السبت، 31 ديسمبر 2022

"مألوف": الكائن مدموغًا بسرِّه

في ورقتي البحثية "اختصارات حول الفانتازيا" والخاصة بالمائدة المستديرة التي عُقدت تحت عنوان "الرواية والفانتازيا" بملتقى القاهرة للرواية العربية 2015 كانت هذه السطور:

"إذا كان الوعي بالغرابة في مقابل المألوف يمثل استجابة تلقائية لا يمكن تفاديها فعلى تلك الاستجابة أن تكون بداية التعارف وليس نهايته .. أتحدث عن مهمة النقد في الخروج بالعجائبي من الرواية إلى الوجود، أي تعيين غير الممكن ـ بحسب الظن السائد ـ في قلب الممكن المفهوم وليس مجرد الاكتفاء بلذة الوقوف عند ما تم الاعتياد على تسميته بـ (العوالم الموازية) .. أفكاري هنا لا تقصد المقارنة أو الاستبدال أو الإحالة إذ لا يزال كل ذلك خاضعاً لسلطة التنميط والفرز، وإنما أقصد إعطاء الفانتازي ثقل الحتمية، وإلزام المنطق، وسطوة القانون؛ فالغرائبية ـ وهو ما يفترض في تصوري أن يتكفل به جهد جوهري في عمل الناقد ـ يجب الكشف عن كونها ليست انصرافاً عن الواقع بل هدم لما يُعتقد أنها حدود له تحافظ على بقائه كمجرد (واقع)".

أعتقد أن مجموعة الكاتبة ابتهال الشايب الصادرة عن دار النسيم بما تختبره قصصها القصيرة، وبالعنوان الذي تحمله هذه المجموعة "مألوف"؛ أعتقد أنها تقع تمامًا في ما تطارده هذه السطور .. إنها تقدم سرديًا ما يشير إليه هذا التحريض النقدي .. الوعي بالغرابة لا يعني انسحابًا لذلك الذي لا يمكن تمييز حدوده بمسمى "الواقع".  

("الكتابة وسيلة لإثبات أن الإنسان غير موجود بشكل كامل"

إحدى الجُمل التي كتبها الشخص غير المرئي في دفتره .. الذي وُجد بداخل منزله مُغطى ببعض قطرات البول، وكلمتين طيبتين، وابتسامة واحدة لطيفة).

في قصة "خارج" ثمة نفاية مستبعدة من الوجود (دليلها الكتابة) .. نفاية بألف لام التعريف "الشخص غير المرئي" وليس "شخص غير مرئي" أي أنه في تجاوز أزلي لفرديته "هو / نحن"، خاضع لصيرورة الاختفاء باعتباره "الإنسان"، ومن ثمّ فإن الكتابة خاضعة بالضرورة للتخطي / التغير والاستبدال .. غير المرئي (محتجب داخل جسده / محتجب داخل السر الذي يسبق جسده ويمتد بعد فنائه)، ولكن المرئي: "قطرات البول ـ كلمتين طيبتين ـ ابتسامة واحدة لطيفة" ما يتحتم أن يُطبع كهوية للجسد بوصفه شيئًا "رديئًا، مضحكًا، ومثيرًا للشفقة" في العالم، وهو ما قد يستدعي الاستعمال الشبقي للبول والغائط عند جورج باتاي وتشاك بولانيك مثلًا  ... الشخص لا يؤكد حضوره "احتجابه داخل جسده" إلا بالجُمل المكتوبة في الدفتر وقطرات البول والكلمتين الطيبتين والابتسامة الواحدة اللطيفة .. الدلائل التي تصلح لأن تكون كل منها محل الأخرى / تنويعات على "نفاية من الغياب" .. الدفتر يجعل الجسد "برهان الغياب" .. نفاية تعرض تناغمها مع كونها نفاية، وبما يستدعي شعورًا بالثأر التهكمي لكونها نفاية، تكتب في دفتر "تشير إلى أنها أثر لعدم الوجود" .. نفاية في حالة امتزاج مع بصمتها المتحوّلة (الشخص والدفتر يصيران شيئًا واحدًا وفقًا لقابلية التفاصيل أن تشملهما عند مقاربتها حرفيًا ومجازيًا معًا"، مهانة مسالمة بشيء من الحميمية الساخرة  .. الإيجاد هنا إعلان لنهاية ما "لم يحدث في لحظة سابقة وإنما عند اكتمال محكم لـ "اختفاء" بين الجسد وسرِّه / بين الحاجز والمحتجب .. الإيجاد إعلان لإفاقة عابرة تجاه الموت .. الموت هو الذي وجد "الدفتر / الشخص غير المرئي"، وذلك عبر الموتى الذين كان موتهم يمر من خلال "لا مرئيته" قبل تتعيّن "الحياة / حياته التي لم تكن" أمام عمائهم  .. إثبات ما كان موجودًا "شكليًا"، ولم يكن منتبهًا إليه قبل لحظة العثور على دليل حضوره المتبدد .. إيجاد الحياة لا يتم إذن إلا بالموت، إيجاد غيابها.

