السبت، 13 أبريل 2024

قوارب ورقية: مجابهة الكمال

كان لدي حدس قبل قراءة "قوارب ورقية" بأن هذا الكتاب الصادر عن مكتبة تنمية سيكون صديقًا جديدًا ضمن رفقتي الأثيرة من كلمات الكتّاب عن حيواتهم وأعمالهم .. هذا الحدس يرجع بالتأكيد لثقتي في اختيارات المترجم محمد عبد النبي، بالإضافة إلى الاقتباسات التي نُشرت من الكتاب عقب صدوره .. أتحدث عن الرفقة التي يعود إليها الكاتب "في وقفات التأمل وشحن الطاقة أو في نوبات الريبة والقلق" كما كتب محمد عبد النبي في مقدمة الكتاب .. هي عودة متكررة دومًا بالاستناد إلى ما كتبته في مقالي "أشباح الكتابة" عن كتاب "لماذا نكتب؟"، تحرير "ميريدث ماران": "إن الأمر يبدو ملهماً حقاً خاصة عند التفكير في إلى أي مدى تتسم استفهامات وهواجس العملية الإبداعية بالاستقرار على صيغ ثابتة، وإلى أي مدى تتسم كذلك بالإصرار على التفجر داخل حياة الكاتب بصرف النظر عن امتلاء الماضي بصفقات المصالحة بينهما .. لا تحتاج الأسئلة إلى منطق واضح يفسر أسباب تخليها الدائم عن التراجع أو الاختباء، ومعاودة الإلحاح ـ بثقل المزاج العنيف للمرة الأولى ـ للحصول على يقينيات مرضية .. يمكن لكافة الإجابات التي ادُخرت للتصدي إلى تلك المآزق الذهنية أن تبدو غير قادرة على منح الطمأنينة المتوقعة، حتى داخل أقوى حالات الإيمان بكونها حقائق حاسمة".

بالنسبة لي فإن حياة الكاتب هي إحراق متواصل لكل ما يُحتمل "يدعي" أن يكون "قارب نجاة" .. هي مغامرة في الاتجاه المناقض للكمال، ذلك لأن الكاتب يقامر دون مثال، بلا نموذج للربح .. لذا فالأمر لا يتعلق ببلوغ غاية أو بإحراز فوز أو بتجنب خسارة، وإنما باستعمال "القوارب الورقية" في مناوشة ما لا يمتلك ظلًا فعليًا في العالم، يتعلق الأمر بتوظيف الأسرار المخبوءة في كل الحكايات الممكنة "تجارب الآخرين وأفكارهم وتأملاتهم" للعب مع ما لا يمكن اكتشافه أو التحقق من وجوده .. لانتهاك فكرة "الكمال" نفسها .. أتذكر الآن هذا المقطع من كتابي "وهم الحضور":

"إن القصة بالنسبة لي ليست كما كتب كارلوس زافون في "ظل الريح" بأنها"رسالة يكتبها المؤلف لنفسه ليخبر نفسه بأشياء لن يتمكن من اكتشافها بطريقة أخرى"، وإنما هي "خربشة انتقامية طائشة أحفرها في الفراغ المحيط بنفسي لكي أجعل نفسي تحّدق إلى غيابها كما لم تفعل من قبل". 

ذلك ما أعاد التأكيد عليه هنري ميلر ضمن "قوارب ورقية" بصيغة أخرى في "تأملات في الكتابة" متحدثًا عن اكتشاف صوته الخاص:

"بدأت من لا شيء، وتخلصت من كل شيء على متن سفينتي بإلقائه في مياه المحيط، حتى أولئك (الكُتّاب) الذين أحببتهم أكثر من سواهم. وفورًا سمعت صوتي وأنا مفتون: الحق أنه كان صوتًا مستقلًا، واضحًا يسهل تمييزه، وفريدًا لا يشبه سواه، وهذه الحقيقة وحدها شدت أزري. لم يهمّني إن كان ما أكتب سيُعد رديئًا، استبعدت الجيد والرديء من قاموسي. قفزت بقدميّ الاثنتين في مملكة الجماليات، في مملكة الفن التي لا وجود فيها لأحكام أخلاقية أو نفعية. أصبحت حياتي ذاتها عملًا فنيًا".

