السبت، 31 مارس 2018

ما لا يستعاد: انطواء اللغة


ثمة انحياز سائد في ديوان "ما لا يُستعاد" لمريم شريف الصادر عن دار الآن ناشرون موزوعون، للاستخدام المقتصد للغة، أو "المفردات القليلة التي عادت معها إلى الأرض" بحسب تعبيرها في قصيدة "لم يعد أبي من الحرب". لكننا هنا لا نتحدث عن "الكم" بل عن "الشروط اللغوية للعزلة" التي تبدو موضوعًا جوهريًا للديوان؛ فالاستعمال الإيجازي للغة ليس تقشفًا مستقلا بل انسجامًا مقصودًا وبديهيًا مع الانعزال. إنه وعي هذه اللغة بالكيفية التي يُبطن بها المجاز "مجازه المضاد"، وعلاقة هذه الازدواجية بنصف الروح الذي يختبر الوجود بين الآخرين، ونصف الروح الآخر كـ (مكان مهجور / يمر من حوله الوجود / ويمضي في طريقه).
كذلك يبدو الاستخدام المقتصد للغة كأنه يمنحها أكثر الطبائع قربًا من الصوت الداخلي للذات في عزلتها، يبدو كسبيل للإنصات إلى هذا الصوت، للتفكير في غموضه، لتشريح استفهاماته. تقوم اللغة في هذه الحالة باكتشاف الصوت الداخلي وتكريس حضوره من خلال تركيزها على النبرات الخافتة للصوت الخارجي. العلامات المسموعة "المشوّشة" لأشياء العزلة التي ربما لا يُفصح الأثر الباطني للذات عن الوجود إلا من خلالها. كأن صوت فتح وإغلاق "الباب" مثلا ـ وهو من ضمن التفاصيل أو "المفردات القليلة" التي يهيمن تكرارها في الديوان ـ لا يحدث في الخارج بل في عمق الذات. كلاهما يمكن أن يكون الصدى والظل للآخر, وكذلك يمكن أن يكون أي منهما المرآة التي تراقب فيها العزلة نفسها. هكذا يكون الصوت هو فكرة الذات عن الصمت، ليس كتوقف اللغة أو انقطاعها المؤقت عن الحدوث، بل كغيابها المطلق، كامتناعها التام عن أن تحدث.
"أشاهد آباءً وذاكرة
وأعجب، كيف يمشي جوار جسدي
ظل واحد
دائمًا ظل واحد،
ويتلكّأ".
ربما علينا التفكير في أن الاستعمال الإيجازي للغة هو إدراك مريم شريف لتلكؤ هذا الظل الواحد، لعجبها من كونه واحدًا رغم وفرة العالم التي تشاهدها، أي التي تسكنها. هو انعدام لثقتها فيما يعنيه أو يخصه هذا الظل، في ماهيته، فيما سينتهي إليه. اللغة تُرجئ ـ بكلماتها المحدودة ـ قرارها عن هذا الظل. تثبّت عدم فهمها لطبيعته، انتظارها لمعرفته. المفردات إذن هي ما يكوّن هذا الظل الذي يرى الموت في نهاية خطواته. المفردات هي التي تتلكأ لأنها لم تحسم كينونتها، لأنها لم تتعرّف على حقيقتها الزمنية، ولم تتيقن بعد من مصيرها. هي الصوت الداخلي للذات غير القادر على سماع نفسه.
"ظلت يداي باردتين
ظلت الأشجار تهتز
والأوراق الجافة تتساقط
وكانت كثيرة، وتدور حولي
أو ربما لم تكن الأشجار تهتز
ولم تكن الأوراق تتساقط
لكن يديّ ظلتا باردتين
هذا ما أعرفه
هذا ما يجعلني غير متأكدة
من شيء آخر".
تستدعي برودة اليدين ـ كشيء مؤكد وحيد ـ أن نتأمل بالضرورة في ما تسبقها من أشياء مشكوك في حدوثها. الأشياء التي لا يمكن البدء في الحديث عنها بـ (أنا أعرف). التي لم تكن برودة اليدين تالية لها بل ناجمة عنها. إذا نظرنا لهذه الأشياء غير الموثوق في وجودها كـ (أصوات) خارجية، أي كعلامات مسموعة (مشوّشة) في الداخل؛ فإن البرودة هي أقصى ما يمكن أن تصل إليه الذات في فكرتها عن الصمت الذي أشرت إليه، في إحساسها بغيابه وحضوره المتلازمين، في استجابتها لمراوغته كرجاء متمنّع "الغياب المطلق للغة"، وكواقع مُهلِك "طغيان اللغة كلما أعطت احتمالا لإمكانية امتناعها التام". إنها اللحظة الأكثر ملائمة لاستخدام التعبير القديم "الصمت البارد" بواسطة اليدين.
"بيتي الذي لم يرك
يعرفك
صامت هو هذا اليوم
قديم
وشاحب كالمرضى
بيتي الذي لم يرك
يعرف أنك ذهبت".
لا تتحدث مريم شريف عن البيت بل عن الذات التي تعيش في هذا البيت. الذات والبيت شيء واحد. البيت هو داخل الذات؛ لذا فحينما تصف هذه الذات البيت فكأنها تصف نفسها من خلاله. هذه الكتابة ليست عن الثقة بين الذات والبيت بل عن الريبة في أنهما يمكن أن يُعرّفا على نحو منفصل دون الحاجة إلى الآخر. في أن تشاركهما في تعريف واحد سيضع حدًا للشك الذي يُستخدم التكرار أحيانًا لمحاولة التغلب عليه:
"بيتي فوق تلة مرتفعة
طيلة أعوام
كان بيتي فوق تلة مرتفعة".
لاشيء يمكنه الاكتمال بنفسه، لا شيء دون نقصان، لاشيء سيمحو فقدانه مهما التحم بآخر. هذا ما يجعل مريم شريف تخرج من الوصف الظاهري: (صامت ـ قديم ـ شاحب)، إلى الوصف الكلي، أي المُسمّى العام، المؤكد، النقي من الريبة، مهما كانت الضبابية التي تحكم تفاصيله:
(الآن أعرف أن المكان
يتذكر الألم
أن المكان هو الألم).
لكن المكان ليس الألم لمجرد أنه يتذكر الألم، بل لأنه يسمح للألم أن يكونه. لأنه لا يزيح نفسه بعيدًا عن هذا الألم. لأنه مهيّأ أصلا لأن يكون هذا الألم. هذا ما يفسر الشك بين الذات والبيت، أي بين الذات وداخلها. حيث لا يوجد صيغة تعاهد بينهما نجحت في تفادي الفقدان. بهذا المنطق نستطيع أن نقول ـ مثلما فعلت مريم شريف ـ بأن اللغة هي الفقدان.
"أنا التفاصيل المهدورة
في كل ذلك
أنا الزمن الذي لم تلتقطه عيناي
من الكون
ومن قلبي،
أنا النقصان
السائر في طريقه".
في ظلام هذا الشك يمكن للعزلة أن تجعل جميع الظواهر في حالة تبادل مستمر. فالمساحات يمكنها أن تصبح أوقاتًا ضائعة، كما أن الزمن يستطيع أن يكون فراغًا مكانيًا، وإغماض العينين وفتحهما يمكنهما أن يكونا شهيقًا وزفيرًا لكابوس متواصل.
"أيها البعيد
أنت لا تقرأ القصيدة
أنت تمر بقلبي
هل رأيتني؟
على المقعد الوحيد
والطاولة المحبوسة في الضوء الخافت
في الغرفة المتسعة، فارغة الجدران، كما أرغب".
تعيدني هذه الكلمات إلى ما ذكرته سابقًا عن وجود التفاصيل وحدوث الأشياء في عمق الذات، أي أن المفردات القليلة / العزلة ليست واقعًا خارجيًا بقدر ما هي عناصر داخل الذات، وهو ما يجعلني أربط بينها وبين توظيف "الغبار" عند مريم شريف:
"لا أرى سوى المشاهد ذاتها
لنافذتي النائمة في بيتي البعيد
وهذا يجرحني قليلا
ولا يفاجئني
يفاجئني حين أعود
كم تراكم فوق زجاج نافذتي
غبار".
قد يبدو الغبار هنا ـ بالتأويل العفوي المباشر ـ تأكيدًا على الانفصال بين الذات ونافذتها؛ فالذات رغم ابتعادها ووقوفها خلف نوافذ أخرى لا ترى سوى نفس المشاهد، أما النافذة فبشكل مناقض تعطي النتيجة المنطقية ـ غير المتوقعة في الوقت نفسه ـ الناجمة عن عدم وجود الذات خلفها لفترة طويلة أي (الغبار). لكن ثمة تأويل آخر، وهو لا يستبعد الانفصال السابق بل يتضمنه، يفترض أن الغبار ليس دليلا على توقف الاستخدام بل على العكس دليلا على الاستعمال المستمر، طول الاستخدام بصورة متواصلة . يمكن النظر إلى الغبار هنا كأنه نتيجة منطقية لبقاء النافذة في عيني الذات دون انقطاع مهما اختلفت الأماكن، بالضبط كأن الغبار هو ملامح الشيخوخة لهذه العلاقة بين الذات ونافذتها، ويصبح الشعور بالمفاجأة عند رؤية هذا الغبار بعد العودة هو اكتشاف لهذه الشيخوخة التي لم يتم الانتباه لمدى فداحتها إلا بهذه الطريقة؛ الابتعاد والرجوع.
"حين أموت
أموت مثل تمثال
عاشت فيه مئات السنين
وتهاوى من ثقل أعماقه الفارغة".
تماثل قراءة قصائد مريم شريف بالنسبة لي الاستماع إلى موسيقى فريدريك شوبان .. هذا الخفوت الذي ليس همسًا بقدر ما هو كفاح لإخفاء التناثر وإثباته في نفس الوقت .. محاولة إكساب الرعشة لغة وإيقاعًا وتناغمًا لتخطيها .. هي أقرب لمناجاة سرية غير قادرة على التيقن من ذاتها .. خطاب منهك لا يقوى على الارتفاع بنبرته، ولا يريد ذلك امتثالا لوعيه بالعزلة، بلغة هذه العزلة، هو نوع من مطاردة العدم داخل اللغة من خلال "المفردات القليلة" أو "الأشياء المحدودة": الحجرة ـ الطاولة ـ المقعد ـ المصباح ـ النافذة ـ الباب ـ الفراغ ـ الشجرة ـ الليل .. المطاردة لا بغرض إثبات العدم فحسب، وإنما مجابهته أيضًا. كأن الإيجاز هو عدم التورط في السيولة الوحشية للغة التي تضاعف هذا العدم، كأنه الاستناد إلى أقل ما في هذه اللغة، أي أقل ما تنطوي عليه من عدم بالضبط كمن يستبدل الظلام الذي لا يمكن احتجازه كاملا بقطعة أو حيز من ثقله من أجل استجوابه ومجادلته والتفاوض معه. ما الذي يمكن أن يؤدي إليه هذا؟. إن مريم شريف بذلك تتحوّل من "لغة الانكماش" إلى "انكماش اللغة". الحصيلة المنتقاة من الكلمات التي تخرج بها من عدم الثقة فيما تحمله اللغة وتقود إليه إلى حياة أخرى (منعزلة) تخلق احتمالات انتقالها إلى صيرورة أخرى، مبهمة، مخلّصة بشكل ما. الاحتمالات التي ربما تمنح وجودًا حقيقيًا للتمثال، حين يمتلئ بما يُنحّي ثقل أعماقه الفارغة، أو على الأقل يضيء ظلالا مغايرة لعتمتها قبل أن يتهاوى.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 1 إبريل 2018