"قرأت في إحدى الصحف التي اشتريها كي أضع عليها الطعام .. إن عددًا من الأشخاص باتوا لا يعرفون ما يقولونه أو يفكرون فيه أو يتبرزونه، يجهلون ماهية العرق، البلغم، المخاط، الدم، الدموع، والبول"

الدفتر / دليل الاستبعاد / الاحتجاب يصبح هو الحياة، لا شيء يحدث خارجه، النص المتناثر الذي تتبدل شخصياته وأحداثه بحسب الاستعمال اللغوي للغائب داخل جسده .. الغائب داخل السر الذائب في الكلام، البراز، العرق، البلغم، المخاط، الدم، الدموع، والبول، أي في ما لا يمكن التعبير عن "الكينونة" إلا بواسطته .. ما لم يسمح "الحضور" المقصي بالإشارة إليه إلا من خلال " فضلات الداخل" .. ثمة اتساق أنطولوجي "جمالي" هنا في اعتبار "الكلام" و"الدم" كذلك .. ما يفرزه السر كـ "ناتج كريه" زائد عن الحاجة .. كاستجابة لرجاء كشف غيبيته .. الفضلات التي حين أخذت موضع الكينونة صارت هي نفسها هذه الكينونة، أي أصبحت الكائن مدموغًا بسرِّه .. التي حين تتجسد في "الخارج" لا تتحوّل من "سر" إلى "نوع من المعرفة" وإنما تظل "فضلات" .. لا يتحقق الجسد إذن "يثبت وجوده" إلا بقدر امتهانه العفوي للذات المستبعدة .. الذات المحتجبة التي لا تعدو ـ كتصوّر للخلاص / احتياج عادل لاسترداد النجاة ـ سوى أن تكون محض قذارة فائضة عن ذلك الجسد، أي فائضة عن الموت.

 "علمت من صديق لي أن أحد أقربائه ذات يوم هبّ من مكانه فجأة وكأن شيئًا وخزه، ثم أخذ يصيح في منزله بصوت عالٍ، ويستنجد وهو يرتجف من شدة  الرعب، قال لزوجته وأولاده وهو يصرخ.. إن أصابع بشرية على هيئة أسياخ، تبرز من كل مكان حوله، تقترب منه لتنغرز في جسده، حتى بدأ يختفي تدريجيًا وهو يحاول أن يُريها لهم، كان يشير بيديه إلى الفراغ".

الفضلات لا يتم التخلص منها .. تتحوّل إلى أصابع بشرية مسنونة / أسياخ تبرز في الفراغ، من جميع الثقوب، كأنها تكافح بعنف الإخفاق أن تعاقب "الشخص" الذي توقع لها أن تكشف عن ما هو محتجب حين كانت بـ "الداخل" .. كأن "الأفكار" في "الداخل" حين أصبحت "كلامًا" في "الخارج" تحتم عليها ألا تكون زائدة عن الحاجة فحسب بل المقابل "التنكيلي" للاستبعاد .. دفتر الغائب هو ما يوثق ذلك التحوّل للفضلات إلى أشباح طاعنة في هيئة أصابع .. دفتر الغائب هو ما تُفصِح داخل صفحاته الكينونة التعذيبية عن نفسها .. الفضلات إذن هي (نحن) كرجاءات محطمة، عارية، حسرات ساطعة، النهايات الواضحة التي تحنطت أرواحنا داخلها من قبل أن تولد .. الأصابع هي الكلمات التي دائمًا ما تكوّن الجملة ذاتها "الكتابة وسيلة لإثبات أن الإنسان غير موجود بشكل كامل"، وما التفاوت بين الأصابع إلا تفاوتًا بين صياغاتها، نبراتها، الغايات الكامنة في تشكيلاتها .. هو دفتر للموت إذن من حيث أراد أن يكون سجلًا للحياة.

”تكوّنت بعض الشقوق على جسدي، ارتدتني الحوائط منذ زمن، بدأ النمل يغزوها، ويرسم شقوقًا منحرفة، تلتصق الأحجار بالأرضية فتصير خشنة قليلًا وغير مستوية، الورشة أشبه بكهف مظلم يُضاء من وقت لآخر بألسنة اللهب المنطلقة من آلات اللحام، مقاعد خشبية ذات مسامير بارزة. تنظر الماكينة في إمعان، يعتز بها صاحب العمل كثيرًا، لم يهتم بالمبلغ الكبير الذي اشتراه بها، يستخدمها بحرص ويصطحبها معه إلى كل مكان خوفَ أن تُسرق .. أو أن يُسيء أحد استخدامها".

هل الموجودات المحيطة بالماكينة هي التي تدوّن سيرتها من خلال حديث كل موجود عن نفسه في قصة "لا شعوري"، أم أن الماكينة هي التي تستنطق هذه الموجودات بصورة خفية لتكتشف نفسها عبر وعي كل موجود منها بذاته؟ .. لكن الموجودات لا تدوّن سوى ظاهر الماكينة، سطح طبيعتها الذي لا يضيء باطنها .. ما هو منذور دائمًا للمحو .. إلى أي شيء ينتمي هذا العجز عن الوصول إلى الجوهر؟ .. الماكينة أم الموجودات؟ .. كأنهم جميعًا يقولون "نحن لا نعرف سوى ما تبدو عليه وحسب" .. كأنهم يقولون أيضًا "ما تبدو عليه يجعل ما نعرفه عن أنفسنا ليس كافيًا أبدًا" .. إن الموجودات تدوّن عدم قدرة الماكينة على أن تتحدث عن ذاتها بقدر إدراك كل موجود ذلك عن نفسه .. غفلة متبادلة .. هل يذكرنا هذا بشيء عن اللغة؟ .. عن إنتاج اللغة لأجسادنا؟ .. عن تكوين ما تصمت عنه اللغة لأجسادنا؟ .. أي جسد؟ .. ليس فقط ذلك الذي يمكننا لمسه / رؤيته / التنقل به من مكان لآخر، وإنما ـ على نحو أعمق ـ ذلك الذي نحاول الانفلات من إكراهاته الكبتية المبهمة.

"يسخرون من الحقيقة، يُضحكني ذلك، أمر يدعو حقًا للسخرية، أضحك ضحكات عالية، أتنقل بين المكاتب لأرى من يضحك مثلي؟ من لديه استعداد؟ أنظر بعيدًا إلى نافذة غرفة الاجتماعات لعلني أجد شخصًا يضحك، ما يزال هناك بعض زملائي الذين أدخلوا رؤوسهم في المشانق والمعلقين فيها ثابتين، يعجبني ثباتهم .. كم هم أقوياء ليظلوا هكذا منذ أن وضعت المشانق لهم. الضحكة شيء وقتي، أتركها وأتجه إلى جوارهم".

