الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

"نقد استجابة القارئ العربي" في موقع "العربي الجديد"

يمثّل الكتاب مدخلاً لدراسة الأسس المعرفية للكتابة الأدبية العربية، وكذلك تحليل التكوينات الثقافية للظواهر النقدية، وتشريح الجذور التاريخية للسياقات والأبنية اللغوية الخاصة بمراجعات الكتب وتدوينات القراءة، بالاستناد إلى حضور القارئ في النظرية النقدية المعاصرة باعتبار أن القراءة والكتابة وصفات لفاعلية واحدة، وامتداد الهيمنة (القيمية) للذائقة الأدبية من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام.

السبت، 25 ديسمبر 2021

سيرة الاختباء (34)

لا يعنيني الاعتقاد الساذج لدى البعض – أو الكثيرين – حول مثالية (الأديب) أو (المثقف)، كما لن أتوقف أمام الإدانات (المصدومة أحيانًا) تجاه الشاعر المغتصِب أو الناشر المتحرش أو الكاتبة التي لم تمانع في قبول جائزة من حكومة عربية داعمة لـ “تحيا مصر” .. ما أفكر فيه الآن هو متى تغضب الجماعة الأدبية؟ .. ما هو المعيار (الأخلاقي) لديها والذي يترتب عليه الاحتفاء أو القبول أو التغاضي أو الإدانة؟ .. هل يجسّد هذا المعيار تركيبة “الأمان الثقافي” الذي يحتاج أفراد هذه الجماعة للإبقاء على هيمنته، أيًا كانت نتائجه؟

كان الأمر عاديًا جدًا حينما كتب الشاعر قبل سنوات ( لم يكن مغتصًبا جنسيًا بعد) مقالًا في إحدى المنصات البائسة مهنيًا يتضمن سبابًا عنصريًا نابيًا لجمهور أحد الأندية المصرية .. كان الناشر (قبل الاتهام بالتحرش) واحدًا من الشخصيات محل التقدير في الوسط الأدبي بالرغم من دوره المؤثر في ترسيخ صورة طبقية زائفة للكتابة المصرية عن طريق الترويج والإلحاح المتواصل ولفترة طويلة على الأسماء التي تحملها أغلفة إصداراته، مستغلًا علاقاته المركزية المتشعبة .. كانت الكاتبة (خلال الزمن السابق لحصولها على الأموال الخليجية الطاهرة) إنسانة لطيفة وظريفة وجديرة بالاحترام حينما كتبت منشورًا على فيسبوك تصف فيه صحفية أرادت عقد حوار معها بأنها (لحوحة وغبية)، وكذلك حينما كتبت على فيسبوك أيضًا تعليقًا حاقدًا ينطوي على تفسير معتوه وجاهل ومثير للضحك والشفقة على كلمات كاتب آخر كان قد نشرها على صفحته ولم تكن لتلك الكلمات أدنى علاقة بها.

هذه ليست أخطاءً أصلًا في نظر الجماعة الأدبية، وإن كانت كذلك ـ في أفضل الأحوال ـ فهي ليست خطايا كالاغتصاب والتحرش والتطبيع مع حكومة دولة ترعى “الحريات” في بلد آخر .. يجب أن ترتكز الجماعة الأدبية على التفرقة بين “الأخطاء” و”الخطايا” لتحمي نفسها من الازدواجية والتناقض .. لكنها حين تتعامي ـ قصدًا ـ عن “الأخطاء” باعتبارها جزءاً من “الخطايا” فلن تستطيع أن تحمي نفسها من الانتهازية والتسلّط .. السباب العنصري في مقال لا ينفصل عن الاغتصاب الجنسي .. المساهمة الفعّالة في توطيد مشهد تراتبي كاذب للكتابة المصرية لا ينفصل عن ممارسة التحرش .. الإهانة المتغطرسة والاستقوائية بالمريدين تجاه شخص لم يبادر بأذى لا ينفصل عن التطبيع مع “الملائكة” .. فعل ليس أقل أو أكثر فظاعة من فعل آخر .. ارتكاب يشير ويدل ويؤكد على ارتكابٍ آخر .. ينبغي على الجماعة الأدبية ألا تعترف بعدم الانفصال هذا لأن الاعتراف يجرّدها من هويتها .. يعزلها عن جوهرها .. يحرمها من الغرض الذي تكوّنت على أساسه.

لست في خندق المدينين أو المُبرئِين أو حتى المحاكِمين فيما يتعلق بـ (الاغتصاب والتحرش وقبول جائزة من نظام سياسي مستبد) .. أنا أشرّح وأفكك المبررات التي حُفرت من أجلها هذه الخنادق .. أخلق الاستفهامات التقويضية للدعائم التي تُبني عليها “المواقف النبيلة” في لحظات “انتقائية” معينة:  لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لشاعر فضّل أن يكون وضيعًا على أن يصون المهبل الذي خرج منه؟ .. لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لناشر أفّاق، يوظّف “غلمان وجواري القاهرة” ليراكم أرباحه كـ “مثقف كبير”؟ .. لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لكاتبة متعجرفة، توزّع هشاشتها عداوات كوميدية، اعتمادًا على مكانة في الوسط الأدبي لم تكن لتبلغها لو كانت قد كتبت كل ما كتبته وهي لا تزال مقيمة في قريتها أو حتى في المركز الذي تتبعه قريتها أو حتى في عاصمة المحافظة التي تتبعها قريتها؟ .. ما الذي تغيّر؟ .. الاغتصاب؟ .. التحرّش؟ .. التطبيع مع كيان عربي يعتني بـ “الجمهورية الجديدة”؟ .. تحقق ما تم اعتباره “جرائم فعلية”؟ .. التفاوت في طبيعة “الإثم” بين ما قام به الشخص نفسه سابقًا والآن؟ .. أم لأن شروط “النفعية الثقافية” اختلفت، وبالضرورة أنتجت مقتضيات جديدة؟ .. هل “المصلحة الثقافية” هي “المعيار الأخلاقي” الذي يحكم شكل “الحقيقة” والخطوات التطهرية الناجمة عن تبنيها في وقت محدد لدى الجماعة الأدبية؟

إن حماية ما يتم اعتباره سلوكًا بديهيًا مبررًا أو بنوع من الكرم “هفوات ممكنة” تستهدف الحفاظ على ما تمثله تلك النماذج “المركزية” كالشاعر والناشر والكاتبة من أمان طاغ؛ إذ ينطوي الاعتناء بهم على فرصة لكل مشارك أو مساهم في رعاية وجودهم باللايك والتعليق المؤيد أو الممجد وبالمشاركة التضامنية والاحتفائية … إلخ؛ ينطوي على فرصة للاستفادة بالمعنى الشامل .. إما مكسب مباشر أو مؤجل أو محتمل .. اكتساب قدر من لمعان وهيبة المنزلة الرفيعة التي يحتلها هذا النموذج ولو على المستوى النفسي كنوع من التعزية الخبيثة لعدم بلوغ فرد الجماعة تلك المنزلة .. حينما أوثق إشارة أو علامة معلنة تفيد وتدل على رضائي أو مساندتي لتصرف أقل ما يوصف بـ “عدم النزاهة”؛ فإنني أصير جزءًا من الوعد الضمني الذي يحمله صاحب هذا التصرف بأن أكون مثله .. أن أحقق ما صار إليه .. أن أكون جانبًا من سلطته حتى لو كنت أكثر المتضررين من ترسيخ هذه السلطة “كالإقليمي الحالم والمكافح لأن يكون ابنًا للفردوس القاهري”.

يحق لي قول هذا .. ليس لأنني واحد من جماهير ذلك النادي التي تم الإساءة إليها، وواحد من الكتّاب الذين دفعوا ثمن الصورة الطبقية الزائفة للكتابة المصرية، وواحد من الذين حاول مزيج الحقد والعته مناوشتهم فضحكوا شفقة؛ وإنما لأنني ـ ببساطة ـ لست فردًا من الجماعة الأدبية .. لأنني خارج “الأمان الثقافي” الذي يجب أن أوظّف معاييري الأخلاقية بحسب مقتضياته .. لأن القدرة على الانفصال عما يلهث ويتصارع من أجله الآخرون أبقتني دون تهديد.

      موقع "الكتابة" ـ 25 ديسمبر 2021

الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021

وصية كلنكسر

ليس التذكر وحده ما قد يعيدك إلى مكان قديم، وإنما النسيان أيضًا .. الطمس الغيبي الهازئ للصلة التي تربط بين عمائك الشهواني والحقيقة المجهولة للمكان .. حينما يدفعك النسيان إلى تلك العودة الغامضة ـ لاسيما في اللحظات الفارقة كالشعور المبهم بقرب نهايتك، وخلال الوقت الاحتفالي لكينونتك من العام كيوم شتائي كثيف الغيوم وغزير المطر ـ فإن ذلك لن يكون استرجاعًا مبهجًا ومتحسرًا للماضي أو مجاهدة بائسة وخبيثًة لاسترداد ما فُقد ولم تكن تملكه أصلًا، بل سيكون ولادة متبادلة بينك والمكان .. إعادة تكوين جامحة لبداهة الواقع التي تُشكل تاريخكما المشترك .. اكتشافًا جديدًا لحطامكما العدمي المتناثر فيما قبل ذلك التاريخ، وهو ما قد يحاول المتلقون والنقاد ـ برعشة اليقين الخالدة ـ تجميعه وترميمه كبنيان مروّض.

ربما سيموت بالفعل في ذلك الشتاء، أثناء عمله في تلك اللوحات أو بعد انتهائه منها، وإذا كان ذلك الموت سيدفع بعضًا من الذين مازالوا على قيد الحياة للرجوع إلى كتاباته عن أعماله الفنية؛ فإنه يرجو أن يكون رجوعهم بشكل أخص إلى الوصية التي كتبها في نهاية عمره كنبوءة تمزج بين التوسل الأخير للخلود، والرغبة المتحدية في مواجهة الموت .. كأن الإهانات التي طالما لاحق بها غضبه الذاهل ذلك الموت عبر الخطوط والألوان قد بلغت ذروتها الخالصة، وكما لو أنه عند حافة الفناء قد استعاد ـ كما ظل يكافح دومًا ـ طفولته المتمنعة على نحو كامل: غفلة نقية مطرزة بالدموع.