"إثر حادث أليم": نقلة خاصة في كتابة سيكولوجية الطفولة


نظّم المركز الدولي للكتاب بالقاهرة الأربعاء الماضي ندوة لمناقشة رواية "إثر حادث أليم" للكاتب ممدوح رزق، والصادرة حديثًا عن سلسلة "إبداعات قصصية" بالهيئة المصرية العامة للكتاب. أدار المناقشة الكاتب والناقد الكبير سيد الوكيل، وشارك فيها د. رضا عطية الناقد الأدبي بمجلة "إبداع"، ود. حمدي النورج أستاذ اللغة وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون.
كسر الإيهام البريختي .. كتابة الشطب .. ما بعد الصدمة
في البداية قدّم د. رضا عطية التحية لسلسلة إبداعات قصصية على نشر الرواية مؤكدًا أنها كتابة مختلفة، وأن ممدوح رزق كتب في منطقة هامة وصعبة، لا يكتب فيها الكثيرون. قال د. رضا أن "إثر حادث أليم" كتابة نفسية؛ إذ أنه مهما كان هناك سرد أوحكي فإن له عمق وبُعد نفسي، فمن الواضح في الصياغة السردية العناية الشديدة جدًا في رسم البُعد النفسي للشخصية، ولفعل وحركة هذه الشخصية في المشهد السردي. أشار أيضًا إلى أن أبرز ما يميز الصياغة السردية عند ممدوح رزق في هذه الرواية الحرفية البالغة في تجسيد الأبعاد النفسية للحكي وللذات المسرود عنها ولأفعالها، بدءًا من المدخل أو المفتتح حيث صوت السارد يحاول أن يسرد لنا منذ البداية أن هناك روح عدمية وحس تمردي إزاء هذا الحادث الأليم، وإزاء الحكاية نفسها. تحدث كذلك عن أنه في المقدمة هناك كثير من ملامح الكتابة المختلفة عند ممدوح رزق، هناك ما يمكن أن نسميه محاولة من صوت السارد لكسر الإيهام السردي، وهذا يناظر في المسرح كسر الوهم المسرحي حيث يخاطب الممثل الجمهور لإثارة انتباههم حول أشياء معينة في المسرحية، وهذه التقنية البريختية تستخدم غالبًا من أجل تمهيد المتلقي لأحداث بالغة المأساوية حتى لا يحدث تماهي تام مع الحكاية المسرحية بالضد مع مبدأ المسرح الأرسطي الذي يسعى للتماهي من أجل التطهر. صوت السارد يُبعد القارئ عن التماهي مع الحكاية ويلفت انتباهه إلى كونها حكاية يريد السارد أن يرويها بطريقة مختلفة. قال أيضًا أن ممدوح رزق يستعمل ما يُسمى بكتابة الشطب؛ حيث الذات الساردة تكشف عن اللاوعي الكتابي لها، أو ترددات الذات أثناء الكتابة، فهي تكشف عن تمظهرات اللاوعي الكتابي لديها، أي كتابة الكتابة نفسها، أو كيف تكتب الذات كتابتها، وهذا ما يمكن أن نلمسه في مقدمة الرواية التي تمثل مقطوعة بالغة الشعرية، وهي ما يميز لغة ممدوح رزق؛ فهناك الكثير من الروايات التي يُبالغ في تقدير قيمتها، ومع ذلك نجد أن هناك انتفاء للغة الشعرية بها تحت دعاوي عدة، ولكن ممدوح رزق من الكتّاب القليلين الذين يثبتون أن استعمال اللغة الشعرية حتى في وصف أحداث نفسية صعبة وأحداث فيها قدر من المأساوية هو إثراء للكتابة. أشار أيضًا إلى أن هناك استعمال للشفاهية في مخاطبة المتلقي، وهي سمة من سمات كتابة ما بعد الصدمة أو ما بعد الفجيعة التي كتب عنها بتوسع آيرين كاكانديز في كتاب "المتحدثون"، ترجمة د. خيري دومة وهي حاضرة في هذه المقدمة. كأن الذات الساردة حينما تروي صدمتها تحتاج إلى آخر يتيح لها عملية البحث، وكأن هذا الذات تعلن عن حاجتها لهذا الآخر حتى تبوح له بأسرارها، وبما تشعر به إزاء هذه الفجيعة، وإزاء هذا العالم الذي يحمل ثراءً شديدًا جدًا في التفاصيل، وفيه قدر ما من المأساوية في بعض أحداثه. تحدث كذلك عن أنه على مدى الرواية نجد لدى ممدوح رزق ثراءً في شعرية التفاصيل الدقيقة؛ فهناك عناية شديدة للذات الساردة في رصد النفسيات الدقيقة؛ إذ نجد ثراءً في خلفية المشهد السردي ليس فقط كتسليط ضوء على الشخصية أو الذات المسرود عنها، ولكن أيضًا عناية في رسم الأشياء الدقيقة التي تشكل خلفية المشهد، كما هناك أيضًا استدعاء للفواعل الثانويين في الرواية التي تبدو فيها الذات الساردة كأنها مجموعة من المرايا ينعكس من خلال وعيها حضور هؤلاء الفواعل الثانويين. أشار كذلك إلى أن فكرة المسودات لها بُعد نفسي، فهي تنشد الاكتمال بآخر حيث الذات الساردة لو أعادت الكتابة في وقت آخر سيكون هناك اختلاف في منظور الحكاية كما أنه ليست هناك أصوات متعددة بل صوت واحد في هذه الرواية، ولكنه صوت متشظ حيث نجد في المسودات السبع سبعة جوانب لهذه الشخصية تختلف من مسودة لأخرى. في المسودة الأولى يتم رسم الفضاء العام لهذا الطفل، ومحاولة تكوين علاقات ما في هذا العالم، والمسودة الثانية حينما يتم استدعاؤه لضرب طفل آخر تصوّر عالم الصراع الطفولي، أو القوة الغضبية في الذات، القوة المتهورة أو المندفعة لإثبات جدارتها بالقوة أو باستخدام العنف وهو جانب نفسي هام جدًا أجاد كتابته ممدوح رزق وتصوير الأبعاد النفسية للشخصية الطفولية، وهذه قيمة الكتابة وصعوبتها؛ فالرواية فيها كثير من الكتابة النفسية الصعبة والكثير من الجوانب النفسية المتعددة لهذه الشخصية. تحدث أيضًا عن أن البنية السردية في الرواية مع تقسيمها لمسودات فيها نوع من التشجر (توزيع الأبعاد النفسية للشخصية)، وأيضًا نوع من التضام والترابط، حيث لكل مسودة نسق حكائي مكتمل وبنية مكتملة، وكذلك (التضام) حيث المسودات السبع التي تمثل سبعة أبعاد نفسية للشخصية فهناك الشخصية الواحدة التي تحكي عن أشياء مختلفة، كما أنه على امتداد الرواية نجد اللغة الشعرية حتى في وصف الأشياء، حيث هناك "تزويت" للأشياء؛ فتبدو الأشياء التي تتناولها الذات عبر وعيها كأنها "ذوات"، هذه الذوات مصبوغة بمشاعر نفسية للشخصية الساردة نفسها. أكد د. رضا عطية أن كتابة ممدوح رزق استطاعت باقتدار كبير جدًا إبراز سيكولوجية الطفولة، وأن من أهم العناصر أو المتغيرات في سيكولوجية الطفولة هو وعي الذات بالزمن، وهذا وجدناه في كتابات كثيرة مثل "الأيام" لطه حسين، و"خارج المكان" لإدوارد سعيد، لذا نجد في كتابة ممدوح رزق حضور الزمن ووعي الذات به ومحاولة الذات لاستيعابه وتجاوزه، والقفز عليه وهي سمة من سمات الذات الطفولية، كذلك تذكرنا الرواية بما كتبه فرويد عن اللذة والألم حيث التفت ممدوح رزق لبُعد هام في الشخصية الطفولية، والخاص بعلاقة الطفل بالرغبة في الألم ولذته، والتي كتب عنها أيضًا نجيب محفوظ في "أصداء السيرة الذاتية".
السجن الوجودي الأول .. تعدد مستويات الخطاب .. التحليل الاجتماعي للثمانينيات
تحدث الكاتب والناقد الكبير سيد الوكيل قائلا أن ممدوح رزق فارق بالنسبة له عن أبناء جيله؛ فهو صاحب وعي متعدد، ولديه روافد معرفية متعددة كما أنه يكسر فكرة التخصص في الكتابة. أشار أيضًا إلى أن الحادث الأليم هو موقف وجودي، أن تولد في مكان ما وزمن ما، وأن هذه الكتابة تمثل محاولة لاجتياز السجن الأول في الوجود، كأن الرواية هي رحلة البشرية ذاتها، فهي تذكره برواية "الحارس في حقل الشوفان"؛ أنت موجود في عالم عبثي ولكن عليك أن تعيش تفاصيله. تحدث كذلك عن تعدد مستويات الخطاب في الرواية: الذاتي والثقافي والسياسي مؤكدًا أنه حتى لو اعتبرناها رواية سيرة ذاتية إلا أنها أحدثت نقلة خاصة بها، ليس فقط على مستوى البنية أي الققز على الزمن، وليس فقط على مستوى الوثائقية، وإنما أيضًا التحليل الاجتماعي لمرحلة الثمانينيات.
الاستقصاء اللغوي .. ترشيح الرواية لكليات التربية ومعاهد الطفولة .. التخييلات المركبة
تحدث د. حمدي النورج عن الاستقصاء اللغوي الحاد في الرواية أي أن ممدوح رزق يستخدم الصورة وراء الصورة إلى أن يستنفذ كل ما في هذه الصورة، وهذا يأتي من حالة متابعة دقيقة جدًا ومشاهدة واعية وقدرة على استبطان ما تفكر فيه الشخصيات، وكذلك القدرة على معايشتها قال أيضًا أن هناك قصدية في رواية "إثر حادث أليم": اختيار العنوان ـ اختيار البناء المكوّن من سبع مسودات ـ اختيار لعبة المقدمة لتضليل المتلقي  ـ اختيار اللغز في نهاية الرواية المعنون بـ "لغز كاتب المسرح" ـ هل هي مذكرات الأب أم الابن، أشار كذلك إلى أنه بالرغم من أن الرواية مكتوبة لقارئ عام، لكنها لقارئ خاص أيضًا، مؤكدًا أنه يرشحها للتدريس في كليات التربية ومعاهد الطفولة، وللمهتمين بثقافة وتنشئة الطفل لأنها تجيد تشريح وقراءة نفسية الطفولة. تحدث أيضًا عن أن ممدوح رزق يلعب على شيء هام جدًا؛ فهو يوهمنا أنه يقدم سيرة ذاتية، ويوهمنا أيضًا أنه يقدم رواية؛ فوجود المسودات يشير إلى أن فعل التذكر الحاد هو تذكر عدم، أي غير موجود كما أن هناك براعة لدى ممدوح رزق في رصد المهمش أو المسكوت عنه، كأنه يلتقط بعدسة مكبرة ما لا يراه الآخرون. أشار كذلك د. حمدي إلى إعجابه بفكرة المنازلة أو الصراع الطفولي في الرواية كما نجدها عند نجيب محفوظ في "بداية ونهاية"، و"الحرافيش"، وهو ما جعله يتوحد مع سلوك الطفل أثناء القراءة لأن هذه المشاهد عاشها في طفولته، كما أنه من ضمن قدرات ممدوح رزق اللغوية عدم وجود أخطاء في الرواية، فضلا عن أن كل شخصية تعبر عن ذاتها عن طريق لغة خاصة بها، حتى في فصل النهاية "لغز كاتب المسرح" يقدم مستوى لغويًا مختلفًا تمامًا عن اللغة التي استخدمها السارد طوال الرواية. هذا بالإضافة إلى أن ممدوح رزق يقدم مجموعة من التخييلات المركبة حيث يتداخل التخييل الواقعي والبصري والذاتي في شبكة هائلة على مدار الرواية.
موقع (الكتابة) ـ 30 مارس 2018