في قصة "مألوف" لا نبصر ذلك المعرّف بالعجيب / "غير الممكن" دالًا / منفصلًا عن الوجود، وإنما ما يجدر فهمه كتمثيل غريزي للمنطق .. تجسيد عفوي وبديهي لـ "واقع"، مرئي بطريقته، ملموس كما يقتضي حاله، موثق خارج العماء المسيّج بتخوم استعبادية قاصرة .. "ألبير كامو" يبدو راويًا لهذه القصة: الشقاء السيزيفي أو الانتحار .. "المألوف" ـ مشتملًا ما يتجاوز قناعاتنا الحسية ـ الروتيني والعبثي أو إنهاء الحياة .. الصوت في القصة أشبه بإشارات متباينة النبرات إلى هذه "الحقيقة" .. "أمواج عالية" في مواجهة البطء / الرتابة .. لكن الصوت يشير بالضرورة ـ وفي المقام الأول ـ إلى نفسه .. إلى الوعي بالمأساة كتمرد على الشقاء والانتحار .. الانتباه "ولو مؤقتًا، متدثرًا بالضحكات" ـ في حد ذاته ـ و بالطبع مازال كامو برفقتنا ـ إلى التوحد بـ "المرارة" ومراوغة العزاء .. اليقظة ـ كسبيل للمقاومة لا الحماية ـ إلى اللعنة الأزلية: إما أن تستمر في حمل الصخرة المتدحرجة من الجبل أو أن تُدفن تحتها .. الصوت هو دفتر الشخص غير المرئي في قصة "خارج".

"يغرق لون جسدي في السواد. تتحرك الأشياء على رأسي وتتخبط معًا، أين هو الآن؟ بلطف يوجهون عيونهم بعيدًا .. كي لا يبدو أنهم غير قادرين على تحمّل رائحتي. تركني هكذا دون سبب، لم أقم بإزعاجه قط .. لأنني لا أعرفه في الأساس، ولا أعرف كيف هو شكله أو ملمسه أو رائحته، بالتأكيد له رائحة .. ورائحة مميزة، يجب أن أسألهم لأتأكد".

في قصة "احمرار" ثمة "حدوث" فعلي لما يمكن تسميته بـ "حياة الباطن" .. الحياة التي ليست في حاجة للدفاع عن "حقيقيتها"، أو الاستجابة للمطالبات "العقلانية" بتقديم حجج مشبعة لبصائر معطلة .. حياة تسرد ما يهيمن علي محاولاتها لرصد / تشريح "الجسد" أي صياغتها كنظام غير منضبط من "العفن"، "السواد"، "الشروخ"، "الخدر"، "الألم" .. ثمة معيار للسرد يرتبط بذكرى "الجرح" كموضع منفلت للمعاناة .. الأثر الذي يتركه الجرح في الماضي "البتر مثلًا" لا يبقى ملتصقًا بمصدره .. يشيع في الجسد كاملًا دون قدرة على تحديد مكانه .. "كلية الألم" تظهر كأنها في حالة نفي له .. كأنها تعمل بطريقة تناقض الشعور به؛ الألم الشامل يحررك من الخضوع لشروطه .. لكن هذا "التحرر" هو إثبات لـ "جثة" كل ما في الأمر أن ما "يؤلمها" ليس مرهونًا بما هو منتظر .. أنها تشعر بالألم على نحو آخر .. يؤلمها جهلها بالألم .. أن يديها لا تقبضان إلا على ذلك الخواء .. الحرية هنا تُقارَب بعدم الامتثال إلي يقين للألم .. الحرية التي قد تصلح لأن تكون حلمًا بالبطولة الخارقة في بُعد هازئ بمصدر الألم .. بكل الذين يعيدون إنتاج وتدوير الألم .. الحياة حين تُسرد بطريقة عكسية "التفسير المضاد للعنف أو البلادة الساخرة" فإن الجسد يكشف عن "الحقائق الاستفهامية" الكابوسية الكامنة في كل ما يتصوّر أنها "حقيقة واقعية" مؤكدة ووحيدة.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 31 ديسمبر 2022

ممدوح رزق يناقش “مألوف” في نادي القصة بالقاهرة

في السادسة والنصف مساء الإثنين 2 يناير 2023 بنادي القصة في القاهرة يناقش الناقد ممدوح رزق المجموعة القصصية “مألوف” للكاتبة ابتهال الشايب والصادرة عن دار النسيم للنشر والتوزيع .. يدير المناقشة الأستاذ شوقي عبد الحميد.

يُذكر أن ممدوح رزق يستعد لإصدار كتابه الجديد “وهم الحضور / مذكرات الكادر الضال” عن دار ميتا.

أسامة رجب

نشرة “المقام” الأدبية

31 / 12 / 2022

الخميس، 29 ديسمبر 2022

المرحلة الإلهية

ذات يوم سأعود آخر المساء إلى بيتي بوجبة عشاء شهية (مأكولات بحرية غالبًا)، كيس فواكه، زجاجة بيرة، علبة سجائر، ومكسرات متنوعة .. لن يكون البيت الذي أسكنه الآن برفقة زوجتي وابنتي، وإنما سيكون حجرة صغيرة على سطح بيت قديم في مدينة أخرى .. سأمر في الطريق بين السلالم والباب بأصص الريحان والفل واللبلاب والورد البلدي الكثيرة التي تمكنت من زراعتها أخيرًا  بعد أن وجدت المكان الجدير بها .. سأظل وحدي بلا أي رفيق حيث كل شيء يمنحني الطمأنينة: الجدران والغيوم، حتى الظلام سيتحوّل من رعب إلى أمان .. لن أعتبر نفسي منتقلًا من منزل لآخر، وإنما سأكون متيقنًا بأنني قد استرددت بيتي الأصلي، الذي كان مخصصًا لي من قبل أن أُوجد، وانتُزعت منه في لحظة بدائية يستحيل تذكرها .. النسائم العصرية الباردة لن تكون سببًا لمكابدة الحنين وإنما للانتشاء بما صرت إليه .. سآكل وأشرب وأدخن منصتًا لصرخات أطفال لا حصر لهم، تنبعث من وراء كل النوافذ والشرفات والحوائط المحيطة ببيتي، وتتدفق عبر الآماد اللانهائية من حوله .. سيتملكني الأسف تجاههم، وسأتمنى أن يتمكن أحد من إنقاذهم، بالرغم من أنني سأستمع إلى تلك الصرخات كما لا تتجسد في أذني كائن آخر .. عدا ذلك سأذهب إلى فراشي كل ليلة سعيدًا بما سأطلق عليها (المرحلة الإلهية) من حياتي بوصفها النهاية الأمثل لكل ما لم أعشه.

