الأربعاء، 26 أبريل 2017

الخطاب الروائي كحلم يقظة

تحاول شخصيات مصطفى عبد ربه في روايته (بيوت عارية) الصادرة عن دار العين أن تبني أماكن لها فيما وراء أماكنها الواقعية؛ أي فيما يتجاوز أجسادها وعلاقاتها، وفضاءات حركتها الاعتيادية .. هذا البناء يُخلق وينمو ويتبدد ويُعاد اكتشافه بصور متعددة ثم ينشأ من جديد من خلال مقاومة ما .. اشتباكات تبدو صغيرة وهامشية مع المحيط الإنساني لكل شخصية، ولكنها بعين المدينة تمثل هوية لا تتسم بالبساطة لوجودها، فضلا عن أنه لا يمكن اختزالها في إشارات مجحفة .. كيف يمكن للغة أن تكون دليلا على هذا؟ .. يمكننا الشعور بالاستخدام التقريري للغة عند مصطفى عبد ربه كأنه يسعى لتثبيت يقين بآلية ما في حركة الشخصيات وتتابع الأحداث وتطوّر خبرة  النزاع بين الرغبات الذاتية المتنافرة .. هذه الآلية توحي دائمًا بالطبيعة القهرية للقدر .. بحتميته داخل كافة المتغيرات العشوائية، غير المتوقعة أو كما سبق وأشرت محاولات بناء الأماكن الشخصية فيما وراء الواقع .. تعطي اللغة هذا الحسم الضمني بأن كل هذا كان ينبغي أن يحدث، كما لو كان من ينفذون الأمر أو من يقاومون هزائمهم منذورين لجعله هكذا.
(ولما ذهب صالح أبو العز إلى مبنى الحي ليسمي الشارع بإسمه، عرف أن عبود قد سبقه فاستشاط غضبًا، سب الموظفين فطردوه. دخل صالح المقهى هائجًا مضطربًا فرأى عبود جالسًا يدخن النارجيلة باسترخاء والعمال من حوله. صرخ فيه وسبه، وحال العمال بينهما، ودفعوا صالح أبو العز بعيدًا ناحية بيته).
من ناحية أخرى يمكن لهذا التراكم الذي تحققه الوفرة البشرية المتقاطعة من التفاصيل والأحداث أن يكون تاريخًا حقيقيًا للموت .. لماهية الفناء الذي يعمّق جذوره مع كل إيماءة أو كلمة أو حيلة تمر عبر هذه الشوارع التي تسعى المدينة من خلالها وعبر أجيال متعاقبة من الصراعات أن تتفادى انهيارها .. يصبح الموت جوهرًا لما نظنه تواطؤًا حتميًا بين أبناء هذا العالم الروائي لتشييد الحياة وحمايتها .. هذا الجوهر لا يعلن عن ذاته على نحو صريح من خلال التعمّد التقليدي للتركيز على ما يبدو أنها أحداث أساسية في الرواية بقدر ما يحقق هذا من خلال تلك الفقرات التي يظهر معها أنه لا يقصد شيئًا .. كأن ما يدور خارج الفضاء المنظور إليه كمتن هو العلامات الأصلية لهذا الموت.
(صعد بعد عدة أيام فرأى الكتكوت ذا الشامة البنية على رأسه واقفًا جوار الحائط . لا يجري مثل البقية. يعلو صدره ويهبط ببطء وبشكل ملحوظ. يفتح عينيه ويغلقهما بصعوبة. تحوم حوله دجاجة تقأقئ ملتاعة. تريد أن تفعل له شيئًا لكنها عاجزة).
تؤسس محاولات بناء الأماكن في ما وراء الواقع لعجز مبهم .. كأن هذه المحاولات هي السيرة الحقيقية لهذا العجز الذي يتجاوز تمثلاته الحاضرة في القتل والفقد والإحباط الجنسي .. هو يمتد نحو تلك المسافات الغامضة فيما بين الفعل وخيالاته .. بين الإدراك وتجلياته المتناقضة أو تجسيداته الملموسة والمختلفة .. بين الأثر وظلاله القادرة على طمسه، أي على جعله منسيًا تمامًا .. بوسعنا التحدث هنا عن الخطاب الروائي كحلم يقظة ملتبس .. يمكننا التفكير في الأسلوب الذي يتم بواسطته ترتيب المعطيات الحكائية بوصفه لعبة مراوغة مع ظلال الذاكرة واقتحام لفجواتها، وليس كمجرد رصد لظواهرها المباشرة وتأثيراتها الواضحة .. الخطاب الذي يتخطى حدود الاستعادة والتوثيق نحو استنطاق الآماد المجهولة للأشياء التي أعلنت غيابها .. الوقائع اليومية التي مازالت تتكوّن رغم أنها تنتمي لزمن قد يكون منتهيًا بالفعل.
(تفرق الجميع وابتعد الرفاق. لم يعرف أحمد متى كفوا عن اللعب وعن الذهاب إلى االمدرسة معًا. كأنهم لايريدون أن يتذكروا ما حدث، وربما حرضهم الأهل على ألا يفعلوا. يلتقون في الشارع والمدرسة لمامًا، يتبادلون كلمات قليلة ويرحل كل منهم إلى شأنه).
ربما نشعر أن ما قرأناه في رواية بيوت عارية سبق وأن مررنا به من قبل .. سبق أن قرأنا ما يماثله أو شاهدناه، أو سمعنا عنه، أو عشناه بأنفسنا .. هذا لا يرجع إلى مشابهة بين تفاصيل الحكايات بقدر ما هو تماثل بين محاولات الكتابة عن هذه التفاصيل .. الكتابة التي تريد أن تكون مثل سطوع الشمس وهي تسند الجدران المتعبة للبيوت القديمة .. هذا يرجع إلى الكيفية التي تتعرى بها هذه البيوت.
زائد 18 ـ 24 إبريل 2017

الجمعة، 14 أبريل 2017

صدور (هفوات صغيرة لمغيِّر العالم) لممدوح رزق عن دار بتانة

عن دار بتانة للنشر والتوزيع صدرت المجموعة القصصية (هفوات صغيرة لمغيِّر العالم) للكاتب ممدوح رزق. تقع المجموعة في 94 صفحة، وتضم 31 قصة قصيرة كُتبت على مدار الثلاثة أعوام السابقة.
من سطور الغلاف الخلفي للمجموعة:
"لكن البقاء في البيت لن ينقذني من تلك اللحظات النادرة التي أخرج خلالها فأجدني دون انتباه أحاول تبادل دعابة صغيرة مع بائع الجرائد مثلما كنت تفعل مع العامل أمام ماكينة عصير القصب في ظهيرة الثمانينيات .. لن ينقذني من تجهم بائع عصير القصب الذي امتد عبر ثلاثين سنة ليستقر في  وجه بائع الجرائد .. لن ينقذني من الحرج النادم الذي كان يخفض رأسك وأنت تسير مبتعدًا، كأنك تحاول تثبيت إيمانك بأن طعم القصب هو كنزك الوحيد من الدنيا مثل صفحات القصص القصيرة التي أعود بها إلى منزلي .. البقاء في البيت لن ينقذني من احتضارك وموتك يا أبي".
ممدوح رزق كاتب وناقد مصري. صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة. حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. ويستعد لإصدار كتابه النقدي الجديد (هل تؤمن بالأشباح؟) الذي يتضمن قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة.