الاثنين، 26 مارس 2018

الكوميديا النقدية .. القرّاء كأبناء شرعيين (2)


(لكن أعتب عليه بشدة طريقته فى وصف أمه عندما علمت بسقوط أبيه مغشيًا عليه فى ورشته «كان ثدياها الكبيران اللامعان بماء الغسيل يهتزان بإيقاع متناغم مع هزة فردتى ردفيها» فلا يمكن للصبى أن يتحدث عن أمه بهذه الطريقة، ولو كنت من أبيه وقرأت هذا الوصف لأعدت كىّ أصابعه بحرص هذه المرة كى يتأدب).
هذه السطور لم يكتبها أحد القراء في مراجعة له على موقع جودريدز، وإنما كتبها (الناقد الكبير الدكتور) صلاح فضل في مقاله عن رواية (الحريم) لحمدي الجزار في جريدة (المصري اليوم)، وتحديدًا في 18 أغسطس 2014. لكنها بالفعل تبدو سطورًا يمكن أن يكتبها أي قارئ. أي قارئ (أبوي) لا ينظر إلى الجنس سوى بعين الاختزال التقليدي، وبصرف النظر عن أن هذا الاختزال في حد ذاته لا ينبغي تحريمه أو تجريمه فإن علينا الانتباه إلى هذا الوعي العام بجذوره الثقافية الصلبة، والذي لا يُفرّق بين الشخص الذي يتم اعتباره ـ بحسب التصنيف السائد ـ قارئًا عاديًا، وبين الناقد الأكاديمي القدير، أو عالِم اللغة المخضرم.
(هناك كتابة أدبية يضاف لمنجزاتها قدرتها على فضح الوهم الفاصل بين "الناقد"، ومن يسمى بـ "القارئ العادي" .. بين رسول كليات الآداب، المنتفخ بفاشية قيم وأخلاق "السيد أبو العلا البشري"، والمكلف بإخضاع البشرية للثوابت التي لا صحيح غيرها للسمو والجمال، وبين الشاب الذي يعتبر نفسه "قارئًا عاديًا"، ولم يخطر في باله وهو يكتب ريفيوهات للكتب على "جودريدز" أو "أبجد" أن يسمي نفسه "ناقدًا"، رغم أنه يبحث أيضًا في كل رواية عن "الحكاية"، وعن "المغزى النبيل"، ويرفض "البذاءة").
أما هذه السطور فمن مقال سابق لي بعنوان "الناقد المخصي" نشره موقع "الكتابة" في 31 أكتوبر 2014، وكان بمثابة نوع من المراقبة الهازئة لأحد النقاد الأكاديميين، الذي تحوّل إلى "حارس أمن هزلي، بائس لبوابة الكتابة": أنت تعبر .. أنت لا تعبر.
أستطيع أن أمتد بهذا الخط على استقامته الآن كي أفكر في هذا الخطاب النقدي المهيمن عبر التاريخ، والذي تقوده (أسماء) لم تمتلك (السلطة) إلا بفضل الأنساق المعرفية (المؤسسية) التي تكوّنت وتراكمت تدريجيًا من خلال آليات الفرز والتنميط والإقصاء، ولم يعد لزمنها الخاص تعريفًا إلا بواسطة لامركزيتها، أي التناسل العشوائي لعلاقات القوة المتشابكة داخل أنظمتها المحكومة بالمفاهيم. تُشكّل هذه الأنساق إذن منهجًا من القواعد التي تُخضع القراء بصورة عفوية لـ (بداهتها المطلقة)؛ حيث كل إدانة، أو كل إقرار للصواب أو الخطأ يمارسه القارئ سيستمد (شرعيته الجمالية) من هذا الوجود المعرفي الذي يمتد طغيانه كغرائز توجيهية وإرشادية تمثل (الحقيقة). لماذا لا أفكر في أن هذا العمل الأدبي (سيء) لأن الكاتب (لم يفعل) كذا أو كذا؟. لماذا لا أكتب أن هذا العمل الأدبي (رديء) لأن الكاتب (أخطأ) في هذا أو ذاك؟. لماذا لا أصدق أن هذه الاستجابة التلقائية في مقاربة الأعمال الأدبية حتمية، وصحيحة، وغير قابلة للشك؟ .. أليس النقاد الذين يدرّسون في الجامعات، ويصدرون الكتب، وينشرون أبحاثهم ومقالاتهم في الصحف والمجلات يفعلون ذلك؟. أليس أولئك الذين يمتلكون (العلم) الذي لم نحصل عليه يتحدثون بهذه الطريقة؟. كيف يمكن للنقد أن يتجنب إصدار الأحكام كما حلم "ميشيل فوكو"؛ أليس هناك إله وشيطان، طيب وشرير، جنة ونار؟. هذا هو الصوت المشترك بين الناقد والقارئ، أو بالأحرى الهوية الموحدة لهما، التي تم تشكيل وعيهما ـ التربوي ـ داخلها.
موقع (الكتابة) ـ 25 مارس 2018