الأحد، 25 ديسمبر 2022

شاهد ماشفش حاجة

لم تكن شخصًا يعجز عن النوم بسبب ضحكاتنا المتواصلة في نهاية المساء أمام العرض التليفزيوني الأول لمسرحية “شاهد ماشفش حاجة” وهو ما جعلك تنهض من فراشك وتخرج من غرفتك وتتوجه إلى التليفزيون وتغلقه .. كنت شخصًا يكره ضحكاتنا .. صحيح أنك رددت على اللوم الخافت لأخيك الأصغر بصياح مُرهب وأنت تخبره برغبتك في النوم؛ لكنني شعرت بحقدك على البهجة المؤقتة التي يغتنمها إخوتك في ظلام الصالة أمام المسرحية .. كان استسلام أخويك وانسحابهم التلقائي إلى حجرة نومنا غريبًا ومنطقيًا في نفس الوقت بالنسبة لي .. لم يكن ينبغي أن نرضخ لخسارة متعتنا بهذه البساطة، وأيضًا لم يكن ينبغي أن تتسبب تلك المتعة مهما كانت في معركة فضائحية جديدة، خاصة في هذا الوقت المتأخر من الليل .. أشفقت على نفسي وعلى أخويّ كضحايا لك .. كنا نستحق هذه الضحكات العابرة التي حرمتنا منها .. كنا نحتاجها بشدة .. والآن أثبت مجددًا كم نحن ضعفاء أمامك .. أننا خائبو الأمل لأبعد مدى في مواجهتك .. كل ما كنا عليه لم يكن سوى تجسيدًا للإذلال: التمتمة الاعتراضية المقهورة لأخيك .. النظرة المفتتة التي تناقلتها عيوننا بين الشاشة المطفأة وملامحك التهديدية وأنت عائد إلى غرفتك .. الصمت المهين الذي نهض بنا من أمام التليفزيون وأدخلنا حجرتنا ووضع رؤوسنا فوق الوسائد وأغمض جفوننا على نقمة مضاعفة.

لهذا لم تحصل البنت الوحيدة على حجرة مستقلة بها كما يُفترض، وإنما شاركت أخوين لها إحدى الحجرات، كنت أنا أحدهما .. لهذا كنت الأخ الوحيد الذي حصل على الحجرة المستقلة .. كان الزمن يفهمني سر ذلك ويؤكده مع مروره البطيء، الذي أصبح خاطفًا بأثر رجعي بعد موتك .. لم يكن من الممكن ان تشارك أحدًا من إخوتك حجرة واحدة .. كان يجب أن تتحوّل الحجرة الثانية التي تضم إخوتك الثلاثة إلى سجن متقطع، يساقون إليه في اللحظات التي يحكم خلالها غضبك المتوعّد بهذا .. كان يجب أن أكره وجودك بما يعادل مقدرتك على ترويعنا وكسر خواطرنا.

كنت تكره ضحكاتنا لأنك لا تستطيع الحصول على ضحكات مماثلة .. يمكنك أن تضحك كيفما تشاء الأمور، وأن تضحك كثيرًا أيضًا، وربما بصخب بالغ أحيانًا، لكنها ستكون ضحكاتك أنت لا ضحكات الآخرين .. الضحكات الناجمة عن أرقك الخاص الذي يحرمك من الطمأنينة .. قد تكون ضحكات الآخرين أقل حدوثًا وأكثر خفوتًا، ولكنها ناجمة عن هموم مختلفة .. كنت تكره ضحكاتنا لأنك كنت تتمنى لو قايضت أرقك المزمن بتلك الهموم الغريبة عنك في أرواح الآخرين .. الهموم التي ربما تكون أخف وطأة من الأرق الذي تعجز عن تحمّله .. لهذا لم يكن عدلًا أن تسمع ضحكاتنا وأنت في تلك الحالة .. لم يكن عدلًا ألا تسمح تلك الحالة بأن تتوحد مع اللاطمأنينة الكامنة في نفوس الضاحكين أمام المسرحية بحيث تدرك أن إيذائهم موجهًا أيضًا إلى نفسك، وبالضرورة تتحاشى إذلالهم .. لكن قبل أن يجدر وجود ما يمنعك من الحقد علينا؛ كان يجدر وجود ما يمنع المهانة عنك .. كان يجدر ألا نعيش ونموت أمام “شاهد ماشفش حاجة”.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

السبت، 17 ديسمبر 2022

تأخُر الوقت

هل كنتِ تظنين أن “نعم” تعني أكثر من مجرد “نعم”؟

“نعم” الأخيرة تركتيها في البيت، متناثرة بين المطبخ وحجرات النوم. بالنسبة لهم؛ أصبحت في غيابك بلا معنى. ربما يتذكرونها الآن، لكنهم بعد قليل سيضطرون لنسيانها بحثًا عن تعويض.