لا تعنيه التأثيرات العاطفية لموته، أو التفسيرات الخرقاء لأسبابه والمنحصرة على الأغلب في النتائج القاتلة للتشاؤم الانعزالي الذي ربما يثرثرون عن بدايته المتدرجة ثم تسارعه المفاجئ حتى اكتماله بصورة تامة في سنوات نهايته .. لا تعنيه الفرضيات القاصرة التي سينتزعونها من لوحاته الأخيرة ـ خاصة التي تحوم حول الملامح الثملة لظواهر الرعب الوجودي في انتقامها الرمزي من المشيئة القدرية ـ حتى يستمتعون بتداولها كإثباتات لصحة ظنونهم، والتي قد تتمادى إلى حد مراجعة الهوية النفسية له، والتأكيد على أن “الجنون” لم يكن صفة جمالية وحسب وإنما واقعية أيضًا .. ربما سيعتبرون موته وفقًا لتلك اللوحات نوعًا من الانتحار المراوغ .. قتلًا غير مباشر للنفس يبرهنه ـ من وجهة نظرهم ـ (عدم الاتزان) الذي يؤسس شخصيته، ويتجلى في أشكال سلوكية مستقرة كالارتباك والتلعثم والتوهان وادعاء الصلابة والاندفاع المبالغ في فضح الذات .. المرض المزمن الذي أدى تفاقمه في سن الأربعين إلى بلوغ العجز الكلي عن البقاء حتى عند حواف الأطر الاجتماعية التقليدية، والاستسلام ـ بحد زعمهم ـ إلى وحدة كئيبة مهلكة كما لو أنه أراد اللحاق بالأمل الأخير في أن يكون أسطورة حقيقية .. كان أسطورة بالفعل ولكنها أسطورة مضادة داخل نطاق لا يستوعبه فقط إلا أشباحه الموزعة في تباعدات غير مدركة عبر الزمن.

من كتاب “وصية كلنكسر” ـ يُنشر قريبًا

الجمعة، 17 ديسمبر 2021

فصيلة الدم المجهولة

ليس هناك ذنب أكبر من أن تحاول جعل المغفل راقصًا 

“شارلي شابلن” المذهول، الذي يسقط كل مرة من كوكب غامض ولا يفهم ما المطلوب منه تحديدًا كي يتوصل لأسباب سقوطه أو على الأقل بلوغ البراعة الكافية لحمايته من التروس العملاقة السعيدة بتحديد قدره في Modern Times .. الذي سيدرك بواسطة أمه وحبيبة الطفولة وألفس بريسلي والشكولاتة والرجبي وحرب فيتنام وتنس الطاولة وصيد الجمبري والحكي للغرباء في محطة انتظار الباص أنه محض ريشة متاحة كليًا لمشيئة الهواء بحسب متطلبات مزاجه البليد مهما بلغت قدرة فورست جامب على الجري .. الذي اضطره “تشاك بولانيك” متقمصًا شخصية “تايلر ديردن” في رواية “نادي القتال” لاستخدام الدهن المشفوط من أم “مارلا” في صنع الصابون للاستفادة من ثمنه في غسل الملابس ودفع الإيجار واصلاح الثقب في خط الغاز بعد أن كانت “مارلا” تنوي استخدام هذا الدهن مستقبلًا في حقن شفتيها بالكولاجين .. الذي يردد طوال الوقت داخل الهوامش الأكثر ضراوة وباللسان الخجول المضطرب الباكي لفلاديمير نابوكوف في رواية “العين”: “رغم ذلك أنا سعيد. نعم سعيد. أقسم أنني سعيد. فلقد أدركت أن السعادة الوحيدة في هذا العالم هي أن تلاحظ، تتجسس، تشاهد، تفحص ذاتك والآخرين، أن تكون لاشيء، مجرد عين كبيرة، زجاجية قليلًا، محتقنة إلى حد ما ولا ترمش. أقسم أن هذه هي السعادة. ما الذي يهم في أنني حقير قليلًا، مغفل قليلًا، وأنه لا يوجد من يُقدّر كل الأشياء المميزة فيّ .. خيالي، معرفتي الواسعة، موهبتي الأدبية. أنا سعيد لأنني أستطيع أن أحملق في نفسي، ولأي شخص هذا أمر ممتع جدًا، نعم ممتع بحق!  .. فالعالم مهما حاول لا يستطيع إيذائي .. فأنا منيع”.

* * *

الغفلة .. الاستيعاب العفوي للأصل الحقيقي للمهانة .. الأصل المطلق الذي تتضاءل بجواره قيمة أية مهانة أخرى ممكنة بصفتها مجرد تابع أو نتيجة لا دخل لها في شيء أو مجرد مظهر سطحي فائدته أن يدل على وجود ملغز فحسب .. حكمة الكشف عن الخام الذي شُكل منه مسرح الجريمة وزمنها .. الفهم البديهي والمستتر أن المهانة لا تحتاج لمعادلاتنا الأرضية الفاشلة، المشابهة للأشياء كافة التي اختبرها “تشارلز بوكوفسكي” ووجدها “قائمة على أسس رملية” .. المهانة حاضرة بحضورنا فحسب .. حضورنا كما هو الذي لا يحتاج لأية أسباب إضافية .. المهانة المجهزة سلفًا بإتقان لتكون المشترك الوحيد بين مقادير الطهي كافة .. أنا مغفل إذن أنا “كلنكسر” الذي بحسب “هيرمان هسّه”: “الأكثر زوالًا، والأكثر إيمانًا، والأكثر حزنًا .. الذي يعاني خشية الموت أكثر منكم جميعًا” .. هذا ما يجعلني مسالمًا إلى هذه الدرجة في مواجهتكم مهما بلغت رغبتي في الانتقام .. أريد أن أظل مرضيًا عني حتى تتركوني قريبًا منكم بما يكفي للحفاظ على ضرورتكم لي كعلامات إرشاد على الطريق نحو السماء .. أنا أعمى ينظر إلى نقطة أبعد مما يمكن أن تخيله.

* * *

في “التاريخ الكوني للخزي” كان من واجب “خورخي لويس بورخيس” أن يعرفنا على “توم كاسترو” الدجال الأبله المتسم بالمرح والغباء والخضوع والمنتحِل بواسطة صديقه الزنجي العبقري “بوجل” شخصية “تيكبورن” الضابط في الحربية ذي التربية الفرنسية والابن الأول لعائلة من كبرى العائلات الكاثوليكية الانجليزية والذي غرقت السفينة التي كانت تحمله في المحيط الأطلسي وترفض والدته الليدي تصديق موته .. أتخيل “وودي آلن” الذي تحمّل مشقة أن يخبرنا في نهاية Annie Hall إننا نواصل تجربة العلاقات المجنونة السخيفة لأننا بحاجة للبيض .. “وودي آلن” بنظارته التي تنكمش وراءها عيناه المذعورتان بخبث وبتلعثمه الماكر وحركات يديه المرتبكة كداهية وهو غائب تمامًا في روح “توم كاسترو” بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه سنوات عقوبة الانتحال بينما يتجوّل داخل قرى ومدن المملكة المتحدة كي يحكي حكايته التي يعلن فيها براءته أحيانًا ويعترف بذنبه أحيانًا أخرى .. لماذا قرر “بورخيس” أن كل رغبة “توم كاسترو” (أو “وودي آلن” كما تخيلته) كانت إبهاج الآخرين بحكايته وإسعادهم دائمًا للدرجة التي كانت تجعله في ليال كثيرة يبدأ بالدفاع عن نفسه ثم ينتهي إلى الاعتراف بكل شيء وفقًا لرغبة الجمهور؟ .. لماذا قرر “بورخيس” هذا في نهاية الأمر وقبل أن يذكر تاريخ موت “توم كاسترو” مباشرة؟ .. كان “بورخيس” يحتفل في أعماقه بالزوال والإيمان والحزن والخوف من أن تكون مطرودًا من جنة المستمتعين بدمائك .. كان يدرك للغاية البطولة الكامنة في أن تكون مغفلًا عظيمًا.   

* * *

مقارنة بالآخرين أنت لست متهكمًا نموذجيًا، أي ليس كما يليق بتفوقك التهكمي على الآخرين وإنما كما يليق بغضبك من وجودهم .. الآخرون الذين يخوضون ضدك المعارك اليومية المعتادة وتصنفهم شخصيًا كمُرسِلين دائمين ضد مُستقبِل دائم لا يمكنه على أقل تقدير أن يحاول التدريب أو التمرّن حتى يتخلص ولو بالتدريج من معوقاته الذاتية التي تمنعه من أن يكون مُرسِلًا .. المرتبك الفاقد لسرعة البديهة والذي لا يتخذ أبدًا رد الفعل اللحظي المساوي في القوة والمضاد في الاتجاه فضلًا عن كونه ـ بالطبع ـ يفتقد للدافع أو الرغبة الملحة التي تقوده لأخذ المبادرة الهجومية أو القيام بأي إجراء وقائي يحميه من هجمات الغرباء المستمرة .. الغرباء الهادئون الواثقون المسيطرون، الذين تتمتع حواسهم بالخبرة اللازمة التي تضمن إيلام المرتبكين كما يجب .. حينما تقرر مع نفسك بصدق ضروري وسعادة حقيقية أنك تمثل الحضور المثالي المضاد تمامًا لشخصية “الراقص” البارعة في استخدام “الجيدو” بنوعيه الأخلاقي واللاأخلاقي الذي تناوله “ميلان كونديرا” في رواية “البطء” حيث يعرف الراقص كيف يضع الآخرين في منزلة أدنى ويستولي على المسرح كليًا .. حينما تقرر ذلك فهذه ليست سوى البطولة السرية التي آمنت شخصيًا بكونها الوحيدة التي تستحق احتفاءك الحميمي بها عن أي بطولة أخرى .. الانتصار المتواري الذي شكّله المنطق المعكوس والحجج المقلوبة والاشتغال المضاد وعلامات الاستفهام طويلة المدى.

