الخميس، 28 مارس 2019

كشيء في السماء

بعد أن يموت الجميع، ولا يتبقى من الذين كانوا يحاولون التظاهر بالحياة في هذا البيت سواك؛ ربما حينئذ يجدر بك الشعور بالذنب .. ربما عليك أن تفكر في أن كل ما فعلته طوال الماضي بعيدًا عنهم لم يكن سوى خيانة لعمائهم .. الشوارع التي مشيت فيها وحدك .. الأصدقاء الذين رافقتهم .. المدن التي سافرت إليها بدونهم .. الأماكن التي جلست فيها مع الغرباء .. المكالمات التليفونية والخطابات والرسائل والمحادثات الإلكترونية مع بشر لم يعرفوهم أبدًا .. زوجتك وطفلتك .. كل ما كتبته .. كل شيء قمت به، ولم يتعلق بهم كان انتهاكًا عظيمًا لغفلتهم .. ربما عليك أن تندم لأنهم لم يكونوا معك دائمًا في كل خطواتك .. نعم .. كان يجب أن تظل بجانبهم طوال الوقت في هذا البيت، وألا تفعل شيئًا سوى مساعدتهم في العثور على الحياة .. حتى لو كان كل ما ستقوم به ليس إلا منح فنائهم مزيدًا من العتمة .. حتى لو لم يكن بوسعك سوى الصمت أو الضحك أو البكاء كمتفرّج مدرّب جيدًا على ترويض السأم من العروض المتكررة .. حتى لو ظلوا يحاولون بلا هوادة قتل الغيب الكامن داخلك .. كان من الممكن ألا تشعر في وحدتك الآن بكل هذه الحسرة المقبضة لو فطنت مبكرًا إلى حقيقتك كشيء خارق، يصدّق أشباحه.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 27 مارس 2019
اللوحة لـ فان جوخ.

الجمعة، 22 مارس 2019

امرأة محبوبة

كانت تستطيع أن تتعرّف على نفسها ككائن لم يعد محتملًا .. في كل مرة تفتح فمها تقول شيئًا بشعًا دون استيعابه .. أصبحت المحبة تتقلص تجاهها من الجميع: الغرباء .. الأشخاص الذين تحبهم .. البشر الذين تعرفهم بمستويات محدودة، وكانت تأمل أن يكونوا ذات يوم من أصدقائها .. حتى لو لم تقل أي شيء .. حتى لو كان ما تفعله يبدو عاديًا .. مجرد الانطباع الذي يظهر على وجهها، أو النبرة الناعمة التي تتعمّدها في ردود أفعالها؛ كل ذلك كان غير مرغوب فيه دائمًا، باستثناء الحالات القليلة التي نجحت خلالها في إقناع الآخرين بأنها ما زالت إنسانًا يستحق المحبة، ولمدة لا تتجاوز الثواني الأربع .. أكثر من ذلك كان مستحيلًا.
لماذا لا تستطيع أن تكون محبوبة؟ .. أين المشكلة؟ .. هل لم تعد تستمتع بالعالم؟ .. هل ابتعد العالم عنها؟ .. هل أصبح العالم أسوأ؟ .. ربما، وربما لا .. ربما أصبح العالم أسوأ بطرق عديدة، ولكن ليس بالكيفية التي تحوّلها لامرأة غير محبوبة .. هل لم تعد تحب نفسها؟ .. حسنًا .. لم تعد تفعل بالطبع .. لكن هذا أيضًا ليس بالشيء الجديد.
ربما أصبحت ببساطة أقل جدارة بالحب نتيجة التقدم في السن .. لم تتغير عاداتها، ولكنها الآن في الواحدة والأربعين، وليس العشرين .. أصبحت غير محتملة لأن ما تفعله أي امرأة في الواحدة والأربعين لن يكون مرغوبًا مثلما تفعله امرأة في العشرين .. هل تشعر بهذا حقًا؟ .. هل تدرك في أعماقها أنها غير محتملة بالفعل، وأنه ينبغي بدلًا من مقاومة الأمر، أن تنحني أمامه كما لو أنها تتعرّض لريح باردة؟ .. ربما اعتادت أن تقاوم، لكنها الآن تشعر بعدم الجدوى .. لهذا عندما تفتح فمها كل صباح ستكون امرأة غير محبوبة على نحو متفاخر .. قبل النوم كل مساء لن يكون مرغوبًا فيها، وستواصل الحياة يوميًا بهذه الطريقة .. ستستمر في إعطاء الأشياء القبيحة للآخرين، والحصول على المزيد من عدم المحبة كل ساعة، إلى أن يأتي صباح ما  وتكون امرأة مكروهة تمامًا .. غير محتملة بشكل مزعج للغاية، بحيث يتعيّن ركلها إلى حفرة ما وتركها هناك.
ديب أولين أونفيرث
صحيفة "المثقف" العراقية ـ 22 مارس 2019
ديب أولين أونفيرث: كاتبة وروائية وكاتبة قصة قصيرة 
مواليد  1968في الولايات المتحدة ـ تخرجت من جامعة سيراكيوز  1998
حصلت على جائزتي Pushcart، وUnferth كما تعمل أستاذة مشاركة في الكتابة الإبداعية بجامعة تكساس في أوستن، حيث تقوم بالتدريس في مركز ميشنر ومشروع الكتاب الجدد. 
أسست وتدير برنامج Pen-City Writers ، وهو برنامج لشهادة الكتابة الإبداعية مدته سنتان في أحد السجون مشددة الأمان في جنوب تكساس، حصلت بهذا العمل على جائزة خدمة العدالة الجنائية لولاية تكساس لعام 2017.