“نعم” الأخيرة بقيت بدونك. معلقة بين الحوائط انتظارًا لصوتك الذي اختفى من هناك، ومع ذلك لم يظهر في الحجرة البعيدة التي تتمددين على سريرها الآن. حجرة لا تحتاج إلى تنظيف أكثر من طرد الذباب المتهافت عبر النافذة الزجاجية المغلقة. لو كنتِ تستطيعين الوقوف لفعلتِ هذا بنفسك. لم تنطقي بكلمة واحدة، كان ذلك يتطلب مقدرة أكبر مما تملكينه. بدلًا من هذا؛ رحتِ ترسمين الكلمة بعينيك الذابلتين فوق عتبة الباب التي يدهسها الأطباء والممرضات دخولًا وخروجًا بشكل متعاقب. هذه المرة لم تستطيعي إكمال “نعم”. ليس لأن الضعف قد أحكم احتلاله لبصرك، وإنما لأنكِ كنتِ تدركين تمامًا ما الذي يعنيه اكتمالها في هذه اللحظة بالتحديد.

هل كنتِ تظنين أن “نعم” ستجعلك تتفادين هذه الوسادة الصغيرة، الملاءة البيضاء، البطانية الخفيفة ذات الخطوط المتقاطعة؟ هل كنتِ تظنين أنها كافية لحمايتك من أي شيء؟ قلتِ “نعم” كثيرًا جدًا، قلتيها كما لم تتفوهي بأي كلمة أخرى، لكن النهار أتى مظلمًا اليوم كما وعدتك كل النهارات المضيئة السابقة على مدار ستين عامًا.

منذ يومين فقط كنتِ تقفين في الشرفة، تنشرين ملابس زوج وابنين حينما اخترق الألم بطنك للمرة الأولى. الألم الذي أعقبه تقيؤ ثم دوار ووهن ثم استلقاء بلا نوم ثم ألم جديد وتقيؤ جديد ثم أتى الطبيب وأمر بنقلك إلى المستشفى. “انسداد في الأمعاء”؛ هكذا أصبح أول أمس أبعد من يوم ميلادك.

قبل العملية الجراحية كانت كل الأشياء مرتّبة في حجرتك. مرتّبة على نحو مقبض. لم تدركي من قبل إلى أي مدى يمكن أن يكون النظام مرعبًا. أصبحتِ تعرفين ذلك الآن فحسب. مجرد معرفة.

بكيتِ كثيرًا. طوال عمرك بكيتِ كثيرًا عدا هذه اللحظات. كل ما فعله المرض بجسدك لم يجعلك تبكين. حتى عندما أخبروكِ بأنكِ ستخضعين لجراحة غير مضمونة بسبب حالتك الصحية والأمراض المزمنة التي تعانين منها؛ لم يجعلك هذا تبكين. حتى لو أتيحت لكِ رؤية الشحوب الذي تضاعف في وجهك خلال يومين ما كنتِ ستبكين. حتى لو علمتِ بأنكِ ستخرجين من غرفة العمليات إلى القبر ما كنتِ ستبكين.

ما الذي كنتِ تحتاجينه إذن خلال تلك الثواني؟ صمت تام؟ ضجيج أقل؟ ضوء أخف؟ ذاكرة فارغة؟

ثمة دعابة رومانسية شائعة تقول إنهم يصنعون ساعات صغيرة للنساء حتى لا ينتبهن إلى تأخر الوقت. لا أحد سيتذكر أنكِ فقدتِ الساعة الملوّنة التي أهداها لكِ أبوكِ في عيد ميلادك العاشر، وأنكِ بعد ضياعها ـ ودون قدرة على تبرير ذلك ـ لم يعد بوسعك ارتداء ساعة أخرى.

الجمعة، 9 ديسمبر 2022

سير بلا هدف

كنت أمر بالصدفة أمام مقهى “معروف” وأجدك أحيانًا جالسًا فوق رصيفه المقابل .. دائمًا وحدك، ودائمًا يكون هناك كرسي آخر غير الذي تجلس عليه، تضعه أمامك لتسند ذراعيك إلى ظهره .. لم أعرف هل كان ثمة أصدقاء لك يجلسون في المقهى حينها وتعوّدت أن تنعزل عنهم لبعض الوقت، أم أنك كنت بمفردك في كل مرة .. دائمًا تكون متجهمًا أيضًا، لكنه ليس نوعية التجهم التي تشيع الرهبة في قلوبنا داخل البيت، وإنما كان تجهم الحزن أكثر منه الغضب .. كنت تبدو شخصًا مختلفًا بتلك الاستكانة النقية التي غالبًا ما تقترن بالتعاسة، وقد أخمدت مؤقتًا الانفعالات التدميرية لروحك الناقمة .. كنت تتسم ببراءة غريبة وأنت جالس فوق ذلك الرصيف، وكان على هويتك كشرير في ذاكرتي الصغيرة أن تجعلني أكتشف عدم تماثلها مع أنماط المسالمة لدى الآخرين .. كأنك كنت ملاكًا استثنائيًا لابد أن تحرق نيرانه العمياء الطريق الفاصل بين المنزل رقم 54 في شارع محمد فريد، ومقهى “معروف” بالسكة الجديدة لكي ينفرد بآلامه في وداعة طفولية لا تشبه الانكسارات الصافية المألوفة لأصحاب القلوب البيضاء، المغلوبين على أمرهم .. كانت عيناك الساهمتين لمقتول، لا لقاتل .. لتائه مقهور تخلى عنه كل شخص وكل شيء وكل حل، لا لمن عليه أن يجعل الجميع يدفعون ثمن عذابه .. لمن ينادي معاتبًا في صمت، ودون أثر داخل ملامحه، على ذلك المصدر الحقيقي الخفي لليتم الملعون به حتى ينقذه قبل فوات الأوان، لا لمن يخوض حربًا لا تهدأ لإثبات أنه لا يوجد في الدنيا من يستطيع إذلاله ولو كان ….ها نفسه .. كانت عيناك تبدوان كأن الحياة غائمة أمام نظرتهما المتجمدة، وكأن شيطانك غير المرئي على وشك الاستيقاظ في أي لحظة من نومه الشكلي فوق الكرسي الآخر الذي تسند ذراعيك إليه.

