن تخلقني على صورتها وتودعني كما ودعت نفسها .. تاركًا لكل امرأة ـ خاصة داخل فيلمك ـ أن تكشف عن أن حياتها التي تبدو "سعيدة" أو "مُرضية" هي في الحقيقة جثة "إيلي" .. يؤسفني القول إن فيلمك قد سمح للآخرين بأن ينسجوا حكاية أصلية لي بدلًا من أن يدع كل حكاية تتجلى بواسطة غيابي.

عزيزي أصغر فرهادي

ما كان يجب عليك أن تستسلم ـ كما يحدث غالبًا ـ لإغراء الحكمة السهلة، الصدئة، والهزلية بكامل وقاحتها، وأن تعيد تدوير نفايات مضحكة مثل: (أن نتألم قليلًا خير من أن نندم على حياتنا)...

كان عليك أن تفهم بأنني ـ مثل إيفيلن في قصة جيمس جويس ـ لم أوجد أبدًا.