من كتاب “الغفلة والإدراك” ـ مدخل تفكيكي لفلسفة شوبنهاور / يُنشر قريبًا

أراجيك ـ 17 ديسمبر 2021

الاثنين، 13 ديسمبر 2021

حافة الشرفة

بينما كانوا يقتربون من ذلك البيت قبل أعوام أطول مما يمكن استيعابها؛ خلقت خطواتهم طفلًا غير مرئي، لا يمكن لأحد أن يسمعه أو يلمس جسده ولو بمحض الصدفة .. لم يكن لديهم علم بوجوده، ولكنه قضى كل تلك السنوات معهم، متشبثًا طوال الوقت بحافة الشرفة، يتأرجح جسده في فضاء الشارع، ولا يعطي إشارة عن نفسه أكثر من تلك الأنفاس بالغة الخفوت التي يشعر بها أحيانًا أي منهم حين يقف في الشرفة لسبب ما، فيظنها جزءً من ريح العالم .. حينما بدأوا يغادرون البيت واحدًا إثر الآخر؛ بدأ فضاء الشارع يُظلم تدريجيًا حتى انتهى إلى عتمة تامة مع اكتمال غيابهم .. حينئذ أدرك أن جسده لم يكن معلقًا في فضاء الشارع، وإنما كان مدفونًا في أرضه حيث يمر العابرون فوق خفائها، وأن حافة الشرفة التي ظل يتشبث بها طوال عمره لم تكن إلا خليطًا سائلًا من العظام المطحونة لأولئك الذين عاش معهم وكان يظنهم لا يعلمون شيئًا عن وجوده. 

أنطولوجيا السرد العربي ـ 13 ديسمبر 2021  

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2021

الفكرة المطلقة للحسرة

“أشاح نيكولاي روستوف وجهه وسرح بصره في بعيد كأنه يبحث عن شيء من الأشياء، فنظر إلى ماء الدانوب، وإلى السماء، وإلى الشمس. ما أجمل ما بدت السماء لعينيه! ما كان أشد زرقتها! ما كان أهدأها وأعمقها! ما كان أبدع أشعة الشمس في تلك الساعة من الأصيل! وما كان أروع التماع الماء في الدانوب البعيد! وأجمل من ذلك أيضًا كانت الجبال الزرقاء العالية وراء الدانوب، وكان الدير، وكانت شعاب الجبال الغائصة في السر، وكانت غابات الصنوبر الغارقة في الضباب حتى ذراها … هناك كان الهدوء، هناك كانت السعادة … قال روستوف يحدّث نفسه: “يكفي أن أكون هناك، فلا أرغب في شيء، ولا أطلب شيئًا. ما أعظم السعادة التي في نفسي وفي هذه الشمس! … أما هنا … فالأنين، والعذاب، والخوف، وهذه البلبلة وهذا الاضطراب … ما إن يصيح صائح مرة أخرى بنداء، حتى يركضوا جميعًا متراجعين لا أدري إلى أين، وإذا أنا أركض مع الراكضين، ثم إذا هو الموت أمامي، وفوقي، وحولي … وما هي إلا لحظة، فإذا أنا لا أرى هذه الشمس وهذه المياه وهذا الوادي بعد ذلك أبدًا..”.

يتلصص ليو تولستوي بعيني “نيكولاي روستوف” في “الحرب والسلام” على “الموت” مستعملًا ما يبدو أنها “الحياة” في حقيقتها الفاتنة والمتمنعة .. يعاين “أصل” الوجود “كوعد إغوائي متنكر” من حافة فقدانه .. كأنه ينسج استفهامًا لهوية شخصية متلاشية عند ما يشبه مفترق طرق رومانسيًا “سرابيًا على وشك التبدد” شكّله الضياع القدري المحتوم .. هذا التأمل لـ “جمال الطبيعة” كغلاف للحياة / عتبة للموت ينطوي على ذلك الاستفهام الأبعد من “الشر” القابض على انشغال باطني متداخل في عمق تلك الورطة المهددة .. انشغال بالنقيض: الذين أوصلتهم الحنكة إلى ما يُعتقد أنه الاستمتاع الخالص بتلك التفاصيل البديعة دون أنين أو عذاب أو خوف .. الذين بلغوا السعادة الصافية “هناك في البعيد” غير المدنسة بالقلق .. الذين جعلهم “الإدراك” يضمنون الحماية .. يتخطى استفهام الهوية سطوة الوجع الخاص .. تولستوي يحرّك بصيرة “نيكولاي روستوف” خارج الموت بينما ينغمس في ظلامه .. حول شبح “المهارة في امتلاك الحياة” بينما يحدّق في انسحابه القهري مجردًا من أشيائها المغوية .. يحرّك بصيرته بين مدارات العوز إلى “الذكاء الشامل” والفناء الكامن في كل متعة تتظاهر بتثبيت الحياة .. التضاد مجددًا لفلسفة شوبنهاور بين الإرادة والتأمل.

استفهام الهوية الشخصية تقويض لها .. ينازع “روستوف” ما يُعتقد أنه يقين التلصص على الحياة والموت .. يصبح تشريح الشر خلخلة لتأكيداته الذهنية .. يصوّر تعبير تولستوي استفهام الهوية من خلال المباشرة اللغوية وغياب الإبهام ليبرهن انفصال “روستوف” عن الدهاء العقلي .. النقاء من الالتباس البلاغي فيما يشبه الفضفضة الصبيانية لترسيخ الانعدام الحاد لأقنعة الطمس والتعمية .. تعبير يجسد مخاتلة الرصانة كشوق مهلك حين يتم تفحص الرصانة ذاتها كشهوة تدميرية مهيمنة عند تحققها أو عند اختفائها (كأن روستوف هو الانتقام الكتابي لتولستوي نفسه .. تدوينته الشبقية الغاضبة في النص الهائل للعالم .. لعنته العصابية المكرّسة لإفساد التناغم).

يقوم هذا التعبير على تحفيز مراوغة الإدراك للتمعن في مساراتها .. كأن المباشرة اللغوية تصديق بدائي بالوعود الماورائية للإرادة، أي إيمان عابر بتعهداتها الإعجازية، مما يجعل “روستوف” في حالة استعداد للوصول إلى توحد أبدي ومتوقع مع خفائها المسيطر .. عندئد تتجلى المجابهة ساطعة مع الإرادة باستغلال تولستوي لـ “عدم التستر” في إفساد التصديق الماورائي .. تصير الضبابية الغائبة تمثيلًا ليأس “روستوف”، كما تتحوّل الفضفضة الصبيانية إلى توسل لا نهائي .. يبعث تولستوي إشارات عسيرة لا عن افتقاد الحنكة، وإنما عن الافتقاد المستقر للتماهي مع المفردات .. المفردات كقتلة متأنقين .. يمكن تخيّل أن الرصانة ومخاتلتها في وعي “روستوف” هما مراوحة مدوِّخة بين التمنع اللغوي “ما توطده المباشرة التعبيرية”، واقتفاء أثر هذا التمنع “ما توطده ملامح المباشرة نفسها” .. كأن تولستوي يبيّن أن الحماية المتعذرة مصدرها اللغة، لذا لن يفضي تأمل الإرادة لامتلاك الحصانة بل سيكون أقرب لمرح تفاوضي متعدد داخل الهزيمة .. أقرب للعب الانتشائي مع الخيبات المتوالية والمتجولة، المفروغ منها في ما قبل الولادة، أي في ما يسبق أبسط تهيئة للإيمان الذاتي باحتمال القبض على معنى .. لا وجود لما لم نغتنمه من الأساس .. لن يُعطّل تأمل الإرادة الوقت أو يصطاد فهمًا مُخلّصًا.

لم يصِغ تولستوي إذن “الحسرة” باعتبارها الهاجس التخريبي لروستوف، وإنما “الفكرة المطلقة للحسرة” كقدر .. كان تولستوي يمثّل بواسطة نيكولاي روستوف بجثث الفرضيات: الجمال، السكينة، السعادة، الإشباع، الألم، المعاناة، الخوف، التيه .. تمظهرات هذه الفرضيات وشبقيتها .. كان يقيم قيامة لمعناها المفتوح على جميع الأصنام.

من كتاب “مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور ـ مقاربات نقدية لشكسبير .. تولستوي .. فاغنر” … يُنشر قريبًا.

أراجيك ـ 6 ديسمبر 2021

الأربعاء، 1 ديسمبر 2021

«أحلام اللعنة العائلية» متوالية قصصية لممدوح رزق عن دار عرب

تصدر قريبًا عن دار عرب للنشر والتوزيع، أحدث إبداعات الكاتب ممدوح رزق، المتوالية القصصية “أحلام اللعنة العائلية”، وتضم 60 نصًا قصيرًا كُتبت خلال السنوات الثلاث الماضية، نُشر عدد منها في مجلة "عالم الكتاب" عام 2019.

و"أحلام اللعنة العائلية"، قال ممدوح رزق للدستور: قصص"أحلام اللعنة العائلية" دمج سحري بين الذكريات وأحلامي بها ـ بالمعنى الأشمل للحلم ـ وبالمدينة بوصفها متاهة سرية للأشباح، وذلك كمطاردة تشريحية للجذور الغامضة التي أنتجت تاريخًا ملعونًا.

