الأحد، 26 فبراير 2023

كاربوف

يقولون إنني لاعب شطرنج جيد جدًا

لست فائق البراعة لأنني لا أتمرّن بما يكفي

هذا يعني أنني أسوء لاعب شطرنج في العالم.

في تصوري على الأقل

هي لعبة لا مكان فيها للتصنيف المتوسط

إما أن تتسم بالبراعة القصوى

أو تكون لا شيء على الإطلاق.

اقتنيت في الصبا كتابًا عن “أناتولي كاربوف”

ثم فقدته للأسف بعد فترة قصيرة

ولم أنجح في استرداده أبدًا

لا أتذكر منه سوى غلافه

صورة أيقونية بالأبيض والأسود لـ “كاربوف”

يجلس ككاهن أسطوري أمام رقعة شطرنج

مجهزة لمباراة لم تبدأ بعد.

النظرة الشيطانية في عينيه

تعلن النتيجة مسبقًا

تقرر مصير خصمه

من قبل أن يجلس على الطرف الآخر من الطاولة.

أتذكر أنني كنت أحدق في وجه “كاربوف” من حين لآخر

محاولًا بخيال عيني

إذابة تجهمه الحاد بشيء من البكاء

ببعض الدموع

كنت أفعل ذلك سخرية من انضباط وصرامة الشطرنج نفسه

من تحايله الطوباوي على فوضى العالم

وهو ما أحبه في هذه اللعبة تحديدًا

لكن ملامح “كاربوف” احتفظت بصلابتها المرهبة

وظل منتصرًا فوق غلاف الكتاب.

مع كل دور جديد

حتى ذلك الذي ينتهي بمكسبي

أوطد تعريفي الخاص للشطرنج:

ألا أخسر بسهولة

أن يبذل خصمي جهدًا كبيرًا للتغلب عليّ

أن أستمر في اللعب لأطول وقت ممكن

بينما أتخيل أثناء ذلك شكل الرقعة

حين ينتهي الدور بهزيمتي.

جرح إثر جرح

لكي أظل موجودًا بقدر ما أستطيع

خاصة بعد ترك الطاولة.

الخميس، 23 فبراير 2023

كتابة الفوتوغرافيا

ثمة كادر مجهول، محتجز، تائه “في أفضل الأحوال”، يُعادل “العرش الإلهي”، ولكنه لا يتوقف عن هدمه، يحاول انتزاع “وهم حضوري” خارج دوامات الجحيم “الحياة والموت” التي تزيّفها الفوتوغرافيا الشخصية كوجود مبرر.. يكافح للعثور على “أناي الإلهية” التي تُبطل الألوهة.. أشلاء غامضة، بتلاحمها المخادع، تشكّل “وهم الحضور”؛ يُدرك الكادر المجهول أنه في ادعائها الاستعبادي بكونها “أنا” ما يثبت حقيقتي “المطلقة”.. ما يؤكده كباطن مقموع للعنة.. يمر الكادر “متطوحًا” عبر غيابي المحاصر بين الصور لانتشال ظلالي الممزقة من عتمتها الأزلية.. كأن “تحريرها” هو أقصى ما يستطيعه من أجل الوصول إلى كينونتي الغيبية التي تطمسها “كادرات العالم”.. كأنه سيتخلص من احتجابه ليصبح “صورتي” المتوحدة بـ “ألوهتي” المستردة من السماء.

كتابة الفوتوغرافيا الشخصية ـ وليس الكتابة “عنها” ـ هي محو “الحدث” بالتزامن مع الإقرار به.. تعطيل “تكراره اللانهائي” كنسخة “صادقة” مما “وقع بالفعل”.. لم أكن “هناك”، بما يعني أن “هناك” كان “موجودًا” بطريقة أو بأخرى، ولكنه سيكف منذ الآن عن “الوجود” بفضل الفراغ الذي كشفت عنه “الكلمات” موضع “جسدي”.. سيحوّل “عدم وجودي” الحدث / التاريخ إلى “كذبة عارية” تجسدت في الماضي كيقين “متنكر” ومؤقت.. الكتابة فصل بين “الصورة” و”مرجعها” ـ كلاهما مدموغان بنفس الجمود العاشق أو الجنائزي بتعبير “رولان بارت” في “الغرفة المضيئة” / ترجمة: هالة نمَّر ـ أي تدمير صلابة الارتباط العفوي بين دال “المحبة” أو “رثائها” الذي لا يميزني عن تفاصيل الكادر، والمدلول المسالم الذي يريد إكراهي على صياغته.. لغتي ـ تحديدًا ـ في مجابهتها لـ “الأثر اللغوي” هي انتقام من الحكمة “الملغمة” للفوتوغرافيا.

في 18 يناير 2022 قتل الباكستاني “علي زين” البالغ من العمر 18 سنة 4 من أفراد عائلته “والدته وشقيقتيه وأحد أشقائه”، وبحسب شرطة “لاهور” فإن زين قد أكد خلال استجوابه بأنه فعل ذلك معتقدًا أن أسرته ستعود إلى الحياة مرة أخرى كما في لعبة “ببجي”.