الاثنين، 10 أبريل 2017

القصة القصيرة ... الحياة في موت الآخر

يمكن اعتبارها إحدى طرق التفكير الجمالي في الموت؛ إنها القصص التي تحاول بواسطتها الذات أن تخلق حياتها باستخدام الآثار الناجمة عن موت الآخرين. ينطوي هذا الإيجاد على ما يتجاوز استعادة الماضي، سواء ذلك الذي اشترك في تكوينه الذات الحية والآخر الميت، أو ذلك الذي تسعى الذات لاكتشافه بوصفه ذاكرة مستقلة لها. سيمتد الخلق أيضًا نحو بناء علاقات جديدة بين الذات التي تُشيّد الحياة والآخر الذي يساهم بموته في ذلك الخلق، كما سيمتد أيضًا إلى حياة من المتغيرات لن تظل ظواهرها مقترنة بصور مباشرة للذات الحية مع هذا الموت للآخر وإن كان سيظل أساسًا لها.
تتحدث (ليديا ديفيس) في قصة (وبر الكلب) عن وبر الكلب الميت الذي لا يزال موجودًا في أرجاء المنزل وعلى ثياب أصحابه الذين لم يرموه لأن لديهم أمل جامح أنهم سيكونوا قادرين على استعادة الكلب من جديد لو جمعوا قدرًا كافيًا من هذا الوبر. تفكر (ليديا ديفيس) في موت الكلب من خلال أثره (الوبر)، والذي أعطته القصة إمكانية استخدامه في استرداد هذا الكلب. لكن الكلب الذي يتم تأمل استعادته بهذه الكيفية لن يكون فقط هو ذلك الكلب المفتقد، الذي كان ينبح حينما يرن الجرس أو عند وصولهم إلى البيت متأخرين، كما أنه لن يكون الكلب الذي كان يمكن لكل فرد منهم أن يتمعن في حياته الشخصية من خلال وجوده فحسب، بل سيكون كذلك الكلب الذي ستكشف استعادته عن صلات أخرى مع أصحابه، ربما لم توجد أو لم تكن واضحة حينما كان حيًا، كما أنه سيكون أيضًا هو الكلب الذي يعطي لكل فرد منهم دوافعًا غير مسبوقة للاشتباك مع عالمه الخاص دون سيطرة على التحولات التي يمكن أن يتخذها. الذات هي التي تحاول إذن استعادة حياة أخرى لها من الموت بواسطة وبر الكلب.
نفس الأمر نجده عند (رافاييل فالكارسيل) في قصته (كلمات أخريات) وإن كان على نحو أكثر مباشرة؛ فبطل قصته (سيزار لينو) كان يسكن في طفولته أمام مقبرة وهو ما جعل ألعابه تنتقل من تعداد الأسماء المتكررة فوق القبور، إلى التواريخ المتشابهة، ثم إلى التي تتصادف مع تاريخ ميلاده حتى ابتكر بعد مرور السنوات طريقة لإبداع القصص وذلك بأخذ كلمة من كل لوحة فوق قبر ليشكل منها جملًا ويربطها بكلمات أخريات مكتشفًا بذلك مئات الحكايات. إن الكلمات المأخوذة من لوحات القبور في قصة (رافاييل فالكارسيل) هي نفسها وبر الكلب في قصة (ليديا ديفيس) مجسدًا في لغة؛ فـ (سيزار لينو) لا يعرف عن الموتى سوى هذه الكلمات، وهو ما سيقوده إلى إيجادهم وتكوين علاقاته بهم من خلالها قصصيًا، وبالتالي إلى خلق حياته بواسطة هذا الإيجاد. سنلاحظ أن عنوان قصته لم يكن (كلمات القبور) وإنما (كلمات أخريات) وهي تلك الكلمات التي كان يربط (سيزار) بينها وكلمات القبور، أي الكلمات التي تخصه، وتحمل ذاكرته أثناء المضي في طريقها (الكتابة) لاكتشاف ماضيه، وتشييد اللحظات التالية بخطوات لا يمكن توقعها.
إن القصة القصيرة بهذا الشكل تمثل محاولات مستمرة لمعرفة الذات والآخرين بواسطة الفناء الجسدي، العثور ـ ربما في ظل شروط أفضل ـ على المفاتيح القدرية للحياة والموت، التوصل إلى ممر سري للخلود. يتكفل التكثيف ـ خاصة في حالته القصوى كما في القصة القصيرة جدًا ـ بضمان حرية هذه المحاولات من خلال ترك أكبر مساحة ممكنة للتخييل. يضع هذا الاقتضاب اللعبة في يد الأطياف غير المستقرة للوعي لإبقاء احتمالات النجاة مفتوحة إلى أبعد حد ممكن. إنني أتصور أن السطر اليومي الذي يكتبه الراوي من الرسالة الطويلة التي يشرح فيها منذ أربعة عشر عامًا أسباب انتحاره في قصة (الرسالة) لـ (لويس ماتيو دييث)، أتصور أن هذا السطر يحمل كل يوم إدراكًا متزايدًا للموت، خضوعًا حتميًا له، وفي نفس الوقت يوثق اكتشافه لـ (كلمات أخريات) داخل هذا الموت سيستعملها في كتابة السطر الجديد صباح اليوم التالي.
جريدة (القصة) ـ العدد السادس إبريل 2017