ومن نصوص المتوالية القصصية "أحلام اللعنة العائلية"نقرأ:"الظلام يطغى تدريجيًا .. أعبر الشارع العريض إلى الجانب الآخر كي أدخل زقاقًا جانبيًا واسعًا، أقرب إلى مدينة مستقلة لن يبدأ سكانها في إضاءة المصابيح مع اقتراب العتمة .. سكانها الذين يعرفون بعضهم جيدًا .. أسير داخل الزقاق متلفتًا حولي .. البيوت ليست مساكن للبشر بل بنايات ذابلة تُضنع داخلها الدُميات الكبيرة .

ينظر الجالسون أمام كل مبنى كأصحاب المصانع إلى وجهى وأنا أخطو بينهم ثم يديرون عيونهم كأنما يتقاسمون الحكاية التي جئت بسببها إلى هنا .. أستطيع أن أرى من أسفل وعبر النوافذ العالية رؤوس الدميات التي تتجهز للخروج إلى الزقاق الموشك على إحكام ظلامه .. أستطيع أن أرى الأيدي التي تحاوطها وتعمل في أجسادها الكبيرة لإنهاء الأمر .. أشعر أنه المكان الذي سيمكنني من تجميع الأشلاء التي وزّعتها خارجه .. لكنني لا أعرف هل ستتحوّل الدميات الكبيرة إلى أشباح مع اكتمال العتمة .. هل غرست الأيدي التي رأيتها عبر النوافذ العالية أرواحًا شريرة داخل أجسادها.

أي كائنات تنتمي إليها تلك الأيدي .. هل هم أنفسهم الجالسين أمام المباني، وقد تركوا كوابيسهم في الأعلى لتجهّز الدميات قبل النزول إلى الزقاق  الواسع .. لدي جروح متلاحمة يدركون تاريخها تمامًا .. يدركون أيضًا أنني أعمى، ولا أريد العودة إلى بيتي .. للدميات الكبيرة وجه واحد يتكرر في جميع النوافذ .. وجه واحد سيحاول أن يفتح فمه بكامل اتساعه ليبتلع الجالسين في الأسفل .. وجه واحد له نفس ملامحي".

يُذكر أن ممدوح رزق، تنقل بين الأجناس الأدبية المتعددة٬ حيث صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة.

حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

وصدر له: إثر حادث أليم٬ خيال التأويل٬ هل تؤمن بالأشباح؟٬ قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة٬ هفوات صغيرة لمغيّر العالم٬ خيانة الأثر٬ دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير٬ بعد صراع طويل مع المرض٬ فأر يحتفل بخطاب الحقيقة٬ الفشل في النوم مع السيدة نون٬ مكان جيد لسلحفاة محنطة، وغيرها.

كما كان ممدوج رزق قد أصدر مؤخرًا كتاب "مكائد القص" والذي يضم مقرر ورشته القصصية.

نضال ممدوح

جريدة "الدستور" ـ 1 ديسمبر 2021

السبت، 27 نوفمبر 2021

رواية (إثر حادث أليم).. فِتنةُ الثمانينيات وبَداهةُ الانتقام!

لحظاتٌ متعاقبة متسلسلة تطفح بمشاعر الغيظ والغبن أيقظها الانفلات الأعمى للوقت/العمر في اتجاهٍ وحيد، إلى الخلف، إلى النهاية مع ذلك.. مشاعر تبقى مغلّفةً بغموض ميتافيزيقي كثيف ومرعب في انتظارٍ إجباريّ لموت غير مشكوك في اقترابه بسبب التعاقب الآليّ الذي لا يتوقّف لنفس اللحظات، دون أن تملك إزاء ذلك ردة فعلٍ كمقاومة أو تصحيح مسار اللهم إلا ما فعله ممدوح رزق في روايته (إثر حادث أليم): أن تمدّ يديك بالغيظ نفسه داخل بئر ذكريات الذكريات لتنحت بيتًا من تفاصيل التفاصيل تختبئ فيه من وحش نهاية النهاية، حتى لو لم تُفضِ الإقامة في البيت الجديد (الجميل والمزعوم!) ظاهريًا إلا إلى مزيد من مشاعر التحسّر والفوات والندم على الذي انفرط للأبد، لأننا سنتباهى بعدم إنكار وقوعنا في الضحك واللعب والجدّ والحب (والكَشْف) مع الطفل الذي كانَهُ ممدوح رزق في حقبة الثمانينيات المجيدة!

نعم أقول “الثمانينيات المجيدة”؛ لأني مولود قبل ممدوح رزق بثلاث سنوات، وحُمِّلتُ وعيَ طفولتي الغضّ في ذلك العقد، فكان الانتقال من مسودة إلى أخرى بالرواية بمثابة طرقات مطرقة على أعصاب الرّوح، المشدودة أصلا، لتجميع ما تناثر والتذكير بما نُسِي من (كل المتعلّقات الشخصية، ذاتًا وموضوعًا) التي تمّ بها إنجاز العلاقة الأولى، القديمة والمتواصلة، بالعالم.. ولأني كتبتُ قبل سبع سنوات قصة قصيرة (ليلةُ الأربعين) تتحول فيها مفاجأةُ بلوغ الأربعين إلى استرجاع نوستالجي ناقم لمشاهد “ثمانينية على وجه التحديد” (مناسبات كروية وأفلام سينما ومسلسلات تليفزيون وأطياف ناس العائلة).. ومع ذلك فإني لا أنادي أولئك الذين تصادف لهم أن جرّبوا طفولتهم داخل تلك القطرة من بحر الزمان: “هذه روايتكم فخذوها بقوة” وحدهم.. فالتفاصيل الكثيرة بزخمها الإنساني (منزلية، مدرسية، شعبية، صحفية، تليفزيونية، سينمائية، خيالية) التي صبرتْ ذاكرة ممدوح رزق طويلا على استنهاضها وابتعاثها باقتدار لافت كما لو أنه ينتقم من ثبات وبديهية فكرة استحالة معايشتها من جديد، والأداء السّردي الذي بقي موضوعًا تحت المراقبة من قِبل الكاتب، إذ يكتب ويكتب ثم فجأة يحيلنا إلى كتابة أخرى (قصة من قصصه أو قصيدة من قصائده، وفي مواضع قليلة من غيره) كأنما يتوافق في الظاهر مع طريقة الاستدلال الفقهية لتأكيد الحكم الشرعي (أقصد تأكيد الهاجس!) بينما في الباطن ينظّم مسألة وعيه بالكتابة لإنجاز روايته في المسار الذي أراده لها.. يفتحان -التفاصيل والأداء السرديّ- نافذة التلقي حتى للذين انتخبتْهم أقدارهم لاختبار طفولتهم في عقودٍ سابقة أو لاحقة دون التّأثر بحماستي المتحيّزة لأطفال الثمانينيات الذين صاروا كُهولا الآن!

بعد العشاء أمي جالسة على الكنبة أمام فيلم السهرة.. أشعر بالنعاس.. أقترب منها، وأدخل في حضنها ثم أنام بين ذراعيها.. حضنها كان يشبه سحابة دافئة، تتسع كلما توغلت داخل نعومتها المتينة.. كأنني كنت أعاود الدخول إلى جسدها حيث لا يمكن لأحد أن يراني، أو لتهديد أن يطالني..”

كفّي الصغيرة داخل كف أمي الكبيرة، القوية، الحنونة، العميقة، المحكمة كحارس أمين، يدرك تماما يد مَن تلك التي يحتضنها، مثلما يثق في قدرته على حماية صاحب هذه اليد.. كان يشعرني بأنه لا يحتوي كفي فحسب بل جسدي كله.. كنت أحس أن روحي مُركزة الآن داخل كفي المستقرة في أمان داخل كفها وأنا أسير بجسدي الضئيل بصحبتها إلى المدرسة في الصباح الباكر”  

لم أستحضر هذين المقتطَعيْن من (إثر حادث أليم) للإشارة إلى التنويع والمعرفة والتّفرد والحساسية في إنتاج خصوصية علاقة الطفل بالأم في هذه السيرة الروائية على سائر متعلّقاته (أشياؤه وشخوصه)، مع أن إشارةً من هذا النوع ستكون في محلّها تماما للحد الذي يجعلنا نقرأ باستمراء وخفّة أربع صفحات تقريبا في تحليل وتفنيد وتشريح اللحظة التي ربما لم تتجاوز الثانية، بكل الأبعاد النفسية والواقعية والتخييلية الممكنة، لحظة تردد الأم في ترك ماتبقّى بين أصابع يدها من قطعة الحلاوة السمسمية الخاصة بها لينتزعها طفلها الذي أنهى قطعته ولا يزال يشتهي المزيد.. استحضرتُهما لأقول إن الأم للطفل داخل دائرة السرد هي الطفولة لكاتب هذه السيرة خارجها..  سحابة الحضن الدافئة تظلل كليهما واحدةَ الأثر مع اعتبارات المخالفة.. يتوغّل الطفل في نعومتها المتينة فيشعر كأنه يعاود الدخول إلى جسد الأم -هذه المعاودة المستحيلة- ليضمن الحماية ويبتعد عن التهديد وهما أقصى ما ترتجيه روح طفل، فيما كاتبنا يحارب على جبهةٍ أخرى إذ يتوغّل في حشد تفاصيله، تفاصيل طفولته في المنصورة، متحاشيًا أن تهرب منه تفصيلةٌ واحدة حتى يمتصّ كل دفء طفولته السارب كأنه على هذا النحو ينزح إليها ثانيةً زمانًا ومكانًا -هذا النزوح المستحيل- ليضمن الحماية من صهد نيران إحساسه بكِبَر السنّ ويبتعد -تحايُلا وحتى إشعار آخر- عن تهديد غول الموت الذي تنجلي أماراته المتوالية، وتيار وعي تفاصيله الهادر يلاحق ذاكرته وذكرياته ويسيل متدفّقًا بمَن وبما حضرَ مخافة النسيان (مثلا، يتوقف فجأة عن متابعة حكايته مع الأقلام ليذيع خبرا عن شقيقه مجدي الزملكاوي الوحيد في الأسرة ثم يستأنف عرض أقلامه).. خاصةً أن رواية (إثر حادث أليم) كُتبت بوعيٍ منقسم، فلا هي سردية قُدِّرَ لها أن ينتجها وعيُ طفل كاختيار محسوم لأن ممدوح رزق حاضرٌ بإحالتنا إلى نصوص سابقة له ولآخرين ولأنه لا يني يقول، على سبيل المثال “في الثمانينيات، كانت هناك…….” ولأن لدينا معضلة فاتنة أخرى كملحق أخير بالرواية اسمها (لغز كاتب المسرح) فضلا عن (غابة العزاء الحقيرة) التي تسبق المسودة الأولى.. ولا هي سردية خالصة مخلَّصة لوعي ساردها الآنيّ لأننا حين نعايش معه حدثًا يخصّ طفله ينسحب تدريجيّا دون أن نفتقده لتصير مراوحات الطفولة بين العبث والفضول والإحجام واللعب و…. هي الأبقى حضورًا، قبل أن يظهر من جديد بإحالاته واستشهاداته أو بنتفِ العذاب الأكبر التي يرصُّها رصًّا بين قوسين في ختام كل مسودة.. يحتوي القوسان ما يتاح للذاكرة استجلابه من بقايا مشاهدات تليفزيونية ومطالعات في مجلات الأطفال توثيقًا وتخليدًا وعضًّا على الأيدي من الندم.. وما زلت مُصرّا على أن أكثر من ينالهم هذا العذاب هم المتحسِّرون من أطفال الثمانينيات، أمثالي!