لنتخيل أن القتل يتم داخل الصور ـ بأثر رجعي ـ حيث كلماتي “تماشيًا مع المجاز المبتذل” هي الطلقات، لا لإنهاء الحياة التقليدية بشكل آخر متعمّد تحت سيادة الإيمان بأن ثمة “عودة” للقتلى سواءً إلى العالم أو إلى “الفردوس”، وإنما لتخريب الحياة التي قادت إلى الموت.. الحياة المتمثلة في أجسادهم المرغمة على تصديق “الجنة والنار”.. على الدفاع بضراوة عن حتميتهما.. القتل داخل الصور يتم بواسطة “لعبة” انتزاع “وهم حضوري” من بين تلك الأجساد، بشهوانية خيالية لاسترجاع خلود”نا” المنيع، المغتصَب من “الألوهة”.. ليكون كل منا ذلك الإله المفقود، العائد فوق أنقاض “القدر”، مجردًا من الحاجة إلى “الشر”.

في كتابها “عزيزتي الذاكرة” تقتحم الكاتبة الأمريكية “فيكتوريا تشانغ” فوتوغرافيا عائلتها برسائل استفهامية تحت وطأة الشعور بفقدان أشياء لم تكن تمتلكها أبدًا:

“ما هو الشكل الذي يمكن أن يعبّر عن فقدان شيء لم تعرفه من قبل ولكنك تعلم بوجوده؟ أراضي لم تعرفها من قبل؟ الناس؟ هل يمكن للمرء تجربة مثل هذه الخسارة؟”.

كانت أكثر الحقائق الأساسية عن ماضي عائلة تشانغ غامضة بالنسبة لها، وإذا كانت بهذا الاقتحام تطارد “شقوق الماضي” في حياة أبويها وأجدادها فإن كتابتي للفوتوغرافيا الشخصية اجتياح للصمت “الإعجازي” الذي يقبض على حياة العالم حيث كل ما لم أعرفه “وهو كل شيء فعليًا” كان يجب أن يكون لي.. تاريخ الوجود الذي أواصل فقده، باعتباره ملكيتي التي أشعر بها ولم أحصل عليها كأخطبوط كوني “كما أردد مرارًا وتكرارًا” أُجبر على الانزواء: “لم أعش كل الحيوات وأمت كل الميتات”.. كتابة الفوتوغرافيا الشخصية ثأر من كل لحظة في حياة كل كائن لم يُسمح لي بإدراكها.

أي كتابة؟

هذه سطور من مقالي Doodlebug” للمخرج كريستوفر نولان: جريجور سامسا مُطاردًا ظلاله”:

“هذا ما يجعل النسخة الضئيلة في وعي الجسد الذي يطاردها مُصاغة من الكلمات.. اللغة سر انمساخها، ولذا ينبغي أن تُسحق ـ كالخطاب المنبعث عبر سماعة الهاتف قبل “إغراق كلماته” في ماء الدورق ـ حتى يتمكن الخيال من الاستحواذ على الحقيقة، التي هي كل ما لا نعرفه، كما يشير جاك لاكان، وحتى يتجرّد جريجور سامسا من الخطأ مع كل فهم تحت سلطة العلامات بما أن الكلمات ـ وفقًا للاكان أيضًا ـ هي موت الأشياء.. المطاردة إذن كأنها محاولة للعثور على الأشياء خياليًا خارج موتها اللغوي”.

الكتابة التي تكشف عن كون اللغة هي سر وهم الحضور / الانمساخ.. التي تدفع الكلمات لمحاولة أن تميت غاياتها القيمية بنفسها لكي تؤكد موت الأشياء “دوامات الجحيم / الحياة والموت”.. الكتابة التي تجاهد لأن تستعيد الألوهة المقصية حيث يصبح العثور على الوجود هيمنة كلية / ولادة أصلية للعالم، عبر الخيال الناجم عن موت أشيائه لغويًا.. “الحقيقة هي كل ما لا نعرفه”.

بالالتفات إلى الثقافة الشعبية؛ يُعثر دائمًا في المقابر على صور فوتوغرافية مدفونة لأشخاص تحمل رسومًا لطلاسم غير مفهومة وكلمات متفرقة مكتوبة بخط اليد مثل: “موت.. مرض.. إهانة.. كٌره.. ذُل.. خراب.. حزن” وذلك في ما يُسمّى بـ “العمل السفلي”.. ماذا لو استبدلنا هذه الكلمات بأغنية “روما” لكايروكي:

“أما بعد هبدأ الكلام بوعد
هفضل معاك لو انت رعد أنا برق
أنا رعب أنا الماضي الصعب
أنا انت لما وقعت
أما الشيطان وزك وسمعت
أما اتعميت ولقلبك بعت

أنا الألم اللي في قلبك أنا قلم كتب نعيك أنا
أنا قلم على خدك أنا اللي هنتك كسرتك أنا
أنا علم على أرضك محتل فاكرني حررتك أنا
مهما تكبر أنا أصلك أنا جذور شجرتك أنا”.

ماذا لو تخيّلنا أن لكل منا صورة شخصية مدفونة في قبر وتحمل كلمات كهذه؟.. أي أن تتقمص ذلك “السحر” التدميري الذي يحدد مسار ومصير خطواتنا؟.. ما الفرق بين أن تكون كلمات “أغنية”، وكلمات تغطي صورة شخصية مدفونة في قبر؟.. الأغنية قالب عام، سيتشكل مع الحياة الفردية التي تمر عزلتها داخله.. كلمات الصورة استهداف مباشر لهذه الحياة، كما لو أن صاحب الصورة قد قصد أن يدنّس قبره بنفسه قبل الموت.