ذات مرة كنت أمر من أمامك مع أصدقائي ظهرًا وأنت جالس على هذا النحو .. كان تظاهري بعدم الانتباه إليك عفويًا .. كنت أبعد ما تكون عن الشقيق الأكبر الذي ينبغي أن يصافحه أخوه الصغير أو يشير إليه بالسلام على الأقل حين يصادفه خارج البيت .. لكنك فاجئتني بعدما تجاوزتك بخطوة واحدة بندائك لي .. نطقت اسمي وكان هذا نادرًا، ونطقته دون غضب وكان هذا أكثر ندرة .. لم تكن المفاجأة في مناداتك لي بقدر الطريقة التي فعلت بها ذلك .. كان شقيق أكبر ينادي أخاه الصغير .. هكذا فحسب بصوت مجرد من الضغينة .. بدا أيضًا كأن شرود عينيك أثناء جلوسك أمام المقهى هو الذي شكّل تلك النبرة التي ناديتني بها .. نطقت اسمي بخفوت ودود، حزين، خائب الأمل، ومختنق بالحيرة .. تركت أصدقائي وتوجهت إليك وأنت تنهض من فوق الكرسي .. وقفت أمامك ونظرت في وجهك .. نعم، هو أنت، وثمة شيء غريب يجري الآن يستدعي بصورة تلقائية امتنانًا طفوليًا يتوارى في نفسي ممزوجًا بالحذر والترقب .. سألتني بالصوت ذاته ودون أن تتخلص ملامحك من تجهمها عن وجهتي مع أصدقائي .. أجبتك باقتضاب، وبلا إفصاح عن شعوري المباغت بالبهجة لكوننا نتبادل حوارًا طبيعيًا بأنني أسير معهم دون هدف .. كانت الكلمات القليلة محاولة لضمان عدم حدوث خطأ قد يفسد تلك اللحظة غير المتوقعة .. وجدتك تضع يدك في جيبك ثم تخرج خمسة جنيهات وتمدها لي .. أخبرتك بلهجة شاكرة أن معي نقودًا، لكنك وبهزة رأس داعمة طلبت مني أخذها .. وضعت الخمسة جنيهات في جيبي وانسحبت من أمامك بينما عدت أنت إلى الجلوس في صمت متزامن مع ابتعاد نظرتك عن وجهي .. كان ذلك إشارة لنهاية اللقاء العابر .. تحوّل الامتنان في داخلي إلى حسرة .. ليس على المصادفة التي لم يتم استغلالها كما يجب، ولا على عدم إنهائها بالحميمية المطلوبة، بل على حياتنا .. تذكرت وأنا أسير مع أصدقائي كرامتك المهدرة أمام أبيك وأنت تطلب منه خمسة جنيهات كتلك التي أعطيتها لي الآن .. تذكرت إبلاغك له في مشاجرة لاحقة بأنك مزقت خمسة جنيهات كانت في جيبك وأنت تنزل سلالم البيت بعدما رفض أن يعطيها لك .. ربما كانت آخر نقود معك، لكنك كان يجب أن تقدم قربانًا ممزقًا لكرامتك كي تعوّضها عما لحق بها من إهانة أبوية .. كان يجب أن تقدّم لها أبًا ممزقًا، ولكن لم يكن في يدك سوى صورة لسلطته ممثلة في ورقة نقدية منعها عنك .. كأنك أردت انتهاز مروري أمامك في تلك الظهيرة لكي تحميني من الوقوف أمام أبي وطلب نقود منه .. لكي تحمي كرامتي .. لكنني حينما أستعيد ذلك اليوم يلح في ذهني سؤالك الذي كان يبدو وقتئذ روتينيًا أكثر من أي كلمات أخرى .. سؤالك عن وجهتي مع أصدقائي .. كنا نسير دون هدف كما أخبرتك، وها قد وصلت إلى نهاية السير يا أخي .. سؤالك كان بدايته وهو الآن نهايته، ولو لم تكن في قبرك الآن بعد خروجك محتضرًا من بين رفاق مقهى “معروف”، ولو لم أكن وحدي في منتصف الأربعينيات بعدما تخلصت من جميع أصدقائي لما تغيرت حقيقته .. كان وعدًا وليس سؤالًا يا أخي.

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة. 

الأحد، 4 ديسمبر 2022

صورة ذاتية في مرآة محدبة: العالم مأساة لغوية

هناك شاعر قد يبدو لقارئ ما أنه يعيش حالة "تأليه" للغة، وفي المقابل هناك شاعر آخر قد يبدو أنه في حالة عداء "ساخر" معها. "جون آشبري" بالنسبة لي هو أحد هؤلاء الشعراء الذين يمتهنون تقويض اللغة. أحد الذين لا تعد صراعاتهم مع الكلمات ظواهر شكلية لقصائدهم بل جوهرًا لمضامينها. في مختاراته "صورة ذاتية في مرآة محدبة" التي ترجمها غسان الخنيزي وصدرت عن دار روايات يمكن لنا التعرّف على هذه الغريزة الأسلوبية / الفلسفية لدى جون آشبري لتفتيت ما يحتمل أن يكون "أثرًا لغويًا".