قرأت لممدوح رزق عددًا من أعماله ما بين مجموعة قصصية ورواية وإسهامات نقدية، وكانت في مجملها بيانًا حول شغفه وولعه وخصوصيته، ناهيك  بهوايته المفضّلَة في تكسير الأصنام، لكن (إثر حادث أليم) ستقف طويلا ظهيرًا لنا في أوقات الشِّدة! على الأقل هذا ما أستشعره لنفسي.

محمد أبو الدهب
موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 26 نوفمبر 2021

حكمة الشاي

وحده الطفل ربما الذي لا يرى غضاضة في أن يجد نفسه بين أشخاص يكوّنون ما يُسمى "أسرة واحدة" ويجلسون لتناول فناجين أو أكواب الشاي بعد الاستيقاظ من القيلولة اليومية في شرفة البيت أو داخل حجرة المعيشة خاصة في الأماسي الشتائية الباردة .. أسرة عادية مكوّنة من أب وأم وأخوين لذلك الطفل الذي لا يخطر في ذهنه أو على الأقل لا ينتابه شعور خفي بوجود خطأ ما في هذا الطقس المتكرر .. على العكس ربما الطفل وحده أكثر من يدرك الحميمية النقية لتلك الجلسة المعهودة التي يتجلى دفئها كلما تزايدت البرودة في الخارج .. لكن طفوليته التي قد تبقى على حالها وهو يكبر من الممكن أن تنبهه في لحظة مفاجئة إلى ذلك الاستفهام: على ماذا تعتمد الثقة الصافية التي تجعل هؤلاء الأفراد يجلسون بتلك الطريقة؟ .. استفهام محكوم بالتوالدات المتصاعدة بدءً من التلصص على الخدوش الصغيرة وحتى الانغماس التام في المآسي المضجرة: هل يعرف كل منهم الآخر حقًا؟ .. هل يعلم بكل ما في داخله؟ .. هل يستطيع أي منهم أن يكشف للآخر عن كل ما في نفسه؟ .. هل يضمن أحدهم الحماية من الألم سواءً لذاته أو لمن يشاركونه ذلك المشهد المغلف بالطمأنينة الرائقة؟ .. هل ثمة حصانة ما تمنعهم من قتل أنفسهم أو قتل كل منهم للآخر؟ .. الطفولية نفسها التي ستجعل ذلك الشخص يدرك بأن الأمر لا يتعلق بتلك الأسئلة وإنما بشرب الشاي .. بالحياة التي تتلخص قيمتها في السماح لنا بذلك .. ستفهمه طفوليته المعنى الحقيقي للحياة .. أنه طالما لا نستطيع أن نطرح تساؤلات كهذه، أو أن نجيب عنها إذا ما ناوشت عقولنا، وطالما أن محاولاتنا للإجابة عنها ـ إذا ما سعينا لذلك بشكل ما ـ سوف تجعلنا أكثر قربًا من الموت؛ فعلى الأقل يمكننا أن نشرب الشاي.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 26 نوفمبر 2021 

الخميس، 18 نوفمبر 2021

التجرد من السماء

أصدقائي الأعزاء على فيسبوك ...

أنا أعلم كل شيء عنكم .. جميع أسراركم .. لكن اطمئنوا؛ فإنني أمتلك من النُبل والتعاطف ما يمنعني من الكشف ـ مثلًا ـ عن الروائية التي تنام مع ناقد أصغر عمرًا منها، والروائي الذي يعلم أن رجالًا آخرين يضاجعون زوجته، والشاعرة التي ترتبط بعلاقة جنسية مع ناشر، وكاتب القصة الذي يحاول إغواء المحررة الأدبية زوجة صديقه الصحفي، والشاعر الذي يأخذه في مؤخرته.
عرفت كل شيء بواسطة المراقبة المستمرة وعبر سنوات طويلة للإعجابات والتعليقات والمشاركات المتبادلة بينكم، ومقارنتها بما تتضمنه رواياتكم وقصصكم القصيرة وقصائدكم من شخصيات وأحداث وعلاقات .. باعترافاتكم المخبوءة داخل الفراغات الصامتة في نصوصكم .. لا أتحدث عن تخيلات بل حقائق .. براهين دامغة .. قرائن لا ينازعها الشك.
كل ما أفعله ـ إلى الآن وحتى آخر لحظة من عمري ـ أنني أستخدم هذه المعرفة في الكتابة، مع ترك إشارات دالة على كل واحد منكم عند توظيف المعلومة التي تخصه .. أما إذا أدرك قارئ ما ذلك الشخص المقصود فتلك ليست مسؤليتي .. أنا لم أفضح أي شيء.
هذا ما أردت القيام به منذ البداية .. ما يكفيني .. ما يسعدني .. هذا ما تأكدت أن عليّ ارتكابه خلال اللحظة التي دخلت فيها شقيقتي حجرة مكتبي فجأة ورأتني أستمني على مشهد جنسي في قصة قصيرة لمحمد البساطي منشورة بـ "أخبار الأدب" في التسعينيات .. حينما انتبهتُ إلى تعمّدي ترك باب الحجرة غير موصد، وإلى مسارعتي العفوية للخروج ورائها بعد أن تراجعت مصدومة على الفور حتى أنظر في عينيها وأتفحص تأثير ما رأته على ملامحها.
هل كنتم تعتقدون أنني حينما لا أغادر منزلي، ولا أتكلم مع أحد سأكون غافلًا عنكم! .. هل كنتم تظنون أنني حينما لا أعيش في بيوتكم ولا أرافقكم إلى الأماكن التي تتنقلون بينها، ولا أستمع إلى مكالماتكم الهاتفية أو أطّلع على رسائلكم وأحاديثكم مع أنفسكم والآخرين؛ أنني لن أعرف! .. أنكم ستظلون مختبئين مني!.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 18 نوفمبر 2021 

الخميس، 11 نوفمبر 2021

تجهيز "ليلة حب"

تجتمع في قصة "ليلة حب" من مجموعتي القصصية "هفوات صغيرة لمغيّر العالم" / مؤسسة بتانة 2017؛ تجتمع فيها كل ما قمت بتدريسه في ورشتي القصصية حول "اكتشاف الأفكار" من خلال: أسئلة الشخصيات ـ أسئلة الذاكرة ـ أسئلة المَشاهد ـ أسئلة المعرفة ـ أسئلة الاختلاق.

كنت في زيارة مع أحد أصدقائي إلى شركة (صوت القاهرة) للصوتيات والمرئيات من أجل مساعدته على اختيار هدايا يعود بها إلى زملاء العمل في دولة عربية بعد انتهاء أجازته .. كان الموظف الوحيد داخل الشركة جالسًا أمام شاشة كمبيوتر، وبعد لحظات قصيرة من التحدث معه حول احتياجاتنا دخلت المرأة بطلة القصة من باب الشركة وكانت تحمل السمات التي ذكرتها في سطورها الأولى مع قدر من الاختلافات:

"كانت تغطي شعرها بإيشارب أزرق، بدا كأنه سماء صغيرة تلتف حول وجهها دون طائر واحد .. كان سمارها باهتاً، زادت لمسات المكياج الخفيفة من كموده، أما جسدها فكان قصيراً، بديناً بثديين كبيرين، وكان لها جبهة عريضة، وحاجبان رفيعان، وعينان يعطي ضيقهما انطباعاً بضعف البصر .. بدت كموظفة حكومية بفستانها البسيط، الذي تتلاحم طولياً داخل قماشه السميك خطوط كبيرة من الأسود والنبيتي، وكان انسجامه مع ملامحها يدعم صلاحيته بالفعل كزي رسمي للعاملات في الدولة .. الموظف الذي نهض من فوق الكرسي، وخرج من وراء المكتب بدأ يتأمل أنفها الأفطس، وخديها الممتلئين بقدر من التهدل، وفمها العريض بشفتيه السمينتين، المطبقتين على تنفس ثقيل .. فكر في أن عمرها ينتمي إلى تلك المسافة الزمنية المبهمة بين أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات".