في قصيدة “صورة ذاتية في مرآة محدبة” التي كتبها الشاعر الأمريكي جون آشبري / ترجمة: غسان الخنيزي عن لوحة الرسام الإيطالي فرانشيسكو ماتسولا “بارميجيانينو” تُحكى سيرة التقنية الفنية التي أنتجت اللوحة ودوافعها وبصماتها كممارسة أقرب لفانتازم شعري.. التشكيلات الحسية وأداءات الباطن والحركة التشابكية للنظرة.. يرسم “آشبري” اللوحة مجددًا بالاعتماد على عزل اللغة عن الرغبة المقموعة، المخاتلة من وراء القدر، حيث الأشياء “ليست هي نفسها”.

“السر في الأمر أوضح ما يكون. الخيبة فيها تلذع بالألم. / تجعل الدموع الساخنة تفيض: لأن الروح ليست روحًا، وليس لها سر، ضئيلة، وتلائم تمامًا / تجويفها: غرفتها، ولحظة الانتباه خاصتنا. / ذلك هو اللحن وما من كلمات”.

الرغبة المقموعة ساطعة في الشكل الكروي للحياة، واليد التي تريد الخروج من الكرة تحاول القبض على ما خارجها المعتم.. تصفية الحساب مع الأسباب المقدسة لنفي الذات الأصلية “المستحقة للوجود” واستبدالها بألم دون معنى.. بروح “ليست روحًا” لأنها مصنوعة من بلاغة خائبة.. اليد تسخر من جُرم التجروء على “السحر غير العادل” حين تسعى لاختراق مسافاته الطاحنة “كما تبدو الصورة في المرآة المحدبة”، للانفلات من ديناميكيات القتل، نحو الحماية الإعجازية المحرمة.

“ذيول الحركة التي تؤرجح الوجه / في مرمى النظر تحت سماوات المساء، دون معمعة زائفة كزعم بالأصالة. / إنما هي الحياة مكنونة في شكل كرة. يود المرء لو يخرج يده / من الكرة، لكن امتدادها، وما يحملها، لن يسمحا بذلك”.

نظرة “بارميجيانينو” هي الألواح الزجاجية، والعوارض الخشبية، والفرو، والقماش في قصيدة “آشبري”.. النظرة المترنحة بشبقية الحسرة، بموضوع اللذة المفقود داخل ما يكوّن فضاءً “ديستوبيًا” للجسد.. بالشفقة تجاه الماضي الذي تم تضييعه ـ عمدًا ـ في مفارقات العنف والشروط الغامضة للعجز.

إنني أضاجع كل صورة مثلما تخيلت مضاجعة “حسبو” لـ “شفاعات” / الرواية الوحشية في قصة “شباب رواية”: “كان حسبو يعرف أن مضاجعة الرواية الوحشية تحصّنه من المرض والموت.. أنه كلما حفر في جسدها تعمّق اكتشافه لنفسه كسيزيف مستمتع بشقائه.. كبروميثيوس متلذذ بإطفاء المعرفة كي يضيء الإبهام الذي يحرقه.. كنرسيس يتبول سعيدًا على انعكاس صورته في الماء”.

المضاجعة هي نفسها ما يحوّل الصورة إلى رواية وحشية حيث لم تكن كذلك لحظة التقاطها.. هذا الشكل الانتصابي للاختفاء الذي أمارسه في كل كادر هو ما يتكفل بذلك.. الذي يعني بدوره “ظهورًا” إلهيًا يتكوّن على نحو غير مرئي.

لطالما كانت نصوصي أقرب لصور تخيليية مقتنصة من الصور المتعينة الزائلة للواقع.. قصتي القصيرة الأولى في عمر الثالثة عشر على سبيل المثال كانت ناجمة عن صورة متحركة على شاشة التليفزيون لرجل يجلس فوق كرسي متحرك.. الصور التي أجسّد نفسي داخلها حتى دون ظهور لي فيها.. هذا ما يفسر عدائيتي الغريزية للصور الشخصية.. ذلك لأنها قائمة على توثيق قهري لما لا يُشكّلني.. تثبيت متسلّط لأنا مزورة لا تنتمي لي، حتى ـ وربما خاصة ـ تلك التي التقطها بنفسي.

مع ذلك الانشغال بهياج التملص بالكتابة كآلية “حسية” من سلطة الفوتوغرافيا بوصفها حاجزًا أنطولوجيًا بين “الأنا” الكاتبة وألوهيتها المستلبة؛ أتذكر الآن هذا المقطع لشخصية “ريتشارد الثالث” في مسرحية شكسبير “هنري السادس” / الجزء الثالث:

“فلأجعلن نعيمي أن أحلم بالتاج وأن أنظر ما دمت حيًا إلى هذه الأرض كأنما هي الجحيم، حتى يستقر على هذا الجسد المشوّه الذي يحمل هذا الرأس تاج مجيد. غير أني لا أعرف بعد كيف أنال التاج، لأن كثيرًا من الأحياء يحولون بيني وبين ما أبغي؛ فصرت كأني إنسان ضل الطريق في غابة مليئة بالشوك، لا عمل له إلا أن يقطع الأشواك، وأن تقطعه الأشواك. ليبصر الطريق أمامه ولكنه يضل الطريق، ولا يعرف كيف يصل إلى المكان الفسيح، ولكنه يظل يكدح جاهدًا كي يعثر عليه. ذلك هو شأني، أعذب نفسي كي أستحوذ على التاج البريطاني، فإما أن أخلّص نفسي من العذاب من تلك اللحظة، أو فلأشق طريقي بالسيف يقطر دمًا. إن في مقدوري أن أبتسم وأن أقتل حين أبتسم وأقول إني راض عما يجزع في قلبي، وأبلل وجنتي بالدموع المصطنعة، وأغيّر ملامح وجهي بما يتفق مع كل الظروف. سوف أغرِق من الملاحين أكثر ممن ستغرقهم شواطئ البحار، وسأهلِك ممن ينظرون إليّ أكثر ممن يهلكهم الباسليق. سأكون خطيبًا كنسطور، وأخدع بمكري أكثر ممن يستطيع أن يخدعهم أوليسيس، وأفوز بطروادة أخرى كما فاز بهذه سينون، وأتلوّن أكثر مما تتلون الحرباء، وأبدل صورتي كما بدلها بروتيوس لأحصل على ما أريد، وأكون أنا المعلم ومكيافيلي السفاح هو التلميذ. أفأستطيع أن أفعل هذا كله ثم أعجز عن الحصول على التاج؟ تبًا لي! إن لم أقتلعه وإن كان أعز مما هو منالًا”.