الجمعة، 7 أبريل 2017

لاهوت الشر

مهاجمة اللغة 
لا أتصور أن كاتبًا انتهاكيًا، أي ذلك المسكون بشيطان التقويض يعيش حياة من التآلف مع اللغة التي يكتبها. يقول (بروست): (إن الكيفية الوحيدة للدفاع عن اللغة هي مهاجمتها .. كل كاتب مضطر لأن يصنع لنفسه لغته). لكن الدفاع عن اللغة في حد ذاته، كاحتياج يسبق الاضطرار إلى صنع لغة خاصة هو فكرة تمثل موضوع العالم، أو الضرورة البديهية الوحيدة التي يتم الخضوع إليها بشكل عفوي تمامًا. إنها الخطوة الحتمية المضادة للعدم؛ إما أن توجد هناك (حيث يبني الموت نفسه بواسطة الكلمات)، أو لا توجد أبدًا.
تتحدث (باتريشيا فيرناندز) عن الفيلسوف الأمريكي (ريتشارد رورتي):
(بالنسبة لرورتي، ليست اللغة مجرد وسيط بين الذات والواقع. للغة، بالأحرى، دور تأسيسي في الفكر: تحدد طريقة تفكيرنا. توافر كلمات معينة وقواعد محددة، على سبيل المثال، يقرر كيفية تفكيرنا بخصوص الواقع. واستخدام اللغة مطلق الوجود. لا نستطيع النفاذ إلى الواقع بغيرها. يعني ذلك أننا لا نستطيع معرفة ما إذا كانت اللغة التي نستخدمها تمثل العالم بدقة. باستخدام تعبير هيلاري بوتنام، ليس بمقدورنا الخروج عن اللغة لننظر إلى العالم من "وجهة نظر العين الإلهية").
يتطلب مهاجمة اللغة فهمًا لنوع من المراوغة القادرة على تأمل ذاتها. تصديقًا مبدئيًا للوعود الميتافيزيقية، أي الإيمان مؤقتًا بما تدعيه الكونية المفترضة للغة. كأنك بصدد الوصول إلى حالة دائمة من التناغم المتنظر مع ما تنطوي عليه كسلطة. يبدو لي أن هذا هو السبيل الملائم والمعقد لتعميق (الصراع)، أي ما يجدر أن يكون السمة الصحيحة للعلاقة مع الألفاظ. الكتابة حينئذ تكون إدانة ضمنية لنفسها، إيحاء بخيبة الأمل، كأن الكاتب لا يمرر وعيًا بل صيغة مرتبكة من الاستغاثات. إشارات عسيرة بأن الأمر ليس هكذا حقًا، وأن ثمة حرمان أصيل من الوجود المثالي للذات داخل مفردات لا تعمل إلا بكيفية مشوِّهة. هو شعور شخصي بالدرجة الأولى، أي أنه قد يبقى عالقًا داخل بصيرة الكاتب دون أن يمتد كقوة تأثير خارجها، بل قد يُجابه بإدراك مناقض لآخر / قارئ يحوّل اضطراب ما وراء الكتابة إلى (صلابة جمالية) لشخص / كاتب (يستوعب تمامًا ما يريد أن يكتبه، ويعرف الطريقة المناسبة لفعل ذلك). إنه الإدراك الذي لا يتحصن الكاتب نفسه بحماية ثابتة من الاستجابة للذته، بناءً على دوافع ستظل مؤقتة في مواجهة الزمن، ودون تعطيل لخيبة الأمل. هنا تكمن الاحتفالات المتنقلة بما هو متمنع، معجِز، بما هو ليس بمعرفة حتمًا وإنما بالأداءات المتغيرة للجدل، بالتفاوض المحسوم سلفًا مع الخذلان. بتراكم الامتنان لتلك المقدرة على تأمل الفقد مع كل استعداد لتصور أن بوسعك امتلاك شيء ما.
في إحدى المحاضرات عن السرد تحدثت عن أن الكتابة ربما تسعى لتعيين تعريفًا جوهريًا لها من خلال هزائم اللغة. أنها لا تعيش داخل الكلمات، وإنما في ظلالها الغامضة، في الارتباك المبهم لنقصانها، في الصدوع الملغزة داخل كل تقمص، في الإبهام المحيط بالأماكن والأزمنة التي وضعتها كبدائل لذاتي في الحكايات، في الفراغات المجهولة بين جسدي اللغوي وجسدي الأرضي، في عدم القدرة على الإجابة على الوجهين الساديين للاستفهام الإذلالي: (ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟)، في انعدام الثقة تجاه أي إجابة محتملة. إن هذا التعريف يتمثل في المرئيات والمسموعات التي لا تمت لأي لغة بصلة كما وصفها (جيل دولوز)، التي ليست خيالات موهومة، وإنما أفكار حقيقية يراها الكاتب ويسمعها في ثنايا اللغة وفجواتها، وهي ليست توقفات عن الحركة، وإنما محطات تشكل جزءًا منها كخلود لا يتجلى إلا في الصيرورة، وكمنظر لا يظهر إلا في غضون الحركة، فهي لا توجد في مكان خارج عن اللغة، وإنما تشكل خارج اللغة.
موسيقى الكتابة
أفكر الآن في المرئيات والمسموعات (التي لا تمت لأي لغة بصلة) عند (دولوز) في ضوء الرؤية الفلسفية لـ (شوبنهاور) عن الموسيقى. إن (الأفكار الحقيقية ـ ليست خيالات موهومة ـ التي يراها الكاتب ويسمعها في ثنايا اللغة وفجواتها) هي أقصى درجات القرب بين (الكتابة) و(الموسيقى). هذه المرئيات والمسموعات هي ما يمكن اعتبارها كينونة مضادة لأي نوع من التجانس الهارموني والإيقاعي للكلمات والتراكيب اللغوية المتعينة داخل النص. الأفكار التي لديها نفس الطابع التجريدي للموسيقى، الأقل ارتباطًا ـ وفقًا لشوبنهاور ـ بأي معنى ظاهراتي، وهي بالتالي أقوى أشكال التحرر من الإرادة (الشر) نحو تأمل هذه الإرادة في ذاتها. إذا كانت هذه المرئيات والمسموعات هي نتاج (مهاجمة اللغة) أي (نية التحرر منها)، وإذا كانت تعادل بنائيًا (الموسيقى) بوصفها تحررًا من (الإرادة) كشر؛ فإن اللغة هي الإرادة، أي الشر الذي يُقصَد الخلاص من عبوديته بواسطة الكتابة (الثنايا والفجوات)، بالضبط مثلما تستهدف الموسيقى الانفلات من سطوة (الإرادة).