أعطاني وجودها على الفور إدراكًا بأن ثمة قصة قصيرة تُخلق، خاصة حينما:

"كانت عيناها تنظران لأعلى، تستكشفان وجوه المطربين والمطربات، وأسماء الشرائط على الأغلفة الراقدة داخل العلب المتراصة فوق الرفوف العريضة، المغلقة بنوافذ زجاجية .. توقفت أمام ما بدا أنه قسم خاص لـ (أم كلثوم) .. بدأت نظرتها تمعن في التركيز، وهي تضع فوق السطح الزجاجي للفاترينة الأمامية الواطئة، التي تفصلها عن الرفوف حقيبة يد جلدية، ذات سواد قاتم، وتحمل زخارفاً ذهبية تشبه السلاسل الضئيلة، التي يكوّن تشابكها أوراقاً لوردة كبيرة بلا ساق .. وضعت أيضاً فوق الفاترينة كيساً أسود كانت تحمله في يدها الأخرى، ويحوي شيئاً تقارب هيئته من الخارج بنية الزجاجة الكبيرة، دون أن تُبعد بصرها عن الشرائط .. نظرت إلى الموظف .. لم تنظر في عينيه، وإنما ظل بصرها يتنقل بتسارع مرتبك بين نقاط متناثرة في وجهه .. كانا وحدهما، ورغم ذلك سألته بصوت خافت جداً، مختنق بالحذر، كأنها تستفسر عن بضاعة محرمة، أو تخشى أن يسمعها كائن غير مرئي:

ـ شريط (ليلة حب) موجود؟

خرجت حروف سؤالها مضغوطة من بين شفتيها .. كأنها تقاوم بمشقة كتماناً طويلاً، وفي نفس الوقت تؤكد قوة الاحتياج".

كانت تشبه شقيقتي الكبرى وجهًا وجسمًا .. في عمرها تقريبًا .. ترتدي مثلها .. لها نفس النظرة .. تتكلم حين توشك على البكاء بالطريقة ذاتها .. شقيقتي التي تعيش حياة جحيمية مع زوجها.

بعدما أخذت المرأة الشريط ودفعت ثمنه ثم غادرت الشركة؛ فكّرت على النحو التالي:

هذه امرأة تعادل شقيقتي .. ستستمع إلى "ليلة حب" على شريط كاسيت وليس على كمبيوتر أو هاتف محمول .. سوف تسترجع أغنية الماضي عبر الوسيط القديم نفسه، أي كمحاولة لاستعادة الذكرى كما حدثت أول مرة .. ستعود إلى البيت حيث ينتظرها زوج يعذبها وجوده في كل لحظة .. لم يعد لديها أدنى قدرة على تحمّل اليأس أو التعايش مع عجزها المخبوء عن فهم أو تصديق حطامها في هذا العُمر .. نظرًا لانشغالي بالموضوع وبأسبابه التي تبدو للبعض بسيطة أحيانًا؛ يوجد على اللاب توب الخاص بي ملف يضم حوادث انتحار النساء وقتل الأزواج على يد زوجاتهم خلال السنوات الماضية .. هذه المرأة ستقتل زوجها وستنتحر أيضًا، وستكون أغنية "ليلة حب" احتفالًا بالنهاية ربما مثلما كانت احتفالًا بالبداية .. كيف ستفعل ذلك؟ .. كانت المرأة تحمل كيسًا أسود .. سأضع في داخله زجاجة بنزين (لن أصرّح بذلك طبعًا ولكن سأعطي انطباعًا غامضًا به من خلال الوصف المقتضب) .. هل سأجعلها تنفّذ تدبيرها على الفور؟ .. حتمًا لا .. سأخفي كل شيء يدل على ذلك، وسأظهرها في اللحظات الأخيرة كأنها في حالة قبول لحياة عادية، مستوعبة، ولا تُضمر تهديدًا لاستمراريتها .. كأنها تساير جحيمها أو تتقمّص حتى النهاية دورها القهري في متاهاته قبل مغادرتها .. سأمنح هذه المرأة ابنة وحفيدين .. سأجعل هذه الابنة تعيش مع أسرتها خارج المدينة التي تعيش فيها الأم (الوحدة التي اكتشفت خلالها المرأة لماذا عليها قتل زوجها والانتحار، وتسمح لها في الوقت ذاته بتحقيق ذلك دون عائق) .. سأكشف عن أن المرأة تستعمل (سكايب) في التحدث مع ابنتها؛ أي أن لديها جهاز كمبيوتر، وهذا ما يؤكد الدافع وراء استماعها لـ "ليلة حب" من خلال الكاسيت .. سأجعل المرأة تتحدث مع ابنتها بنفس الكلمات الواقعية التي تتكلم بها شقيقتي الكبرى مع زوجتي في الهاتف: الشكوى من ابن أخيها ـ المشروع التجاري الصغير لزميلتها في الوظيفة الحكومية ـ تبلّد سكان العمارة إزاء مشكلة السباكة ـ البيجامات الجديدة التي اشترتها لطفلتي ... إلخ .. ولكي أُكسب الصدمة مزيدًا من القوة (أي أشكّلها كانفجار، يتحتم حدوثه في قلب المعيشة التقليدية أو الأمان الظاهري عند لحظة غير متوقعة)؛ سأجعلها تتفق مع ابنتها على يوم الزيارة القادمة لها مع الحفيدين كأنما تطمئنها / تطمئن الجميع بأن الأمر سيظل (على ما يرام) .. سأجعلها تتعرى تمامًا كأنما تتجرد من كل ما حدث بعد لحظة الاستماع الأولى لـ "ليلة حب" بينما تسمعها الآن للمرة الأخيرة .. سأختار موعد التنفيذ عند الإعادة الثالثة لـ "تعال حب العمر كله نخلصه حب الليلة دي .. تعال شوق العمر كله نعيشه م القلب الليلة دي .. ما تخليش أشواقنا لبكره، ما تخليش فرحتنا لبكره .. كأن أول ليلة للحب الليلة دي" .. موعد الاحتفال بالوعد المغدور للأغنية، وكأنه سيتحقق الآن بطريقة أخرى  .. لماذا يحدث ذلك؟ .. لأنها اللعبة اللامبالية للعالم .. لعبة؟ .. كان موظف شركة (صوت القاهرة) جالسًا أمام شاشة الكمبيوتر عند دخولنا .. ربما كان يشعر بالملل مع ساعات العمل الطويلة وندرة الزبائن .. ربما كان يتسلى باللعب .. ماذا كان يلعب؟ .. ربما اعتاد مثلي على لعبة الورق "سوليتير" .. هل هي لعبة تناسب أداءاتها ذلك الإيحاء: التحكم العفوي، المرح، غير المكترث، لفائز دائم، محصّن، لا يمكن أن تناوشه هزيمة ما؟ ..  نعم .. ما هي اللحظة الأكثر إثباتًا لهذه المواءمة وتليق بالمرأة والرجل في القصة (وفي كل قصة)؟ .. عند وضع ورقة الآس فوق الورقة التي تحمل قلبين .. ما هو اللون المتسق مع الفكرة؟ .. الأحمر (رومانسي، شبقي، ودموي) .. حسنًا؛ سأجعل الموظف يلعب السوليتير .. سأجعله عند دخول المرأة إلى الشركة لشراء "ليلة حب" يضع الآس الأحمر فوق الورقة ذات القلبين الأحمرين، وسأجعله يكرر ذلك بعدما يطالع بأحد المواقع خبر مصرع المرأة وزوجها في حريق .. لن أجعله يتذكرها.

 أراجيك ـ 10 نوفمبر 2021

الأحد، 7 نوفمبر 2021

فأر ميت

وجدت زوجتي فأرًا ميتًا داخل الشرفة .. كانت على وشك إغلاقها آخر المساء حين رأته مرتميًا في ركن منها بجوار أحد أصص النباتات .. كنت أستعد للنوم عندما سمعتها ترفع صوتها لتخبرني بالأمر .. سألتها إن كانت في حاجة لمساعدتي فأرسلت عبر الصالة والردهة استنكارًا للسؤال .. كنت أتمنى يائسًا أن تقول "لا" .. غادرت السرير وتوجهت إليها حيث كانت قد أضاءت مصباح الشرفة وظلت واقفة أمام جثة الفأر .. للحظات قليلة تفحصت جسده الضئيل الهامد بعينيه الصغيرتين المفتوحتين ثم أدرت بصري نحوها وسألتها إن كانت قد وضعت سُمًّا داخل الشرفة فردت بالنفي .. "ما الذي قتله إذن؟" .. سألتها مجددًا وأنا أعاود معاينته .. كان جسده سليمًا، لا وجود فيه لجرح .. بدا كأنه مستيقظ، ولكنه لا يتنفس .. قالت: لا أعرف .. ثم طلبت مني أن أدفع جثته بالمقشة نحو الجاروف ثم ألقي بها في الشارع .. كنت أعرف أنها ستطلب مني ذلك وهو ما لم أكن أريد فعله، ولكني بعدما رأيت الفأر ميتًا دون سبب واضح شعرت بالرغبة في القيام بالأمر .. رغبة تتجاوز الرضوخ لزوجة يصيبها الغثيان من مجرد التفكير في أداء هذه المهمة الحتمية .. كانت ضرورة خاصة بي .. أحضرت زوجتي المقشة والجاروف، وبعد محاولات عدة لإزاحة جثة الفأر نحو السطح العريض المغلف بكيس بلاستيكي والمستقر على الأرض؛ نجحت في سحبها .. تركت المقشة وأمسكت بالجاروف ثم رفعت الجثة نحو مزيد من الضوء .. نظرت في عيني الفأر ثم ألقيت به في الشارع على الفور .. أغلقت زوجتي الشرفة وعدت إلى السرير بنشوة خفية .. لم أكن أنوي مضاجعة زوجتي هذه الليلة لكنني فعلت ثم وضعت رأسي فوق الوسادة وأغمصت عيني.