تلخص سوزان سونتاغ في كتابها “حول الفوتوغراف” / ترجمة: عباس المفرجي جوهر الإرادة الاحتلالية للصورة:

“عندما نصوّر، فإننا نستولي على الشيء المصوّر. هذا يعني أننا نضع أنفسنا في علاقة معينة مع العالم تشبه المعرفة ـ وبالتالي السلطة. الصور الفوتوغرافية لا تبدو بيانات عن العالم أكثر من كونها قطعًا منه، مصغّرات للواقع، يمكن لأي شخص أن يصنعها أو يكتسبها”.

في القرون الوسطى كان “المذنب أخلاقيًا” يُجبر على ارتداء قناع العار، والذي يتكوّن من المعدن الصلب ويُربط بإحكام غاية في الإيلام على الوجه.. كتابة الفوتوغرافيا حركة دائمة لنزع القناع الملتصق بوجهي في كل صورة مؤكدًا العار الذي يوصمني لمجرد امتثالي لالتقاطها.. كتابة الفوتوغرافيا أشبه بنزعة فاوستية  لإفساد الضلال المتجذر في “حياد” و”براءة” الصور الشخصية.. محاولة صد “الملامسة” التعسفية بين النظر وما يُرى / “أنا” في الكادر.. لنتأمل هذه الفقرة من كتاب “الفضاء الأدبي” لموريس بلانشو / ترجمة: خالد حسين:

“لكن ماذا يحدث عندما [يظهر] ما تراه، على الرّغم من أنه على مسافةٍ، فهو يبدو أنَّه يَلْمسُكَ ملامسةً جاذبةً، حينما أُسْلوب الرؤية يكونُ صنفاً من اللمس، حينما تكون الرؤية ملامسةً عن بعد؟ ماذا يحدثُ عندما ما يُرى يفرضُ ذاتَهُ على النّظر، كما لو أنَّ النَّظر مقيّدٌ، موضوعٌ في ملامسةِ المظهر؟ ما يجري ليس اتصالاً فعّالاً، وليس مبادرةً والفعل الذي لا يزالُ هناك يمثّلُ ملامسةً حقيقيةً. وعلى الأصحّ، يَحْدُثْ أنْ تُؤْخَذَ النَّظرةُ، ويجري استيعابها من خلال حركةٍ ثابتةٍ وعمقٍ ضحلٍ. وما يُمنح عبر هذا الاتصال عن مسافةٍ هو الصُّورة”.

 إن مقاومة الكتابة لما يمكنني أن أطلق عليه “الاحتيال الاجتماعي” في الفوتوغرافيا الشخصية، وتحديدًا نوعية معينة من الصور الجماعية؛ تعادل التذكير بتلك الحقيقة التي أوصيت ـ من ضمن حقائق عديدة ـ بعدم نسيانها في كتابي “وصية كلنكسر”:

“كنت أعرف تمامًا في مناقشاتي للوحاتهم ومقالاتي عنها حدودهم البائسة، ولم تكن كتاباتي عن تلك اللوحات تخص مضامينها بقدر ما كانت نتيجة لاستغلالها في تخيلاتي النقدية الخاصة، وتطويري لها نحو الآماد الذهنية التي لا يستطيعون الوصول إليها ثم تحويلها بمنتهى الكرم من جانبي إلى أفكار تبدو كأنما يقصدوها حقًا في لوحاتهم (كان يظهر تأثير ذلك دومًا في كلماتهم المنتشية بمزيج من السعادة والدهشة والعجز عند وصف مقالاتي عن أعمالهم).. هذا ما كنت أفعله مع كل رسّام كتبت عن لوحاته ذات يوم، كأنما كنت أحاول جعله نسخة خفية من ذاتي، يمكنني تشريحها بواسطة امتلاك حياته المتجسّدة في لوحة.. هذا ما يجعل أيضًا تلك المقالات تعليمية في المقام الأول.. محاضرات لرسّامي اللوحات التي أتناولها، ومن ثمّ فإن كتبي النقدية في حقيقتها مواد دراسية، كان هناك من يرسلون لي على فيسبوك ويخبرونني صراحة بأنهم يستذكرونها كمقررات طمعًا في كتابة نقد مماثل”.

……………………………………..