في قصتي القصيرة للأطفال (الكلمات الممسوحة) تنتقل الكلمات والحروف الخاطئة المكتوبة بالقلم الرصاص التي يمحوها ولد صغير من كراساته وهوامش كتبه إلى لغة يستخدمها ولد آخر (خيالي) هو نسخة من الطفل الذي يمسح الحروف والكلمات ويحمل نفس إسمه، وذلك أثناء تنقله بين العوالم والأزمنة الساحرة المختلفة التي يحلم الولد (الواقعي) بالسفر إليها. منذ كتابة هذه القصة والشعور بضرورة إعادة كتابتها ـ خارج الحدود الطفولية، أو داخلها بكيفية مغايرة ـ لا يفارقني مطلقًا. كأنه حلم سري بسعادة مضمونة يتجهّز للتحقق. لكن إعادة كتابة هذه القصة ـ كما أعتقد حتى الآن ـ ستتخذ ـ من ضمن تغييرات أخرى ـ مسارًا عكسيًا؛ إذ ستتبادل الكلمات والحروف مواقعها؛ فما سيتم محوه هو الكلمات والحروف الصحيحة. إنه تأكيد على العداء الأوديبي لأبوية اللغة، الانتقام الذاتي من الخذلان في مواجهة لاهوت الألفاظ. كان التفكير في (الأخطاء) المقصودة داخل القصة يتعلق بالآثام التشكيلية للكلمات، بقدر ما يشير أيضًا إلى القواعد، وإلى تلك الكلمات المتنافرة مع محيطها، أي القادرة بشكل من الصدام والتخاصم على إفساد الفهم والإنسجام لما يُفترض أنه سياق محكم. في إعادة كتابة القصة ربما سيتم التركيز على أخطاء القواعد وتدنيس النسق اللغوي أكثر من جروح التشكيل، وفي ذلك شكل من الخضوع اللازم للغة عند مقاومتها. في القصة الأولى لم يكن هناك تحديد لماهية الآثام التي يتم مسحها وهو ما كان يُبقيها متاحة كليًا للتخيل دون قطع الطريق الذي يمكن أن تسلكه هذه الفكرة نحو الإدراك، أما في القصة الثانية (إعادة الكتابة) عندما يتم محو الكلمات والحروف الصحيحة، وتحويل الآثام إلى متن فهناك حتمية لاستخدام كلمات صائبة تشكيليًا بقدر الإمكان، تفاديًا لخسارة الاستيعاب ـ أو تقليصًا لاحتمالاتها المتوقعة ـ الناجمة عن تخريب رموز التفاهم المتفق عليها داخل النظام المهيمن للغة. يخطر في بالي على سبيل المثال الغرابة التحريفية لتقاليد الكتابة عند (جيرترود شتاين)، والتلاعب بالتراكيب اللغوية في أعمالها، كأنها إعادة إنتاج للإشارات المتناثرة في اللاوعي، أو كأنها تصوغ أدبيًا تمييز (جاك لاكان) بين (تصورات الكلمات) التي تشير إلى النظام ما قبل الشعوري، و(تصورات الأشياء) التي تشير إلى اللاشعور، أي التمييز بين تطابق الدال والمدلول، والدلالات الخام المفتوحة لكل المعاني.
الصمت
(وألطف الشعر يفقد سحره مع الزمن. حتى بالنسبة للإنسان الذي كتبه. لكن هذا هو أقرب ما يمكن أن تصل إليه متعة الخالدين في عالمنا هذا غير الكامل) .. هكذا كتب الناقد الإيرلندي (فرانك أوكونور) في كتابه (الصوت المنفرد)، وهي كلمات تحمل تهذيبًا كبيرًا؛ ذلك لأن جانب من فقدان السحر يرجع إلى الهوية التي تمثلها اللغة، لآباء هذه اللغة، وبالتالي لكافة القوالب المقدسة المنذورة لحمايتها وتطويرها. إننا نستطيع أن نُعرّف اللغة من خلال القمع الذي يمارسه الماضي بواسطة (التبرير الثقافي) لسلطة المجتمع أو ما يُسمى كذلك. حروبه التي تخلق أجسادنا، ومن ثم تنتج النصوص (المقاوِمة) التي لابد أن تنتهي شجاعتها عند حد ما، ذلك الحد يخص الهوية، الآباء، ثقافة المجتمع، الذاكرة التي لم تبدأ بأفكار وإنما بعقائد. هذا ما قد يجعلنا نتساءل مع (زهير الخويلدي) في سياق تحليله لـ (هانز غادامير): (من رهانات الفلسفة الهرمينوطيقية عند غادامير هو جعل الفهم شرط إمكان التفاهم بين الذوات وملاقاة العالم والانتماء إلى الفضاء اللغوي المشترك عن طريق الحوار والمحادثة وتبادل الأسئلة والأجوبة، لكن ما الذي يعطي للغة القدرة والضمانة على إتقانها لفن الفهم؟ أليس الكلام حمال أوجه واللغة محاطة بالرغبة والسلطة؟ ألا يدعونا عجز اللغة إلى ممارسة النقد الإيديولوجي على الكلام المتداول كما يرى هابرماس؟). لكن النقد الإيدلوجي لن يكون منفصلا عن الكتابة من حيث الإقامة داخل (الظلال الغامضة)، و(الصدوع الملغزة)، و(الفراغات المجهولة) أو ـ بالعودة إلى (جيل دولوز) ـ الثنايا والفجوات؛ أي أن النقد الإيدولوجي ـ بطريقة أخرى كممارسة لغوية ـ سيمضي في سبيل تبدده ـ مثل الموسيقى المعادلة للثنايا والفجوات ـ أمام (الصمت). إنه الشيء الذي يبدو أكثر حالات الجسد إنعزالا عن اللغة وأكثرها ـ بالمعنى العقابي ـ رضوخًا لها. الصمت هو الإرادة تتفحص شرها، المسافة بين الكلمات ومحوها، اللاشعور ينظر في عينين عمياوين، أقصى درجات التيقن من عدم حيازة وجهة نظر العين الإلهية. الصمت كجوهر وقناع لكل ما هو متمنع، مُعجِز، أي ما هو ليس بمعرفة، ولا يمكن تفكيكه، وكشف دوره في الكذب كما ذهب (جاك دريدا) في (تاريخ الكذب).
ماذا نعرف عن أزلية اللغة: (الخليل بن أحمد)، (الرازي)، (ابن خلدون)، (ابن الحاجب)، (الإسنوي)، (دي سوسير)، (آرييل مانتو) بطلة رواية (نهاية السيد واي) لـ (سكارلت توماس): (هل يمكن خلق شيء ما في اللغة بشكل منفصل عن مستخدميها؟ هل يمكن أن تصير اللغة نظامًا يتوالد ذاتيًا ...) .. هكذا يمكن أن نفكر في أبدية محسومة للاهوت الشر.
مجلة (تراث) ـ إبريل 2017
اللوحة لـ Fabian Perez