الأربعاء، 20 مارس 2019

ضمير الغائب

بعد خروجي من البيت أصادف أحيانًا شخصًا له نفس ملامحي، يرتدي ملابسي ذاتها، ويمشي بالكيفية التي يطوّحني الموت بها في الشوارع .. كل مرة أستوقفه، كأنما قابلت صديقًا قديمًا، لم أره منذ زمن طويل .. أمد يدي إليه، وحينما أصافحه أشعر كأنني أطبقت كفيّ على بعضهما مثلما أفعل دائمًا حين أجلس وحدي وراء باب مغلق .. يتمعّن في وجهي بنفس عينيّ المرتبكتين، ويخبرني باللجلجة التي تتناثر عادة بشكل مضحك من ابتسامتي التائهة أنه لا يعرفني .. يعاود السير معتذرًا على النحو التقليدي البائس لهروبي المتعثر من المواقف المحرجة مع الغرباء .. لا أمنعه، وإنما أواصل المشي وراءه بحرص كي لا يشعر بخطواتي المتلهفة لمعرفة أين سيذهب .. لكنني أتوقف عن تتبعه، والتفت راجعًا إلى البيت بخيبة الأمل المعهودة حينما أراه كل مرة يستوقف شخصًا له نفس الملامح والملابس وطريقة المشي ثم يمد يده إليه كي يصافحه.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 18 مارس 2019
photo by shokry mannaa

الثلاثاء، 19 مارس 2019

مثقفون لـ«عكاظ»: الروائيون لا يملكون القدرات الكافية للفصل بين المتسابقين .. إقصاء النقاد من تحكيم جائزة الشرقي للرواية يثير التساؤلات