مقدمة كتاب “وهم الحضور” / مذكرات الكادر الضال ـ يصدر قريبًا

موقع "الكتابة" الثقافي

21 فبراير 2023

الخميس، 16 فبراير 2023

الشطة

تأخذه أمه إلى المطبخ وتضع الشطة في فمه .. كان صغيرًا جدًا، ربما لم يكن قد التحق بالمدرسة الابتدائية بعد أو ربما كان في عامه الأول بها .. لا يتذكر الخطيئة التي ارتكبها وقتئذ لكي يُعاقب هكذا، كما لا يتذكر احتراق فمه بقدر ما يتذكر أن ثمة من كان يقبض على ذراعيه الصغيرتين ـ شقيقته الكبرى في الأغلب ـ حتى يمنعه من مقاومة تلقي الجزاء .. بقدر ما يتذكر ارتباك أمه وهي تفعل ذلك .. كان في عينيها وملامحها وحركة يديها وهي تكوّم حفنة صغيرة من الشطة وتمررها عنوة بين شفتيه اللتين لم ينجح في إبقائهما مقفلتين؛ كان ثمة تردد غامض يبدو كأنها تقول من خلاله: “عرفت أن هناك أمهات يفعلن ذلك في أبنائهن، وربما عليّ أن أقوم بذلك أنا أيضًا” .. هل كانت تجرّب طريقة شائعة لعلاج تبوله في الفراش أثناء النوم؟ .. كانت أمه تتأرجح بين ما لا تريده، وما ترغب في أن تختبره .. بين عدم إيذاء طفلها بهذه الطريقة، وبين أن تنتهز الفرصة لتجرّب الشعور الذي حصلت عليه نسوة أخريات باستخدام أبنائهن .. هل سيكون شعورًا منقذًا لها في صورة “تأديب طفل”؟ .. هل سيفسر لها سر “الشطة” التي تحرق عمرها؟ .. خندق زجاجي واحد يمكنه أن يضم معلمة لغة عربية وامرأة أميّة في الريف وتاجرة مخدرات في منطقة شعبية .. يعتقد أنه بكى، وربما لم يحدث، لكن المؤكد أنه كانت هناك دموع في مكان ما داخله .. المؤكد أن أمه قد احتضنته في لحظة تالية لهذا المشهد .. ليست لحظة لاحقة على الفور، ولكنها ربما فعلت ذلك بعد أيام أو شهور أو سنوات .. حضن قد يبدو لا علاقة له بالمشهد ولكن ثمة ارتباط وثيق بينهما .. في قلب الطفل ستمتزج سعادته بهذا الحضن، وإحساسه المبهم بأنه مرغم عليه.   

كتابة هذا الحدث تعني رصد الشعور العقلي لطفل صغير بمشهد قادم .. إحساس هذا الطفل بنقصان فادح في هذه اللحظة سيتكوّن نتيجة له إدراك ما بأن الأمر لابد أن يكتمل في لحظة أخرى .. أنه في طريقه للاكتمال دون تحديد الموعد .. يشعر الطفل على نحو مراوغ بأنه محتجز داخل حافة مائعة، وأنه لابد من وجود صورة تكميلية لما يحدث الآن تحتاجها تلك الدموع المكتومة في صدره، الأكثر شبقية دون شك من تلك التي لا يتذكر هل تدفقت أم لا من عينيه إثر شعوره بالاحتراق الموزع بين فمه المشتعل واستكانته الملتذة داخل حضن أمه.

جزء من رواية قيد الكتابة

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

كنزة قديمة

أخبرتني شقيقتي بأنها ما زالت محتفظة بكنزة صوفية قديمة لأبي، كان يرتديها تحت ثياب النوم في ليالي الشتاء الباردة. كنت أجلس في منزلها ذات مساء شديد البرودة، ولم أعط اهتمامًا كبيرًا لما قالته. لكنها طلبت أثناء توديعي عند الباب في نهاية زيارتي الأسبوعية لها أن آخذ الكنزة لأرتديها في هذا “الطقس السيّئ”. رفضت بتلقائية مدفوعة بنوع من الاستنكار، ومع ذلك ظلت تلح عليّ كأنها مسألة شديدة الأهمية بالنسبة لها. نعم، كانت كذلك بالفعل. أن أرتدي ملابس أبي فهذا يعني ارتداء موته. هكذا كان الأمر محسومًا داخلي. الموت الذي لا يعني فناءه وحسب، وإنما الحياة التي سبقت نهاية عمره بالضرورة. كنت أريد التخلص من إصرارها والمغادرة سريعًا فأخذت الكنزة منها، متأكدًا بالطبع أنني لن أستعملها.

لم يكن الطقس باردًا أكثر من الأيام السابقة، ورغم ذلك نظرت إلى كنزة أبي قبل النوم وتساءلت في نفسي: “لما لا أجربها حقًا، بصرف النظر عن أي شيء وعلى سبيل التغيير؟”. ارتديت الكنزة تحت ملابسي ثم أطفأت ضوء الحجرة وتوجهت إلى السرير.

رأيت أبي يجلس على حافة شباك حجرة نومي في الطابق السادس، ظهره للشارع ووجهه لي.  أمام الباب المغلق؛ كنت أقف في بداية الحجرة بجسد مرتجف رغم الكنزة الثقيلة، أتوسل له أن ينزل من على حافة الشباك كي لا يسقط، وفي نفس الوقت أسمع طفلتي تطرق الباب بقوة وتطلب مني أن أفتحه. لكن أبي كان هادئًا، مبتسمًا، في عينيه طمأنينة جنونية، ويهز قدميه في جذل كالأطفال. قال لي: “أريد أن أخبرك بسر حياتي”. نبرته تبدو كما لو أنه سيخبرني بسر الكون وليس حياته فقط، أو أنني شعرت بها كذلك. رفع يديه اللتين كانتا تستندان إلى الحافة، وبدأ يرسم بأصابعه في الفراغ أشكالًا مبهمة، بالتزامن مع حركة شفتيه بكلام دون صوت. حاولت أن أفهم ما الذي تعنيه هذه الرسومات الخفية والكلمات غير المسموعة مع تزايد رعبي من سقوطه، لكنني عجزت عن ذلك. بدأت أفكر في احتمالات لغوية لكل الأداءات والإيماءات الصامتة التي يقوم بها. في عقلي؛ رحت أكتب ما أتصوّر أن أبي يقصده، موقنًا أن تلك الحصيلة المتزايدة من الاستنتاجات تخصني أكثر مما تتعلق به. مع هذا؛ حتى ما أكتبه في عقلي لم يكن مستوعبًا تمامًا بالنسبة لي. لم أملك سوى مواصلة الكتابة فحسب حتى استيقظت.