الأربعاء، 5 أبريل 2017

«هيا نشترِ شاعراً» لأفونسو كروش ... طغيان السوق

يبدع الكاتب البرتغالي أفونسو كروش في روايته «هيا نشتر شاعراً»، الصادرة حديثاً عن دار مسكيلياني للنشر، بترجمة عن البرتغالية لعبدالجليل العربي حياة تهكمية من الأرقام، مشيّدة بالكامل على حسابات الربح والخسارة، إذ تعيش أسرة ما وعلى نحو تام كاختزال بشري لجوهر السوق. لكن هذا التجسيد للوحشية الاستهلاكية يمكنه من جانب آخر أن يعطي تصوراً ملهماً عما يعنيه هذا الطغيان الرقمي، إذ إنه يمثل الشروط المثالية للسجن، فحياة السجين تتحوّل إلى هوية عقابية من الأرقام بدءاً من اسمه، مروراً بالمساحات التي يتحرك خلالها والعناصر والأشياء التي يستعملها، وليس انتهاءً بعدد الساعات التي يقضيها بحرية مسلوبة. هذا ما أنجزه كروش في روايته بمنح البشر أرقاماً بدلاً من أسمائهم، وتعيين طبائعهم، ومواقفهم من العالم بوصفها صراعاً آلياً للاستفادة والاستغلال، يُقدّر خيره وشره وفقاً للغنائم العددية، بالتالي يستبعد كل ما لا يخدم هذا النوع من العماء القيمي. كأننا أمام سرد يدفعنا إلى التفكير في الوجه المقابل للتحقير الاستهلاكي للفن والخيال، أو ما يبدو أنه الملامح الحقيقية لهذه الفكرة، والمقصود هنا التحقير الذي يمارسه الاستهلاك نفسه تجاه ممارسيه. الضحايا المسجونون داخل حرية مخادعة، تُزيف استعباداً غير محسوس للبشر الذين يتم إجبارهم بسلطة الرفاهية النهمة على نمط قهري موحّد للعيش.
(استهلك أبي عشرين غراماً من القهوة عند باب المطبخ، وقبل أن يترك على وجوهنا مليغراماً أو ميلغرامين من اللعاب، أو من القبلات إذا أردتم أن نستعمل عبارة شاعرية، قال بصوت عال: نمو وازدهار. فأجبته بالأسلوب نفسه).
في هذه الرواية القصيرة (82 صفحة) تطلب طفلة مراهقة (12 سنة) من والديها الحصول على شاعر، بالضبط مثلما يشتري الآخرون القطط والكلاب ويقتنونها في بيوتهم. ينضم الشاعر إلى قوائم الماديات المستخدمة في حياة هذه الأسرة التي تُقاس أفكار ومشاعر أفرادها بالكميات والفوائد، ولا تشير اللغة المتداولة بينهم سوى إلى التعريفات المباشرة للموجودات، أي تلك التحديدات الجامدة التي يمكن بواسطتها إخضاع قيمة هذه الموجودات لإمكانية النفع الملموس من عدمه. كأن منزل هذه الأسرة ليس أكثر من بورصة صغيرة. (أخي سخيف بدرجة فظيعة. يلبس حذاءً قياس 44، ولديه فقاعات يتراوح عددها بين الثلاثين والأربعين على وجنة كل خد. هذا من دون أن نأخذ في الحسبان الجبين والذقن والأنف. يضع نظارات، ويكاد الحاجبان يختفيان بسبب قلة الشعر، وعندما يتكلم يقول أشياء غريبة من قبيل «عَجّلي» أو «لا تكسري محفظتي» (يعني أنني أصيبه بالملل) أو «رفّعي لي في نسبة الضرائب» يقولها كثيراً عندما لا يفهم ما أقول له ـ حصل ذلك مرات لا تحصي ـ أو عندما يكون مغرماً بفتاة).
تتحوّل القصائد التي يقولها الشاعر إلى لغة غريبة، غير مفهومة في وعي أفراد الأسرة، كأن أجسادهم الأشبه بماكينات إحصاء وقياس لا تمتلك الخاصية اللازمة لاستيعاب غرض آخر لا يتكوّن من أرقام، بالضبط مثلما تحاول أن تفتح ملفاً ببرنامج غير ملائم له، فتحصل على رموز مبهمة. لكن تأثير الشعر يتسلل تدريجياً داخل حياة هذه الأسرة، وتبدأ أفكار ومشاعر أبنائها في الانحراف عن تعبيرات (السوق) نحو الاستعارات، وذلك بعد اكتشافات متواصلة لاحتياجهم إليها. (من دون استعارات ليس من الضروري الكلام. أنا أستطيع أن أقول إن النافذة هي النافذة، ولكن كل الناس يعرفون ذلك. بواسطة الشعر أستطيع القول إن النافذة هي قطعة من بحر أو قبّرة تطير. أكاذيب. في أغلب الأحيان هي الحقائق الوحيدة).
إن ما يمكن أن تقترحه هذه الرواية للتأمل هو الأشكال الأخرى للاستهلاك التي لا تخضع إلى الاستعباد الرقمي التقليدي. أقصد هنا آليات التلقي والنقد التي تتعامل مع الفن كشيء عديم المنفعة إذا لم يحقق أهدافاً أو تأثيرات محددة، وهو الأمر الذي تدخل في نطاقه على سبيل المثال الرسائل الأخلاقية، والعواطف المتوقعة والمضمونة، والاستفادات المعرفية المباشرة، والأنظمة السردية المتماسكة المنطوية على صور من الحبكة يسهل الإمساك بخيوطها، وكذلك الغايات المثالية، والمعاني الواضحة، والبلاغة ذات الرونق الموسيقي المنضبط. إن حسابات الربح والخسارة لا تتعلق فقط بالغنائم العددية وإنما بالأطر والقوالب المتزمتة التي يُخضع أصحابها الفن إلى شروطها، فإما أن يتوافق وينسجم معها (الربح)، أو يتنافر ويتخاصم مع هذه الشروط (الخسارة).
(يقال في بعض الأحيان إن الخيال هو هروب مزعوم من الواقع «وكما قال إليوت، الإنسانية لا تتحمل كثيراً من الواقع»، كما أنه لم يصل إلينا أو أنه آلمنا ولذلك نحتاج إلى قليل من الخيال، كحاجتنا إلى المخدرات والترفيه. إذ يمكننا أن نكون نفعيين أكثر ونكتشف في الخيال نفعية أكبر غابت عن عالم النفس الذي يحدثنا عن الفظائع والمظالم. الخيال ليس هروباً من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاماً مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية).
هكذا أنهى أفونسو كروش روايته بما يشبه الخاتمة كتقرير دفاعي عن الخيال، وهو وإن كان يؤكد على أهميته- أي الخيال- في التطور البشري فإنه يضعنا في مواجهة الحدود الصارمة والمغلقة للذات، الأبعد من كونها نتيجة للنفعية الرأسمالية، والتي نجابه من خلفها الحضور المختلف للآخر، المصنّف كوجود عدائي، مهدد، ليس لعدم قابليته للاستغلال في الحياة، وإنما لعدم القدرة على استهلاكه خيالياً أو ضمن الفن نفسه الذي وضعه كروش كجبهة مضادة للهيمنة النفعية.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 4 أبريل/ نيسان 2017