یرى الناقد المصري ممدوح رزق أنه من الممكن أن تتكون لجنة تحكیم لجائزة روایة من روائیین فقط بشرط أن یكون لكل منھم رصید معروف من الدراسات عن فن الروایة وإسھامات دائمة في تحلیل الخطاب الروائي واكتشاف جمالیاته على حسب وصفه، وأضاف: من المھم أن تتوافر مقاربة الأعمال الروائیة حتى لو كانت في شكل مراجعات كتب، أو تدوینات قراءة. ویجب كذلك تمیز ھذا الرصید باللعب التخییلي مع النصوص الروائیة، أي بعدم النمطیة، أو الخضوع إلى التأویلات التقلیدیة، والتفسیرات الجاھزة، كما ینبغي في ھذه الإسھامات تخلصھا من الیقینیات السھلة، التي تستند إلى معاییر ذاتیة صارمة تتخذ طبیعة المطلق حول جودة الكتابة ورداءتھا، ذلك لأن التحرر من تلك الشروط الاستعلائیة الساذجة سیتیح للكتابات الروائیة المختلفة أن تحصل على الفضاءات اللازمة للتحاور والتجادل مع قرائھا «أعضاء لجنة التحكیم» في مستوى یتجاوز ضرورة التقییم أو الوصول إلى نتائج، دون إقصاء استباقي، ووجود الناقد في لجنة تحكیم لجائزة روایة لیس حتمیا في حد ذاته بل ما یجدر النظر إلیه ھو ما یمثله ھذا الناقد.. ما تعكسه إرادة الھیئة المانحة للجائزة من خلال اختیار التاریخ النقدي الذي یتجسد في ناقد معین؛ فمن الممكن أن یكون في لجنة التحكیم ناقد أو أكثر، أو أن تتشكل جمیعھا من نقاد، ولكن تحكمھم انحیازات منفصلة عن فن الروایة، وعن موضوع الكتابة بشكل عام، أو یقدمون من خلال أدوارھم في لجنة التحكیم صورا قاصرة عن الفن الروائي، لا تتخطى الحدود المألوفة التي یختزلون العالم داخلھا.
أروى المهنا (الرياض)
صحيفة "عكاظ" ـ 19 مارس 2019

الاثنين، 4 مارس 2019

عزيزتي جريتا جاربو

عزيزتي الآنسة جاربو
أتمنى لو أنكِ قد تابعتِ تغطية النشرة الإخبارية لأعمال الشغب الأخيرة بـ (ديترويت)، والتي كُسرت دماغي خلالها. أنا لم أعمل أبداً في شركة (فورد)، ولكن صديق لي أخبرني عن الإضراب، وبما أنه لم يكن لدي ما أفعله في هذا اليوم فقد ذهبت معه إلى مسرح الثورة. كنا نقف بالقرب من مجموعات صغيرة تمضغ الغضب تجاه هذا وذاك، كما كان هناك الكثير من الكلام الراديكالي لكنني لم أعره أي اهتمام.