الأحد، 25 مارس 2018

قصص طفولية تمنح السعادة


انتهى من كتابة التعليق ثم أغلق الموقع قبل أن يطفئ اللابتوب .. هناك شيء غريب .. شعور لم يعهده من قبل .. انتبه إلى أنه كتب هذا التعليق بآلية تامة .. لم يكن يتملكه هذا المزيج الجارف والمعتاد من الألم والغضب والحسرة .. (إعدام في ميدان عام) .. لكنه ينتبه أيضًا إلى أنه يخدع نفسه الآن بطريقة ما .. هذا الإحساس ليس مفاجئًا كما يحاول أن يصوّر لنفسه .. منذ فترة وهو يشعر بانسحاب تدريجي للانفعال الذي كان يسيطر عليه دومًا أثناء التدوين اليومي للتعقيبات في جميع المواقع الإلكترونية التي يتصفحها تحت أخبار جرائم القتل واغتصاب الأطفال .. بدأ هذا الانسحاب بشكل لا يكاد ملحوظًا ثم أصبح من غير الممكن تجاهله .. وصل اليوم إلى ما يشبه الحد الأخير .. لم يكن يعتبر نفسه مجرد شخص عادي، يستمتع بالجلوس أمام الإنترنت ساعات طويلة متجولاً بين المواقع الصحفية كي يكتب التعليقات المعبّرة عن شعوره بالفجيعة تجاه وحشية البشر، المقترنة بالدعوة للقصاص العاجل والمعلن من المجرمين، والتي يختمها باستفهامات صادقة، تفيض بالخوف واليأس عما أصاب الناس في هذا الزمان .. نعم، كان الأمر هكذا في البداية، ولكنه مع مرور الوقت لم يعد كذلك .. أصبحت كتابة التعليقات هوية حقيقية له .. تعريفًا أصليًا لذاته، لم يُطلع عليه أحد .. تحوّلت فكرته عن السطور التي يدوّنها كل يوم مطالبًا بالثأر من القتلة ومغتصبي الأطفال من مجرد تعقيب إلى نوع من المشاركة في القصاص .. مساعدة في تحقيق عدالة لا تتحقق غالبًا دون نقصان .. كان يؤمن أنه بواسطة التعليقات الغزيرة ذات الصيغة الموحدة تقريبًا التي يبصم بها على كل جريمة يمر عليها يساهم في سد الثغرة الدائمة للانتقام من أجل أرواح الضحايا .. كان قد تمكن كذلك من حماية هذا الإيمان بأن عيّن اختلافًا أساسيًا بينه وبين الآخرين كافة الذين يكتبون تعليقات مماثلة .. كان هذا الفرق محددًا في المثابرة .. التفاني الذي لا يتعطل .. عدم التهاون والإخلاص المثالي في كتابة التعقيبات مع كل خبر يصادفه لهذا النوع من الجرائم، وهي الميزة التي يدرك أنها لا تتوفر في غيره.
الآن يشعر بالضيق المشوب بالتوجس؛ فالمسؤلية التي كان يتحمّلها لم يكن يؤديها من باب القيام بواجب روتيني وإنما كعقيدة محصنة بالشغف .. لكن شعوره بالعفوية الباردة لحركة أصابعه فوق أزرار اللابتوب تزعجه بشكل غير محتمل .. بدا كأنما رأى في هذا الإحساس دليلا على بدء خسران المكانة التي اعتبر نفسه جديرًا بأن يحظى بها منذ زمن بعيد.
*******
تُلبس طفلتها ثوبًا جميلا .. تمشّط لها شعرها .. تبدأ في ارتداء ملابس أنيقة .. تضع مكياجًا كاملا.. تفكر في المكان التي ستأخذ طفلتها إليه اليوم .. كافيه .. صالة فندق .. حديقة عامة .. حسنًا .. ليكن حديقة عامة؛ فمع هذه الغيوم الداكنة الكثيفة، والهواء البارد، والمطر الذي يبدو وشيكًا لن يذهب إلى الحدائق المفتوحة إلا أولئك المختبئين في الوحدة .. الذين يريدون التمعن في الماضي على نحو منعزل، مستفيدين من التواطؤ الغامض للشتاء، ولهذا فسيكونون في أَمسّ الحاجة إلى غريبٍ غير متوقع .. تغلق باب الشقة .. تنزل السلالم ممسكة بيد طفلتها المشغولة بتأمل خاتمها الصغير في اليد الأخرى .. أصبحت لديها خبرة كبيرة في اختيار رفقائها .. لم تعد تواجه صعوبة في انتقاء الرجال المناسبين وفقًا لنظرات العيون، وانطباعات الملامح، والمظهر العام .. تستطيع الآن، وبمنتهى السهولة أن تحدد الشخص الملائم، وكيفية الاقتراب منه، وبدء حوار معه سيفضي في النهاية إلى غايتها الأثيرة التي لم تتغير.
*******
خرج إلى الشارع لأنه قرر التفكير بعيدًا تمامًا عن بيته في السبب المبهم الذي جعله يكتب (إعدام في ميدان عام) بآلية تامة .. دخلت هي وطفلتها الحديقة .. يعرف أنه منذ ثلاثين سنة لم يدخل هناك حيث كان يلعب مع أصدقائه حول الشجرة الكبيرة التي لا تزال ثابتة في المنتصف .. تجلس المرأة والطفلة على أريكة بجوار الشجرة .. تبدأ بعض القطرات الخفيفة في التساقط من السماء؛ فيقرر الدخول إلى الحديقة لاستقبال المطر هناك .. تبدأ الطفلة في الجري والتقافز حول أمها التي تدعمها بابتسامة لامعة .. يجلس على الأريكة الثانية بجوار الشجرة .. تنظر إليه .. يراقب الطفلة وقد بدأت تلاحق بكفيها القطرات الخفيفة المتساقطة من السماء .. ليس هناك في الحديقة سوى ثلاثتهم .. سيخبر الرجل المرأة بعد قليل أنه حزين من أمر ما، أما هي فستخبره أن هذه الطفلة التي تلعب أمامهما بلا أب .. سيحكي لها أنه يعيش بمفرده في منزل يضيق لحظة بعد أخرى، وستحكي له عن الأسباب التي تجعلها غير راغبة في الزواج ثانية .. سيبنعث رنين هاتف كلا منهما في نفس اللحظة، وسيكتشفان أن كليهما قد خصص نغمة (كارمينا بورانا)، وسيجد كل منهما أيضًا حين يرد على هاتفه أن المتصل قد طلب رقمًا خاطئًا .. لكنهما لن يتوقفا على الإطلاق أمام هذا التطابق، وسيكملان حوارهما كأن شيئًا لم يحدث .. سيطلب منها الرجل أن تأتي معه إلى بيته، وستشترط عليه المرأة أن تحضر طفلتها، وأن يحكي لها قصصًا جميلة لم تسمعها من قبل تمنحها السعادة، حتى تغفو، وحينئد ستكون المرأة ملكًا له، وبلا مقابل أكثر من هذا .. سيقول الرجل لها أن لديه قصص طفولية كثيرة، ولكنه لا يعرف كيف يحكيها، فضلا عن أنه لم يعد متأكدًا هل هي جميلة وتمنح السعادة أم لا، وستطلب منه المرأة أن يحاول هذه الليلة فقط، لأنها لا تكرر لقاءها بأي رجل مرة أخري.
*******
ستصبح الحديقة خالية بعد لحظات، وستتحوّل القطرات الصغيرة المتساقطة من السماء إلى مطر غزير مع حلول الليل .. لا أحد يعرف .. هل سيطالب شخص ما في صباح اليوم التالي ـ ربما يكون المطر قد توقف حينئذ ـ عبر تعليق في موقع إلكتروني، بإعدام هذا الرجل الذي خرج برفقة المرأة والطفلة من الحديقة بالإعدام في ميدان عام؟.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 23 مارس 2018
photo by Fadi Toufiq

الاثنين، 19 مارس 2018

قصتها القصيرة


يتوقف التاكسي بي أمام حاجز المزلقان .. يتعاقب وصول السيارات الأخرى إلى الحاجز فتتوقف بجوار التاكسي من الجانبين .. يقترب العابرون ثم يتوقفون بينما تتأهب آذانهم وعيونهم لمجيء القطار .. أراه يتحرك وحده .. بخطوات بطيئة تدنو من حاجز المزلقان .. ملامحه مزيج من الغضب والضجر .. عيناه تائهتان برجاءٍ مكتوم .. يقف بين العابرين .. يضع يديه في جيبي بنطلونه كمن يحاول إخفاء عجزه عن منحهما الوضعية الصحيحة أثناء الانتظار .. يتلفت حوله بارتباك منهك، كأنه لم يعد يتذكر شيئًا عن نفسه وعن الحياة أكثر من أنه لا يجب أن يعبر الآن .. تتنقل نظراته بين الوجوه التي تحاوطه بتلهف شاحب، يحاول الاختباء، كأنما يبحث عن شخص غامض، لا يعرفه، وفي ذات الوقت لا يريد لهذا الشخص أن ينتبه إلى وجوده لو كان قريبًا منه بالفعل .. ينظر إلى القضبان .. يبدو أنه يتطلع إلى شيء آخر من خلاله، أو بالأحرى ينظر إلى عدم قدرته على رؤية هذا الشيء الآخر .. أسمع صوت القطار .. أراه يخفض عينيه لأسفل كطفل لم يتعوّد أبدًا على مروره رغم السنوات التي شيّبت شعره، ونحتت التجاعيد والخطوط في وجهه .. من حركة رأسه نحو فراغ ما بعد عبور القطار، من صدره الذي يعلو ويهبط بتلاحق ثقيل، من الخروج اليائس ليديه من جيبي بنطلونه، من نصف الخطوة الباهتة لقدمه اليمنى التي تحركت باتجاه حاجز المزلقان وهو يرتفع قبل أن تتوقف مجددًا؛ أكاد أرى الارتجافات القوية لقلبه كأنه تحوّل منذ زمن بعيد إلى مخزن لدوي القطارات .. يتحرك التاكسي بي، ويمر بجوار خطواته السريعة التي تبدو فرارًا، أو سعيًا للحاق بموعد لم يحصل عليه بعد .. يبتعد التاكسي فيغيب عن عينيّ .. أنظر أمامي وأفكر؛ لماذا لم أستطع أن أراه أبدًا هكذا من قبل رغم أننا نعيش معًا منذ خمسة عشر عامًا في بيت واحد؟ .. لماذا يظهر هكذا الآن رغم أننا قبل مغادرتي المنزل منذ أقل من ساعة كنا نضحك في نهاية دعابة قلت له خلالها أنني وطفلتنا سوف نتشارك في قتله لو فكّر في الزواج من واحدة أخرى تكتب قصصًا قصيرة مثله؟ .. لماذا يبدو بجميع طبائعه المتغيرة طوال الماضي شخصًا مختلفًا عن هذا الذي رأيته صدفة اليوم؟ .. لا أعرف؛ هل هكذا يظهر دائمًا كلما توقف عند حاجز المزلقان قبل عبور القضبان وحده بعد مرور القطار؟.
اللوحة لـ Bob Dylan

الكوميديا النقدية .. القرّاء كأبناء شرعيين (1)