الثلاثاء، 4 أبريل 2017

اللغة في آخر البئر

تنتمي رواية (أخيلة الظل) لمنصورة عز الدين، والصادرة حديثًا عن دار التنوير إلى ذلك الفضاء السحري الذي يدفعنا للتأمل على نحو نقي في ما يمكن أن يعنيه الخيال والكتابة كلاهما للآخر. القراءة هنا ليست إعادة كتابة بل كتابة أصلية للنص ذلك لأن التفاصيل الروائية ليست ناجمة عن الكتابة بل هي الكتابة ذاتها، أي أنها الفعل الكتابي الخام، المشغول بنفسه قبل أن يتحوّل إلى معطيات سيتم لاحقًا الاشتباك معها وخلخلة نظامها. نحن نعبر المدى المراوغ الذي يستطيع أن يجعل كل شيء يبدأ بهذا التحريض الشهواني: (تخيّلوا معي).
الخيال في الرواية قوة طاغية لا تتعطل من خلق الاحتمالات، وتنطوي بداهة على إمكانية الاستمرار في تطوير صورها دون توقف. هذا التوالد القهري تتكفل الكتابة بحمايته من الثبات، وتحافظ على بقائه منذورًا للمحو. يمكننا التفكير في هذا المحو باعتباره قابلية التبدد طوال الوقت بأشكال متغيرة ولانهائية. الكتابة إذن بوسعها أن تمنح تعريفًا للضياع بأنه القدرة الدائمة على أن يظل الاحتمال مراقبًا لكينونته، أن يتتبع تناثرها واختفاءها وإعادة تجسدها بشكل متواصل. يبدو الأمر أشبه بفقدان محسوب للذاكرة، ذلك لأن كل تعمية يتم تعويضها أو استداركها في تمثّل آخر مختلف، وهو ما يجعلها بالضرورة لعبة حضور وغياب، أو طريقة مثالية لتشريح كل ماض. هي الحالة التي يمكن اعتبارها درجة القرب القصوى من هذه السطور التي كتبها (آدم) في قصته (ناسك في غابة):
(فضّل أن يكتب نصوصه في الهواء، أو يخطها على الرمال بيد مرتعشة، ويسارع إلى محوها في الحال. على طريقته الخاصة وبطقوس غير مفهومة لسواه، أخذ يمجد الفناء ويتعبّد في محراب العدم. لطالما كان وسوف يظل ابنًا مخلصًا للعابر والمتطاير).
هناك مقارنة أجدها ملفتة بين كسر كاميليا للمزهرية الثمينة التي تمتلكها أمها في (أخيلة الظل)، وتضييع هدير لخاتم أمها في رواية منصورة عز الدين السابقة (جبل الزمرد) .. أفكر في الكسر والضياع كفعل واحد يمثل بداية تصدع العالم، الشرخ الطفولي الذي سيمتد ويتسع لتتحول الحياة بعده إلى فقد متواصل. يصبح هذا الفعل أيضًا في الروايتين إشارة لسفر، للقاء غريب في مدينة بعيدة، للبحث عن الحكايات التي يمكنها أن تعوّض هذا الفقد في نسخ مختلفة من الذات. للقبض على أسلوب ما لتغييب هذه الحكايات، واللعب بالتخلي سعيًا وراء حكاية أصلية مبهمة، والهروب منها.  سنلاحظ أيضًا حضور الشخصيات والعوالم الموازية، وكذلك التكرار في الروايتين كصيغة جمالية لإعادة التأسيس المستمرة، وهو ما يفجر بالتالي هواجس المطابقة والتماثل والتحريفات بين النسخ. في الروايتين أيضًا هذه الروح الكونية التي ترتحل داخلها منصورة عز الدين مع الاختلاف بين الجوهر الأسطوري لـ (جبل الزمرد)، والحلمي أو التخييلي / الكتابي في (أخيلة الظل). تكتب كاميليا حكايتها بنفسها وعبر شخصيات أخرى، أي تمارس تحريفها الخاص قبل أن يحدث بفضل اللاحقين. تراقب عملية التدوين لهذه الحكاية، كأنها ـ أي كاميليا ـ تتصرف وفقًا للحكمة ـ أو هكذا تبدو ـ التي اكتشفتها هدير. لننتبه كذلك إلى أن شظايا الكريستال حاضرة مثلا في علاقة أولجا وفلاديمير، كأنما فكرة الهوة تعلن عن نفسها دائمًا بهذه الشظايا أو ما يعادلها.
(أغمضت عينيها فواجهتها هُوّة سوداء تتسع داخل جسدها، التهمت في البداية الرحم، ثم المبيضين والكبد والكليتين، فارتجفت كاميليا وحدّقت في الغيوم المنسحبة خوفًا من أن تتضاعف الهُوّة وتطرد قلبها من تجويفه، خُيّل إليها أن السُحب ترسم صورة طفل يحبو، فامتنعت عن النظر لأعلى).
أفكر في أن الاستغراق في تأمل مساحة صغيرة من الأرض بين قدمين متباعدتين هو إغلاق الجسد على وعي سيحفر عميقًا في الداخل عند هذه اللحظة بالذات. هو وقت التنقيب إذن، طقس انفصال يأخذ (هنا والآن) لأسفل، وراء طبقات الذهن. كأنه شكل من التصالح مع التشويش الباطني، حيث يمكن الحصول على إدراك أكثر تركيزًا لما هو ضعيف وشاحب، بإقصاء ما هو قوي، وساطع، أي أنه إدراك أقوى للحقيقة الذاتية.
(حتى ذكرياته، لا ينحفر منها بداخله إلا أشدها خفوتًا وهشاشة. من طفولته تحضره فقط الروائح والانطباعات والأحاسيس، وتغيب الحوادث الكبرى. لا ينساها بالضرورة، فما زال يفخر بذاكرة متقدة، فقط لا تلح عليه، ولا يستعيدها مرارًا كعادته مع التفاصيل الهامشية).
تتحرك الظلال في رواية منصورة عز الدين كأن حياتها تقوم كليًا على العلامات التي تنتجها لتؤكد من خلالها هويتها كظلال، كاحتمالات خاضعة للتبدّل، ليس هذا فحسب، بل وتنطوي هذه العلامات أيضًا على استعداد كل ظل لأن يخلق ظلالا أخرى. هي صيرورة تكاثرية إذن. تناسل مطلق للاحتمالات، حيث يولد الظل من ظل آخر إثر مفارقة، احتياج، شرط مبهم لا ينبغي أن يُطالب بإثبات منطقيته، ذلك لأننا نتحدث عن شيء بعيد عن الحبكة، وعن الأبنية الحكائية الملتزمة بتبرير مواقفها. كل نسخة تبدو كأنما تخوض مغامرة أبدية لاكتشاف ماهيتها، لحل لغزها الخاص بواسطة ردم فجوات النسخ الناجمة عنها، أو بالأحرى الكامنة فيها، سد ثغراتها بكيفية لا تبقيها عالقة بها، بل تساعد على تجاوزها لمواصلة رحلة يجب ألا تكتمل. من هنا يمكن التطلع إلى كاميليا ليس باعتبارها ذات تعيد خلق نفسها في حكايات الآخرين، ورؤية ما فقدته ـ أو أوهامه ـ في صور مختلفة (الأب، دولت، منير، فريدة، آدم، روز، آميديا) ، أو أن (أولجا) تقوم بذلك أيضًا في حكاياتها فحسب (ساندور، فلاديمير، إيفان) بل إن كلا من كاميليا وأولجا تمارسان هذه الإعادة للخلق، وملامسة الفقد في حياة الأخرى، داخل كل شخصية تبدو للوهلة الأولى أنها تخص إحداهما فقط. كأنه نوع من التخاطر الذي يمتلك شفراته الخاصة ويتيح لهما استدعاء قصص، وجوه، مشاهد مبتورة، جزئيات عابرة، ولحظات تبدو هامشية، لتكوين حلم مشترك يتيح لكل امرأة منهما أن تحضر فيما يُعتقد أنها ذخيرة الأخرى. هناك دائمًا رجل وامرأة يعيدان دائمًا أسطورة خلق العالم عبر نسخ / ظلال أخرى لهما. رجل وامرأة ترتب منصورة عز الدين موعد لقاءهما عبر تخيلات وأحلام متواصلة ومتداخلة، لا تهمد، كأن كل موعد انتهى قبل أن يبدأ. لابد أن يكون هناك أيضًا طفل يموت، أو يُفقد بشكل أو بآخر.