لم أكن أعتقد أن هناك شيئاً على وشك الحدوث، لكن بعد وصول سيارات الأخبار اعتبرته أمراً جيداً. لقد جاءت فرصتي للظهور في السينما مثلما كنت أحلم دائماً، لذا قررت الالتصاق بموقعي انتظاراً لاستغلال الفرصة. كنت أعرف أنني أمتلك هذا النوع من الوجوه الذي يتمناه أي فيلم، القادر على الظهور بشكل رائع على الشاشة. لا أستطيع أن أصف لكِ مدى سعادتي بأدائي في ذلك اليوم على الرغم من الحادث الصغير الذي أبقاني في المستشفى لمدة أسبوع.
بمجرد خروجي، توجهت إلى قاعة سينما صغيرة بالحي الذي أسكنه حيث اكتشفت أنهم يعرضون نشرة الأخبار التي لعبت دوراً فيها. دخلت إلى القاعة كي أرى نفسي على الشاشة. لاشك أنني كنت عظيماً، ولو أنكِ تابعتِ نشرة الأخبار بعناية فلن يمكنكِ إغفال وجودي لأنني ذلك الشاب الذي يرتدي بالطو صوف أزرق، والذي سقطت قبعته حينما بدأ الجري. هل تتذكرين؟. لقد استدرت عن قصد ثلاث أو أربع مرات كي يظهر وجهي في الفيلم، وأعتقد أنكِ شاهدتِ ابتسامتي. أردت أن أعرف كيف تبدو هذه الابتسامة في الصور المتحركة، ولا أحتاج للقول أنها كانت فاتنة فعلاً.
اسمي (فيليكس أوتريا)، وأنا واحد من أبناء الأمة الإيطالية. تخرجت من المدرسة الثانوية، وأتحدث لغتك كأي مواطن أصلي فضلاً عن الإيطالية. أشبه إلى حد ما (رودولف فالنتينو) و(رونالد كولمان). أنا متأكد من أنكِ ترغبين لو سمعتِ أن (سيسيل بي ديميل) أو واحداً من الآخرين أصحاب القرار الكبار قد لاحظني، وأدرك فعلاً كم أنا خامة فريدة للسينما.
رأيت في نشرة الأخبار الجزء الذي فاتني بعد أن أفقدوني الوعي، وما أود الإشارة إليه أن هذا الجزء قد مر كأي حدث تقليدي بكل ما فيه من خراطيم المياه وقنابل الغاز المسيلة للدموع إلى آخره. لكنني بعد مشاهدة نشرة الأخبار إحدى عشرة مرة خلال ثلاثة أيام، بإمكاني القول أنه لا يوجد رجل آخر سواء كان مدنياً أو شرطياً قد خرج من بين الحشود بالطريقة التي فعلت بها ذلك، وإنني أتساءل إذا كنتِ ستهتمين بهذا الموضوع مع الشركة التي تعملين معها، ومعرفة إذا ما كانت لديهم الرغبة في الاتصال بي لإعطائي تجربة أداء أم لا. أنا متأكد من أنني سأؤديها ببراعة، وسأظل أشكرك حتى آخر يوم في حياتي. الآنسة جاربو: أنا أمتلك صوتاً قوياً ويمكنني أن ألعب دور العاشق بمنتهى الروعة، لهذا أتمنى أن تقومي بهذه الخدمة البسيطة من أجلي. من يدري؛ ربما ذات يوم، في المستقبل القريب أقوم بدور البطل في مشهد معكِ.
تفضلي بقبول فائق الاحترام
 فيليكس أوتريا
وليم سارويان
جريدة "النهار" الكويتية ـ 1 مارس 2019