هناك الكثير من النقاد العرب ـ ربما يتجاوزون بالفعل الحدود الكمّية التي يُمكن تخيلها ـ لا يتوقفون عن تصدير الانطباع بأنهم مقيمون داخل الجحيم .. يوزعون صرخاتهم ولعناتهم طوال الوقت عبر الصحف، والمجلات، والمواقع الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماعي، والندوات، والمؤتمرات، والمقاهي تجاه "الرداءة"، و"الابتذال"، و"الفوضى" التي تسود الكتابة الأدبية العربية .. يتركون شعورًا مُلحًّا بأنهم يتعذبون بشكل حقيقي، ولسبب يمكن تلخيصه في أن كل ما هو مضاد ومناقض في عقيدتهم لـ "جمال وعمق الكتابة" يرونه مهيمنًا وطاغيًا ومتمتعًا بتقدير غير مستحق، واحتفاء لا يمكن تبريره .. تكاد الحسرة في أعنف مستوياتها، والكامنة بين سطور مقالاتهم ومنشوراتهم أن تفيض بوضوح تام، وهم يتأكدون يومًا بعد آخر أن "علمهم الأكاديمي" عاجز عن إنهاء المهزلة الأدبية الهائلة التي يُسمح فيها لكل من هب ودب أن يكتب ما يشاء، أو أن "وعيهم الجمالي" غير قادر على إنقاذ الحياة الثقافية من الخراء الكثيف الذي يحكمها.
لو أخذنا عينة من أسماء هؤلاء النقاد وتتبعنا تاريخ كل منها؛ هل سنعثر على ثوابت متشابهة، قد تصل إلى درجة التطابق فيما بينهم؟ .. هل سنلاحظ ـ مثلا ـ تركيزهم الدائم على انتقاد الأخطاء النحوية في النصوص التي يقومون بتناولها، أو اهتمامهم بمدى التزام الكاتب بالقيم المثالية في عمله، أو حرصهم على تصويب تشاؤمه، ومعالجة انغماسه في التشوهات الأخلاقية، والرذائل، والفكر العدمي، وتصحيح رؤيته السوداوية التي تجرّد الحياة من كل معنى أو غاية أو أمل؟ .. هل سنكتشف عدم تسامحهم فيما يتعلق بالتماسك البنائي، أو وضوح الدلالة، أو انسجام العناصر السردية؟ .. هل يمكن أن تبدو قراءاتهم النقدية كأنها إعادة نسخ مستمرة لبعضها البعض، ولا أقصد اللغة، وإنما أسلوب التأويل، وطريقة تحليل العمل الأدبي وفك شفراته؟.
لكن صرخات ولعنات هؤلاء النقاد لا تستهدف الكتّاب "السيئين" فقط، وإنما تصب غضبها ونقمتها على قرّاء هؤلاء الكتّاب أيضًا .. الجمهور الذي يُقبل على أعمالهم، ويروّج لها، ويمجّدها بوعي سطحي، وذائقة فاسدة، الأمر الذي يتماشى منطقيًا في تصورهم مع الانهيار الشامل والتدني العام في كل شي: الثقافة .. الأخلاق .. البديهيات الإنسانية التي لا ترتبط بمكان وزمان.
لعل الاتهام الأبرز الذي يوجهه هؤلاء النقاد إلى جموع القراء المساهمين وفقًا لاعتقادهم بدور أصيل في هذه المأساة العظيمة هو عدم الإنصات لهم .. الانفصال عن المعرفة الأدبية التي قامت بتأسيسها وثتبيتها مشروعاتهم النظرية والتطبيقية المتعددة .. يؤمن هؤلاء النقاد أن ابتعاد القراء عن كل هذه الأرصدة التوجيهية، والمرجعيات الإرشادية قد حرم بصائرهم من الاختيارات السليمة، والإدراك المتيقظ، والانحياز الجمالي الحصيف .. يؤمنون أيضًا أن المأساة تزداد فداحة مع تحوّل القراء إلى كتّاب مراجعات، تُنشر، وتنتشر، وتفسر، وتشرح، وتعطي آراءً وتقييمات، وتقترح، وتفاضل، وتصدر أحكامًا يتوافق معها ويتبناها الكثيرون؛ أي أنهم باختصار يعطون لأنفسهم بكثير من العبث والمجانية والاستسهال الحق في أن يقوموا بما ليس جديرًا بأحد في العالم أن يفعله سوى الناقد فحسب.
لكن، هل يوجد بالفعل هذا التنافر بين النقاد والقراء؟ .. هل يمضي كل من الناقد الغاضب والقارئ اللامبال في طريقه المعارض للآخر؟ .. هل يختلف حقًا ما يكتبه هؤلاء النقاد العرب في دراساتهم عما يكتبه القراء العرب في الريفيوهات؟.
موقغ (الكتابة) ـ 18 مارس 2018 

الاثنين، 12 مارس 2018

شكسبير أم أخطاؤه؟ (3)


أصبح الكاتب بالنسبة للقارئ الذي قرر التوقف عن أن يكون نسخة من القراء الآخرين هو الشخص الذي عاش تاريخًا مختلفًا، لم يختبره هذا القارئ، وأصبح (العمل الأدبي) هو أثر لهذا التاريخ، وبالتالي فإن كلمات مثل (رديء .. مقزز .. تافه .. ساذج .. سيئ .. سطحي .. قبيح .. خاطئ .. آثم) ليست أكثر من محاولة (القراء الآخرين) للثأر من هذا الأثر .. من اختلاف تاريخ كل منهم عن تاريخ الكاتب الذي أنتج هذا النص، وأن هذه الرغبة في الثأر لا علاقة لها بالعمل الأدبي بل مرتبطة باحتياج صاحبها لرفض الآخر .. لإلغائه .. لعقابه على وجوده، وأن التجرّد من هذه الرغبة سيستبدل الكلمات الانتقامية السابقة بلغة أخرى تعبّر عن عدم القدرة على إنشاء علاقة مع النص، أو عدم الاقتناع بما يتضمنه هذا العمل، أو عدم التوافق، الانسجام، التفهّم لما يبدو أن هذا الأثر يتبناه أو ينحاز إليه.
يعرف هذا القارئ أن الفرق بين هذا وذاك ساطع للغاية، لأنه نفس الفرق بين (كيف تجرؤ على أن تتعامل مع  آلامك بهذه الطريقة؟) وبين (لا يمكنني أن أستوعب الكيفية التي تنظر بها إلى آلامك) .. يعرف هذا القارئ أيضًا أنه لو قرر أن يكتب ذات يوم فإنه لن يتمنى أن يحاول أحد ما أن (يُحاكم) النص الذي يجسّد جروحه الشخصية بأي شكل لمجرد أن الآخر لم يجرّبها، ولا يستطيع إدراكها، أو لأن هذا النص يخالف ما يعتبره هذا الآخر شروطًا إنسانية وجمالية مطلقة على الجميع أن يخضع لها .. ما أكتبه الآن ينطبق أيضًا على (الشاعرة أماني) التي لم أصادف أحدًا لم يسخر منها بعد نشر نص لها في إحدى الصحف اسمه (تبا لك)، وهو نص متخم بالأخطاء الإملائية والنحوية فضلا عن الخلط بين الفصحى والعامية .. نعم، ضحكت حينما قرأت هذا النص، وما زلت ابتسم حينما أتذكره، تلك الابتسامة التي تمثل المستوى الأدنى من الضحك الذي مر عليه وقت طويل، لكنني لم أسخر منها .. كانت ضحكات الفرجة على مشهد كوميدي لا تحمل أي قدر من النقمة تجاه صانعه .. أنا لا أعرف (الشاعرة أماني)، ولا أعرف ما مرت به في ماضيها الخاص جعلها تكتب هذه الكلمات وبهذه الصيغة، ولا يحق لي أن أعتبر نفسي إنسانًا أفضل منها بحيث أضع حياتي موضع الوصاية على حياتها، ولا يحق لي أيضًا أن أحوّل تفضيلاتي الجمالية إلى معايير متسلّطة لإدانتها حتى لو كانت قواعد اللغة العربية ذاتها، كما يجب أن أشير فقط ودون أي تعليق إضافي إلي أن كل مفردات التهكم الجماهيري الذي استهدف هذه الكاتبة المغمورة يتم توجيهها إلى كتّاب آخرين في مناسبات مختلفة ـ كالحصول على جوائز الدولة مثلا ـ والمفارقة ـ الهزلية والمضحكة بحق أكثر من أي شيء آخر ـ أن هؤلاء الكتّاب يشاركون دائمًا في حملات السخرية ممن يشبهون (الشاعرة أماني).