الصورة: depression-self-portraits-photography-edward-honaker

أنطولوجيا السرد العربي ـ 6 نوفمبر 2021 

الثلاثاء، 2 نوفمبر 2021

لعبة التلصص في "موعد على العشاء"

أنهى محمد خان فيلمه "موعد على العشاء" 1981 بلقطتين متتابعتين تُظهران نوال "سعاد حسني" وعزت "حسين فهمي" على طاولة الطعام من خارج الحجرة التي يتواجدان فيها ومن زاويتين مختلفتين، غير مستقيمتين وعبر مسافتين بعيدتين إلى حد ما .. في تلك الوضعية لا تجعل الكاميرا المتفرج في حالة رؤية وإنما في حالة "تلصص" .. استراق نظر .. تجعله متفرجًا خفيًا، غير مُدرَك للجالسين أثناء قيامه بـ "المشاهدة" .. لا يمكنه الظهور أو الإعلان عن كونه (يرى) لسبب ما.

من الذي يتلصص على نهاية نوال تحديدًا باعتبارها صنيعتها المحتومة؟:

روحها المقهورة .. الطفلة في اللوحة .. الرجل العجوز (الأب) في اللوحة ذاتها .. التاريخ البشري الذي سجنها داخل جسدها وخارجه .. أمها "زوزو ماضي" .. الغرباء في كل لحظة (اختلاس للرؤية) عبر الزمن .. تاجر التحف الذي اشترى لوحة الطفلة من المزاد .. صديقاتها .. الماتادور في ملصق مصارعة الثيران على حائط المطعم .. البنت التي كانت تلعب تحت شرفتها .. مثيلاتها الميتات وهن على قيد الحياة .. الرجال الذين أطبقت أجسادهم على أنفاسها في الأسانسير .. الفتيات اللاتي يتوعدهن مصيرها .. المرأة التي رأتها تسقط من البلكونة في الحلم .. قتلتها المتواريين في كل وقت يسبق أو يزامن أو يعقب حضورها في العالم .. الأب والأم والطفلان الذين كانوا يسيرون فوق الرصيف بينما تقود سيارتها .. شكري "أحمد ذكي" .. القدر أو المشيئة الغيبية .. الحياة التي مرت عبر آلامها .. غموض ما بعد الموت.

هكذا يكون التلصص تلذذًا بالمراقبة، أو خوفًا من التطلع المباشر، أو تبرؤًا من دماء جثة ممزقة.

لكن استراق النظر لا يتعلق بنهاية "موعد على العشاء" فحسب وإنما تكشف هذه النهاية عن أنه كان طبيعة جوهرية للفيلم نفسه .. ماهية سرية لتفاصيله وأحداثه كلها .. كانت نوال والموت يتبادل كل منهما التلصص على الآخر منذ اللحظة الأولى وحتى الصمت الأخير .. ذلك ما يبرهنه ـ بتجاوز الدلالة التقليدية لقمع حريتها ـ التركيز على وجودها وراء أبواب ونوافذ وأسطح زجاجية  .. كانت نوال تتلصص على نفسها وعلى كائنات وأشياء الواقع وعلى العيون كافة التي تحدّق في وجهها كمقاومة غاضبة لعذابها المبهم .. كمحاولة للانتقام من عمائها الراسخ ولو بنزع الغفلة عن دموعها .. كانت تكافح للعثور على خلاص ما وراء الجدران المعتمة التي تحاصرها كلعنة أبدية.. أما الموت فكان يختلس الرؤية، ومن خلال كائنات وأشياء الواقع، إلى ملامح نوال كجائع مخبوء يجهّز وليمة صغيرة لأمعائه.

ترتبط شهوة التلصص بالطفولة، وكما يشير فرويد إلى كونها توفر الطاقة لدافع المعرفة الذي يضرب بجذوره في الجنسانية الطفلية بما تنطوي عليه من الحاجة إلى السيطرة .. لنسترجع الحوار بين نوال وشكري حول لوحة الطفلة حينما أخبرته بأنها لمّا رأتها لأول مرة أحست بأنها هي، تسير في طريق أشبه بالحلم، لا تعرف بدايته أو أين سيصل بها، وأن التاجر عندما أخذها منها فكأنه أخذ حياتها كلها؛ رد عليها شكري بالتساؤل عن إمكانية أن يرجع الشخص طفلًا مرة أخرى فأجابته: مستحيل.

نهاية "موعد على العشاء" كانت إذن اللحظات الأخيرة للتلصص بين نوال والموت .. نوال تغلق عينيها التائهتين ككل طفلة وفتاة وامرأة قتلها القهر الأسري أو الزوجي أو المجتمعي بينما يفرغ الموت من إمتاع شهوانيته الطفولية التي لا يمكن كبتها بجسد آخر.

 أراجيك ـ 2 نوفمبر 2021

 

الاثنين، 1 نوفمبر 2021

"مكان في الزمن" في الصين


بعد الولايات المتحدة الأمريكية 🇺🇸 ومصر 🇪🇬 وإيطاليا والمغرب؛ يعرض فيلم "مكان في الزمن" في الصين بالدورة التاسعة لمهرجان كانتون الدولي للفيلم القصير ، والذي يعقد في الفترة من 29 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 2021 .. الفيلم للمخرج نواف الجناحي عن قصة لممدوح رزق.

السبت، 30 أكتوبر 2021

تحميل كتاب "راي آرمانتروت ـ مختارات شعرية" / ترجمة: ممدوح رزق


https://drive.google.com/file/d/1gNAIlCIqSUUAo3I6QhOEXP_yz-IAMqlK/view?usp=sharing

عادة غيبية

يعجبني أنك تفهمني جيًدا .. تدرك تمامًا ما أريده وتنفّذه بدقة ومهارة ...

تجلس أمامك امرأة تلو الأخرى فوق مقعد الاستغاثة: زوجة تعرضت للضرب والإهانة على يد شريك حياتها .. أم اختطف طليقها أبنائهما .. ربة منزل استولى زوجها على مشغولاتها الذهبية وطردها من المنزل .. المآسي المضجرة التي تُحصّن الحياة .. تبدأ في تصوير كل واحدة كأنك تؤدي مهمتك الروتينية كمصوّر لموقع صحفي .. لكنك تعرف أن عليك أن تبدأ من أسفل .. أن تمر عدستك أولًا ببطء فوق فخذيها .. البطء الذي تزيد قيمته عندما ترتدي المرأة ثوبًا ضيقًا .. في الطريق إلى وجهها تتوقف كاميرتك لحظة واحدة عند مفترق الفخذين .. مجرد لحظة واحدة قد لا تُلاحظ ولكنني بالطبع أكون في انتظارها .. ثم تكرر التوقف نفسه عند ثدييها لزمن أطول قليلًا .. وبعدما تبدأ المرأة في الحكي والبكاء ستستمر عدستك بين حين وآخر في التنقل بين وجهها المحترق بالدموع وفخذيها .. بين ملامحها المحطمة وثدييها .. تنقلات تثير وتمتع كلما تصاعدت قوة النحيب وهي تتوسل لإنقاذها من مصيبتها .. ربما تستوعب أن تلك الأداءات التصويرية تعيد اكتشاف عينيها .. تمنح وجهها جمالًا شهوانيًا خاصًا.. كأنك بحركة كاميرتك أمام جسدها قد جعلتها تعرفني .. تعرف أنني أراها، وأن عليها لذلك أن تظهر كما يليق بإيمانها بوجودي .. كأنك تجعلها برجاءاتها المقهورة تمارس تعريًا سريًا .. تقوم بإغواء ضمني عبر استنجاداتها المكلومة .. تجعلها تبدو مهتاجة من أجلي .. تتوق لي .. تحلم بالخلاص في مخدعي.
أنت بارع في تبليغ الرسالة التي أيقنتها وحدك .. تؤدي الأمانة كما لو أنني قد كلفتك بها حقًا من حيث أتوارى ولا يستطيع أن يراني أحد.
اللوحة لـ Edward Hopper

أنطولوجيا السرد العربي ـ 29 أكتوبر 2021 

الثلاثاء، 26 أكتوبر 2021

ضد "تأويل" سوزان سونتاج

كتبت سوزان سونتاج مقالها الشهير "ضد التأويل" عام 1964 بدافع الاستياء والضجر من الغريزة القرائية التي تخلق البشر كماكينات للتفسير وإنتاج المعرفة .. الغريزة التي أنتجت طبيعة نمطية للنقد وهي "الاستقراء الدلالي" أي اتخاذ قرارات حاسمة بشأن الأفكار التي تُشكل العمل الأدبي أو الفني، وتكوّن جمالياته .. تطويع ما هو شعوري أو حسي إلى مبدأ محدد أو مفهوم ثابت.

لكن ذلك ليس تأويلًا وإنما هو "قمع للتأويل"؛ إذ أن تفسير وترجمة عناصر القصيدة أو المسرحية أو الرواية أو القصة إلى شيء آخر، أو الفهم المحصور لنقاد الأدب عن مهمتهم كما تقول سونتاج؛ هو كبت للاحتمالات والإلهامات غير المحكومة التي يثيرها النص، وإخضاع استفهاماته لقوالب صارمة أو سياقات جاهزة تمثل الحقيقة في وعي "المفسِر" .. هو إخماد للفرضيات المتعددة للعمل الفني والتي ينبغي أن تكون مكونات للعبة لانهائية غير مشروطة بقواعد .. سونتاج تخلط بين "التأويل" كتحريض على تفكيك "المعنى"، وبين "التفسير" كتقييد لجموح التلقي أو إعادة الكتابة .. لماذا تفعل ذلك؟ .. ما أكتبه ليس إجابة على هذا السؤال، ولكنه "تفكير" في الإجابة بما يعني توليد المزيد من الأسئلة.