السبت، 2 مارس 2019

الخوف: تاريخ مخبوء وذاكرة متوارية

"إنني أخاف من نفسي! أخاف من الخوف، من انقباضات ذهني أمام الفزع ومن ذلك الإحساس الرهيب بالذعر غير مفهوم الأسباب".
تقوم مجموعة "الخوف" لـ جي دي موباسان، ترجمة سحر سمير يوسف، والصادرة عن المركز القومي للترجمة على تعريف محدد للخوف .. ليس الشعور الناجم عن التهديدات الواضحة أو المخاطر المدركة، وإنما الذي يسببه على نحو مفاجئ الوعيد الغامض للأشياء العادية، والتواطؤ المُهلِك للأحداث غير المستوعبة .. الخوف الذي تُضمر بواعثه التفاصيل المألوفة، والمسالمة بكل ما تبدو عليه طبيعتها الظاهرية من هدوء ورتابة .. كأنه من جانب آخر الأثر العدائي الناتج عن التجسيدات المجهولة للظلام المتربّص في العمق المبهم للذات.
"يزعم بعض الحالمين أن البحر يخفي بداخله بقاعًا شاسعة مائلة للزرقة حيث يتدافع الغرقى مع الأسماك الكبيرة وسط غابات عجيبة وداخل مغارات بللورية، أما النهر فلا يحوي غير غياهب عميقة موحلة تئن بها الأشياء، وبالرغم من ذلك فهو يبدو جميلًا عندما يشع بريقًا تحت أشعة الشمس الساطعة، ويصدر هديرًا عذبًا عندما يرتطم بحوافه المغطاة ببوص يهمهم فيما بينه".
"أما أنا فأعتقد أن القصص التي يهمس بها البوص الضعيف بصوته الخفيض الخافت تكون أكثر حزنًا من المآسي الكئيبة التي يحدث بها صوت الموج المرتفع". "قصة: فوق صفحة الماء"..
عند التفكير في الارتكابات المخيفة للأشياء العادية بوصفها واقعًا تم اختباره بالفعل، وهو ما لا ينفيه إطلاق صفة "الخرافة" عليها؛ فإن هذا يمثل دافعًا بالضرورة للتأمل في سرد هذه الارتكابات باعتباره واقعًا مختلفًا .. شكل من الحقيقة المغايرة خضع عند تحويله إلى حكاية لتغييرات أنتج على إثرها خيانة ما لأصله، حتى مع الرغبة الصادقة، والالتزام المتعمّد بالمطابقة بين الحدث وقصته .. هذه التحريفات غير الملموسة لدى ساردها هي التي تحاول أن تعيد إلى الواقع البدائي خبرته الناقصة، أي تكافح دون توقف لاستكمال الحقيقة التي تمثلت في الماضي بينما تعيد ولادة نفسها ثانية كقصة قصيرة.
كيف لا تنفي "الخرافة" التجربة كواقع؟ .. أستعير هذه السطور من مقال سابق لي بعنوان "اختصارات حول الفانتازيا" للإجابة على هذا الاستفهام:
إن أشكال السرد الروائي التي تُقدم انحرافات طاغية عن ذاكرة متخمة بأساليب تقليدية وموضوعات مستهلكة ينبغي أن يكون لها نفس السلطة التي تتمتع بها (أشياء الواقع) حينما كان مجرد واقع ولكنه لم يعد كذلك بعدما صار وجودًا مفتوحًا، لا نهائيًا، أكثر مراوغة وتوحشًا من أن تحكمه ثنائيات متعارضة .. الخبرة العجائبية إذن لا تؤثر أو تساهم في إنتاج الحقيقة وحسب وإنما تخلق التاريخ أيضًا؛ فاللحظة الحاضرة شارك في قرار (حدوثها) وفي الكيفية التي حصلت بها أساطير وحكايات شعبية وقصص خيالية، فردية وجماعية مختلفة .. بشكل أكثر تحديدًا يمكن القول أنه لا يمكن إرجاع الزمن إلى ذاكرة دون الأخرى أو منح القدرة لتجارب على حساب تجارب مغايرة .. يقول (خوليو كورتاثر): (الفانتازي والملغز ليسا فقط الخيالات العظيمة في السينما والأدب والقصص والروايات. بل حاضر فينا أنفسنا، في تكويننا النفسي، ولا يستطيع العلم ولا الفلسفة أن يقدما لنا إلا تفسيرات بدائية وأولية)".
"كنت سأحاول تهدئتهم مجددًا عندما استيقظ الكلب فجأة ورفع رأسه ومد عنقه إلى أعلى وأخذ يرقب النار بنظرة شبه باهتة ثم أخذ ينبح ذلك النباح الكئيب الذي يجعل القشعريرة تسري في أوصال المسافرين مساءً في الأرياف، وعندئذ اتجهت جميع الأنظار إليه، وكان قد بقي ساكنًا ـ واقفًا على أربع ـ متسمرًا في مكانه وكأنه مذهول لرؤية شيء ما، ثم عاد ينبح مرة أخرى تجاه شيء غير مرئي، غير معروف ولكنه كان بالتأكيد شيئًا بشعًا حيث كان شعر الكلب قد انتفش". "قصة: الخوف".