في اليوم التالي كان أبي لا يزال جالسًا على حافة الشباك، لكنني كنت أقف متقدمًا خطوة باتجاهه، وطفلتي تواصل طرق باب الحجرة المغلق وتناديني لكي أفتحه. توسلت لأبي مجددًا أن ينزل، لكنه ظل محتفظًا بنفس السكينة المخبولة والملتذة. مرة أخرى قال لي وبالنبرة ذاتها: “أريد أن أخبرك بسر حياتي” ثم عاد يرسم بأصابعه في الفراغ ويحرّك شفتيه؛ فرحت أكتب في عقلي المعاني التي أظنها داخله دون أن أفهمها كليًا ثم استيقظت.

كل ليلة يتكرر الأمر. شيء ما يجبرني على البقاء مرتديًا الكنزة الصوفية، وأرى نفس الحلم باختلاف وحيد؛ مكان وقوفي الذي يقترب من أبي يومًا بعد آخر، إلى أن وجدت نفسي فجأة بعد الاستغراق في نوم بالغ العمق جالسًا على حافة الشباك، مكان أبي الذي لم يعد موجودًا. رأيتني أرسم بأصابعي في الفراغ أشكالًا مبهمة، وأحرّك شفتيّ بكلام دون صوت بينما طفلتي تقف أمام الباب المغلق مرتدية الكنزة القديمة وتتوسل لي أن أنزل.

اللوحة لـ Edward Hopper 

الأحد، 5 فبراير 2023

وداعًا همنغوي: جثة الظل الفقير

 

في الرسالة التي وضعها داخل زجاجة وألقى بها في البحر إلى صديقه أندريس الذي رحل إلى الشمال؛ كتب "ماريو كونده" بطل رواية "وداعًا همنغوي": "وأنا الذي ما عدت شرطيًا، وما زلت عاجزًا عن كتابة حكاية رقيقة ومؤثرة، مؤثرة بحق".

ماذا لو كانت "وداعًا همنغوي" هي تلك الحكاية التي لم يتمكن من كتابتها الشرطي المتقاعد وبقيت كامنة داخل أكثر أغوار نفسه عتمة وإبهامًا؟ .. ماذا لو أن ذلك الشرطي الفدرالي الذي عُثر على جثته في مزرعة "بيخيا" والتي أقام إرنست همنغوي فيها بيته الهافاني القديم؛ ماذا لو أن ذلك الشرطي لم يكن سوى استعارة سردية لماريو كونده قائمة على الإغواء نفسه "التلصص على همنغوي"؟ .. ماذا لو كانت "وداعًا همنغوي" هي الثأر الذي لا يريد التحقق من "بابا همنغوي" أو ذلك "السافل الذي ما زال يمشي هنا" أي حيث يشير ماريو كونده إلى نقطة غير محددة في صدره؟.

"كنت معجبًا بذلك الرجل، لكنه بات أثقل على قلبي من الجبل. لقد تبيّن لي أني لا أعرفه. ولست أنا الوحيد الذي لا يعرفه، بل لا أحد في الواقع يعرفه. دعني أتحقق من الحكاية فربما أصل إلى حقيقته".

في رواية "وداعًا همنغوي" لـ "ليوناردو بادورا" والصادرة عن دار المدى بترجمة بسّام البزاز؛ لا يتعلق الأمر بالعجز عن امتلاك الحياة "الأسطورية" لكاتب "أيقوني" في تاريخ الأدب العالمي، أو بتنقية هذه الحياة من الخطايا والزيف بقدر ما يقوم على الصراع الأزلي بين "كاتب" و"الكاتب" بألف لام التعريف .. بين الشخص الذي "يكتب" وسلطة الصورة المهيمنة للكاتب النموذج أو المثال التي يجسدها همنغوي.

"ابتسم كونده ونظر إلى البحر. الخليج الصغير، الذي كان في أوقات أخرى يعج بقوارب الصيادين، بات مسطحًا مائيًا مقفرًا متلألئًا.

ـ هل تعلم مانولو؟ ... ـ توقف وتناول جرعة ـ أتمنى لو كان همنغوي من قتل ذلك الرجل. منذ زمن وأنا أستثقل ذلك السافل".