تبدو عبارة" استبعدت الجيد والرديء من قاموسي" أساسية للغاية، ليس في مقاربة هنري ميلر لتجربته فحسب، وإنما لما يشير إليه مجاز "القارب الورقي" بالنسبة للكتابة، ومثلما تعتمد عليه وتوطده فكرة الكتاب أيضًا .. ذلك لأن قوارب النجاة تقوم في أوهامها على "الصواب والخطأ"، لا على مخاتلة اليقين .. على التشبث بخرافات الحسم والبداهة، لا تقويض الأكاذيب المتعالية .. ذلك أيضًا ما يجعل "المستحيل" موضع سخرية، وليس استدعاءً للاعتراف بـ "الإخفاق والنقص والقصور" .. الكاتب لا يكافح نحو المستحيل، لأن المستحيل نفسه ضلال مترفّع، قناع لتحصين الغيب، وبالعكس، فحياة الكاتب "كعمل فني خارج الأطر والمعايير" هي تخريب مستقل بذاته، بصمة شخصية غير محكومة بمقياس أو مقارنة، تطارد الأشباح الاستعبادية التي يؤصلها "المستحيل".

هذا ما يعيدني ثانية إلى "المحاضرات الصغيرة" من كتابي "استراقات الكتابة":

"شخصياتي ليست أفرادًا بالتحديد النمطي وإنما كل شخصية هي افتراضات مراوغة لكينونة تتجاوز الأطر المتوهمة التي يتوقف عندها العالم عن أن يكون جحيمًا مبهمًا .. هي ظنون طائشة لكينونتي، أتسلل من خلالها نحو هويات ملغزة أخرى، تمنحنى ديمومة مغايرة أي لانهائية مؤقتة داخل الفناء .. شخصياتي تحوّلني من فرد إلى بدائل متأرجحة لتشريح الضجر حيث ما ينبغي أن أصل إليه اتساقًا مع خطواتهم لا يتم بلوغه وإنما مناوشته كتلويحات توسلية لما يسبق الحياة والموت .. شخصياتي لا تصل مثلي إلى ما يبدو أنها تعيشه حقًا عبر اللغة، ذلك لأن ما تختبره وتقودني إلى تجاربه يماثل عماءنا الأصلي؛ وعدًا مقتولًا داخل ذواتنا من قبل أن يُخلق".

أفكر في أن الكتابة هي نوع من التذكر الضمني للأحلام المنسية، لما فقدته اليقظة من لحظات الحلم الذي بقيت لحظات أخرى منه عالقة في الذهن .. اكتشاف متغيّر مع كل كتابة، أي أنه تشكيل متبدّل، غير واع لذلك الحلم .. أحيانًا تكون ملامسة هذه الطريقة الماكرة التي يسترد بها الكاتب أحلامه المفقودة دون قصد بمثابة تعريف للكتابة نفسها .. إدراك بكونها ناجمة عن الأحلام التي لا يعرف الكاتب من الأصل بأنها تدور وتتعاقب في داخله .. ذلك ما يُعرّف بالضرورة "الحلم" بالنسبة للكاتب متجاوزًا "التفسير" .. لاهيًا بالتفسيرات الواردة .. إجابة إيتالو كالفينو على سؤال الأحلام في مقابلته مع وليام ويفر، وداميان بيتنجرو في "قوارب ورقية" تحرّض على تخيّل مثل هذه الأفكار وتأملها:

"ولكنني أنسى أحلامي، وإذا كنت قادرًا على تذكرها، فإنني لا أفهم منها حتى أوضح الأشياء. ولكي أفسر طبيعة أحلامي لن يرضيني محلل يسير على نهج فرويد أو آخر يتبع مدرسة يونج".

ترتبط أيضًا فكرة غياب الأحكام الأخلاقية أو النفعية التي تحدث عنها هنري ميلر "حين تصبح الحياة ذاتها عملًا فنيًا" بـ "الشكل" الذي أشارت ليديا ديفيس في حوارها مع مارك بودمان إلى أنه "كل ما يهم" .. شكل الفكرة، الجملة، البنية .. الشكل هنا هو تعطيل للحكم .. إرجاء لقرار النص .. الشكل يحتوي ويمزج بين النقائض، ويفككها حتى مع الانحياز الظاهري للقول .. ما يجعل "الصواب والخطأ"، "القبول والرفض"، "الإيمان والشك" خارج المعنى .. ما يجعل المعنى نفسه هاجسًا، "حلمًا" يعيد نسج مشاهده، صيرورة لتخطي الإحالات .. ذلك ما يذكرنا بـ "الحكمة" السردية المعروفة: "لا تكمن القصة في الحكي، وإنما في كيفية الحكي".