هذا هو الفرق بين أن يتحدث هذا القارئ عن خبرة مر بها مع كتاب ما بطريقة، وبين أن يتحدث عنها بطريقة أخرى .. بين أن تكون ذائقتي هي اليقين المطلق، وبين أن تكون هي ذائقتي فقط .. بين أن يكون شكسبير مخطئًا، وبين أن يكون شكسبير شخصًا مختلفًا عني .. بين أنني لم أنجح في (استهلاك) روميو وجولييت، وبين أنني لم أنجح في (إعادة انتاج) روميو وجولييت.
تقول (نادين جورديمير): (لقد كنا جميعًا قبل أكثر من عشرين عامًا، مدوّخين أو مرتابين (أو كلاهما معًا) باكتشافات البنيوية وتحليلها لإبداعنا وعلاقتنا بالقارئ، وبدت الشروحات الفرويدية التي تحمس لها بعضنا بسيطة ومتوقعة بالمقارنة بها. لقد كان اللاوعي جوهريًا على خلاف المنهجية الدقيقة لعمل مثل، لنقل كتاب س/ ز لرولان بارت، الذي نشر عام 1970 بناء على عمل أنجز في الستينيات، والذي تحول فيه التركيز الكامل من الكاتب إلى القارئ. لقد كان هدف بارت “نفي صفة المستهلك عن القارئ وجعله منتجًا لنص يمكن قراءته وليس كتابته”. لقد أعيد تعريف الرواية والقصة القصيرة والقصيدة على أنها “مجرة من الدلالات”. لقد كان إيمان بارت بالقراءة، كما لخصه ريتشارد هاورد، بأن “ما يقص هو نفسه عملية القص دائمًا).
ربما حينئذ سيفكر هذا القارئ الذي قرر التوقف عن أن يكون نسخة من القراء الآخرين كثيرًا ـ وبطريقة لا تخلو من السخرية ـ في أحد أشهر مدوني فيسبوك، وصانعي الكوميكس، والذي استغل حسابه صاحب الجماهيرية الهائلة في دعوة متابعيه لإعطاء أحد الأفلام العربية التي لم تعجبه تقييمًا قليلا جدًا على موقع قاعدة بيانات الأفلام الأمريكي الشهير Imdb، وهو ما استجاب إليه الآلاف، فتهاوى تقييم الفيلم على الموقع بعد أن كان في مرتبة مرتفعة بجانب أفلام عالمية شهيرة .. ربما سيفكر أيضًا في الكثيرين الذين يمتلك كل منهم حسابات مزيفة على جودريدز، ويقوم برحلات منتقاة عن طريقها إلى صفحات الأعمال الروائية لإعطاء نجمة واحدة في تقييم كل منها كي يُخفض مستوى التقييم العام لها .. ربما سيفكر أيضًا في أن آلافًا من القراء الأصوليين ـ القابلين للتزايد طوال الوقت، ودون حاجة لحسابات مزيفة ـ لو قام كل منهم في نفس اللحظة ـ وهو احتمال ليس فانتازيًا ولا مستبعدًا مقارنة بكافة الغرائبيات الصادمة التي تتعاقب على نحو بديهي ـ بإعطاء نجمة واحدة لروميو وجولييت لأصبحت هذه المسرحية "بالغة السوء" لا لشيء إلا بفضل هذا القصاص الأخلاقي، وستكون هذه هي (حقيقة) المسرحية على موقع جودريدز التي تطمس أي حقائق أخرى .. ربما سيفكر أيضًا أنه ما كان هذا ليحدث لو كان لكل قارئ صفحته الشخصية التي لا تُفضي إلى صفحة المسرحية؛ أي الصفحة التي لا يكون لها (سلطة) على الكتاب، وفي نفس الوقت توفر بهذه الاستقلالية حماية للقارئ بأن يظل محتفظًا ـ بشكل أكبر ـ بإمكانية العودة والتفكير والتراجع والتعديل وإعادة الكتابة دون أن يحرمه إغراء المشاركة في إنتاج حقيقة تتجاوز نطاقه أو الانتماء إلى قرار عام يتخطى فرديته من هذه العودة.
لكن ربما يكون أهم ما قد يفكر فيه هذا القارئ الذي قرر التوقف عن أن يكون نسخة من القراء الآخرين أنه ـ حينما أصبح كذلك ـ قد أعطى ردًا عمليًا على العجرفة السخيفة لـ (أمبرتو إيكو) في انتقاده لشبكات التواصل الاجتماعي التي ـ بحسب تعبيره ـ تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى .. ذلك لأنه أدرك بأن انعزال الفضاء الشخصي عن اليقين المطلق بوجود مساحة أكثر خصوصية، أقل إدعاءًا للشمول أو الهيمنة، هو أكثر تحريضًا على (الإبداع) دون التورط في اللمعان الزائف للتواطؤ كقانون جماعي، والذي يحرّض على الاستغناء عن ما عداه.
إن (البلاهة) التي وصف بها (إيكو) مستخدمي الإنترنت لا تتعلق بالبشر أنفسهم، وإنما تكمن أولا وأخيرًا في السياقات المتعسفة التي يُدفعون إليها .. الآليات الناجمة عن الانتهاز الرأسمالي حيث (القارئ الذي يطالع كتابًا) هو (بضاعة تستخدم بضاعة)، وينبغي تسيير هذه العلاقة في خط انتاجها المادي الحديث أي آلة الاستهلاك التي تعطي النتيجة بالنجوم تحت إغراء أن يكون القارئ وصيًا على السلعة / الرواية، مشاركًا في قدرها، وهذا على حساب (صيرورة) الرواية أي حركتها المستمرة، وبالتالي على حساب تحولات هذا القارئ الشخصية داخل هذه الصيرورة .. إن القارئ في وضعيته الأبوية يتحوّل من شخص يمكنه الاستجابة في لحظة غير متوقعة للجدل مع منظور خاص، ولإمكانية التغيير الفردي، ولإعادة ترتيب عالمه بتهديد أقل إلى ذات عارفة .. ذات محصنة، منفصلة عن ذاكرة سبق حسمها، لا تخطئ، وبالتالي لا مبرر لديها للتراجع، مخدوعة بوهم القوة التي حازت عليها بالتوحد مع الذوات العارفة للآخرين المقررين لحقيقة كتاب.
موقع (الكتابة) ـ 11 مارس 2018