هل كانت سوزان سونتاج تحلم بسلطة كونية إعجازية أو قدرة غيبية خارقة تُجبر مثلًا قارئ قصة "أمام القانون" لكافكا على عدم الاستجابة العفوية لاستدعاء صورة "القانون" في ذاكرته أو ما تمثله تلك الكلمة في تجربة حياته أثناء قراءة القصة، أو تُحتم على مشاهد لوحة man in a bowler hat لرينيه ماجريت الامتناع التام عن الاسترجاع التلقائي لما يعنيه "الطائر" في نفسه خلال تلك اللحظة، أو لما تثيره رؤيته وفقًا لخبرة ماضيه؟ .. إن هناك من يتوقف عند حدود اليقين الخاص بردود الأفعال البديهية تلك، وفي المقابل هناك من يتجاوزها .. هناك من يستقر عند الإدراك الفوري المروّض للنص أو اللوحة اعتمادًا على ما يُنظر إليه كـ "أصل" معرفي، وهناك من يراوغ الحضور الاستباقي لهذا الإدراك .. هناك من يظل محتجزًا داخل التعريف التقليدي لـ "القانون" في قصة كافكا، وهناك من يتخطى ذلك التعريف، كما كتبت في قراءتي النقدية للقصة والتي تضمنها كتابي "هل تؤمن بالأشباح؟ ـ قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة": "هو يتفحص القانون الأكثر اتساعاً ومراوغة وتوحشاً من إمكانية التعريف .. الذي لا تؤسسه يقينيات حاسمة، ولا تنظم حركته مشيئة أخلاقية مفهومة، ولا يسعى لتحقيق أهداف يمكن استيعابها" .. هناك من تمتلكه الإحالات المألوفة لـ "الطائر"، وهناك من يحاكم هذه الإحالات في لوحة رينيه ماجريت لتجعله ـ كالقانون ـ لغزًا لا يُجسّده إلا الظنون المتغيرة.

إن "الابتذال" ـ وبتجاهل الحكم الأخلاقي في الوصف الذي استعملته سونتاج ـ لا يكمن في المرجعية الاجتماعية أو السياسية أو النفسية أو الدينية التي تبدأ مسارات "فهم" النص منها، وإنما ـ ودون إدانة قيمية ـ في انتهاء تلك المسارات عندها .. سيطرة "الإيمان" على "الفهم" الأمر الذي يمنع تحوّله إلى "لعب" .. الذي يُبقي النقد وظيفة إيدولوجية بشكل ما وليس مقاومة للمطلق باستخدام أدوات همينته نفسها .. مرة أخرى هذا هو الفرق بين "التفسير" أو الرغبة في الشعور بالرضا، وبين "التأويل" أو الرغبة في تحفيز القلق .. ما جعلتهما سوزان سونتاج شيئًا واحدًا.

ربما نعتقد أن سوزان سونتاج كانت تحلم بهذه السلطة الكونية أو القدرة الغيبية حقًا حين نفكر في دعوتها لعدم طرح الأسئلة عما يعنيه النص .. مشكلة سونتاج كما كتبت من قبل في عدم قدرتها على التفرقة بين التفسير والتأويل من حيث أن التفسير يتعلق بالمعني بينما التأويل يرتبط بانتهاكه .. لاحظ أن استشهاداتها الخاصة بالأساطير تدعم عدم قدرتها على هذه التفرقة: زيوس يمثل السلطة، الهجرة الجماعية في سفر الخروج والوصول إلى أرض الميعاد تمثل الخلاص النهائي إلخ (تفسيرات جامدة تصفها "بسذاجة" بالتأويلات) .. إن "إيروسية الفن" أو الاكتفاء بوصف شكل العمل الفني أو مظهره، أو بالقراءة المجردة للنص الأدبي كما تقترح سونتاج ستتطلب حتمًا استعمال كلمات، والكلمات تمتلك أنساقًا لغوية طالما أن "الواصف أو "القارئ" لديه ذاكرة، وبالتالي فالأنساق ستعلن عن نفسها كبنية غير مكتملة أي كمحتوى من الغموض، إما أن يجاب على أسئلته فورًا أو يتم تحريض أسئلته على التناسل، أي أن ما تقترحه سونتاج لن يتم إلا باستخدام الاستفهام كباطن أو جوهر لكل ممارسة لغوية يحتاجها الوصف أو القراءة المجردة، المسألة تتعلق بالتعامل مع الاستفهام: هل نقنع بالردود المشبعة أم نعتني بالأرق؟.  

يبدو الأمر أقرب إلى عاطفة انفعالية فحسب عند سوزان سونتاج، احتاجت للتعبير عنها استعمال مفردات لا يوجد ما يمكنه أن يعوق عمل دلالاتها وتساؤلاتها في وعي متلقيها، حلم باختفاء الأفكار، بتنقية الذهن من لعنة اللغة، أن تصير "الحسية" خارج ثقل الكلمات التي يمكن أن تحيلها إلى شيء آخر، ومن أجل إكساب هذا الحلم موضوعية ملفقة لم يكن عليها بالضرورة تحرير مفهومها عن "التأويل" باعتباره "الخيال" الذي يحقق "إيروسية التلقي" أو محاولة ضمان عدم رضوح الرؤية الحسية لنمط أو عقيدة متعالية، بالتناقض مع "التفسير" الذي يجرد الحسية من المرونة ويحرمها من إمكانات طيشها .. هذا التحرير كان سيمنعها من استعراض حلمها الحسي في رداء نظري "مهترئ" .. إن وجهة النظر الاستبدادية هو ذلك الإجراء المتسلط العبثي اللامنطقي وغير القابل للتحقق الذي تريد سونتاج من "الفرد اللغوي" ـ أي الذي خلقته وكوّنت ذاكرته وشكّلت وعيه اللغة ـ بإعطاب خواصه العقلية عمدًا بحيث يمحو على نحو قاطع ماضي الكلمة وماضي المشهد حين يقرأ أو ينظر .. ما يبرز تناقض سونتاج هو دفاعها عن رغبتها: "الاقتراب المباشر بوعي حسي عال يجسّد معاني واحتمالات عديدة" .. حسنًا هذا هو التأويل، ومضاده التفسير الذي يفترض أنها تجابهه مع افتقارها للتمييز بينهما .. المعاني والاحتمالات العديدة التي تطمح إليها ـ مع تجنّب المناهج والقوانين ـ ستمر أولًا على عتبة بديهية اسمها "كلمات الحواس" أي الأثر الذي سبق أن تركته عناصر المحتوى الأدبي أو الفني في الذاكرة .. المعاني والاحتمالات العديدة هي ما ستصير إليه تلك الكلمات، أي ما لا يجب أن يبقى مؤطرًا، بل في حالة استعداد دائم لتجاوز نفسه .. سوزان سونتاج لديها مشكلة في تحديد ماهية "التأويل"، "التفسير"، "المضمون"، "الحواس"، "القوانين" .. لكنها مشكلة غير متعمدة لإنها مرتبطة بانفعالها "الوجداني" الذي اشترط "سياقًا كتابيًا" لطرحه .. السياق الذي لم ينجح ـ لأنه قائم على الانفعال المحض ـ في إخفاء ثغراته الساطعة وأبرزها "أنا أتحدث عن القوانين فقط / افتراض وجود مضمون خطأ" .. لو كان خطابها إدانة للقوانين فهي تقر بوجود مضمون ولكنها ترفض مقاربته بالقوانين "التفسير كما يغيب عن فهم سونتاج"، ولو كان خطابها إدانة لافتراض وجود مضمون فهي تقر بأنه ليست هناك مقاربة بالقوانين أو بغيرها إزاء هذا الغياب لأن الحسية ذاتها تفترض كيانًا يمكن "لمسه" بطريقة ما، وهذا اللمس حين يثير شعورًا فإن عدم القدرة حتى على تحديده سيترجم إلى كلمات تلقائية، وبما أن الكلمات ليست كائنات مستقلة، مبتورة الأطراف في التاريخ الشخصي فإنها ستفرض "مضمونًا"، هذا "المضمون" ليس ظاهريًا ولا مجازيًا كما تتصوّر سونتاج بقدر ما هو "إيهامي" حيث "كل ما يبدو عليه العمل الفني" ليس فضاءً من الصمت فاقد الذاكرة بل ذخيرة صراع وجدل تشير إلى حاملها الخفي (التجارب والخبرات)، أشباح من الرموز والعلامات التي يستحضرها الذهن عفويًا حين يتم تنبيهه إلى ما يرتبط بها (نعم التفاحة ليست ما تبدو عليه في اللوحة سواء بالنسبة لي أو للرسام لأنها ببساطة استدعت ذكريات جعلتها شريكًا في تأثيرات وجودية تؤسس رؤيتي للوحة مثلما كانت بالنسبة لرسامها؛ إما أن أنتهز مفترق الطرق هذا في تحويله إلى متاهة أو في جعله مجرد محطة وصول آمن) .. أما المضحك فعلًا أن سونتاج حينما أرادت استعمال كلمة "راديكالية" جعلتها وصفًا "اتهاميًا" لإعادة الكتابة / محو النص / تعديله / تغييره، أي ـ بحسب وجهة نظرها ـ ما يستتر وراء ادعاء جعل النص واضحًا ومفهومًا فحسب بالكشف عن معناه الحقيقي  .. إن إعادة الكتابة أو المحو أو التعديل أو التغيير هي مهام "تأويلية" تحمي النص من أن يكون واضحًا ومفهومًا "مخصيًا"، أو خاضعًا لـ "معنى حقيقي"، أي تحميه من "التفسير" .. كأن سونتاج تدافع عن "التفسير" ـ وهو المضحك في الأمر ـ من حيث أرادت إدانة "التأويل" المناقض له.

كان يمكن لسوزان سونتاج أن تفكر في الأمر كرجاء رومانسي فحسب .. أمنية أسطورية .. لكنها أرادت ـ بنزق طفولي ـ تحويلها إلى "قانون" واقعي، ولمنحه "مشروعية" ما تعاملت مع "التأويل" بمنظور قاصر ربما يدفعنا للتفكير في أن الناقد المشغول بإيروسية الفن حقًا ينبغي أن يكون "ضد ما تعتقده سونتاج عن التأويل" وإلا ظل ناقدًا مفسِّرًا.

أراجيك ـ 26 أكتوبر 2021