"لا تضمن الغضب في المسافة / التي يستلزمها الذهاب من هنا إلى التل وسط المدينة / حيث برج الياقوت. / آخرون غيرك قاموا بالرحلة، والقليل منهم وجد / ما يثير التعجب ما إن انقضى فعل الوصول. / كلماتك تحمل معاني كثيرة / بمجرد انطلاقها. احتفظ بقصيدة ساخرة / للجِرار بمجرد أن تنقضي / ستحملها كورقة اعتماد، / قطعة من الجلي لا تحقق شيئًا. / على طول النهر الصغير حيث وقفنا مرة / هناك أمور جديدة يجري استيعابها / وكشف أسرارها. هل يهمنا هذا؟ / أم أن الوقت قد حان بالفعل للعودة إلى الداخل؟ / "على الواجهة البحرية" كان فيلمًا جيدًا. / هل نُنهي الحديث ههنا؟"

يقوم "جون آشبري" بتخريب السياق بواسطة الإيحاء بدراما تسعى للاكتمال، أي تقبل التأويل كدلالة مستقرة، لكن القصيدة تقوم على "وهم المشهدية" أو التكوين "السرابي" لصور تدعي محاولة التجرد من نقصانها في سبيل إزاحة المشهد كموضوع أو محو الصورة كمعرفة استباقية. نلاحظ هنا أن آشبري يعيّن ما يشبه شفرة ـ مضادة للبلاغة ـ بين مفردات متقابلة لخلق مسافات مناقضة بين حضورها والرجاءات العفوية لهذا الحضور: "معاني ـ ساخرة"، "اعتماد ـ لا تحقق شيئًا"، "استيعابها، كشف أسرارها ـ هل يهمنا هذا؟". كأن المسافة / الرحلة هي مسار إفساد التناغم بين الخطوات وتوقعاتها حيث يمكن اكتشاف هذا الانسجام المهشّم في "الداخل" / الأنا "ككينونة شعرية"، أي حيث تقتل الكلمات وعودها.

"الحياة بأحزانها، الحياة بدموعها. / وأنت تعرف ما يعني ذلك: / السماء في جارور، / والملابس الداخلية العالم السفلي / على أرضية القمر. / تحت مصابيح الطوارئ ذعر صغير يتنامى، / منزويًا على نفسه، يدوي / أمام أضواء مركبتك، بتموّج. / أنت للتو غدوت صغيرًا جدًا / وليس بوسعي إلا أن أحيطك / بالمنشفة الكتانية التي استبقيناها لهذا الغرض. / الطبيب أوصى بالراحة. / البقرة الحلوب هي عمل فيه كسب، / غير أن الريع ليس عظيمًا بما يكفي / لكي تفرحوا أيها الناس / ليست هي الخلود، / هذه الأشجار الميكانيكية، أشجار الحور. / جيد معرفة أنك لا تفتك بها كلها بنفسك / في الجهة الأخرى من الشارع يا عزيزي".

مقاربة ما يعادل لطشات هذيانية في هذه القصيدة، تتدفق كحنين أعزل ومشرّد "ذكريات مفقودة وماض متأرجح من الاستعادات المبتورة والملتبسة"؛ هذه المقاربة تحيلنا إلى استفهام المتعة الحلمية الناجمة عن تأمل اللغة في هذه الوضعية من التشذر والتناثر. تكمن هذه المتعة في تخلي اللغة عن خداع التماسك "ثمة حق في مكان ما يبرر خطاب الصلابة" لكي تسترد منطقها "غير التفسيري" أو طبيعتها "اللاتبريرية" التي تراوغها وتنكرها طوال الوقت. تشير إلى تلك الذات المجهولة التي تتجاوز اللغة "العارية من التبجيل" في احتجابها القهري. الذات التي يومئ لها ويؤكدها الذعر الغاضب نحو السماء، والمشكّل من أحزان ودموع ووعي انتقامي بالفناء.

"عندما أفكر في الانتهاء من عمل، عندما أفكر في العمل المنجز، يغمرني حزن عارم، حزن ويا للمفارقة يشبه الفرح. ها وقد وضعت ظروف العمل بعيدًا، فكينونته تتملكني، مثل قاطن منزل مستأجر. أين أنت الآن، أيها القلب الشريد؟ قد علقت في مفصل، أو نفثت داخل طبقات الجدار، مثل أسلافك المغمورين وقد مُنحوا أسماءً الآن؟ من الأفضل ألا نسترسل في الكلام عن حالنا، لكن أن نفعل ذلك هو أمر ملهم للغاية. مثل خوان ملآن بالقناني والفاكهة. كما هي طائرة ورقية على شكل صندوق بالنسبة لطائرة ورقية. داخل التعثر. الطريق إلى التنفس. الرسم الكاريكاتوري على السبورة".

ينحاز "جون آشبري" إلى الوخزات المتلاحقة المستندة على نوع من الطيش. يستعمل المفردات كأشلاء أو شظايا مشيرًا إلى جسد ممزق أو بنية محطمة. الجسد الذي يكافح لأن يكون بديلًا لوجود محصّن تم تغييبه قسرًا، أو البنية التي تجاهد لأن تكون تعويضًا عن "كونية مستحيلة". بهذا الاستعمال "التعثر في الأشلاء أو الشظايا" يمكن التحديق إلى ما أجبرت الفردية أن تكونه: رسم كاريكاتوري. محض هزل مؤقت. التحديق الذي قد يُسمى ـ بالتهكم اللازم ـ "حرية معكوسة".

"الغرفة التي دخلتها كانت حلمًا بهذه الغرفة. / حتمًا كل آثار الأقدام على الأريكة هي لي. / الصورة الشخصية البيضوية / لكلب هي صورتي في عمر مبكر. / شيء ما يتلألأ، شيء ما قد امحى. / كنا نأكل المعكرونة ظهرًا كل يوم / ما عدا الآحاد، عندما يستجلب طائر سمان صغير / كيما يقدم إلينا. لماذا أخبرك هذا كله؟ / أنت حتى لست هنا".

كلمات في صيغة من العراء الرمزي حيث يهدم المعنى نفسه في اللحظة التي تحاول كل كلمة أن تحيل إلى برهانها الموثق. تنتج فكرًا يعاند الترابط، شبحيًا، مخلخِلًا، أقرب لموسيقى التفكيك التي تحوّل اليقين إلى دعابة هازئة. يتحوّل العالم إلى إرجاء جحيمي "لا أحد هنا" كحماية "حتمية" للمطلق. يتجسد الشعر كتجانس ثأري مع هذا الإرجاء، أي أن الشاعر يوطد دليلًا دامغًا على أن أكاذيب الحكمة تتجلى ناصعة في بصيرته.