"ثمة جملة رائعة لدى أوغسطين، ليتني أستطيع تذكرها باللغة اللاتينية. فهي باللاتينية حتى أروع وأبدع منها في الإنجليزية. تقول: "لا تيأس؛ فأحد اللصين قد نال الخلاص. ولا تستهن؛ فأحد اللصين قد نال اللعنة". لتلك الجملة شكل رائع. الشكل هو كل ما يهم".

ما كان مميزًا في "قوارب ورقية" أيضًا هو أنه يتضمن ترجمة عن "الترجمة" في قلب المواد التي تتناول "الكتابة" .. ذلك بالأمر الجوهري في موضوع الكتاب ككل .. إذا كنا نتحدث عن تجارب العملية الإبداعية فإن هذا يستدعي حتمًا أن نتحدث كذلك عن الترجمة .. هذا ما تشير إليه كلمات ليديا ديفيس في "التعاون مع الموتى" / ملاحظات عن الترجمة وعن مدام بوفاري، وأيضًا في "إعادة النظر" / عن مصادر الإلهام، والمراجعة، والترتيب:

"ما الذي يدفع قطعة من الكتابة إلى الوجود؟ تدريجيًا، وعبر السنوات، صرت أرى التوازي الوثيق بين الدافع للترجمة والدافع لكتابة شيء أصيل: بالضبط كما أريد أن أقبض على شيء ما خارج نفسي في قطعة كتابة أصلية، عندما أترجم شيئًا فإنني أريد أن أقبض عليه أيضًا، في هذه الحالة أن أعيد إنتاجه في اللغة الإنجليزية".

فكرت أثناء قراءة فصل "أقسى 30 إهانة في التاريخ من كاتب عن آخر" في أنه ربما سيكون الفصل الأكثر قراءة من "قوارب ورقية" بالنسبة للكتّاب الذين يخطون في بداياتهم .. أن "كرامتهم الإبداعية" ستكون في حاجة مستمرة للرجوع إلى هذه "التحقيرات النخبوية" لكي تداوي جروحها الممكنة للغاية بالطبع في تلك المرحلة من حيواتهم، والناجمة عن التسلط الأبوي الشائع والدنيء لمن يتم اعتبارهم "أدباء كبار" من قِبل هؤلاء الكتّاب .. فكرت أيضًا في احتمالية أن يفكر "الكاتب الشاب" وقتئذ في أن "الإهانة" هي طريقة لئيمة لكتابة نص ما .. لا أتحدث فقط عن الكتابة التي يمكن أن تتوّلد نتيجة هذه "الإهانة" ـ وهذه مسألة مهمة حقًا ـ  ولكن عن النص الذي يبدو أنه يحاول أن يكتب نفسه لدى الكاتب الذي يقوم بتوجيه هذه "الإهانة" إلى كاتب آخر بواسطة هذا الأداء تحديدًا، أو على الأقل اعتمادًا عليه إلى جانب ارتكابات أخرى.

"ليست الأشياء بالمرة على هذا القدر من التماسك ويمكن التعبير عنها كما اعتاد الناس أن يعتقدوا؛ أغلب التجارب لا يمكن التعبير عنها، إنها تحدث في فضاء لم تعبر إليه كلمة من قبل، والأعمال الفنية من بين كل الأشياء الأخرى هي الأشد استعصاءً على التعبير، تلك التجارب الغامضة، التي تتواصل حياتها جنبًا إلى جنب حياتنا الصغيرة الزائلة".

بينما أرشح "قوارب ورقية" للقراءة، وإعادة القراءة؛ يهمني بالتأكيد الإشادة بترجمة محمد عبد النبي، بالسلاسة الحميمية التي تميز ترجماته بشكل عام، وفي هذا الكتاب طبعًا، الأمر الذي خلق الانسجام الملهم والضروري بين صفحاته، فلم يكن مجرد متن تم تجميعه من مواد مختلفة، وكأن عبد النبي يتحدث عبر الأصوات التي يترجمها، ويفكر في ما تنبئ به، ومن ثمّ يصل بين خطاباتها المتعددة مثلما يدبّر الصديق موعدًا احتفاليًا مع "رفقته الأثيرة" داعيًا الجميع إليه.

أخبار الأدب

7 أبريل 2024