الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021

وصية كلنكسر

ليس التذكر وحده ما قد يعيدك إلى مكان قديم، وإنما النسيان أيضًا .. الطمس الغيبي الهازئ للصلة التي تربط بين عمائك الشهواني والحقيقة المجهولة للمكان .. حينما يدفعك النسيان إلى تلك العودة الغامضة ـ لاسيما في اللحظات الفارقة كالشعور المبهم بقرب نهايتك، وخلال الوقت الاحتفالي لكينونتك من العام كيوم شتائي كثيف الغيوم وغزير المطر ـ فإن ذلك لن يكون استرجاعًا مبهجًا ومتحسرًا للماضي أو مجاهدة بائسة وخبيثًة لاسترداد ما فُقد ولم تكن تملكه أصلًا، بل سيكون ولادة متبادلة بينك والمكان .. إعادة تكوين جامحة لبداهة الواقع التي تُشكل تاريخكما المشترك .. اكتشافًا جديدًا لحطامكما العدمي المتناثر فيما قبل ذلك التاريخ، وهو ما قد يحاول المتلقون والنقاد ـ برعشة اليقين الخالدة ـ تجميعه وترميمه كبنيان مروّض.

ربما سيموت بالفعل في ذلك الشتاء، أثناء عمله في تلك اللوحات أو بعد انتهائه منها، وإذا كان ذلك الموت سيدفع بعضًا من الذين مازالوا على قيد الحياة للرجوع إلى كتاباته عن أعماله الفنية؛ فإنه يرجو أن يكون رجوعهم بشكل أخص إلى الوصية التي كتبها في نهاية عمره كنبوءة تمزج بين التوسل الأخير للخلود، والرغبة المتحدية في مواجهة الموت .. كأن الإهانات التي طالما لاحق بها غضبه الذاهل ذلك الموت عبر الخطوط والألوان قد بلغت ذروتها الخالصة، وكما لو أنه عند حافة الفناء قد استعاد ـ كما ظل يكافح دومًا ـ طفولته المتمنعة على نحو كامل: غفلة نقية مطرزة بالدموع.

لا تعنيه التأثيرات العاطفية لموته، أو التفسيرات الخرقاء لأسبابه والمنحصرة على الأغلب في النتائج القاتلة للتشاؤم الانعزالي الذي ربما يثرثرون عن بدايته المتدرجة ثم تسارعه المفاجئ حتى اكتماله بصورة تامة في سنوات نهايته .. لا تعنيه الفرضيات القاصرة التي سينتزعونها من لوحاته الأخيرة ـ خاصة التي تحوم حول الملامح الثملة لظواهر الرعب الوجودي في انتقامها الرمزي من المشيئة القدرية ـ حتى يستمتعون بتداولها كإثباتات لصحة ظنونهم، والتي قد تتمادى إلى حد مراجعة الهوية النفسية له، والتأكيد على أن “الجنون” لم يكن صفة جمالية وحسب وإنما واقعية أيضًا .. ربما سيعتبرون موته وفقًا لتلك اللوحات نوعًا من الانتحار المراوغ .. قتلًا غير مباشر للنفس يبرهنه ـ من وجهة نظرهم ـ (عدم الاتزان) الذي يؤسس شخصيته، ويتجلى في أشكال سلوكية مستقرة كالارتباك والتلعثم والتوهان وادعاء الصلابة والاندفاع المبالغ في فضح الذات .. المرض المزمن الذي أدى تفاقمه في سن الأربعين إلى بلوغ العجز الكلي عن البقاء حتى عند حواف الأطر الاجتماعية التقليدية، والاستسلام ـ بحد زعمهم ـ إلى وحدة كئيبة مهلكة كما لو أنه أراد اللحاق بالأمل الأخير في أن يكون أسطورة حقيقية .. كان أسطورة بالفعل ولكنها أسطورة مضادة داخل نطاق لا يستوعبه فقط إلا أشباحه الموزعة في تباعدات غير مدركة عبر الزمن.

من كتاب “وصية كلنكسر” ـ يُنشر قريبًا