(ليس الأمر أنها كانت تتبرأ من أهلها، أو لا تحبهم كفاية. كانت فقط مسحورة بتخيل فضاءات أخرى، إمكانيات وخبرات تتيحها لها أحلام يقظتها وأكاذيبها).
بالتمعن في الخبرة التي يستعملها الخيال؛ يمكننا مقاربتها بوصفها اقتفاءً للأثر. لكن الذات ـ وهي غير مركزية حتمًا، حيث لا توجد بداية أو نهاية، وإنما إرث مشتت من الدوائر المتقاطعة ـ لا تمارس الذات هذا الفعل كنوع من التماهي مع خطوات الآخرين، بل كأنها تؤدي نفس الخطوات التي سبق أن حققتها ولكن في حيوات أخرى، وهي بذلك تقتفي أثر نفسها، كأنما تجرّب وجودها للمرة الأولى، حيث كل خطوة بمثابة وعد ببداية ما تقاوم الذاكرة. هكذا يمكن لكل ما هو خارج الذات أن يكون فاعلا في هذه الخبرة، أي أن يكون ظلا: المدن والبيوت والأشياء. هنا يمكننا تفحص الخيال باعتباره الحضور المستقل للظلال. العوالم المنفصلة لعناصر الماضي التي تحلم بنا. هذا التواطؤ بين البشر والمدركات الملموسة الذي ينجزه الخيال عبر المناورات الزمنية والمسارات المقنّعة، كأنه محاولة للوصول إلى المشهد المصيري الذي يرسل أشلاءه وشظاياه داخل الأحلام.
(الشخصيات الفنية هي ما يغويها، لا مبتكريها من الكتّاب. ليست لديها أوهام رومانتيكية عن عباقرة الكتّاب. على العكس، تؤمن تمامًا بأن بداخل كل منهم وحشًا يتغذى على ذاته والآخرين. معظمهم قاتل متسلسل، والإبداع وسيلته للتوازن أو للإيغال في تدمير الذات).
هناك حسية فائقة في سرد منصورة عز الدين لا تكمن في الإحاطة المهيمنة أو التشريح المجهري للتفاصيل، بل بدرجة أعمق في ضبط إيقاع الكتابة على تفاوت الشعور بالألوان والروائح والمذاقات والملامسات والأصوات. يتوحد السرد بالمكوّن الحسي المرصود نفسه، فلا يكون مجرد وصف له، الأمر الذي يجعلك ترى أضواء وظلال الموجودات والظواهر بمستوياتها المتباينة، وهو ما يحدد فاعليتها في الخبرة التي يستعملها الخيال كما سبق وذكرت، فضلا عن تكريس استقلاليتها.
(أسرته الفكرة لفترة: لغة تنكمش حتى تغرق في الصمت والسكون ويستعيض متحدثوها عنها بالإشارات. لغة تتلاشى، لا ريب، بما أنها محدودة، وبما أن الموت حدث يومي. ذكّره هذا بجدته، بشكل ما، بدت له كأنما كانت تنتمي إلى هذه القبائل وتحذو حذو أفرادها).
تكمن هذه الحسية أيضًا في تجسيد الانفعالات لا تمريرها، وذلك بواسطة التحكم في تدفق اللغة، الذي يمكن بطريقة أخرى أن نعتبره ترسيخًا متنوعًا لطبقات الحكي: الجُمل القصيرة، كأنها اختلاس للنظر، أو إخفاء للسر. الكلمات المتلاحقة في عبارة طويلة، كأنها زفرة مثقلة تتدافع في نَفَس واحد، أو كأنها ردم محموم للهوات السوداء التي تتسع داخل الأجساد. التأرجح. التمهل. التكرار لتأكيد شعور معين والاستمرار في مواجهته. الجموح الذي يقوده الثأر، أو محاولة التخلص سريعًا من حصار ما.
(تحمله ضلالاته إلى أرض أخرى. يرى نفسه فوق قمة جبل والسحاب تمر بجواره حيث يمكنه الإمساك به لو أراد، تزوره غابة أشجارها على وشك التجمد من شدة البرد، وفي بدايتها كوخ صغير ـ تغطيه من الخارج نباتات متسلقة بزهور أرجوانية وحمراء ـ ويخرج منه رجل وامرأة منشغلان بنفسيهما عمّا حولهما).
ربما نتصوّر أن جميع الأصوات داخل (أخيلة الظل) كأنما هي نبرات متعددة لصوت واحد، غامض، يخص ذات كونية تريد إيجاد تاريخها عبر الشخصيات والأزمنة والأماكن، أو عبر التبادل القائم فيما بينهم بشكل أدق. ذات عالقة في وضعية عابرة، تتخيل، داخل خفاء ما، أو أنها تخلصت من نفسها، أو ربما تعيش فناءها داخل هذه الظلال التي تحاول الكتابة مراقصتها. حسنًا، يبدو أن أحد الاستفهامات الأساسية للرواية تتعلق بهذه الفكرة: هل في الرقص الذي تؤديه الكتابة مع الظلال بلوغ غاية أم منعها، أم تأجيلها أكبر وقت ممكن؟.
(لا دليل على ماضيه، سوى ارتعاشة يد الماكيير، وهي تقترب من وجهه. ولا ضمانة لحاضره، سوى انغماسه في أداء دور لا يدرك أبعاده).
تمثل الأخيلة نوعًا من الوفرة التي لا تنبعث فقط كصلات غير مباشرة بين ظلين، بل تقتحم الأطياف الجدلية للظل كافة الظلال الأخرى، وهو ما يؤلف اندماجًا وتخطيًا للذكوري والأنثوي في هذه الظلال. كأنه طريق يُمهّد تدريجيًا عبر نسخ تمزج بين الطبائع المتنافرة نحو تجانس ما، مخيلة موحدة تستوعب جميع الظلال، وبكيفية تبقيها منفلتة من الأطر النمطية. كأن الظل يسعى لتجميع غنيمة عند حافة ملغزة، متجهزًا لعبورها، كي تكون خارج السياق المفترض لذاكرته. سرقة المتوقع وتحريره من المسالمة كنسخة وحيدة قادرة على خيانة الجميع.
(ثم كأن رسامًا بدأ يرسم الملامح المفقودة، ظهرت لها عينان، تلاهما أنف، حاجبان، وفم. كف عن أن يكون وجهها الأليف القديم. رأت نفسها فريدة وهي تتمسح في منير ويتلوّى جسدها في حضنه بحفلة ما، ثم صارت أمها وهي تفرد أوراق "التاروت" أمامها، ثم تعبس حتى تنحفر تجعيدتان بين حاجبيها وتزم شفتيها مترددة هل تعلن ما باحت به الأوراق أم تتحايل وتلطّف تنبوءاتها).
أين تنتهي الأخيلة؟ .. أفكر في هذا التساؤل كأنني أنظر في بئر كالتي كانت حاضرة في لقاء كاميليا وآدم. كأنني أراقب غرق الظلال في هذه البئر. في غرق اللغة، وفي ما الذي يمكن أن يوجد في آخر البئر. أفكر في كتاب له أثر الفيضان كمقابل لكتاب منقذ كفلك نوح. لأنني أقرأ رواية منصورة عز الدين ببصيرة تعيد التأمل فيما يسمى بـ (الواقع) كسلطة لغوية محتومة، تم تقديس عدائيتها أو تناقضها ـ على الأقل ـ مع سلطة لغوية أدنى وهي (الخيال). الضوء في مقابل الظل. إذا كان على (أخيلة الظل) أن تبدأ بـ (تخيلوا معي) فإن ذلك أدعى حقًا بكل ما هو مؤكد، ومحسوم، ومصدّق تمامًا خارجها، أي ضمن حدود هذا (الواقع) أن تبدأ كل استعادة له بهذا التحريض الشهواني.
موقع (الكتابة) / 31مارس 2017