أراد ماريو كونده تصوير مقتله "المجازي" على يد همنغوي عن طريق مطاردة الدليل الذي يثبت أن من أطلق الرصاص على عميل الشرطة الفدرالية هو همنغوي نفسه .. أراد كونده أن يتحرر من أسر هذه اللعنة حين يراها متحققة بشكل مراوغ، متنكر، منفصل عن حياته المنطوية التي مرت كظل مفتون، محاكِم، ومحتقِر لحياة همنغوي .. كونده والعميل الفدرالي كانا يخوضان المسار ذاته الذي قادهما في النهاية إلى القتل: مراقبة همنغوي .. كان لكل منهما دافع مختلف، غاية متنافرة مع الأخرى، ولكن النتيجة ظلت أشبه بالحكمة التي تكشف بصلابة عن عقاب التورط في هذه المراقبة أيًا كان هدفها .. هكذا رأى كونده نفسه، وهكذا أراد أن يثبت لذاته وللآخرين تلك الحقيقة المتوارية داخله، والتي لا تفسر سيرة همنغوي، وإنما تفسّر العُمر الفقير الذي عاشه كونده بوجه خاص كما يبدو بالنسبة له.

"وراح يأتي، عن وعي واستمتاع، بتلك الأفعال التدنيسية التي لم يتصوّر يومًا ما أنه سيفعلها، فبدأ بتفحص اللوحات الزيتية التي تصوّر مشاهد لمصارعة الثيران. وتذكر فجأة كيف أن حبه للكاتب تراجع وانتهى حين كُشف النقاب عن حقائق تتصل بالصداقة القديمة التي كانت تربط همنغوي بدوس باسوس. لكن مشاعر الإعجاب بهمنغوي لم تجف في قلبه دفعة واحدة. بل لقد بدأت المسافة تتشكل حين راحت الرومانسية تفسح مكانًا للشك وبدأ معبوده الأدبي يتحوّل في نظره إلى كائن متعجرف وعنيف وعاجز عن مقابلة من يحبه بالحب".

ماريو كونده إذن كان يراقب ماضيه من خلال "الملحمة البطولية المخاتلة" لهمنغوي .. يتقمص جسده، شخصيته، أفكاره، انفعالاته، هواجسه، حركاته، ألمه ومتعته .. يتقمص كتابته: "حين بدأت الكتابة بدأت أكتب مثله. هذا الرجل كان يعني الكثير بالنسبة إليّ" .. تلك هي المسافة التي اتخذها كونده بينه وبين ما عاشه بدءً من اللحظة التي ألقى فيها التحية على همنغوي وهو طفل صغير يقف بجوار جده عند مرسى "كوخيمار"، مرورًا بتقاعده عن العمل كشرطي، وحتى اللحظة التي ألقى فيها زجاجة في البحر تحمل رسالة إلى صديقه الجالس على الجانب الآخر ليخبره فيها بأنه لم ينجح في كتابة الحكاية المنشودة .. المسافة الغائمة التي ظلت عالقة في متاهة همنغوي.

"لقد أصبح السلاح القاتل في أدبه، شيئًا فشيئًا، مرادفًا للرجولة وللشجاعة. وضعه في يد جميع أبطال رواياته، الذين استعملوه أحيانًا للقتل. مع ذلك، فلا يُعرف عنه أنه قتل. قتل آلاف الطيور والكثير من أسماك القرش والخرمان ووحيدات القرن والغزلان والوعول والثيران والأسود والحمير الوحشية".

لماذا أيقن كونده بعجزه عن كتابة حكاية "مؤثرة بحق"؟ .. هل لأن التقمص يثبت استحالة أن تكون ذلك الشخص الذي تتقمصه، ومن ثمّ فهناك ثمن لهذا سيُدفع بالضرورة؟ .. هل لأن ذلك الشخص على مدار سنوات السعي إلى التوحد به أثبت أنه خائن بشكل أو بآخر للملامح الاستحواذية التي تم تكوينها له في مخيلة المحبين؟  .. هل لأنه لم تفلح أي صيغة ممكنة لبلوغ التآلف أو التعايش بين الكاتب و"شروره" في وعي الآخر الذي أهلك خطواته في تتبع ذلك الكاتب؟ ..  أم أن السر يكمن في "مؤثرة بحق"؟ .. في ما يعنيه التأثير، ما يحدده، يفرضه، في الشروط والمواصفات الاستعبادية لإنجازه حين ترتبط بحياة "علامة أدبية" مثل همنغوي؟ .. هل يكمن العجز في عدم القدرة على تجاوز "خرافات التأثير" مهما كانت قوة تجذرها وطغيانها وإلحاحها عبر "معجزات المكرسين" في تاريخ الكتابة؟ .. "وداعًا همنغوي" هي حكاية ماريو كونده المختبئة لمجرد أن بإمكانها أن تثير هذا النوع من الاستفهامات.

"تعرف أنه كان في سنواته الأخيرة يقول إن الأف بي آي تلاحقه. زوجته لم تكن تصدق ما يقول. وقال الأطباء إنها تهيؤات، ضرب من هوس الاضطهاد. ولعلاج ذلك أخضعوه إلى خمس وعشرين صدمة كهربائية. ممتاز! ـ هتف كونده على الرغم منه".