الجمعة، 9 مارس 2018

الذات تراوغ عماءها


لا تجعلني قراءة رواية "ظل طائر خفيف" أفكر في الصور المتعددة للذات أمام نفسها أو أمام الآخرين بل في الماهية الملغزة للذات كفكرة، كاحتمال مستقل يسبق انعكاساته المتغيّرة داخل الوعي أو عبر إدراك الآخر .. الماهية التي ربما ليس بمقدورنا سوى أن نحاول بشكل مستمر الوصول إلى تشبيهات متبدلة لإبهامها مثل اللوحة التي كانت على حائط البار أمام البطلة، وأعطاها حازم عزت سعد هذا الوصف:
"تتعارك داخلها الخطوط، وتشتبك بضراوة لتشكل مهزلة حربية بلا أدنى تكتيك".
تعيدني هذه اللوحة إلى مونولوج داخلي سابق للبطلة حول الضيق والضجر والاضطراب:
"أنا لا أحتاج طبيبًا نفسيًا لأعرف الأسباب، هم فقط يضعون الأشياء في مصطلحات منمقة، والأحاسيس المتضاربة في قوالب درامية ثابتة، لكن الأمر يكون عشوائيًا أكثر مما يتصورون".
لكنها ليست مجرد محاولة للوصول إلى تشبيه للإبهام؛ بل أيضًا علامة استشرافية للغموض حيث يتحوّل الرصد، أو الكفاح للقبض على أي مما يمكن اعتباره جرحًا ملتبسًا إلى تمهيد يكاد يكون نبوئيًا لاشتباك قادم مع تعمية جديدة للذات .. طمس متزايد، تجسده الصراعات الشهوانية الطائشة، التي تتخذ أحيانًا مظاهر تآلفية، وتفرض هيمنتها داخل الفضاءات المختلفة التي تتنقل داخلها بطلة الرواية، أو بالأحرى المصائد المجهولة التي تتكاثف عتمتها كلما كشفت بوضوح تام عن وجودها:
"معقد هو الأمر. امرأته على علاقة بصديقتها الأجنبية. دفع ذلك فيّ شعورًا بالراحة، تعرى الدكتور أمامي دون أن يعرف، كما فعلت أمامه بالجلسة".
بهذا يصبح التخيل الذي تمارسه بطلة الرواية لعلاقة ثلاثية بين الطبيب النفسي وزوجته وصديقتها الأجنبية تجهيزًا لمشهد لاحق ستكتشف فيه البطلة حضور صديق زوجها أثناء ممارستهما الجنس عبر شاشة اللابتوب، وبدوره يصبح هذا المشهد ترتيبًا آخر لصداقة ستتطور على فيسبوك بين هذا الزوج وزوجة الطبيب النفسي، قبل أن تحل بطلة الرواية محل الصديقة الأجنبية في العلاقة مع زوجة الطبيب النفسي .. هي المهزلة الحربية التي بلا أدنى تكنيك حيث لا يجب أن تستبعد حدوث أي شيء مهما كان غريبًا أو صادمًا أو حتى يبدو غير منطقي لدى من يحاول استيعابه، وبهذا فمهما كانت طبيعة التخيلات؛ فإن أكثرها جموحًا يستطيع التحقق في لحظة مستقبلية، وبالكيفية التي يؤكد من خلالها أنه بالفعل المعادل الحسي لهذا التخيل.
علينا أن ننتبه أيضًا إلى العفوية التي يتم بها الانتقال من التمهيد إلى التعمية، التي تصير بالتالي تجهيزًا لفخ جديد سيتم تجسيده تلقائيًا .. يتبنى حازم عزت سعد في أحيان كثيرة ـ وخاصة في بداية الرواية ـ إيقاعًا سرديًا متلاحقًا لإثبات هذه العفوية كأنه يكرّس للعادية المطلقة التي يتم بها الأمر، وهو بذلك يجعل هذا الإيقاع متماشيًا مع التنفس المتسارع لبطلة الرواية؛ فما يحدث ـ رغم أي شيء ـ بديهي كالتنفس .. كتنفس هذه المرأة تحديدًا.
يدخل التحوّل المتعمد لشعر بطلة الرواية إلى اللون الأبيض في نطاق الاستشراف؛ فتلوين شعرها بالشيب ليس فقط لاستدعاء أثر شكلي يصوّر (شيخوخة الذات)، وإنما أيضًا للكشف عن يقين الذات تجاه نفسها بأن ما تعيشه الآن ليس مؤقتًا بل أبديًا .. أن ما تختبره ليس مقصورًا على زمن معين بل إنها في حقيقة الأمر تعيش مصيرها أيضًا.
"هل يمكن أن يرى الإنسان نفسه جميلًا؟! أعتقد أنه يراها نفسه. لا يراها قبيحة، أو جميلة. يكره أشياء في شكله. يحب أشياء أخرى، إنما أبدًا لا يقارن صورته بأي إنسان آخر، ويقيس هل هو جميل أو لا".
تتناول هذه الرواية الصادرة عن دار الربيع العربي العديد من الأبعاد المعلنة، لعل أبرزها موضوع "الاتهام"، والمقترن أو المتداخل مع موضوع آخر وهو "المحاكمة" .. الرعب من الإدانة .. من أن تتصرف على نحو خاطئ .. من أن تفقد صورتك مبررات قبولها لدى الآخرين .. السلطة التي يمتد قهرها عبر ذهن البطلة إلى عواطفها المضطربة، إلى هيئتها وسلوكها الجسدي .. هذا ما قد يجعل استفهامًا جوهريًا يصاحب خطواتنا داخل الرواية: أي كينونة مبهمة للذات تلك التي سبقت وجود أجسادنا ثم احتلتها، لتجعل من العالم مسرحًا للتناطح بين لغز وآخر؟ .. بين فردية لا تستطيع التعرّف على نفسها، وفردية مغايرة؟.
"هل يرونني تافهة، ضئيلة؟ هل قلت شيئًا؟ فعلت شيئًا خاطئًا؟ هل انفعالات وجهي لا تبدي ما أشعر به؟ هل استعملت مفردة قاسية في غير محلها؟".
هل يمكن تأويل "الذنب" بوصفه أحد التمثلات "الغامضة" لهذه السلطة؟ .. أن يفترض بك القيام بشيء لا تقوم به، لا تعرف ما هو، ولا تعرف لماذا لا تقوم به، ولا حتى من قد يلومك عن هذا التقاعس كما كانت تفكر بطلة الرواية؟.
"الواقع أن ما نطلق عليه خطأً أو صوابًا، إنما يوجهنا لفعل ذلك حكم المجتمع، الذي بدوره تؤثر فيه أمور عديدة من بينها الأخلاقي واللا أخلاقي".
يمكننا تأمل العماء تجاه "الذات"، وعلاقته بـ "الذنب" في ضوء "الإيمان" كمضاد لـ "الفهم" .. غياب المنطق الذي يُدفَع ثمنه كل لحظة في مقابل طمأنينة لا يتم الحصول عليها .. نحن نحاكم أنفسنا ويحاكمنا الآخرون لأننا لا نستطيع معرفة وجودنا .. لأننا نتمسك بالرجاء في المقدس الذي لا ينقذنا عوضًا عن الجهل الذي فُرض علينا، والغفلة التي لم نخترها ..  قرأت الحوار الأخير بين بطلة الرواية والطبيب النفسي الآخر كأنه جدل تقليدي بين امرأة تتم محاولة ترويض انفلاتها وتمردها لصالح وعي بليد، يقوم ـ كالعادة ـ على إجابات تلفيقية سهلة لدى خبير تنمية بشرية ذي طابع ديني .. وعي لا يجرؤ على التوقف أمام (لماذا يحدث الأمر هكذا، وبتلك الصيغة التحذيرية والعقابية؟) ليهرب بالمسالمة اللائقة نحو (سيتم التعويض بعد الموت عن حدوثه هكذا) .. يتخطى (لماذا يجب أن تظل ماهية الذات ملغزة؟) إلى (ينبغي أن تصدّق حتى لو كان كل شيء ضد المنطق، ومهما كانت النتائج الجحيمية الناجمة عن ذلك) .. (لماذا ينبغي أن يوجد الخطأ من الأساس؟) إلى (الدين صحيح دون شك، ولابد أن يكون هناك المخطئ الذي يسعى للتكفير عن ذنوبه) .. (عدم الاقتناع بالحجج الفاشلة، ورفض الأسانيد المتبجحة للسلطة سواء كمجتمع أو كعقيدة، أو محاكمة الحرمان القدري من أن يكون لكل فرد انعزاله "الإلهي" الذي يحميه من الآخرين) إلى (لا يمكن تطبيق عدم الاقتناع حيث يستحيل الانعزال عن الآخرين فحسب نتيجة "الغرائز" التي "خُلقت" داخلنا") .. ثم نأتي إلى (الحكمة الأكثر هزلية وسذاجة) على لسان الطبيب النفسي:
"سيصبح تنفيذك لنظريتك عن الخطا من الخطأ ... لكونه لا يراعي من يتحمّل وجودك المؤذي في حياته لتصوره أنه إذا ما تخلى عنك فسوف يضرك. يتحمّل أذاك له ولا يتحمل أذاك".
كأنه ليس من حق أي إنسان أن يغادر أي علاقة لم تعد لديه أدنى قدرة على تحمّلها لو كان قادرًا على ذلك لمجرد أن الطرف الآخر لا يزال قادرًا على تحمّل وجود هذا الإنسان في حياته .. بالطبع لم يخطر في ذهن الطبيب النفسي أن عدم إخراج الآخرين لي من حياتهم لا يفرض عليّ التزامًا أخلاقيًا بأن أبقى داخل هذه الحياة التي لا أطيقها بحيث أصير مُدانًا لو خالفته، وإنني لو قررت البقاء فهذا لا يجب أن يتم تحت وصاية قيمية "المراعاة" التي تهددني وتُجرّمني لو عارضتها لأن هذا النوع من الوصاية ضد حريتي البديهية في أن أبتعد عن ما يسبب لي الألم، وهو موقف مناقض للآخر الذي يحاول فرض نفسه ـ عاطفيًا وأخلاقيًا ـ على وجودي، ويحاول إجباري على البقاء في حياته لأنه قدم عربونًا استباقيًا بقبوله لحضوري في مكان لا أريده أصلا .. لم يخطر في ذهن الطبيب النفسي أيضًا أن هذا "الآخر" الذي يجدر بي "مراعاته" بعدم الخروج من حياته قد لا يفهم أنه يضرني، وأن ما يبدو له خيرًا من تصرفات يقوم بها تجاهي قد تكون قمة الإيذاء بالنسبة لي، وأن الأنانية القصوى تكمن في هذا الذي يشبه الابتزاز الشعوري الذي يجرّد شخصًا ما من حريته، ومن رغبته في الخروج من دائرة مهلكة بالنسبة له كي يجبره على الامتثال لمشيئة الآخر المغلفة بالنوايا الطيبة وتنتج الشر حتى لو كان دون قصد .. لم يخطر في ذهن الطبيب النفسي كذلك أن مراعاة الآخر لي أو (تحمّله لمساوئي) حينما لا أطلبه أو أسعى إليه أو أتمناه فإنه لن يجعل هناك مسؤولية بالضرورة على عاتقي تجاه هذا الآخر، خصوصًا لو لم أفعل أكثر مما هو حق لي أي "الابتعاد" ..  يشبه الأمر أن أسجنك في بيتي الذي لم تعد تقدر على التواجد داخله لحظة أخرى لإنني أريد ذلك، ولإنني لا أرى نفسي مخطئًا، ولإنني أريدك أن تتحمّل أخطائي لو حدثت، ولإنني أتحمّل أخطاءك التي لم تطالبني من الأساس بتحمّلها، ومهما كان هذا السجن قاتلا بالنسبة لك.
لا تقدم "ظل طائر خفيف" إجابة أو تفسيرًا حول موضوع "الذنب" فما تقوم به بطلة الرواية يمكن أن يسير في جميع الاتجاهات التأويلية سواء كان رغبة في تعويض الأب الميت عن ما قامت بارتكابه ضده قبل الموت عن طريق استبداله بجميع الرجال الذين يعبرون جسدها بأساليب مختلفة، والذي تتم مضاعفته اندماجيًا بجسد امرأة أخرى "حياة مغايرة مفارقة ومتخلصة من الماضي", وبمشاركة الأم ـ كثأر منها ـ التي يمكن أن تحضر في جسد زوجة الطبيب النفسي ـ وهو ما يرتبط أيضًا بتجديد الخضوع للأب من خلال هذه الشهوات الذكورية، أو تفكيك هذا الذنب والسعي للتحرر منه بواسطة التمادي في ارتكاب ما كان سببًا أوليًا له .. يتمثل هذا في أحلام بطلة الرواية التي تتأرجح بين الشعور بالانتهاك الفضائحي، أو تحويل الفحولة إلى لعبة تريد أن تحطمها وأن تمتلئ بها في الوقت نفسه، أو أن تنتقم من قوانينها (شبق الاتهام والجزاء الذكوري كمحرّك للقهر البشري ضد الأنا) وتجعلها كذلك جسرًا للخلاص من "عدم الفهم".