"كما نفذّها بارمجيانينو، اليد اليمنى / أكبر من الرأس، تندفع نحو الناظر / وتحِيد بسهولة مبتعدة، كما لو أنها تحمي / ما تعلن عنه. بضعة ألواح زجاجية معشقة، عوارض خشبية قديمة، / فرو، قماش موسلين بطيات عدة، وخاتم من المرجان / كلها تتعاضد معًا / في حركة تسند الوجه، الذي يسبح / مقتربًا مبتعدًا مثل اليد / سوى أنه في سكون".

في قصيدة "صورة ذاتية في مرآة محدبة" التي كتبها جون آشبري عن لوحة الرسام الإيطالي فرانشيسكو ماتسولا "بارميجيانينو" تُحكى سيرة التقنية الفنية التي أنتجت اللوحة ودوافعها وبصماتها كممارسة أقرب لفانتازم شعري. التشكيلات الحسية وأداءات الباطن والحركة التشابكية للنظرة. يرسم "آشبري" اللوحة مجددًا بالاعتماد على عزل اللغة عن الرغبة المقموعة، المخاتلة من وراء القدر، حيث الأشياء "ليست هي نفسها".

"السر في الأمر أوضح ما يكون. الخيبة فيها تلذع بالألم. / تجعل الدموع الساخنة تفيض: لأن الروح ليست روحًا، وليس لها سر، ضئيلة، وتلائم تمامًا / تجويفها: غرفتها، ولحظة الانتباه خاصتنا. / ذلك هو اللحن وما من كلمات".

الرغبة المقموعة ساطعة في الشكل الكروي للحياة، واليد التي تريد الخروج من الكرة تحاول القبض على ما خارجها المعتم. تصفية الحساب مع الأسباب المقدسة لنفي الذات الأصلية "المستحقة للوجود" واستبدالها بألم دون معنى. بروح "ليست روحًا" لأنها مصنوعة من بلاغة خائبة. اليد تسخر من جُرم التجروء على "السحر غير العادل" حين تسعى لاختراق مسافاته الطاحنة "كما تبدو الصورة في المرآة المحدبة"، للانفلات من ديناميكيات القتل، نحو الحماية الإعجازية المحرمة.

"ذيول الحركة التي تؤرجح الوجه / في مرمى النظر تحت سماوات المساء، دون معمعة زائفة كزعم بالأصالة. / إنما هي الحياة مكنونة في شكل كرة. يود المرء لو يخرج يده / من الكرة، لكن امتدادها، وما يحملها، لن يسمحا بذلك".

نظرة "بارمجيانينو" هي الألواح الزجاجية، والعوارض الخشبية، والفرو، والقماش في قصيدة "آشبري". النظرة المترنحة بشبقية الحسرة، بموضوع اللذة المفقود داخل ما يكوّن فضاءً "ديستوبيًا" للجسد. بالشفقة تجاه الماضي الذي تم تضييعه ـ عمدًا ـ في مفارقات العنف والشروط الغامضة للعجز.

"لا تطلب مني الذهاب إلى هناك مرة أخرى / الأبيض موجع جدًا / نسيانه أفضل / النهر النائم تحدّث إلى الأرض اليقظة / عندما سحبوا الأسلاك أول مرة / عبر الحقل / استقر الهواء ببطء / على البحيرات / المرآة الزرقاء ظهرت للضوء / حينئذ خشى أحد ألا تكون / برك الماء درعًا كافيًا / فتستنفد السماء / الضوء انبثق / الإيماءة السابحة / في النهاية شفق لن يحرس أوراق الشجر / موت لن يجرب الصراخ / شواطئ سود / ومن أجل ذلك أرسلت بطاقة بريدية سوداء لن تكل سماعك قط / من أجل ذلك الأرض تناشد البئر. / الأبيض يسري في أخاديدها / النهر ينزلق تحت أحلامنا / غير أن الأرض تنساب في صمت أكبر".

العالم أقرب إلى مأساة لغوية عند جون آشبري، لذا فهو يضع "الشعر" في مواجهة الإرادة المتفاخرة للغة. ذلك أيضًا ما قد يجعلنا "نشعر" بأن قصائد آشبري تحاول التخفف من ثقل متعدد بينما تمثل / تفضح التشوش الذي يحاول مداراة نفسه وراء أخلاقيات "انتهاكية". التشوش كحاجز غيبي يفصل بين الصمت "الخارق" وعقابه اللازم. بين التعاسة وسرها "البدائي" (الذي لا يقع داخل الكلمات).

"ودائمًا في هاجس ابتلائها بظل اندفاعات الخبيثة التي هُيئت واستُنفدت بالفعل في خواء من الظلمة، مملكة يعرف أن ليس بوسع الأرض تحمّل عناء اجتنابها إذا تحيّن للدقائق ولكتبة مقدسين بصيحاتهم الضاحكة، المجيء في مساء التدبر وفي الليل الذي لا علاجًا، ولا طائر أكثر إلزامية، ولا موضوعًا يتقصد شيطان قلبه، بقادر على التكهن به حتى لو أضيئت بمثابرة الحقائق التي جاء بها واحدة بعد الأخرى، في تلك الغرفة الصامتة والمتسارعة ظلمتها".

إن النبرة "العدمية" التي تومض في شعر جون آشبري لا تنبع من "التلغيز" وإنما من تقمص اللغز نفسه. من التوحد بالشر المبهم "ماهية الوجود" في صوره المقطّعة والمدوّخة والأشبه بدوامات حادة من فتات أسطوري لفرديات "إلهية" مجهضة، لم يُسمح إلا لنسخ منها، قاصرة، معطوبة ووحشية بالمرور إلى الفكاهة الأزلية الجامدة "الحياة والموت" حيث يرعاها المجاز الاستعبادي ويضمن توالدها وتبددها.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 3 ديسمبر 2022