يبدو ماريو كونده بالنسبة لي أقرب لأن يكون الرجل العجوز في قصة إرنست همنغوي "عجوز على الجسر" والتي كتبها بذكريات عمله كمراسل حربي لاتحاد صحف أمريكا الشمالية في الحرب الإسبانية .. رجل وحيد محتجز في مفترق طرق .. لا يمكنه العودة إلى مدينته "كما كانت في الماضي" ولا يستطيع التقدم بعيدًا عن اغترابه "مدينته الآن" .. أجبر على التخلي عن الأحلام الصغيرة التي كان يعتني بها كما أجبر العجوز في القصة على التخلي عن الحيوانات التي كان يرعاها .. لم يصبح مثل همنغوي، ولم ينجح في أن يكون شخصًا غيره .. طحنته حروب الزمن دون أن يشارك فيها .. لا يعرف هل يمكن لتلك الأحلام التي غادرته أن تعتني بنفسها مثلما كان يرجو العجوز لقططه التي فقدها بحيث يقدر ذات يوم وقبل لحظة النهاية على استردادها في طور التحقق أم أنها سوف تتبدد دون رجعة .. كان همنجواي في هذه القصة يخاطب كونده بينما يخاطب نفسه .. كأنه كان يخبره دون كلمات بأنه سيأتي وقت لن تستطيع فيه القطط أن تعتني بنفسها .. ربما تخيل كونده حين قرأ هذه القصة أنه ذلك العجوز بالفعل .. ربما أدرك حينئذ أن رغبة في الانتقام تنمو داخله نحو همنغوي قائمة على هذا الخطاب تحديدًا .. على المصير الذي قرره همنغوي لحياته دون أن يعرف عنه شيئًا ومن خلال قصة تدور عن حياة رجل آخر .. رجل تحوّل حين قرأ ماريو كونده قصته إلى راصد لهمنغوي وليس العكس .. رجل يفتش وينقّب في حياة همنغوي ليقبض على مفترق الطرق الذي ظل يدور ذلك الكاتب الجامح داخله .. مفترق الطرق الذي دُفن ماريو كونده في أعماقه.

"يظهر همنغوي واقفًا في لقطة جانبية، وفي خلفية صف من الأشجار. شعر أبيض ولحية بيضاء تمامًا، أما قميص الغنغهام فيبدو كأنه لهمنغوي آخر، أضخم جسمًا من الذي يبدو في الصورة: كان جسمه قد انكمش، وكتفاه تهدلتا وضاقتا. كان ينظر مطرقًا إلى شيء لا يظهر في الصورة، وكان يكفي أن تنظر إلى تلك الصورة ليتملكك إحساس مقلق بصدقها. كانت ملامحه ملامح عجوز طاعن في السن، وبالكاد تذكّر باسم الرجل الذي طالما استعذب العنف واستلذه. أسفل الصورة إشارة إلى أنها التقطت في "كيتشوم" قبل إقامته الأخيرة في المستشفى، وكانت واحدة من آخر صوره.

ـ إلى ماذا تراه ينظر؟ ـ سأل مانولو.

ـ إلى شيء على الطرف الآخر من النهر، بين الأشجار ـ رد كونده ـ كان ينظر إلى نفسه، من دون جمهور، من دون ثياب تنكرية، من دون أضواء. كان ينظر إلى رجل قهرته الحياة. بعد شهر أطلق النار على نفسه.

ـ نعم، يظهر منكسرًا.

ـ على العكس: هنا يبدو متحررًا من الشخصية التي حبس نفسه فيها. هذا هو همنغوي الحقيقي، مانولو. ها هو الرجل الذي كتب النهر الكبير ذو القلبين".

لماذا لا يريد الثأر أن يتم حتى لو كان بإمكان ماريو كونده حين ينضم إلى نادي (الكوبيين الهمنغوانيين) أن يتغوّط على همنغوي؟ .. لأن الثأر في حقيقته يستهدف ما هو أبعد أو أكثر تلغيزًا من همنغوي نفسه .. يستهدف الجذور الغيبية لحياة همنغوي وأقنعتها .. الامتدادات القهرية المتشابكة لهذه الحياة عبر الزمن .. لأن الثأر يستهدف عاهة جوهرية داخل ماريو كونده لا يمكنه استيعابها .. عاهة تجعل الثأر محاولة خفية لإنقاذ همنغوي من "أسطوريته" بكل ما يلتصق بها من "آثام" .. "لقد عدّه بعضهم رجل أكشن في مسرح كاتب، ورآه آخرون مهرجًا مهووسًا بعروض غريبة أو خطيرة لتضفي على ما يكتبه الفنان صدى وذيوعًا. لكن الجميع أسهموا، مادحين أو قادحين، في أن تتحوّل سيرته، التي صنعها بنفسه، إلى أسطورة. أسطورة من أفعال ومآثر عمّت أرجاء المعمورة وسمع بها القاصي والداني. لكن الحقيقة، كالعادة، أكثر تعقيدًا وأشد فظاعة. لولا سيرتي ما كنت سأصبح كاتبًا" .. كأن الخلاص الشخصي لماريو كونده يتوقف على هذا الإنقاذ .. لكن المعضلة التعذيبية التي يدركها كونده ضمنيًا أن "كتابة" همنغوي لا يمكن انتزاعها خارج "أسطوريته" .. "إن لم يستطع أن يغامر ولا أن يتذكر، فمن أي شيء ستكتب أيها الفتى؟"، "هو يعرف أن خياله فقير وكاذب، وأن كتبه المفعمة بالواقعية، كما أراد هو لأدبه، لم تؤسس إلا على ما رآه وعاشه وتعلمه من الحياة" .. أن "آثام" همنغوي هي "سرديته" مهما كافح في عزلها عن "المحظور الأخلاقي" .. لذا فإن عليه ـ إذا أراد ذلك ـ أن يتأمل إرنست همنغوي ـ ولو ظل محتفظًا بكامل العدائية تجاهه ـ بما يتخطى الحدود الضيقة لتمييز الواقع عن الخيال .. بما يتخطى الأحكام القاصرة تجاه "مثالية" الفنان أو "دناءته"، وذلك انتهاكًا للشر المطلق الذي أخضع الجميع بوصفه "عدلًا" .. هكذا يفكك الثأر نفسه بنفسه.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 4 فبراير 2023