الأحد، 2 أبريل 2017

حارس الفيسبوك‮:‬طقوس العقاب

اتبع شريف صالح في روايته "حارس الفيسبوك" الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية استراتيجية يمكن تسميتها بـ "التصاعد المعاكس" حيث يبدأ السرد من حدثه الأخير، أي الفصل رقم 36 والذي يحمل عنوان "تقرير موقع "فيروس"" ثم يأخذ مسارًا مضادًا حتي الفصل رقم 1 الذي يحمل عنوان "يوم القيامة الافتراضي". هو تصاعد لأن كل خطوة داخل هذا السياق تأخذ شكلا تراتبيًا كاشفًا لما لم يكن متعينًا في الخطوة السابقة، كما أنه معاكس لأن السياق يخلو من الانقطاعات الزمنية التي تُعطّل تدفقه من النهاية إلي البداية، وهو بذلك يختلف عن "الفلاش باك" حيث أن الماضي ليس مستعادًا هنا داخل لحظات فاصلة من الحاضر "راهن السرد" ستواصل علي إثره التقدّم نحو المستقبل لتستكمل التسلسل المنطقي للأحداث.
إذا أردنا تحليل هذه الاستراتيجية التي اتبعها شريف صالح فإن بإمكاننا تحديد وظائفها الجمالية فيما يلي:
أولا: إنها لا تجعل من "القيامة الافتراضية" نبوءة مستقبلية في الوعي بل حدث تم في الماضي أو تحديدًا في خفاء الماضي إذ يخلو الحاضر "هنا والآن" من توقع حدوثه أو من الترتيبات التي تمهّد لحدوثه رغم أن الوجود الحالي للكينونة قد تحقق بفضل هذا الحدوث السابق والمعمي.
ثانيًا: إن هذه القيامة ليست حدثًا مستقلا منفصلا عن ظواهرها ـ التي تبدو كتمهيد لها وكنتائج ناشئة عنها في نفس الوقت ـ حيث يُعاد إنتاجها كصيرورة تكوّنهاالتحولات مختلفة التفاصيل لشخصيات مستخدمي الفيسبوك وعلاقاتهم.
ثالثًا: لا تضع هذه الاستراتيجية ما أُطلق عليه "القيامة الافتراضية" داخل ما يبدو أنها "الأحداث الكبيرة والفارقة في الواقع" وحسب، بل تتحكم في متغيراتها ـ وبشكل أعمق ـ ما يُعتقد أنها أداءات أقل تأثيرًا مثل "اللايك" وكتابة "البوست" والتعليقات والرسائل والمحادثات ... إلخ. كل فعل "فيسبوكي" هو إشارة القيامة وتجسيد لحتميتها، كما أنه محرّك الإنهيار للصور المماثلة لدي الآخرين الذين يشتبك مع حيواتهم من خلالها. إذا تعاملنا مع هذه الممارسات الافتراضية بوصفها أدوات سلطة فهذا إنما يرجع إلي طاقتها التدميرية التي تنتشر عبر العناصر المتواطئة داخل العالم الذي يقدم نفسه كطبيعة "تواصل".
رابعًا: تعتبر الصيرورة هنا نوعًا من قراءة التاريخ المتجاوز للحدود الافتراضية في ضوء هذه "القيامة"؛ إذ ستكف شخصيات الرواية عن أن تكون تمثيلا لذواتها بل ستتحوّل إلي احتمالات تجريبية للذاكرة التي تنتمي إليها. إلي أشلاء لمطلق يراقب ويعدّل ويطارد المعاني داخل الصور التي تحاول تجسيده وهي تقاومه ـ غريزيًا ـ في الوقت نفسه. تتجرد الشخصيات من ثباتها القيمي، ولا تُكرس لمعرفة بقدر ما يمكن أن تكون القيامة الافتراضية وسيلتها للمحو وللتفاوض علي سُبُل متخيلة للهروب من أنساق اختزالية تم تفتيتها سلفا قبل أن تُعاش ـ بصدق تام ـ كهويات أصيلة للوجود.هكذا يمكننا أن نعطي التعريف الأشمل للقيامة، وبالتركيز الضمني والأساسي علي الطابع العقابي لها.
""يوم القيامة الافتراضي" كما أطلق عليه المستخدمون. فجأة اختفي كل شيء تحت سيل الإعلانات. نقاط زرقاء راحت تتحرك فوقها أيقونة بحجم فراشة، تشبه امرأة عارية. وقد حذر خبراء أمن المعلومات من أيقونة تلك المرأة الزرقاء؛ لأنها تحمل فيروسًا بالغ الخطورة".
إن الأبواب الزرقاء التي نعبر من خلالها نحو مصادفات الفيسبوك ليست مجرد وسائط، وإنما عقول اقتحامية تتشكل أفكارها في أجساد مستخدميها؛ وبالتالي فإن هذه الأجساد حينما تعود إلي "الواقع" لن تكون مشاعرها هي تلك التي كانت عليها قبل هذا الاقتحام، بل ستحصل نتيجة لذلك علي أفكار عقلية جديدة. بمساءلة الميتافيزيقا؛ هل كان يمكن لـ"سبينوزا" علي سبيل المثال وفي هذه النقطة تحديدًا، باعتباره العقل والجسد صفتين لجوهر واحد، أن يتوقع قابلية ذلك الجوهر لتصدع كهذا، أو للكشف عن تصدعه بواسطة هذه الأبواب الزرقاء؟. إن هذا الاستفهام لا يتعلق بمستخدمي الفيسبوك، بقدر ما يتعلق بالأنقاض الميتافيزيقية التي بُنيت عليها فكرة الفيسبوك نفسها.
"من وحي هذه الحالة كان أول ما كتبه في صفحته الجديدة مقطعًا مما يسميه "شعر إلكتروني" .. طالما يوجد مخبر إلكتروني وحب إلكتروني فلماذا لا يكون هناك شعر إلكتروني؟! "الفيسبوك يأكل دماغك بهدوء / وإذا نسيت "الباسوورد" / سوف يغتالك / ثم يخترعك من جديد / يخلق منك نسخًا لانهائية / مثل صانع مفاتيح / يهدي الآخرين كل المفاتيح المحتملة / للوصول إليك"".
بالعودة إلي الطاقة التدميرية لأداءات الفيسبوك ربما علينا أن نقوم بتشريح هذا الرابط بينها والتحظيرات الفرويدية؛ فالواقع "اللافيسبوكي" ـ إذا جاز لنا أن نطلق عليه كذلك ـ مع الخلخلة القهرية لما يُسمي بالواقع الافتراضي قد أصبح بمثابة بنية انتهاكية لنفسه، تحكمها الخبرات العدائية المتصارعة لتشتيت الأنماط أو لما يسعي لأن يكون نمطًا، وبالتالي ـ وهنا يكمن ما أراه جوهر العلاقة بينها والتحظيرات ـ تتحوّل إلي بنية فضح للتحظير والميل في نفس الوقت. كأن "الفيسبوك" ـ وهو ما يمكن ملامسته في الرواية ـ قد أصبح لا شعور الواقع، أي أنه فضاء مفتوح"كولاج متناثر" من التحظيرات والتطهيرات واللذة، ومن هنا، وبواسطة القيامة الافتراضية في "حارس الفيسبوك" يمكن تتبع الطرق العديدة لعمل "الكبت" أي تنحية اللذة من "الواقع" إلي "الرسائل والمحادثات" قبل استردادها ثانية، وهو ما يضمن استمرار التحظير والميل في الوجود. إن الطبيعة المتشظية للعالم الافتراضي التي تعامل معها "شريف صالح" قد تطابقت علي نحو ملفت مع "الموقف الازدواجي" للفرد أو محاولات تسوية التعارض بالمعني الفرويدي بين الفعل والخوف من الفعل واستبداله بأفعال بديلة، كأن متاهات الفيسبوك ليست أكثر من الخطوات والأهداف المتفاوتة "ربما تتدرج بحسب القوة المباشرة أو الرمزية للصور الواقعية والمزيفة، وكذلك للغة المستخدمة بحسب مرورها في الصفحات الشخصية أو العامة" التي يخطوها الليبيدو المكبوت من "الواقعي" إلي "الإفتراضي". هل "الفيسبوك" هو الفضاء الأقل عدوانية الذي تخفت خلاله حدة التحظير في القيام بتشديد جديد أثناء مقاومة الرغبة له؟. ربما يمكن للرواية أن تعطينا إلهامًا للإجابة علي هذا الاستفهام من خلال العنف "خارج" الفيسبوك أكثر مما هو داخله.
"ولم يكن علي نجيب ليفوت فرصة المشاركة في "الهاشتاج": "اسمحوا لي بسؤال يا أصدقائي: لماذا يستثار فضولنا لدخول الموقع كل لحظة وكتابة كل ما يدور في وعينا؟! أليس ما نمارسه أشبه بعرض "إستربتيز"؟! كل منا يمارس رقصته المفضلة".
هناك نوع من المشابهة العامة في طبيعة الاستجابات لدي شخصيات "حارس الفيسبوك"، فهم ـ رغم ما قد يظهر كتباين في سلوكياتهم ـ يبدون كأنما ينفذون أمرًا ما، يؤدي كل منهم دورًا خاصًا ومنسجمًا مع الأدوار الأخري لإنجاز مصير قدري عام، ومحدد. هذا المصير ـ إذا تم تعديل مسار السرد ليأخذ الشكل التقليدي ـ ليس سوي القيامة الافتراضية التي لا يخلقها الارتجال العشوائي وإنما طقوس ستظل مبهمة. هل هي نماذج من الطقوس التطهيرية المراوغة والمستترة أحيانًا، التي يتم التكفير عن انتهاك التحظيرات بواسطتها كما أشار "فرويد"، ولكن بمنحها المزيد من التناقضات أو ما يُعتقد أنها كذلك؟. حسنًا، لنفكر في ما الذي يمكن أن تصير إليه هذه الطقوس التطهيرية مع هذا الدمج بالمتناقضات، والذي يجعلها في حالة مراوحة دائمة بين التردد والتمادي والتراجع. لنسترجع لوحات "عبد الهادي الجزار" مثلا ونقارنها بمشاهد رواية "شريف صالح" فربما نكتشف ماهية هذا التطهير. إن "حارس الفيسبوك" تقدم بطريقتها حِسّا عصريًا، مقاربًا تمامًا للطقوس الأسطورية الشعبية التي تحملها لوحات "عبد الهادي الجزار"، والمنطوية علي نفس الفكرة الملغزة "التطهير". الفكرة التي لا تسلم نفسها إلي اتجاه واحد، بل إلي تنافرات افتراضية. كأنه توسيع مستمر لمفهوم "التطهير"، حيث يمكن من خلاله أن يكون الفعل المحرّم نفسه جزءًا منه، ولا يرجع ذلك سوي لأنه يخاطب احتياجًا للتطهير أبعد مما هو ناجم عن التحريمات التقليدية. الاحتياج الذي يجابه بالعقاب "القيامة" في كافة الأحوال. إنها الفكرة التي تجمع بين ما هو غيبي وسحري وشبقي ومقدس. هذا ما يجعلني أفكر في أن الرواية هي الشكل الذي يقترح "شريف صالح" بواسطته تصورًا عما الذي يمكن أن يكون عليه الحال لو أصبح لشخصيات "عبدالهادي الجزار" حسابات علي فيسبوك.
جريدة (أخبار الأدب) 4/1/2017