ماذا لو كان التغيير مقصودًا؟ .. يتعمّد السارد ممارسة التحريف عند سرد الواقع، سواء بالحذف أو بالإضافة أو بتبديل الأزمنة أو بتزييف العناصر، أو بتثبيت النقائض على سبيل المثال .. ليس فقط كعدم ثقة في ما يعتقد أنها الحقيقة، وإنما أيضًا كترويض قصصي للخوف .. كمجاهدة للفهم أو الهروب أو التفاوض مع الأشباح التي أكدت وجودها داخل الجسد حينما تركت بصماتها المعلنة خارجه.
"بعد قليل انضم إلينا طبيب، وأخذ يفحص لمدة طويلة آثار تلك الأصابع في الجثة ثم نطق بتلك الكلمات الغريبة: "كأن هيكلًا عظميًا قام بخنق هذا الرجل". شعرت عند سماع هذه الكلمات برعدة تسري في جسدي، ونظرت على الفور للحائط، وبالتحديد لتلك النقطة التي رأيت اليد المسلوخة معلقة بها من قبل، لم تكن اليد في مكانها، وكان القيد محطمًا ومازال يتدلى على الحائط، فتوجهت نحو جثة القتيل ووجدت فمه في حالة تشنج وقد أطبق على إحدى أصابع تلك اليد المفقودة. كانت أسنان القتيل قد قطعت أو بالأحرى نشرت الإصبع عند العقلة الثانية تحديدًا". "قصة: اليد".
يمكننا التفكير أيضًا في أن ما يبدو واقًعًا للخوف يُعاد كتابته هو في الأصل تاريخ مخبوء يسبق وجود شخصياته .. ذاكرة متوارية في عتمة ما قبل الماضي البشري، لا تبدأ أحداثها في الحاضر، وإنما تُكتشف بواسطة الخاضعين لغموضها .. كأن حضورها المباغت ليس إلا إعادة سرد غافلة لواقع أكثر بدائية من الحياة والموت، يكمن داخل الموجودات كافة، ويمر عبر عمائها الشامل، كي يشير إلى حقيقته الملغزة بواسطة الصور الإيحائية المخيفة .. بهذا تصبح القصة القصيرة جهدًا يبذل في سبيل التحرر من العماء، الذي قد لا يعني أكثر من العثور المستمر على ظواهر متباينة للتوحد بين التفاصيل المألوفة، والظلام الذاتي .. التوحد الذي يتيح للكائنات أن تتبادل كوابيسها عبر الحكايات المختلفة، وأن تحل الأجساد والأشياء والأماكن والأصوات والمشاهد محل بعضها؛ فالنهر حجرة مهجورة، وجثة المرأة العجوز في قاعه يمكنها أن تستيقظ لتطلب من الكلب الذي اخترقت الرصاصة رأسه أن يمشط شعرها بيده المقطوعة فيكتشف حين يفعل ذلك أن هذا الشعر للشبح الذي يظهر جالسًا داخل بيته ثم يختفي فجأة.
"ظللت أتساءل من بعد، لماذا فعلت ذلك؟ لماذا قبلت أن أمسك بذلك المشط وأنا أرتعد؟ لماذا أمسكت بين يديّ بخصلات ذلك الشعر الطويل، والتي خلفت لدي شعورًا بتجمد الأطراف كما لو أنني كنت ممسكًا بثعابين؟ لا أدري لِمَ فعلت ذلك؟. بقي ذلك الشعور بتجمد أصابعي ملازمًا لي، ومجرد التفكير فيما حدث يصيبني بقشعريرة. قمت بتمشيطها كما شاءت، ولست أدري حقًا كيف أمكنني التعامل مع هذه الخصلات التي كانت كخيوط الثلج، فأعقصه ثم أحله، ثم أجدله كما يُجدل عُرف الخيل! وفي أثناء ذلك كانت تتنهد وتتطأطئ رأسها وبدت سعيدة". "قصة: الظهور".
ماذا لو لم يكن هناك تاريخ غير مستوعب يتقدّم على هذا الواقع؟ .. ماذا لو لم تكن هناك ذاكرة مجهولة تستعرض محتوياتها عبر الزمن؟ .. هنا يكون الخوف هو ما يُشكّل طبيعة مستقلة لعالم غير مرئي .. يكون السرد صيرورة ملتبسة لحياة تحدث في بُعد آخر .. عالم يحصل الخوف داخله على نتائج مختلفة عما ينجم عنه في الطبيعة البشرية .. تحولات ما ورائية تتواصل إثر ما يتم حكيه، كأنها لا تستهدف مصيرًا يتجاوز استمرارها .. لكننا إذا ما تخيلنا انفصالًا ما بين الخوف وكتابته .. الخوف بوصفه خطوة اضطرارية للموت، ولخلود العالم غير المرئي في المقابل .. فإن كتابة الخوف قد تكون بالضرورة وهمًا إجباريًا لمراوغة الفناء، ربما ستفشل الحياة التي تتكوّن في بُعد آخر من استعماله.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 3 مارس 2019