الأربعاء، 7 مارس 2018

«ممدوح رزق» الخارج عن النص


أجرى الحوار / أحمد أبو الخير  
سينظر إليك، نظره فاحصة، أي طرف في الحديث لابد أن ينتبه إليه، وحينها فلتعلم أنّه يٌفعل المُخبر السري داخله، ليلتقط الشارد، يُخبىء الوارد، يعمل على تجميع أرشيف للشخصية التي أمامه، لحين استغلالها داخل أي نص.
ولكن، إذا جلست جِواره، فسيُخبرك بالتاريخ السري لمدينة المنصورة، الذي استقاه من معايشته لها من بداية الثمانينات، حيث أنّه من مواليد عام 1977م، أو مما قد حُكِى له من أصحاب المحال، أصحاب البوتيكات التي تعتم الرؤية من كثرتها داخل شارع بورسعيد أو الخواجات بالمنصورةِ، من نوادر وفكاهات الباعة الجائلين، الذين رأيته في مرة يُمسي على أحدهم.
مكان جيد لسلحفاة مُحنطة”، مجموعة قصصية له صدرت في 2013م، لتجد لها مكان بين القائمة القصيرة لجائزة ساويرس. صدر له عن مؤسسة بتانة في 2017م، مجموعة قصصية بعنوان “هفوات صغيرة لمغير العالم”، له رواية”الفشل في النوم مع السيدة نون” الصادرة عن دار الحضارة. له مقالة شهرية في جريدة أخبار الأدب، وأخرى في جريدة الحياة اللندنية، وحاصل على العديد من الجوائز .
صدر له مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة المصرية للكِتاب رواية “إثر حادث أليم” التي تتحدث عن الطفولة في الثمانينات داخل المنصورة، الرواية التي قال عنها الناقد الكبير أ/ سيد الوكيل أنّها من أكثر الأعمال الأدبية التي جذبته في عام 2017م.
قبل هذا الحوار ذهبت معه في رحلة ميدانية داخل شارع ميت حدر بالمنصورةِ، حيث تدور أحداث الرواية، أطلعني على الشرفة التي كان يجلس فيها الطفل مراقبًا العالم، أطلعني على فٌرن الخُبز، عن المدرسة، وغيره. وعن هذه الرواية وبعض الملابسات التي فيها كان لنا معه هذا الحوار:
تهانينا بصدورِ الرواية، والإحتفاء النقدي الكبير بها. وهي تحتفي بالذاكرة، تتراقص على حِبالها، فما هو تعريفك الشخصي لها؟
بالطبع لا يُمكن للروايةِ أن يكون لها تعريف بالمعنى الحاسم، ولكن يمكن القول أنّها تشتبك مع هموم تتجاوز أي تحديدات أو أُطر، ولكن لا شك أنه من صميم أرقها الزمن والذاكرة الشخصية وكتابة الماضي.
يسكن الطفل منطقة ميت حدر الكائنة بالمنصورة، وأنت كُنت كذلك. فهل يحكي الطفل سيرة ممدوح رزق في طفولته؟. بمعنى آخر، هل يُمكن القول بأنّها رواية سيرية؟.
الرواية تحكي ما أعتقد أنه التاريخ الواقعي لطفولتي، وهذا قد يجلعها متطابقة أو مختلفة عن ما حدث فعلاً، ولأنّني لا أميل إلى التصنيف؛ أستطيع أن أعطيها وصف سيرية فقط بإعتبار أن هذا النوع من الروايات قد يتضمن ما يمكن أن يجعلها مضادة لليقين الكامن في هذا الوصف.
في نهاية كُل فصل، كانت هنالك تجميعة لإعلانات، أفلام، موسيقى، مجلات أطفال في هذه الفترة – فترة الثمانينات، إلام يُعزى هذا الأمر؟
هذه التجميعة لتفاصيل وإشارات دقيقة للغاية داخل هذه الأعمال الفنية، ويمكن النظر إليها من زوايا عديدة منها مثلاً أنها تُشكّل الملامح الجوهرية الخاصة جدًا للطفل “المسرود عنه”، كأنها ظلال روحه أو هويته الباطنية التي تضيء طبيعة وجوده داخل كل فصل، وأيضًا بوصفها رسائل توثيقية إلى الذين تنتمي طفولتهم لحقبة الثمانينيات، كما تمثل كذلك شفرات لـ (الحادث الأليم) في الفصل الأخير من الرواية.
فراش المدرسة، المُعلمة التي كان يُريد أن يتزوجها الطالب، الفرن، بوتيك سحر وخلافه، كل هذه المعالم لهي حقيقة وأحداثها حقيقة؟
ذاكرتي حتى هذه اللحظة تؤكد لي أنها حقيقية تمامًا.
إذًا، كيف سترد على هذه الإشكالية التي ربما طُرحت عليك بأنّ هذا أمر غير أخلاقي، حيث الكتابة عن أحدهم وهو لا يزال على قيد الحياة؟
أتصوّر أن المسألة تتعلق باستخدام الأسماء الواقعية للشخصيات، وهو أمر أقوم به فعلا للمرة الأولى حيث أن لدي اعتياد على استخدام العلامات الواضحة التي تثبت الهوية الحقيقية للشخصيات دون تسمية، ولكن في “إثر حادث أليم” كان استخدام الأسماء الصريحة ضرورة لا يمكن التنازل عنها؛ لأن الرواية من ضمن ما تقوم عليه هو التوثيق الحرفي التام لكل ما يتم تذكره أو ما يبدو أن هناك نجاحًا في استرجاعه ـ وسرده مهما كان، وليس هناك أي محظور أخلاقي يمكنه أن يعطل استجابتي العفوية لما تتطلبه وتقتضيه الكتابة؛ فإذا كان هناك من يستعملون الواقع بحرية إيذائية فإن لي حرية مماثلة في استخدام الكتابة، ولكن دون قصد عدائي، أو كتصفية حسابات قديمة، وإنّما فقط لأنّ الكتابة أرادت ذلك، بصرف النظر عن تصنيف هذه الحتمية، كما أن هذه الحرية ليست حكرًا لصالحي بالتأكيد إذ أنها في يد كل من يقرر الكتابة.
الطفولة بما فيها من براءة وسذاجة وطُهر حاضرة بصورة مُغايرة إذ اكتست برداء النقد والتعليق والتحليل عليها، فهل يُمكن القول بأن الرواية تأريخ للطفولة عامة دون التقيد بزمن مُحدد؟
نعم، ولنقل بشكل أكثر دقة أنها تأريخ لهذه الطبيعة الطفولية بكل ما يُشكّلها من تداخل بين الواقع والخيال .. لاشك أنني أشعر بالسعادة حينما يقال لي أنني لم أكتب في “إثر حادث أليم” عن طفل (الثمانينيات) فقط، وإنما عن أطفال الأزمنة الأخرى أيضًا، ومع ذلك أرى أن لكل طفل، مهما تشابه الأطفال له أسرارًا مستقلة، تخصه وحده، أفكاره ومشاعره الغريبة، المنطق العجيب لتخيلاته؛ فإذا كان الطفل في “إثر حادث أليم” كان يتخيل، مثلا ، الحكايات الخفية للعابرين وهو يراقبهم من الشرفة، أو أن صوت القطار سيلتهم جسده، أو أن النهر سيجذبه من بصره حين ينظر إليه من فوق الكوبري، أو أن سريره في الليل يتحوّل إلى سفينة تخوض مغامرات بحرية، وتسافر إلى جزر بعيدة، أو أن لديه دكان حلاقة في حجرة نومه، أو أنه يبيع المخدرات في صالة منزله، أو أن الزلزال وحش خرافي يعيش تحت الأرض، أو أن الزمن يمكنه أن يكون أبطأ من سرعته الفعلية حين يحسب الوقت بطريقة معينة، أو أن هناك ثلاثة قضاة في البلتكانة يراقبون حياته لإصدار حكمهم عليه، أو أن الدنيا خُلقت من أجله وحده، وأن جميع البشر يتظاهرون أنهم لا يعرفونه في حين أنهم مكلفون بمهمة سرية تجاهه؛ فإن لكل طفل أيضًا عالمه المخبوء، أو روايته الخاصة التي يجب أن تُكتب.
يتحدث الناقد روبرت همفري بأنّ تيار الوعي يعمل على إبراز الجوانب الذهنية للشخصية، أما المنولوج الداخلي المباشر فيه استرسال وعدم اهتمام المؤلف بالقاريء، فهل يُمكن القول أن الرواية تقف في منطقة فاصلة بين هذا وذلك؟
هذا تأويل دقيق، وواع بالفعل؛ فالرواية يقودها هذا الصوت الجوّاني، بتمثيلاته السردية المختلفة، حيث ينعكس وعيه المتعدد بالذكريات، وعواطفه تجاه ما يستدعيه، وطريقة تدوينه للماضي على طبيعة هذا الصوت .. نعم، هذه الرواية حرصت بشكل كامل على توثيق ما أردت له أن يظل موجودًا في العالم بواسطتي، أو أن يبقى من خلال أثر سأتركه .. تعمدت أن أنقل طفولتي أو جزء منها بكل الأوصاف والسمات والخصائص التي كانت لشخصياتها وأحداثها وأشيائها من الخفاء إلى الوضوح الساطع، وبدقة متناهية خصوصًا كل ما يبدو صغيرًا وبسيطًا وعابرًا وهامشيًا أو لا يمثل ظاهريًا أكثر من نفسه .. هي رغبة ملحّة، لا يمكن التفاوض بشأنها، كأنها الفرصة الأخيرة قبل الموت في إعطاء هذه الطفولة ديمومة خاصة، ليس فقط كفوتوغرافيا لغوية، تعويضية وشاملة لما لم يتم تسجيله في صور بل أيضًا لإدراج عناصرها ضمن هذا الإدراك الاستفهامي المتجاوز للنوستالجيا والذي تتم كتابته للذاكرة .. بالتالي تكتشف هذه العناصر وتخلق وتسترد من جديد علاقاتها بتفاصيل الماضي ككل حتى ما يبدو أنها أبعد الجزئيات عنها .. حينما تقرر هذا فلن يشغلك مدى الاسترسال أو مقدار الوصف أو ما يظنه (القارئ) تجاه أهمية ما أنت حريص للغاية على تدوينه بقدر ما تكون مهمومًا بألا تغفل شيئًا مما أردت أن تعيد تجسيده بالكلمات، وستكون هذه الذكريات فقط من أجل (قارئ) يؤمن بأن الأمر يشبه محاولة إعادة الحياة للماضي كما كان بالضبط أو ما يُتصور أنه كذلك بشكل مختلف، يحرّض إلهاماته المختزنة على التحرر، ولهذا فكل شيء بأدق شذراته يجب أن يُروى طمعًا في هذه الاحتمالات الممكنة طوال الوقت، هذا سواء كان قارئًا تنتمي طفولته إلي الثمانينيات أم لا، حتى لو كنت أعتبر الرواية في جانب منها هدية توثيقية بالفعل لأبناء الثمانينيات.
قُرب النهاية يتحدث البطل على أنّه يَكتب كمحاولة لعدم التذكر أو على نحو تعبيره “لعدم ترويض الذاكرة” فكيف يُمكن ذلك؟ هل من المٌستطاع تحقيق ذلك عمليًا؟
كاتب هذه المذكرات يستوعب أن تذكر الماضي ليس هو الماضي نفسه، وأن تدوينه يحوّل التذكّر إلى خسارة للتذكّر، أي أنها هزائم مضاعفة مهما كانت قوة الثقة لمشاعرنا أو لقراراتنا اللغوية تجاه الذكريات .. الماضي يُذكّر كاتب المذكرات في كل لحظة أن كلماته لا تمثّل الحقيقة كما كانت تمامًا، وهذا ما يدفعه أحيانًا للاعتقاد بأن إصراره على التذكر والكتابة هو نوع من محو الذاكرة طالما أن كل ما يرتكبه يساهم في إبعاده عن نقائها الخالص، وبالتالي وكما جاء في الرواية، يبدو كل استرجاع كأنه فقدان للماضي كما كان حقًا، ولأن الكتابة معادية للتذكر القاصر والمخذول أصلاً، فهي تضمن أن يبقى الماضي مُغيّبا، غير خاضع لسلطة الحاضر، أي غير مروّض، ولا يعلن لصاحبه عن هذا الوجود المقصي، الحصين والمتمنّع إلا بواسطة ما لا يمكن تذكره أو تدوينه، أي عبر الإشارات الذهنية الخاطفة، كما جاء في الرواية أيضًا، التي تمحو العالم بشكل مباغت وتعيدك بدهاء إلى طفولتك للحظة غير مكتملة، تتلاشى على الفور، كأنّ الموت نفسه هو الذي يفعل ذلك.
تلتف النهاية داخل ثوب من الغموضِ، فعند قراءة الفصل الأخير دون التقيد بالنص الأصلي، فيُمكن أن يُنظر إليها على كونها قصة يرتسم عليها طابع السوريالية الوحشية، وخاصة أنّه يحمل اسم مُبهم(لغز كاتب المسرح). ولكن على الرغم من ذلك فيُمكن الربط بين النص الأصلي، وبين النهاية من خلال نعي الأهرام مثلاً، الموجود في المقدمة والنهاية، فهل تريد التعليق على ذلك؟
بالطبع لا أستطيع أن أتحدث، الآن على الأقل ـ بشكل تفسيري عن ما يبدو غموضًا في الفصل الأخير، ولكن يُفترض أن “لغز كاتب المسرح” مبني على ما أعتقد أنها استفهامات أساسية للرواية: من هو الابن؟ .. من هو الأب؟ .. لماذا يستعير الأب الذي هو بالتأكيد على قيد الحياة ابنًا وهميًا لينشر مذكرات طفولته؟ .. هل الأب هو كاتب المسرح نفسه؟ .. ما هو الحادث الأليم؟ .. هل ما جرى في اليوم السابق لهذا الحادث كان كابوسًا وصلت فيه رغبة طفولية قديمة إلى هلاكها حينما حاولت أن تتحقق؟ .. هل وقع الحادث كنبوءة لكاتب المسرح أم لحقبة الثمانينيات؟ .. هو بالفعل لغز لا يمكن حله مهما كانت الإجابة على هذه التساؤلات.
ما الجديد القادم في إبداع ممدوح رزق في الميادين الإبداعية المختلفة؟
أجهّز للمجموعة القصصية الجديدة، كما بدأت بالفعل في كتابة مشروع روائي جديد، فضلا عن قرب الانتهاء من كتاب نقدي عن فلسفة السرد عند جورج باتاي.
موقع (كُتب وكتّاب) ـ 4 مارس 2018